اليوتوبيا معيارا نقديا
سعدون هليل
2013 / 8 / 6 - 14:00
قراءة في كتاب
اليوتوبيا معيارا نقديا
المدينة الفاضلة ..في معيار كامل شياع النقدي
ان مفهوم كلمة "يوتوبيا" يعود الى الفيلسوف الإغريقي أفلاطون، ولكن ما هو مؤكد وثابت: ان الكاتب "توماس مور" هو أول من استخدم مصطلح يوتوبيا، الذي ورد عام 1515 في تسميته روايته "المدينة الفاضلة" استناداً الى كتاب "جمهورية أفلاطون".
اليوتوبيا، نموذج فلسفي يرمي الى خلق دولة ومجتمع مثالي حيث يتفانى الأفراد بغية تحقيق الأهداف المثالية التي تم التخطيط المسبق لها. واليوتوبيا تنعكس في أفكار أفلاطون وغيره من الفلاسفة المثاليين، فضلا عن وجودها في القصص الخيالية للعلم الحديث. ان صفة اليوتوبيا تطلق على الأفكار والأوضاع والملابسات التي لا تروق للمفكر، او كاتب آخر. ان جميع الأفكار والمبادئ السياسية والاجتماعية والفلسفية المتساوية والقريبة من الحلم التي لا يمكن تطبيقها في الحياة الاجتماعية، يمكن ان نسميها بالأفكار والمبادئ اليوتوبية، نظرا لبعدها عن الواقع والحقيقة.
صدر حديثاً عن "دار المدى" كتاب جديد تحت عنوان: "اليوتوبيا معياراً نقدياً" للمفكر والشهيد كامل شياع، ترجمه الى اللغة العربية الشاعر والكاتب، سهيل نجم، يقع الكتاب في 146 صفحة من القطع المتوسط. ويضم بين دفتيه مقدمة وثلاثة فصول ومقدمة تعريفية للمترجم عن حياة ومنهج وثقافة الشهيد المفكر كامل شياع، الكاتب الحر والمناضل الوطني الديمقراطي والباحث الدؤوب الذي رهن حياته وجهده الفكري من أجل قيم العدل والديمقراطية، وترك في أعماق كل من عرفه او عمل معه ذكرى رجل عراقي صميم، امتزجت في روحه المحبة بالتسامح والأمل والإصرار والعمل من أجل الحرية، وكان واثقاً من إمكانية العمل والسعي بخطى ثابتة نحو العراق الحر والمتعدد، والكريم، واختار ان يعود الى العراق من منفاه الطويل، حينما وجد ان العودة ضرورة برغم الرصاص والغدر والجريمة. كان كامل شياع زاهداً بالمناصب والمراكز مع ثقافته العميقة وشخصيته العصامية، وتاريخه الشجاع يؤهله لأكبر المراكز التي ترفع عنها مكتفياً بالعمل مخلصاً للثقافة والعراق.
ويؤكد المترجم: انني شعرت بالاعتزاز حين كلفتني "دار المدى" بترجمة أطروحة الصديق الراحل كامل شياع التي نال عنها شهادة الماجستير بالفلسفة من معهد هوغر في بلجيكا، ويضيف: فهذه فرصة لي لأحتفي بهذا المثقف المتميز. وحين قرأت نصه بإمعان شعرت بعمق ثقافة هذا الكاتب وعمق آرائه وتأكد لي بعد فترة وجيزة ان الحلم ديدن هذا الإنسان في الوصول الى المدينة الفاضلة.
يعالج الكاتب في الفصل الاول: "اليوتوبيا وسياقاتها- وجذور اليوتوبيا- اصول اليوتوبيا- إمكانية تطبيق اليوتوبيا.
