الفساد الكفائيّ: فتوى فقهيّة مملّة، غير ملزمة للكفّار!
سلام عبود
2016 / 2 / 14 - 00:20
سبب قاهر دفعني الى هذه المغامرة العقلية الغريبة: تفسير الواقع السياسي فقهيا، استنادا الى أحكام الشريعة السمحاء.
بعد مئات المقالات، وعشرات الكتب، آخرها كتاب " الثقافة العراقية تحت أقدام الاحتلال"، توصلت الى خلاصة واحدة، مفادها أننا قوم مشغولون بما ابتلينا به. لذلك لا توجد لدينا فرصة جديّة لأن ننظر خارج ما في أنفسنا بصدق، حتى لو كان في ذلك خيرنا وصلاحنا ونجاتنا. نحن عبيد ذواتنا المغلقة، وأوهامنا الشخصية التحاسدية، المتنهاية الضآلة. كتاب بخمسمئة صفحة، يتحدث عن جذور وآليّات وصور الفساد، وعن مرجعياته السياسية والتاريخية والنفسية، لم يقرأه أحد، في بلاد نفوسها أكثر من ثلاثين مليون نسمة. أمر عجب! يدعو الى اليأس والكآبة طبعا. ولكن، لا يأس مع الحياة، كما يقول المتفائلون، ولا موطن للكآبة في وطن معجون بالمآسي، كما يقول الصابرون.
صديق غاضب قال لي:" أنت تلقي السبب على الناس، وتنسى نفسك. السبب ربما يكمن فيك، وفي ما تكتبه. كيف يقرأ الناس كتابا يكشف جرائم البعثيين والطائفيين السنة والشيعة، والعنصريين العرب والكرد والأتراك، ودول الجوار كلها واحدة واحدة، من دون استثناء؛ لم يسلم من النقد حتى المستقلون والشيوعيون والملكيون. أنت تجمع حولك الأعداء من كل صوب وحدب. لماذا تطلب منهم أن يقرأوا ما يكرهون؟ مطلبك هذا ضرب من الإرهاب الفكري. نحن نعيش في زمن الحرية الإعلامية!"
الآن، وبعد مرور عام على صدور كتاب الفساد، الذي لم يقرأه أحد، قررت أن لا أناقش السياسة بأدوات علم التحليل النفسي، أو النقد الاجتماعي، كما فعلت في كتابي المذكور. قررت أن ألبس جبّة رجل الدين، وأغدو فقيها، لبضع دقائق حسب. من دون شك، سأستمر في الضرب على وتر الفساد، ولكن من منطلقات العقيدة الدينية هذه المرة.
هل السارق من العيار الثقيل، المفضوح إعلاميا، من طراز أيهم السامرائي وحازم الشعلان، والسوداني وبهاء الأعرجي (لا أحفظ أسماءهم لكثرتهم ووساختهم) وغيرهم، مسؤول عن سلوكه كفرد؟ الجواب القضائي: نعم. لأن المسؤولية الجرمية التنفيذية ذات طبيعة فردية. ولكن، بما أننا أمام فرد جرى وضعه في مكان السرقة بمعرفة، وإرادة، ونفوذ، ومصلحة جهة سياسية معينة، ألا تتحمّل هذه الجهة بعضا من المسؤولية العامة، المتعلقة بفساد ممثلهم النيابي أوالتنفيذي؟ الجواب هنا يحتمل وجهين: الأول، ان الكتلة التي اختارت ورعت وغطـّت نشاطات الفاسد -نائب أم مسؤول تنفيذي- بريئة براءة مطلقة، الى حد أنها لم تسمع بمشكلة الكهرباء والماء والخدمات، وعقود النفط وشركات النفط، وعقود المشاريع الوهمية، وصفقات السلاح، والهزائم العسكرية، وتجارة المافيات والجيوش المحلية والمناطقية، والرواتب والواقع الزراعي والصناعي، والتعليم وقطاع التجارة مثلا. حزب كهذا من الأفضل له ولنا أن يلقى نفسه في أقرب حاوية زبالة، هو وقيادته البهماء.
