رواية الوهم... مصادر -فرانكشتاين في بغداد-!
باسم المرعبي
2014 / 4 / 7 - 00:51
في رواية "نصف حياة" لـ "ف. س. نايبول" يفكر بطله "ويلي"، الذي كان قد ابتدأ بكتابة حكايات خرافية على سبيل الإنشاء عندما كان طالباً، بنشر مجموعة قصص بعد وصوله من بلده الهند الى لندن لغرض الدراسة. لكن حين يطلع صديق له "روجر"، وهو محامٍ وكاتب، على ما بحوزته من حكايات ينصحه باعادة النظر بكل ما كتبه سابقاً، من قبيل جعل وسط القصة هو البداية أو استبدال نهايات حكاياته. يمتثل البطل لنصيحة صديقه ويبدأ بكتابة قصص جديدة يستقيها من مشاهداته السينمائية، لأن الأمر يتعذّر عليه دون ذلك: (لم تعد القصص تأتي بسهولة الآن، لكن كانت تأتيه قصة في الاسبوع، اثنتان... وكلما شعر "ويلي" بأنّ مادته الخام تنضب، وتنفد منه اللحظات السينمائية، كان يذهب الى رؤية أفلام قديمة أو أفلام أجنبية..)1. ويحقق، نتيجة لذلك بعض التقدم في كتابته، غير ان مسألة اعتماده على السينما كمصدر لموضوعاته تكون مصدر تعكير له. يصدر كتاب القصص في ما بعد ولا يلاقي نجاحاً يُذكر، ليخلد الكاتب ـ البطل بعدها الى امرأة أبدت اعجابها بكتابه اليتيم ويلتحق بها في بلدها خائضاً معها وبدونها تفاصيل الحياة ـ حياته، كما يسردها نايبول، جاعلاً من أمر الكتابة وأمره ككاتب نسياً منسياً.
ولأن مصائر الكتب يقرّرها قرّاؤها لا كتّابها، حسب البرتو مانغويل، أرى في حكاية نايبول هذه ما يمكن أن"يعرّض" برواية "فرانكشتاين في بغداد" لأحمد سعداوي، ( الجمل ، ط1 ـ 2013 ـ القائمة القصيرة للبوكر العربية 2014). فأوّل هذه المآخذ تحويله تيمة مهمة ومتميّزة كما في أصلها لدى ماري شيلي في روايتها الذائعة "فرانكنشتاين أو برومثيوس الحديث" الى نوع من "خرافة" مهلهلة المحتوى والأدوات ليغدو، جراء ذلك، الفعل الأساس في العمل ما يُشبه التفصيل في خضم تفاصيل كثيرة وحكايات ثانوية مبالغ في عددها وانسياقها وراء تناسل أحداث ومواقف صُممت بقسرية، فلم يعد معها أي أثر لتلقائية وعفوية، ما يعني انعدام امكانية اقناع القارئ سواء في تصرف شخصيات العمل أو سير أحداثه، فالاقناع هو الصفة الأهم لأي عمل أدبي وفني ناجح. إلا اذا كان أحد ما "يظن في لحظة وهم عامرة ان الأفكار المجردة تساوي العلاقات المشخّصة"2. وهو ما وقعت فيه الرواية حتى لتأخذ في الأكثر منها منحىً كاريكاتيريا. إنّ ايكال مهمة تصنيع "مسخ" من مزَق أجساد ضحايا التفجيرات والقتل في بغداد الى شخص جاهل كـ "هادي العتاك"، لا مبرر لوجوده أو سلوكه، هو الخرافة بعينها، فبائع العتيق الذي لم يكن يعي دوافع فعلته هذه أو على الأقل لم يكن يجيد تبريرها ـ وهو لم يكن جديراً بذلك على أية حال ـ أي ايجاد التفسير المقنع لمسألة تجميع الأشلاء، أو التصريح بمغزى ما قام بصنعه، حتى أنه يتفاجأ هو نفسه باختفاء الجثة من منزله بعد ترقيعها بالجزء الأخير المكمّل وهو الأنف الذي يجلبه من جثة مقطعة في انفجار ساحة الطيران!! حتى وإن كان الأنف هنا كناية عن النفَس والهواء الضروري للحياة، إلا أنّ انهاض هذا الكائن الملفّق عبر معالجة كهذه لم يكن مقنعاً، لأنه يفتقد العلمية في الطرح أو في الأقل موضوعيته. صحيح اننا لسنا ازاء رواية خيال علمي لكن بالمقابل لن تكون العشوائية هي الخيال