في ما يتعلق بمسألة تعريف اليوتوبيا، ينقسم الباحثون الى مجموعتين: مجموعة ترى ان من الممكن تعريف اليوتوبيا والمجموعة الثانية التي مثلها أفضل تمثيل الاخوان مانويل في دراستهما الشهيرة: "الفكر اليوتوبي في العالم الغربي" وهما يزعمان ان اليوتوبيا تتحدى أي تعريف بسبب تغيرها المستمر.
ويناقشان من خلال وجهة نظر نيتشوية ان التاريخ والتعريف متعاكسان؛ ولهذا نستنتج من ذلك عدم التوافق بين ان يكون ثمة تعريف صارم لليوتوبيا، كما يشير آل مانويل الى ما يسميانه: "الميل الطبيعي لليوتوبيا عند الإنسان" فبينما يجدان ان: "أصل الميل الطبيعي لليوتوبيا بالمعنى المطلق، لا يمكن معرفته" فهما يسلمان بأن تصنيف اليوتوبيا في مجاميع تبعاً الى فتراتها وعناصرها يكون ممكناً.
ويشير الباحث في الفصل الاول: "إننا نرى جدلاً من حيث المبدأ أن أصل ظاهرة اليوتوبيا نموذج من الفلسفة المثالية يرمي الى دولة ومجتمع مثالي، يتفانى الافراد في خدمته بغية تحقيق اهدافه المثالية التي رسمها وخطط لها، واليوتوبيا تنعكس في أفكار أفلاطون وغيره من الفلاسفة المثاليين، فضلا عن أنها قد توجد في القصص الخيالية للعلم الحديث، يمكن ان نسميها بالأفكار والمبادئ اليوتوبية؛ نظرا لبعدها عن الواقع والحقيقة.
ويطرح الباحث ظاهرة التطور اللامحدود للعلم والتكنولوجيا في القرن التاسع عشر وتحديداً في القرن العشرين، قد خلف أجواء وآراء ثقافية جديدة.
ويعالج المؤلف، تلك الآراء هي الوسطية التي دفعت نحو المطالبة بالنظرية الموضوعية الى أقصى حد، من خلال اعتماد المنهج المطبق على العلوم الطبيعية في العلوم الإنسانية.
ويشير الباحث الى ان: مفكري النهضة بالاهتمام بالتاريخ فإنهم لم يتقاسموا ابداً النظرة الى التاريخ مع الذين أتوا من بعدهم وهم تحديداً مفكرو عصر التنوير الذين نظروا الى التاريخ بوصفه عملية لاهوتية".
ويتابع المؤلف؛في الفصل الثاني ظاهرة اليوتوبيا في القرن التاسع قد جلبت معها توكيداً خاصاً على العلم والمعرفة العلمية، بدل أفكار القرن الثامن عشر التجريدية عن العقل والتعليم. لقد آمن سان سيمون، على سبيل المثال ان مجتمع المستقبل سيكون مجتمعاً علمياً وصناعياً؛ مما يستلزم نظرة عالمية جديدة.
ونعتقد بأن هذا الأنموذج النفسي ينطبق على الحياة الاجتماعية فقد قاد سان سيمون الى التمييز بين الطبقات الاجتماعية الثلاث للمجتمع. وهي تحديداً:( الصناعيون، والعلماء، والأخلاقيون،) والملهمون، للمجتمع.
ويدرس الباحث، التاريخ واليوتوبيا، ويرى ان التاريخ الذي يتميز بالاستمرارية والتوقف هو بناء اليوتوبيات بالدرجة نفسها التي يكون فيها ملهماً ومتأملا في أشكالها الغربية.
ثمة سؤالان يتعلقان بالعلاقة بين التاريخ واليوتوبيا. يتعلق الاول منهما بالطريقة الخاصة التي تربط اليوتوبيا نفسها بالحاضر، والماضي، والمستقبل، ويتعلق الثاني بقضية ما اذا كان لليوتوبيا تاريخ ام لا. فإن اليوتوبيين يمكن ان ينظر إليهم على أنهم مفكرون عقلانيون، لديهم حساسية غير عادية تجاه المستقبل والأمور غير المقررة في العلاقة بين ماهو حقيقي وما هو غير حقيقي، انهم يخاطبون انفسهم من اجل حل بعض القضايا الفلسفية سياق خيالي، حيث تختلط النظرية بالخيال والخطاب بالواقع.