ولكن، كلنا نعرف، أنه لا يوجد كائن لا يعرف ولم يسمع بالفساد. لذلك فإن الاحتمال الوحيد الممكن هو أن الفساد يتم تخطيطه وتقاسمه جماعيا- الفاسد التنفيذي يُطبّق على الأرض، والفاسد النيابي يراقب ويشرّع ويتحاور ويتشاور ثم يروج إعلاميا- ولكن بعد أن توضع المسؤولية التنفيذية على عاتق شخص منتقى، مختار بدقة صارمة، تعرف الكتلة أو الحزب، أنه الأكفأ، والأصلح، والأوسخ، والأعرف بطرق وأساليب الفساد. وبما أننا لا نملك معارضة نيابية يتوجب على الكتلة التي يُهرب فاسدها خارج العراق، حاملا معه مسروقاته، أن تحاكم ككتلة بسبب غفلتها الأخلاقية الرومانسية، ولا أقولن شراكتها في الجريمة. وبذلك تتحمل قيادة الكتلة، قانونيا وسياسيا وأخلاقيا، مسؤولية البحث والتحري وتقديم كل المعلومات الى العدالة، من دون إخفاء، لكي تتم ملاحقة اللص. وبخلاف ذلك تكون قيادة الكتلة، مسؤولة مسؤولية مشتركة عن الجريمة مع اللص المُنفـّذ، عمدا ومع سبق الإصرار.
الفساد لا ينحصر في السرقة، بل يتعداها، بصورة أكبر، الى معرفة أشخاصها والتستر عليهم، لأسباب متنوعة. ومثل هذا الأمر يتعلق بالفساد المالي أو العسكري أو الإداري. وهو ما حفلت به رئاستا المالكي وعلاوي، المسؤولين مسؤولية مشتركة عن كل جرائم نهب وتخريب العراق ماليا وعسكريا واجتماعيا وروحيا.
الفساد لا ينحصر في السرقة المادية حسب، بل يتعداه الى سرقة عواطف الناس وأعمارهم وأحلامهم وكرامتهم.
الفساد لا يتوقف على السرقة العينية الحسية، بل يتعداه الى الرمزية. كيف نقبل أن يكون رئيس كتلتنا على علاقة بإسرائيل ونحن نتغنى بالوطنية صباح مساء؟
هذا ضرب آخر من تناقضات الفساد، فساد الذات والروح. نحن مسؤولون عنه أيضا، نحن، لا أحد غيرنا. لأن مثل هذا الضرب من الفساد له عواقب سياسية وأمنية وشخصية خطيرة، لا يريد البعض تقدير حجمها في بلد مفتت، مستهدف في وجوده.
لماذا التمعت في رأس السلطة فكرة إعلان بيع القصور الآن، تزامنا مع تخويف الشعب من احتمال قطع الرواتب، بسبب عجز الميزانية؟ الجواب موجود لدى خبراء الفساد الكفائي النفسيين. إضافة الى ما يتضمنه هذا الإعلان المحترف من لعب على مشاعر الناس، يتضمن أيضا، في جوهره، الإسراع بتبييض أموال اللصوص، الذين لم يتمكنوا حتى الآن من تبييضها في الخارج، مستنفرين خوف الشعب من مهانة الفاقة. خبراء صناعة الأنانية الجماعية والفردية، اللصوص الكفائيون، لا يكتفون بالسرقة وبالضحك على الشعب فحسب، بل يجبرون المسروقين على شكر سارقيهم، حينما يجعلونهم يرون في اللص منقذا وحيدا، قادرا على تخليصهم من قدر مرعب يتهدد حياتهم! لذلك قد يبدو الشعب غير ملام عند تردده وخشيته من المجهول، فمن يستطيع اقناع الخائف أن ما يحدث محض صفقة لصوص ومجرمين! هؤلاء ليسوا لصوصا كفائيين، هؤلاء سحرة وأنبياء اللصوصية الكفائية، يحق لهم بجدارة أن يكونوا عباقرة الفن والفكر والتشريع اللصوصي الكوني.
في هذه الوقائع، التي يبدو تكرارها الممل، مضيعة للوقت، وهي كذلك في نظري، تكمن علـّة الشعب العراقي القاتلة. شعب لا يُحسن، ولا يقوى على فهم نفسه وحقوقه، وعلى التفكير في سبل استرداد هذه الحقوق المسروقة جهارا. شعب لا يستمع إلا الى صوته الذاتي المعطوب والمرتاب. هذا الصوت العليل والمضلـَّل، المفروض دائما من الخارج بقوة قانون الشر.
على هذه الوقائع بنيت فتواي الكفائية.