الأدبي. هذا ما يدفعنا الى التأمل في صنيع الكاتبة ماري شيلي في كيفية التمهيد لبطلها فيكتور فرانكنشتاين ـ مخترع الكائن الذي ارتبط باسمه ـ عبر افادتنا بولعه بالعلوم وعالم الطبيعة والمفكرين العظماء، مذ كان طفلاً. ثم يزداد تعمقاً مع مضي الوقت في دراساته، ممعناً في القراءة والبحث، فقد كان ما يؤرقه هو سرّ الحياة ثمّ استحواذ فكرة "صنع حياة" على كيانه كله، مكتشفاً في الكهرباء ومن خلال ظاهرة طبيعية كالبرق حلاً "منطقياً" لمعضلة "بثّ" الحركة في الجسد المسجّى، في ما بعد، في معمله. ان خلفية بطلها العلمية وتخصصه الدراسي، اضافة الى شغفه، كلها مبررات قوية وطبيعية لأن يخوض في تجربة خطيرة و"رفيعة " كهذه أي تصنيع "كائن" بغضّ النظر عن الأهداف المتوخّاة من مثل هذه التجربة. على الرغم ان رواية شيلي "فرانكنشتاين" لم تكن رواية خيال علمي، وإن امتلكت بعض صفاته. إلا انها رواية علمية في طرحها، بمعنى لا مكان للعشوائية فيها، فقد امتلكت منطقها الداخلي والفني الصارم الذي جعل منها عملاً متقناً ومقنعاً بالضرورة للقارئ.
ومن بين الكثير الذي حفلت به رواية سعداوي ولا يرقى الى درجة اقناع القارئ شخصية العجوز ايليشوا وتحميلها بشكل حماسي، دون أيّ منطق، "كرامات" وعجائبَ كاعتقاد أهل المنطقة ببركتها والتصريح بأن منطقتهم تنعم بالأمان بسبب وجودها، حتى لو كان ذلك من باب تشبّث الخائف وتعلّله بأي سبب لطرد الخوف. لذلك يعمد المؤلف الى تفجير سيارة مفخخة أمام منزلها بعد انتقالها منه بيوم واحد ـ أثناء مطاردة المسخ ـ لتأكيد ما ألحّ عليه من اغداق صفات اسطورية على هذه المرأة من مثل، اضافة الى ما تقدم، مناجاتها المستمرة لصورة القديس مار كوركيس والتي بالغ في تكرارها بشكل ممل وفاقد للتبرير بالمحصلة. صحيح ان ايليشوا تعيش واقعها هلوسةً، غير انّ أفعالها لا تُقاس من زاويتها غير الآبهة بقوانين العمل الفني ومنطقه الداخلي. ثمّ ان شخصية ايليشوا في حد ذاتها مصممة سلفاً كمسيحية وهو من باب الاستخدام وليس كشأن فني واجتماعي محض فرضته طبيعة العمل ولو كان انتماء هذه الشخصية الديني غير ذلك لما تأثرت الرواية، بل أذهب أبعد من ذلك فأقول لو انعدم وجود هذه الشخصية برمتها وكل ما يتصل بها لما كان لذلك أي فرق، لأنه، وباختصار، كل شيء مفتعل ومُراكَم في هذا العمل، بيئة وشخوصاً ومآلات. من هنا يمكن اطلاق اسم "رواية الوهم" على كتابة مثل هذه، فهي "تستجير بلغة قاموسية جاهزة، أو تخفي أوهامها وراء لغة تقريرية سكونية"3. وإلا فأي درجة اقناع للقارئ يمتلك مشهد العثور على "أثر يهودي"، بـ "المصادفة"!!، في البيت المسمّى "الخرابة اليهودية" بعد الانفجار الذي حدث قريباً من البيت: (نظر الى الثغرة المربّعة في الحائط المتخلفة عن زوال التمثال فرأى كومة من التراب تغطي شيئاً. نفض التراب بيده فاتضحت المعالم أكثر فأكثر. كان هناك لوح خشبي داكن اللون بارتفاع (يقصد المؤلف بطول) سبعين سنتمتراً وعرض ثلاثين. مسحه بيده فاتضح نقش على شكل شجرة. نوع من الحفر بالإزميل لنقشة غريبة مثل شجرة. مثل شمعدان كبير مع كتابة بالأعلى والأسفل بلغة غريبة. لم يكن هادي ساذجاً وعرف سريعاً ان هذه أيقونة يهودية: 240) ، وهو نظير المبالغة في استحضار ما هو مسيحي، كمثل