عنف السياسة الدولية وإشكالات الهجرة القسرية
لطفي حاتم
2015 / 9 / 4 - 21:26
تحتل إشكاليات الهجرة والمهاجرين مركزاً هاما في الشؤون الدولية وذلك بسبب الطور المعاصر من العولمة الرأسمالية المستند على المنافسة الدولية وضمان تفوق المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى وما افرزه ذلك من تنامي وتطوير آليات التدخل في الشئون الداخلية واستخدام القوة العسكرية للإطاحة بالنظم السياسية فضلا عن تأجيج النزاعات الإثنية والصراعات الطائفية وما نتج عن كل ذلك من حروب أهلية واتساع مديات الهجرة القسرية طلبا للأمن الاجتماعي / السياسي.
قبل الخوض في إشكاليات الهجرة القسرية ومآلها يتحتم علينا التعرف على سياسة دول اللجوء إزاء الهجرة والمهاجرين والتي أفرزتها ثلاث حقب تاريخية كبرى نتعرض لها بتكثيف بالغ ــ
ــ الموجة الاولى من الهجرة يمكن تسميتها بالهجرة الاقتصادية نتجت عن حاجة الدول الصناعية الى الأيدي العاملة وذلك بسبب تطور القطاعات الصناعية / الزراعية فضلا عن رغبة الرأسمال الوطني في استخدام قوة العمل الرخيصة الوافدة وقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية موجات من المهاجرين تم استيعابهم في كثرة من الدول الأوربية بسبب توفر فرص العمل في الحدود الوطنية.
ــ الموجة الثانية من الهجرة والتي يمكن تسميتها بالهجرة السياسية تميزت بقبول اللاجئين لأسباب سياسية وذلك بسبب الحروب الأهلية المشتعلة وكالة بين المعسكرين حيث جرى قبول المهاجرين تحت شعارات ديمقراطية / إنسانية استغلتها الدول الرأسمالية للتنديد بانتهاكات حقوق الإنسان في دول الخصم الاشتراكي فضلا عن استثمارها لمهاجمة بعض النظم السياسية في الدول الاستبدادية.
ــ شهدت الموجة الثالثة من الهجرة أشكالا عديدة منها ـ هجرة لأسباب سياسية بسبب الاضطهاد السياسي الممارس من قبل الدول الاستبدادية ، ومنها لأسباب إنسانية بسبب الحروب الداخلية والغزوات العسكرية الخارجية. وأخرها هجرة الشرائح المثقفة والعقول العلمية بسبب ما توفره الدول الكبرى لتلك الشرائح من امتيازات ومواقع وظيفية يصعب توفرها في بلدانها الأصلية وبهذا المسار نشير الى أن السياسة العامة التي تنتهجها الدول الكبرى إزاء حملة الشهادات العلمية تتسم بتشجيع وذلك لحاجة الرأسمالية المعولمة الى العقول المهاجرة بهدف إفراغ الدول الوطنية من عقولها العلمية وما يشترطه ذلك من إبقائها في إطار التبعية والتخلف.
إن اتساع الهجرة في الظروف التاريخية المعاصرة صاحبها انبعاثا جديداً للأحزاب اليمينية والتيارات العنصرية المعتمدة على سياسة التمييز والكراهية ومناهضة الأغراب. وبهذا السياق نشير الى ان ازدياد شعبية الاحزاب اليمنية والتجمعات العنصرية جاء نتيجة لأسباب كثيرة أهمها ـ
ــ انتهاء النزاعات الايديولوجية الناتجة عن ازدواجية خيار التطور الاجتماعي ناهيك عن تآكل شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان .
ــ تراجع الحاجة الى قوة العمل الوافدة من الدول النامية وذلك بسبب وجود قوة عمل متدربة رخيصة وافدة من دول أوربا الشرقية المنضوية في الاتحاد الأوربي.
ــ ارتفاع معدل البطالة في البلدان الصناعية بسبب التحولات التقنية الكبرى ورحيل كثرة من الصناعات الوطنية الى دول أخرى بسبب سعة أسواقها ورخص قوة العمل فيها.
إزاء هذه النتائج السياسية / الاقتصادية التي أفرزتها تغيرات السياسية الدولية تجهد الدول الأوربية الى معالجة قضايا الاندماج بنهوج ونظريات متعددة نحاول تأشير بعضا منها في المحور التالي.
ــ السياسة الأوربية إزاء المهاجرين.