وبما أن السيد السيستاني آثر أن يتقاعد، ويترك مهمة الافتاء السياسي الأسبوعي، الجمعوي، لغيره، فقد قررت اهتبال الفرصة، وتنصيب نفسي وليّا فقيها، يفتي بما تقتضيه الشريعة. طبعا، أنا أعرف أن هدف السيد السيستاني من خطب الجمعة محاولة خيّرة لخلق توازن مرجعي جامع، يديم استمرار عقد الجماعات الشيعية المتناحرة، التي بدأ الخلاف يتصاعد في داخل دوائرها الضيقة، منذرا بتمزق محتمل. وأعرف أن هذا الهدف يرتبط ارتباطا شرطيّا، أي غير قابل للفصل، بما يعرف بـ "العملية السياسية". أي يرتبط بالتحاصص الطائفي العرقي، باعتباره الطريقة المثلى للقضاء على أي أمل بوجود معارضة وموالاة، ووجود أقليّة وأغلبية نيابية، أي وجود صوت للمواطنة الخالصة، المبرأة من التحزب العرقي والطائفي. وهذا كله لا يعنى سوى أن تمسي الطائفة والعرق معيارا لتوزيع القوى السياسية حكوميا، وأساسا لصناعة تراتبية اجتماعية فوقيّة، ملفـّقة ومأزومة ومغلقة، كما هي الحال في لبنان. ومن طريق التطبيق تصبح هذه المعادلة صيغة متوارثة لإدارة الحياة، لا يجوز المساس بقواعدها، التي حالما تنتهك يذهب المجتمع الى الفراغ النيابي والرئاسي والحكومي، وربما الى الفراغ العقلي أيضا. تلك هي خلاصة ما يعرف بالعملية السياسية في العراق، التي يتوجّب أن تنسف من جذورها، إذا أراد المجتمع وضع أسس صحيحة لبناء مجتمع جديد خارج من كارثتي الديكتاتورية والاحتلال.
وكما أفتى السيد السيستاني بجواز الجهاد الكفائي، أفتي أنا بوجود نظام سياسي، متفق عليه جماعيا- رغم الخلافات - يجيز دستوريا وفقهيا الفساد الكفائي.
ما حجتي في ذلك؟
حجتي الأولى، هي أن الفساد العيني يتناقض مع الشرائع السماوية كافة، وتشريعه غير ممكن منطقيا وتطبيقيا. فلا يصح أن يكون كل البشر فاسدين: إذا خليت قلبت. والحجة الثانية هي أن الاسلام لم يضع في فروضه العينية الرئيسة مادة تتعلق بالسرقة، إلا أننا جميعا نعرف أن الإسلام وضع في دستوره الأول تحريما صارما يأمر بقطع يد السارق والسارقة. على الرغم من أننا لا نعرف كم وماذا يجب على الشرع أن يقطع ممن يسرق مليار دولار مثلا!
بيد أن المشكلة ليست هنا، ليست في النص القرآني التشريعي، وإنما في نصوص العملية السياسية التشريعية. فالبعض لا يعتبر تزوير عقود الشراء أو البيع ضربا من السرقة، بل عدّه اجتهادا فنيا وتجاريا، يجوز فيه الخطأ والصواب. والأمر الآخر هو أن القوى التي صرفت جهودا خارقة لكي تضمّن الدستور عبارات تربط الأحكام الدستورية بالشريعة الإسلامية، هي نفسها التي روّجت علنا الى مبدأ قبول "العمولة" في التعامل التجاري. ( عودوا الى كتابات السنوات الأولى للاحتلال، المنشورة في الصحافة العراقية، حيث أصبح مصطلح "عمولة" يعادل عبارة باسم الله الرحمن الرحيم). ولم يكن تبريرهم يستند الى فقه شيعي أو سني، بل قيل إنه مأخوذ هذه المرة من شرائع وهمية، نسبت زورا وبهتانا الى الدول الغربية، طبعا الكافرة. ولا نعرف حتى الآن أية دولة "متحيونة" هذه التي تبيح "العمولات" بمليارات الدولارات، في صفقات خاسرة ووهمية. ففي السويد مثلا، سقطت "مونا سالين"، أول رئيس نسائي للحزب الاشتراكي الديموقراطي السويدي في مارس 2011 بسبب "جريمة!" سوء استخدام بطاقة حجز موقف السيارات. وكادت وزيرة الخارجية السويدية، وآخر بقايا أولوف بالمه وخط الاشتراكية الديموقراطية الإنساني، "مارغوت ولستروم"، أن تهوي، لأنها حصلت على شقة من دون أن تقف في الانتظار. علما أن القانون السويدي يبيح لها الحصول على سكن في ستوكهولم بما أنها ليست من أبناء العاصمة. طبعا حدثت الواقعة مباشرة عقب تصريحها بإدانة القتل الاسرائيلي المنظم للفسلطينين، وبعد اشتداد غضب إسرائيل عليها.