اقتران موافقة العجوز إيليشوا على بيع بيتها (بحلول الذكرى التاسعة والعشرين لجلوس قداسة مار دنخا الرابع على الكرسي البطريركي لكنيسة المشرق: 282). ليس العيب في مثل هذا الاستحضار، لكن العيب في التكلّف والافتعال. فما هو مقدار التمثّل الوجداني لدى الكاتب لتفصيل كهذا ذات خصوصية شديدة حتى لدى أصحابه الأصليين، كي يفرض نفسه عليه وليأخذ طريقه الى صفحاته؟! ان تفاصيل على هذه الشاكلة قد لا تثير استغرابنا، إن وجدت، عند كاتبة مثل ليلى قصراني أو انعام كجه جي أو كاتب مثل سنان انطون الذي كان عمله "يا مريم"، في بنية علاقاته المسيحية، مصدراً آخرَ للعمل مثار الحديث هنا، ليس بضرورة التقليد المباشر وانما عبر استلهامه في خلق بيئة وبناء شخصيات مسيحية. وقبل سنان انطون كان هناك علي بدر في "الطريق الى تل المطران" بشخصياتها وبيئتها المسيحية (الكلدانية) الخالصة ولغتها التي أُستعين بها لأداء بعض الحوارات بالسريانية أو الكردية: 4 ، وإن بشكل هامشي ضئيل، للأخيرة. وهوما فعله صاحب فرانكشتاين كما في حوار ايليشوا وحفيدها دانيال وإن كان عبر جملتين صغيرتين بالسريانية بدتا غير مبرّرتين وغير ضروريتين. 286 ـ 287.
كل ذلك يمكن ادراجه في ما يمكن تسميته "الانئخاذ" برغبة تقديم فسيفساء عراقية "معولمة" بغض النظر عن التوظيف الناجح والمفعّل أو المقنع لها في سياق العمل ككل. فثمة ما هو مسيحي واسلامي ويهودي وصابئي (السر الذي يكشف فيه محمود السوادي، عن انتمائه الديني في الأصل، لهادي العتاك في لعبة تبادل الأسرار المفتعلة هي الأخرى) وعلى الصعيد الإثني كان ثمة الكردي والتركماني والأرمني الى جوار ما هو عربي عبر نموذجَي عزيز المصري صاحب المقهى ولقمان الجزائري ـ ربما كان أمازيغياً! ـ الذي لم يكن من مبرر لوجوده فلم يتعرف القارى على أي دور له سوى الإسم، فلم ينجح الكاتب في تقديم هذه الصورة بما كان يجب أن تبدو أقرب الى العفوية. لذا ظهر الأمر بقسريته أقرب الى المحاصصة كما في الواقع السياسي العراقي البائس.
حزمة أصداء
لم يفارقني الشعور وعلى امتداد قراءتي للعمل بأنّ ما أقرأه هو حزمة أصداء قطفت من أماكن شتى ـ كان ماركيز يقول انه يقرأ أعمال الكتّاب الآخرين كي يتجنب تكرار ما يكتبونه ـ وعلى ما يبدو فإنّ كاتب فرانكشتاين كان قد قرّر كتابة عمل عن الوضع العراقي بكل وقعه الدرامي، بغضّ النظر عن النتيجة التي سيؤول لها. لذا جاء عمله أقرب الى لغة صحافة ينقصها الاحتراف وأشبه بتقارير رسمية جافة، كالتقرير الصادر من (دائرة المتابعة والتعقيب) الذي أُستهلّ به الكتاب. كما ان المسخ بدا في مجمل حركته وأفعاله "القتالية"، بشكل خاص، ومطارداته نموذجاً سينمائياً أقرب منه الى الروائي. انّ النية وحدها غير كافية للنجاح في كتابة موضوع ما إن لم تتوفر العناصر المتكاملة له. فالموضوعات كالألحان تنبثق وتبرق في لحظة "اشراق" يستثمرها الكاتب ليقيم، انطلاقاً منها،عمله، بإحكام لكن دون تكلّف. وقد لا تأتي لحظة الإشراق هذه. يحضرني هنا موقف الكاتب المصري يوسف ادريس بعد عودته من الجزائر عام 1962 وتساؤل القريبين منه إن كان سيكتب عملاً مستوحى من أحداث الثورة الجزائرية، خصوصاً وانه ـ كما يقول ـ قد عاصر الثورة كفاحاً مسلحاً، حدّ أن حضر بعض معارك جيش