اعتمدت السياسة الأوربية إزاء المهاجرين نهوجاً مختلفة تبعاً لمراحل تطور السياسة الوطنية لهذه الدولة الأوربية أو تلك وحاجتها الى العمل المهاجر إلا أن الباحث لقضايا الهجرة سيجد ثلاث نظريات أساسية تعتمدها دول اللجوء إزاء موجات اللاجئين يمكن تحديدها بـ ـ
النهج الأول: ـ الدعوة الى الانصهار وسيادة ثقافة بلد اللجوء
حاولت كثرة من الدول الأوربية وبسبب قلة أعداد المهاجرين الوافدين اليها إتباع سياسة الاندماج بصيغة الانصهار في محاولة للحفاظ على ثقافة بلد اللجوء وعدم قبول قيم وعادات وافدة قد تشكل عاملا من عوامل التوتر الاجتماعي وما يعنيه ذلك من غياب السلام الأهلي.
النهج الثاني: ـ الاندماج والتعايش مع القيم الوافدة
لجأت بعض الدول الأوربية وبعد اتساع موجات الهجرة اليها الى دمج كتلة المهاجرين بالمجتمع الجديد مع توفر مستلزمات الحفاظ على هوية المهاجرين الوطنية ، وبهذا المسار تسعى هذه الدول الى خلق نوعاً من التوازن الاجتماعي النفسي بين الهوية القديمة وبين تنمية الاندماج في المجتمعات الجديدة وصولا الى خلق وطنية لدى كتلة المهاجرين بديلة عن الهوية السابقة. وتشكل الدول الاسكندينافية نموذجا لنهج الاندماج التدريجي .
النهج الثالث ــ مجتمع متعدد الثقافات.
تحاول بعض الدول الأوربية السعي الى خلق مجتمعات متعددة الثقافات شريطة أن تبقى الثقافة الوطنية لبلد المهجر هي الثقافة السائدة وبذلك تستطيع هذه الدول الاغتناء بالثقافات الوافدة وتدجين تعايشها مع الثقافة السائدة وبهذا المعنى تكتسب هذه الدول الأمان والثراء الاجتماعي / الثقافي وتشكل بريطانيا وفرنسا نماذج قابلة للتطور نحو بناء مجتمعات متعددة الثقافات .
ــ السياسة الدولية والهجرة القسرية .
قبل الحديث عن السمات الجديدة لتدفق المهجرين لابد لنا من متابعة تطورات الهجرة في الفترة التاريخية المعاصرة ارتباطا بتغيرات السياسية الدولية الناتجة عن تجليات العولمة السياسية المتميزة باستخدام القوة العسكرية في العلاقات الدولية و التدخل في الشئون الداخلية فضلا عن انتشار الارهاب بأشكاله المختلفة وما نتج عنها من تفتيت الهويات الوطنية وتحويلها الى هويات فرعية.
ان تغيرات السياسة الدولية المشار اليها تكتمل عند اضافة المصاعب الاقتصادية التي جلبتها الليبرالية الجديدة واشتراطاتها الاقتصادية الهادفة الى تحجيم وظائف الدولة الاقتصادية / الاجتماعية والتي أدت بدورها الى مزيد من التحولات الطبقية في التشكيلات الاجتماعية للدول الوطنية الأمر الذي أفضى الى تزايد الهجرات الجماعية القسرية لأسباب اقتصادية / سياسية / أمنية .
استنادا الى عنف السياسة الدولية ومسؤوليتها في انتاج المصاعب الجديدة ارى ان مفهوم الهجرة الغير شرعية بات مفهوما مضللا لإخفائه الاسباب الواقعية للهجرة القسرية نافيا المسؤولية الاخلاقية عن الدول الكبرى التي انتجت تدخلاتها العسكرية خرابا للدول وتفكيكا لمجتمعاتها الوطنية الامر الذي يشترط استبدال مفهوم الهجرة الغير شرعية بالهجرة القسرية وما يعنيه ذلك من ضمانة دولية لمعالجة اسبابها الواقعية .
ان الفوضى التي أنتجتها التدخلات العسكرية وتدويل الازمات الاجتماعية الوطنية أدت الى حزمة من الظواهر الاجتماعية / السياسية يمكن تحديدها بالموضوعات الآتية ـ
الموضوعة الاولى ــ اتساع كتلة المهاجرين الباحثين عن الأمان الاجتماعي والسياسي بسبب الحروب الداخلية والتدخلات الخارجية ، أفضت الى تخلخل انتماءاتهم الوطنية ومواقعهم الاجتماعية فضلا عن تفكك روابطهم السياسية .
الموضوعة الثانية ــ ترابط كتل المهاجرين القسرية ونشاط المنظمات الاجرامية العاملة على الاتجار بالحياة البشرية ، ناهيك عن انتشار شبكات تهريب المخدرات وتجارة الرقيق الابيض.
الموضوعة الثالثة ــ تغلغل الشبكات الارهابية في صفوف المهاجرين بسبب الحروب الاهلية والتدخلات الخارجية فضلا عن استغلال أعداد منهم في النشاطات المخابراتية لكثرة من الدول.