"العمولة" التي شرعتها الأحزاب والكتل، والتي وافق عليها بريمر، شُرّعت لكي يغرق بريمر السياسيين جميعا في حمى الفساد، ولكي يتمكن من تجميع ملفات كاملة عن الفاسدين فردا فردا وكتلة كتلة، تتيح له وضعهم جميعا في قبضته واسترقاقهم واحتلابهم. وهي لعبة أعاد المالكي استخدمها بالمهارة نفسها، ولكن بوقاحة أكبر، حتى مسّت سكاكينها الجارحة قلب ونخاع الوطن أرضا وشعبا. هدية بريمر، أو هدية الاحتلال المسمومة، لم تكن بدعة بريمرية شخصية كما يظن البعض، بل كانت ثمرة من ثمار مراكز الأبحاث، التي نادت بعراق جديد، يُخلق من العدم (عنقاء الفوضى). إذا، نحن أمام آليّة داخلية للسيطرة السياسية، أي للحكم، وآليّة مكونة لما يعرف بالعملية السياسية. من هنا، فإن الفساد لم يكن شيئا من اختراع أحد، بل هو منظومة اتحدت فيها قوة الاحتلال بقوة الجماعات الطائفية والعرقية المتقاسمة للحكم، والوارثة لمفاسد الحكم السابق. أي أنها شكل من أشكال توزيع الثروة والقوة، شارك الجميع في صنعها. فعلى سبيل المثال روج اليساريون الى نظرية "الطبقة الوسطى العابرة للطوائف". وهذه الانتباهة الطبقية المسخ نسخة مشوهة من البرامج السياسية الأميركية، جرى تطبيقها في العراق على يد بريمر وبواسطة مستشاريه في مجلس الحكم، والتي تمثلت في شقيّن: الأول، الإسراع، بقوة اعجازية وانفجارية، في خلق و"فبركة" طبقة غنية جديدة، وضيعة ومخزية، تتولى مهمة قيادة الواقع الاقتصادي والاجتماعي، بعد انهيار بنى الدولة، التي كانت تعتمد المركزية وقطاع الدولة. ثانيا، رشوة ما يعرف بالطبقة الوسطى، من معلمين وأطباء وحقوقيين وكادر جامعي، وشرائح من الموظفين، من طريق منحهم "علاوات" و "بدلات إضافية" -لاحظوا! ليس راتبا هو الأساس، بل علاوات وامتيازات إضافية، يتم انتزاعها، أو التهديد بانتزاعها في حال ظهور مواجهة بين الشعب والسلطة - يتم فيها اسكاتهم وإخراسهم، وإخراجهم من التفاعل الاجتماعي الايجابي، حتى حين. وهذا التدبير يهدف الى تصعيد وتأصيل الأنانية الاجتماعية في نفوسهم، وجعلهم قوة مجتمعية سلبية، تشيع التواكل، والخوف، والتردد، والصبر الذليل على المظالم، باسم الحكمة والمعرفة والحرية الكاذبة. أي بالضبط كما فعل "جيش الوشاة" من المثقفين والكتاب في زمن صدام. بذلك يضمن مشرّع العملية السياسية تحقيق أمرين: الأول، استحداث طبقة غنية، عظيمة الرثاثة أخلاقيا واجتماعيا، يرافقها جيش واسع من الحمايات والحراس والتابعين والسماسرة والنواب وأعضاء المجالس المحلية وقادة الجيوش الصغيرة والعشائريين، يتولون مهمة إدارة الواقع الاقتصادي والسياسي، والهيمنة والإشراف على حركة سيره. ثانيا، إخراج شريحة واسعة ومتنورة، ممثلة بالطبقة الوسطى "العابرة للطوائف!" من معادلة التغيير المجتمعي، بهدف الاستفراد بالشعب البائس، المضلل، وجعل هذه الطبقة عابرة للضمير الوطني، بدلا من عبور الطوائف. لهذا السبب ظهر بسرعة البرق، في السليمانية وحدها، خلال عامين، أكثر من ألف مليونير. وطوال الأعوام الماضية سكتت الطبقة الوسطى، المشتراة بالعلاوات، سكوت العبيد الجبناء.