التحرير، ورأى الثورة قد تجسدت على هيئة دولة. وكان يجيبهم ـ محرجاً ـ بالتأكيد انه سيكتب. إلا ان تلك التساؤلات في الحقيقة كانت تدفعه الى مزيد من التعاسة. يقول، ان مشكلتي دائماً أني لا أستطيع أن أكتب لأن من "واجبي" أن أكتب ولم أجرّب أبداً أن أفرض على نفسي موضوعاً ولا أن أعطي لموضوع بالذات حق الأولوية في الخروج الى حيّز الوجود. ولقد انفعلت بكل ما رأيت في الجزائر قبل الاستقلال وبعده ولكن يبدو وكأن الانفعال لم يكن قد نضج الى الدرجة الكافية لكسر القشرة الإرادية والخروج الى الحياة: 5
ان نموذج يوسف ادريس هنا هو نموذج الكاتب الذي يعي مسؤوليته والذي يتعامل بما يشبه القدسية مع الكلمة. لنخلص الى ان كاتباً حتى وإن كان بحجمه وموهبته لم يجرؤ على أن يقسر نفسه على كتابة موضوع لم ينضج تماماً داخله أو انه لم يطاوعه بالشكل الذي يريد.
لذا فإن محاولة تقديم مشهد بانورامي عن الواقع العراقي غبّ سقوط النظام والاحتلال وتداعياته، وسعي الكاتب وراء الجزئيات والتصدي للاحاطة بذلك لا يُعتبر في حدّ ذاته مزيّة. وبسبب من ملاحقة كل شيء لتقديمه فإنّ الأخطاء الفنية ازدادت بالمقابل مثلا هو لم يغفل الاشارة الى عمليات الخطف التي كانت تحدث على الطريق الدولي الواصل بين بغداد وعمان، من خلال تعرض عائلة أحد شخوصه، المسمّى علي السعيدي، للخطف على هذا الطريق. ورغم ذلك فقد بدا انّ السعيدي لم يكن معنياً بهذه الحادثة فيبعث برسالة الى محمود السوادي لتوضيح موقفه ويبريء نفسه من تهمة السرقة التي أُثيرت ضده دون أدنى اشارة الى المصيبة التي حلت به!
ومن بين المآخذ الفنية الأخرى، الاشارة "المنسية" التي أوحت بها الرواية الى دائرة "المتابعة والتعقيب" ومديرها "سرور محمد مجيد". (قال السعيدي: العميد سرور... في الحقيقة لا يلاحق جرائم غريبة ولا هم يحزنون.. انه موظف من قبل سلطة الائتلاف الأميركية المؤقتة لقيادة فريق اغتيالات: 19). لكنّ الكاتب لم يبيّن في مسار الأحداث أي شيء له صلة بما كشفه السعيدي، إن لم يكن على العكس أظهر هذه الدائرة وهي تؤدي دوراً لا غبار عليه خصوصاً وهو يعالج تفاصيل تصديها للمسخ ومحاولة القبض عليه بوصفه تهديداً للأمن. فهل نسي الكاتب أو انشغل عن تعميق مسار ما أثاره بهذا الشأن؟ إذ لم يكن من شيء يبرّر السكوت ازاء اثارة خطيرة كالتي وُصمت بها الدائرة المذكورة، ناهيك عن ان "تيمة" كهذه يمكن أن يقوم عليها وحدها عمل روائي مستقل!
احالات
سبق وأن أشرت الى شعور القارئ عند قراءة هذه "الرواية" بأنه ازاء عمل هو في المحصلة حزمة أصداء لقراءات ومشاهدات صُبّت بتعثّر في اطار أُريد له أن يكون روائياً، فهل يمكن تسمية الاحالات التالية هي بعض من مرجعية خفية للعمل:
1ـ مقال للمفكر ميثم الجنابي تضمنه كتابه العراق ومعاصرة المستقبل 2004: "لقد أدت الراديكالية السياسية البعثية في العراق إلى إنتاج "فرانكشتاين" صدامي جُمعت أعضاؤه ونسيجه من مزبلة الحثالات الاجتماعية والهامشية السياسية والثقافية، أي من مكونات هي في الواقع خارج التاريخ العراقي بالمعنى الدقيق للكلمة، ما أدى إلى إنتاج نسخ متنوعة لهذا المسخ، يمكن أن نطلق عليهم اسم فرنكشتينات جهوية فئوية طائفية، استباحت العراق بكافة الميادين والمستويات والاتجاهات..."6.