اما الفصل الثاني يتتبع الباحث ظاهرة اليوتوبيا وتاريخها ويناقش العلاقة بين اليوتوبيا والايديولوجيا، ويعتقد ان كلا المصطلحين غامضان، ان هذه المعاني تتضمن القول: عالم اليوتوبيا افضل من العالم الحقيقي، لكن هذا لا ينكر إمكانية نقدها لكونها توقعات غير معقولة وبعيدة المنال. لان اليوتوبيا بوصفها رؤيا لعالم مثالي من الممكن ايضاً ان تحقق دوراً ايجابيا من خلال تقديمها لنفسها على أنها سوسيولوجيا علاجية لكشف حدود العالم الحقيقي.
اما اليوتوبيا والعنف، انما تمثل اليوتوبيا، صورة المجتمع من دون سياسة ومن الناحية العلمية فان الفرض اليوتوبي الاستغناء الكامل ع السياسة يمكن ان يعزي الى نظرة غير واقعية لا تقلل من قيمة الدور الملموس للسياسة في العلاقات الإنسانية فحسب، بل أنها تتناول التاريخ كونه قابلا للتغيير الراديكالي. وكي يحدث مثل هذا التغيير، تتطلب اليوتوبيا نوعاً من العنف ليكون الوسيلة التي توصل الى الهدف.
ان هذه الرؤية الجمالية والشمولية هي علامة على العودة الى مجتمع مغلق، مثال ذلك المجتمع التعاوني المبني على الخضوع، والذي يعارض التغيير. ويصبح العنف عند ذاك وفقاً إلى بوبر، موجهاً ضد قيم المجتمع المقترح التي هي قيم الحرية والفردانية والعقل.ثمة الكثير من الاسئلة التي تثار ضد تفسير بوبر لكتاب "جمهورية أفلاطون" يجب ان لا ينظر الى هذا الكتاب على انه كتاب في السياسة من الدرجة الاولى وفضلا عن ذلك، فإن الجزء المتعلق بالسياسة فيه يجب الا ينظر اليه على أنه خارطة عمل الدولة المثالية، لابد من أن تدرك سطرا سطراً لقد اتهم بوبر أفلاطون بتشجيعه لأفكار عن دور الدعاية والعنصرية والحتمية التاريخية.
ويناقش الباحث- اليوتوبيا والكلية: أي ان اليوتوبيا سوق تدرس من وجهة نظر تلك المظاهر المستقلة عما يسمى الهندسة اليوتوبية وتجلياتها السياسية الشمولية والعنف.
وهذا النقد ممكن لأنه على العكس من الحاضر، يعرض المستقبل بوصفه صورة للكلية تتوافق فها الحرية مع الضرورة الموضوعية.
وقد يساعد هذا في شرح الجدال الاساسي لدى مدرسة "فرانكفورت" ويحدد الباحث كامل شياع، اننا سوف نقتصر هنا على مناقشة اراء لوكاش وبلوخ، بشأن هذا المفهوم. ربما يكون لوكاش هو المفكر الماركسي الأول الذي ركز على مفهوم الكلية، كونها الميزة الخاصة بالفكر الماركسي، بالتضاد مع دعاة الفكر البرجوازي. وقد حدد أيضاً مفهوم الكلية بالتاريخ وحده، اما بلوخ فقد حاول توسيع مفهوم لوكاش عن الكلية ليضمنها حقولا اخرى الى جانب التاريخ.