وفي الوقت نفسه تمكـّنت سياسة الاحتلال من إطلاق حرية التعبير السطحية، الفجـّة، بديلا من حق التمتع بالكرامة وحرية التعبير النزيهة، المجسدة لتقاليد المجتمع الثقافية وتراثه العقلي والعلمي والتاريخي. فغدا إعلام النقد السطحي والتشكّي الممزوج بالنواح والتنابز- باعتباره ثمرة من ثمار من حرية التعبير- سمة مميزة للحرية الإعلامية الثقافية الجديدة، ساهم فيها اليسار واليمين، العلمانيون والمؤمنون كتفا الى كتف، ولم تزل أسماؤهم مطبوعة على صفحات جرائد السلطة ومراكزها الثقافية والإعلامية. لقد غدت هذه الحرية، بحق، أوسع الحريات الممنوحة للشعب. فقد سُمح بالنقد الشكلي لكل شيء وأي شيء، تحت إشراف الفاسدين أنفسهم، بما في ذلك نقد بريمر نفسه، وبما في ذلك نقد الفساد بكامل هيبته. لأنّ الصراخ والتشكّي والنواح ضرب من النقاهة النفسية، ينفـّس به المظلومون عن مكبوتاتهم، بدلا من اللجوء الى وسائل انفجارية، غير محمودة.
هذا ما أسميته بالفساد الكفائي. أي انه فساد خـُصت به جماعات معينة، من ممثلي الأحزاب والطبقة الوسطى، نيابة عن الشعب. لأن الفساد لا يجوز أن يكون فرض عين، أي أن يكون واجبا على الجميع. طبعا يحق للجميع الانخراط فيه طبقا لشطارتهم الفردية، لكنه ليس فرضا جماعيا عليهم كالصلاة والصيام، لأنه حصة كفائية من نصيب فئات معينة، تقوم به نيابة عن الشعب، وخدمة لمصالح الأمة.
( مع قيام ظاهرة حفر الخنادق كثرت في صحافة النظام، وتحديدا صحيفة "الصباح"، المقالات التي تشير علنا الى "شرعية" تقسيم العراق، وأحقية قيام دول خارج إطار الكيان العراقي. وهي إشارات بليغة، ذات دلالات كبيرة، تشي بأن الجميع مشارك أصيل في عملية إيصال العراق الى لحظة الافتراق التام، ولكن، كل واحد يعمل وينفذ بطريقته الخاصة المحببة!)
السؤال الآن: لماذا تقوم هذه الفئة بالفساد الكفائي نيابة عن الشعب؟ لأنها باختصار تقود العملية السياسية. أي انها من يتولى ضبط إيقاعات وتوازنات السلطة العليا، وضبط مناسيب حركة الشارع محليا، لصالح اللاعب الأكبر.
السؤال الأخير: هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة؟ وأعني به: هل العملية السياسية من الفساد، أم أن الفساد من العملية السياسية؟
هذا السؤال حيّر الجميع، الأشرار والأبرار. لكن فقه الفساد الكفائي الرشيد يقول لنا، بوضوح مطلق: لا فساد بلا عملية سياسية فاسدة، ولا عملية سياسية فاسدة بلا فساد. لذلك أرى فقهيا أن الجهاد ضد الفساد والعملية السياسية الفاسدة واحد، مترابط، لا فصل فيه. لأنه جهاد عين، وليس جهادا كفائيا. أي انه جهاد واجب على الجميع، كالصلاة والصيام لدى المؤمنين، وكشرب الماء وتنفس الهواء لدى العلمانيين. ومن يخالفه فهو كافر بشريعة الله إن كان مقيما في ضفة الإيمان، وكافر بشريعة الشعب والوطن والواجب والضمير، إذا كان مقيما في الضفة المقابلة.
هذه رؤيتي الشرعية مبسطة وموجزة في سطور، وشكرا للسيد السيستاني، الذي منحي شرف تنصيب نفسي، لمرة واحدة في العمر، فقيها لا يسمعه، أو يطيعه أحد.