هل التوصيف الآنف المُلم بالحالة العراقية المتشظية والذي يمكن تسميته تعريقاً لفرانكشتاين، من زاوية بحثية فكرية، هو ما تلقفه سعداوي ليهيله في قالب روائي؟
2ـ هل ان رواية علي بدر الذائعة "مصابيح أورشليم" كانت هي الأطار المستعار لفرانكشتاين سعداوي حيث ان الأولى تقوم، وشتّان بين طريقتي المعالجة المعتمدتين، على مخطوطة تعود للمؤلف أيمن مقدسي يودعها لدى صديقه الراوي/ المؤلف قبل يوم من اختفائه. وفي "فرانكشتاين..." يحل جهاز التسجيل الذي يبيعه الصحفي محمود السوادي الى "المؤلف/ الراوي" بما يتضمنه من "قصة" محل المخطوطة في رواية بدر كما ان محمود السوادي بوصفه مؤلفاً "أول" أو مدوناً لاعترافات ستسعف مادة الرواية يكون معادلاً لأيمن مقدسي، حتى انّ المكان هو ذاته الذي تجري فيه عملية تسليم كلا من المخطوطة في "مصابيح اورشليم" وجهاز التسجيل في "فرانكشتاين في بغداد" ألا وهوالمقهى! وهو مقهى معرّف بالإسم في كلا العملين ففي "المصابيح..." (مقهى الجماهير القريب من باب المعظم، وهو مقهى متواضع يتكون من بهو عريض وواجهة زجاجية وتخوت خشبية، يقع في زقاق صغير بالقرب من صحيفة الجمهورية (.....)، وكان يجلس فيه قبل الاحتلال الجيل الأخير من الكتاب والفنانين والرسامين والمسرحيين والسينمائيين: 7). اما بصدد المقهى في "فرانكشتاين" فيجيء وصفه على نحو يكاد يطابق حرفياً وصف علي بدر في المصابيح، ناهيك عن انّ كلا المقهيين لهما وجودهما في الواقع: (تعرفت على محمود رياض السوادي في مقهى البغدادي في ارخيته بالكرادة. كان المكان يعج بمثقفين وكتاب، وممثلين ومخرجين ورسامين. لم تكن المقاعد الطولية المصنوعة من الحديد والموضوعة على الرصيف أمام المقهى تستوعب الجميع: 323).
3ـ في رواية علي بدر "أساتذة الوهم" يتخذ الكاتب من "البتاويين" مسرحاً لأحداث قسم مهم من الرواية حيث أسكنَ، هناك، بطله عيسى الفار من الخدمة العسكرية وبعض أصدقائه، وقد كان اختيار المكان مبرّراً حيث يتحدث الكاتب عن ظهور طبقتين جديدتين، بعد منتصف الثمانينات، هما (الهاربون من الخدمة العسكرية والمطاردون سياسياً) 7. وفي "فرانكشتاين..." يفعل سعداوي نفس الشيء باتخاذه البتاويين مسرحاً لأحداث عمله ويتحدث عن ظهور المستحوذين الجدد على الأملاك بعد الـ 2003 أمثال فرج الدلال.
4 ـ في "أساتذة الوهم" يسمّي علي بدر "مقهى عوديشو" ويتخذه قريباً من سكن عيسى وأصدقائه. يقابله في "فرانكشتاين.... " مقهى عزيز المصري" القريب من سكن بعض شخصيات العمل أيضاً. حتى عادة الأكل هي ذاتها في المقهى ونوعه حتى ان الفطور يكاد يكون ذاته: صمونة وبيضة مسلوقة مع استكان شاي!
5 ـ شخصية العجوز عبد الودود الآمرلي الذي يفكر بالسفر والزواج من صديقة قديمة تعرّف عليها قبل عقود أثناء دراسته في روسيا! هذه الشخصية الهامشية حدّ الإنعدام تذكّر، عبر رغبتها هذه، بشخصية فلورنتينو أريثا في "الحب في زمن الكوليرا" حين يعاود الاتصال بعشقه القديم فرمينا داثا وقد فاقا السبعين من العمر!