إن المصاعب المارة الذكر تكتمل بعد تحديد طبيعة الاشكالات التي يعاني منها المهاجرون والتي يمكن حصرها في الوقائع التالية ــ
ــ غياب فرص العمل دفع الكثير من المهاجرين الى الاستعانة بالحماية الاجتماعية لدول اللجوء وما نتج عن ذلك من مشاكل اجتماعية / نفسية .
ــ غياب فرص العمل في بلدان اللجوء اجبر الكثير من المهاجرين للعمل في قطاع الخدمات والأعمال الحرة الأمر الذي اضاع الكثير من الاختصاصات العلمية وأعاق اندماجهم في المجتمعات الجديدة.
ــ أدت سياسة بعض البلديات في بلدان اللجوء المتمثلة بعزل المهاجرين في أحياء سكنية محددة جعل الكثير منهم محافظا على عاداته وتقاليده وتوريثها لأجيال جديدة.
ـ أدت تجمعات المهاجرين المتسمة ( بالعزلة ) الى تنامي الهويات الفرعية لضمان التواصل مع بلدانهم الأصلية وتقاليدهم القومية / الدينية.
ــ منتديات المهاجرين ودورها في اغناء الثقافة الوطنية
إزاء هذه الإشكالات الاجتماعية / النفسية التي تعيشها الكتل الاجتماعية المغتربة تواجه المنتديات الثقافية للمغتربين كثرة من المهام الاجتماعية / الثقافية بهدف تحويل تلك المنتديات الى مؤسسات فعلية قادرة على ربط الثقافة الوطنية بثقافة بلد المهجر.
لغرض إكساب الموضوعة المشار إليها ملموسية اكبر لابد من إثراءها بموضوعات فكرية سياسة / ثقافية ـ
1 ـــ تشكل المنتديات الثقافية للمغتربين ركيزة من ركائز بناء الثقافة الوطنية المتعايشة وثقافة بلدان المهجر وما يعنيه ذلك من اعلاء شأن الثقافية الوطنية على الحياة الفعلية في دول اللجوء.
2 ـــ تدافع المنتديات الثقافية للمغتربين عن المصالح الفعلية لبلدانها خاصة تلك التي تتعرض الى التدخلات الخارجية والإرهاب. وبهذا المعنى فان المنتديات الثقافية تدافع عن الطابع الإنساني الشامل لحقوق الإنسان بعيداً عن الرؤية السياسية لكتل المهاجرين وازدواجية المعايير الدولية .
3 ــ تسعى المنتديات الثقافية للمغتربين الى احترام الثقافات الوطنية لدول المهجر وتطعيم ثقافة المهاجرين الجدد بقيم التسامح والابتعاد عن التعصب والتطرف. وبهذا المسار تلعب المنتديات الثقافية للمغتربين أدوارا رائدة في تحجيم انتشار الهويات الفرعية والتركيز على تطعيم الثقافة الوطنية بثقافة إنسانية مرتكزة على تعدد وتنوع المجتمعات البشرية.
4 ــ المهام المشار إليها تفضي الى نبذ التعصب والمساهمة في انحسار الروح العنصرية في بلد اللجوء ونبذ العزلة عند المهاجرين كرد فعل على العنصرية والكراهية .
تكثيفا لبنية المقال الفكرية / السياسية لابد من ايراد بعض الموضوعات الختامية ـ
أولا ـ تشكل الهجرة القسرية وأهوالها الإنسانية الناتجة عن النزاعات الاجتماعية الوطنية والتدخلات العسكرية الدولية والإرهاب عاملا من عوامل توتر العلاقات الاجتماعية في دول اللجوء وزيادة حدة التوتر في العلاقات الدولية .
ثانيا ــ تؤدي الهجرة القسرية الى تفشي الروح العنصرية وتساهم في تطور التيارات اليمنية في دول اللجوء الهادفة الى نشر التعصب وكراهية الاجانب .
ثالثا ـ تتطلب الهجرة القسرية الناتجة عن النزاعات الاجتماعية الوطنية والتدخلات العسكرية الدولية والإرهاب تحديد موقف اخلاقي انساني من الاسرة الدولية ينهي الاسباب الواقعية وراء محنة المهاجرين فضلا عن استيعابهم في دول اللجوء .
رابعا ــ رغم ان الهجرة القسرية هي حصيلة تداخل وتشابك كثرة من الأسباب والنتائج تبقى المنتديات الثقافية للمهاجرين ركيزة اساسية للتضامن الفاعل وعاملا من عوامل تعزيز الروح الوطنية المنفتحة على ثقافة شعوب العالم وقيمها الإنسانية.