في ما يخص لوكاش، فان مفهوم الكلية له تأثير كبير على طريقة العلوم الاجتماعية، ان الكلية في الحقيقة، هي الواقع الملموس نفسه، وهو يتقدم منهجا نحو غايته النهائية. ان كل ابعاد الزمن "الماضي والحاضر والمستقبل" لابد من ان ينظر اليها بوصفها لحظات في سيرورة حتمية نحو الحرية ويزعم لوكاش ان الناس قادرون على ان يفهموا التاريخ اكثر من الطبيعة، لان قوانين الطبيعة تعمل مستقلة عنهم. لكن فهم كلية التاريخ ليس سهلا بالنسبة للافراد. وهي سهلة لمن يتبع الجماعية كالطبقة العامة. وعلى هذا الاساس تأتي الحاجة الى نظرية متكاملة، لفهم الكلية وايضاً لتوجيه ممارسة هذه الطبقة اليها.
بهذا المعنى تعد الكلية ملهماً يوتوبيا للفن والدين والاسطورة وحكايات الجن. أما الفصل الثالث فهو خاتمة تلخص وتستوفي بعض نقاط في الفصول السابقة.
في هذا الفصل سننظر عن قرب الى الزاوية الافضل لليوتوبيا بوصفها معياراً نقدياً كي يناط بها معنى جديد.ربما ينظر الى بلوخ بأنه أحد المفكرين القلائل في زماننا، الذي اخضع اليوتوبيا الى نقد، الغرض منه الحفاظ على صلتها بالواقع. فهو يقول، على سبيل المثال: انه من دون اليوتوبيا "لايمكن ابداع شيء ذي قيمة" إن اليوتوبيا ما تزال ذات معنى على الرغم من الاراء الوضعية والعلمية المعاصرة التي تهدف الى تشويهها.
ويطرح هذا الكتاب مفهوم الامل عند بلوخ: ان الامل بالمستقبل تحركه احداث التغيير التي تعد بتحقيق رغبات الإنسان واحلامه الاشد عمقاً. يقول بلوخ: "كلما كان المستقبل وشيكاً، كلما كان أقوى وازداد نوهج الهدف المطلوب في حد ذاته، كلما اتسع تأثير مضمون الهدف المتوقع في الذات التي تهدف كلما رمى الشخص نفسه نحوها، وتعمق ذلك في العاطفة".
ويشير ذلك الى: انه على الرغم من حقيقة ان الأمل "المستقبل" كامن في الماضي، فمن الممكن عادة إحيائه. يتطلب الأمل امكانيات جديدة لاطلاق طاقة المغامرة الى الابعد. ان الأمل حتى في ادنى مستوياته اعلى من التشاؤمية، لان الأخيرة تعيق النشاط الإنساني بينما الاولى تشجعه.
ويشير الباحث: لقد تحدث بلوخ عن اربعة تنوعات لعنف "الممكن"، سوف نركز على مثال منها. هو يسمى "الممكن المفهومي او الممكن موضوعياً" ان تعريفي بلوخ للممكن الحقيقي يبدوان متأرجحين بين "الممكنات الاساسية الحقيقية" و"الممكن المفتوح على نحو عام" .التعريفان المختلفان للممكن يقوداننا الى ان نتساءل اولاً، عما اذا كان بلوخ يسمح، بالطريقة نفسها، برؤية الارادة البشرية وفق طريقتين مختلفتين. طبقاً الى الممكن الحقيقي وطبقاً الى الممكن المفتوح، عندما لا يتوافق الممكن الحقيقي مع الارادة البشرية.
ان اليوتوبيا الملموسة، كما يشير الباحث بكلمات بلوخ: تنسجم مع الحركات الملموسة التي تميل الى التكامل في العالم مع التوجه المادي المثالي.
وأخيرا: ان اليوتوبيا تنتمي للرغبة الإنسانية في الحفاظ على الحياة لجعلها ذات معنى، ولتأمين الكرامة الإنسانية.
باختصار شديد: ان هذا الكتاب من الكتب المهمة والقيمة لمفكرنا الشهيد كامل شياع.