ملاحظات اضافية
ـ لم تكُن محاولة الكاتب موفقة في "بَوْلَسة" روايته عبر إيهام القارئ وربط صوت أبو سليم (زوج أم سليم البيضة!) بصوت "فرانكشتاين" حين استمع المؤلف، للأخير، مسجّلاً! الرواية: 331. نفس الشيء يقال عن مماهاة ملامح هادي العتاك بعد تعرضه للحريق بملامح المسخ: 333 ـ 334.
اما في ما يخصّ لغة العمل فكانت بشكل عام بعيدة عن كل ما هو شعري ويشوبها الضعف وتتخللها الأخطاء والألفاظ والسياقات الدخيلة غير معهودة الاستخدام عراقياً، على سبيل المثال: الميلتري بوليس: 79. ولا أدري من يستخدم هذه التسمية وأين من العراقيين؟ كذلك تسمية "المشربيات": 80، ملافظه: 231 والشهر العقاري: 332. وكلها مصرية. كاسة الشاي: 82 (المكررة أكثر من مرة وفي أكثر من موضع) وهي لا تُستخدم في العراق كما هو معروف، رغم انه يستخدم أحياناً مفردة "استكان". حلاوة الروح: 236. وهو استخدام غير دقيق ومحرّف عن العامية العراقية. وقد شمل التعثّر حتى خاصية اطلاق الأسماء على شخصيات العمل فالأسماء غير نموذجية كأسماء عراقية وإلا فهل اسم عيدروس (هادي حسّاني) مما يمكن عدّه نموذجاً عراقياً؟! كذلك اسم ناهم عبدكي! وعلى صعيد الأخطاء اللغوية ثمة ما يمكن ملاحظته بسهولة، من ذلك:
الآثاث وهو لفظ عامي والصحيح: أثاث. أيقضه (كُرّرت مرتين) والصحيح أيقظه. القبحاء لايوجد في العربية جمع على هذا الوجه لهذه الكلمة والصحيح: قِباحٌ وقَباحَى. دماً أسوداً والصحيح أسودَ لأنه ممنوع من الصرف. ريمونت (المكررة أكثر من مرة) والصحيح ريموت، وغير ذلك. وعلى صعيد الحوار فلم يكن موفقاً سواء لناحية نوع اللغة المستعملة، كما في بعض الشواهد آنفاً، أو الدقة في ترجمة افكار الشخصيات أو مشاعرها.
ـ هذي أم المسيح... ليه كده؟ يقول عزيز المصري بعد رؤيته تمثال العذراء محطماً: 239.
وهو ما يشير الى نوعية اللغة وانسحاقها لا لناحية اللهجة التي قيلت بها بل لطبيعة حمولتها، ثمّ ان المصريين لا يقولون: هذي!.
شبيه بذلك الرمزية "الصبيانية" حين يتم انزال القطعة التي تحمل اسم فندق "العروبة" بعد شرائه من فرج الدلال ليدوسها هذا الأخير بقدميه وليتم اطلاق اسم "الرسول الأعظم" على الفندق!
ووفقاً لهذه الرمزية يمكن قياس العمل ككل والمصمّم لإرضاء ما يحبّ "الكثير" قراءته أو سماعه عن العراق بعد 2003 كدأب بعض الفضائيات العربية التي تتعاطى مع الحدث العراقي من زاوية الشارع المحكوم باللاعقلانية وانفلات العواطف.
الهوامش:
1 ـ ف. س. نايبول: نصف حياة، ترجمة عابد اسماعيل، دار المدى ـ الطبعة الأولى 2002. ص: 98 ـ 99
2ـ فيصل دراج: "رواية عن الأمس.. رواية عن اليوم"، رواية غائب طعمة فرمان، النخلة والجيران، دار بابل ـ دار الفارابي 1988: المقدمة.
3ـ فيصل دراج: مصدر سابق.
4 ـ علي بدر: الطريق الى تل المطران، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى 2005، الصفحات: 137، 138، 152 على سبيل المثال ، إذ لا تكاد تخلو باقي صفحات الرواية على امتدادها من جُمل لحوارات أو تسميات بالسريانية.
5 ـ يوسف ادريس: رجال وثيران، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان ـ طرابلس، طبعة خاصة 1983: المقدمة.
6ـ ميثم الجنابي: الراديكالية السياسية وإشكالية الهوية العراقية، مُعاد نشره على الانترنت في موقع مركز بابل للبحوث والدراسات الاستراتيجية، والمقال متضمناً في كتاب الجنابي: العراق ومعاصرة المستقبل دار المدى 2004.
7 ـ علي بدر: "أساتذة الوهم"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ الطبعة الأولى 2011. ص: 221.