أزمة حكومة أم أزمة نظام حكم ؟
رائد فهمي
الحوار المتمدن
-
العدد: 4157 - 2013 / 7 / 18 - 12:46
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يعيش العراق منذ انتخابات المجلس النواب لعام 2010 والتشكيلة النيابية التي افرزتها ازمة سياسية متواصلة ومتعمقة. وكانت اولى مظاهرها الصعوبات في تشكيل الحكومة والتي استغرقت عدة اشهر دون التمكن حتى الوقت الحاضر من اشغال حقيبتي الدفاع والداخلية اللتين لا تزالان تداران بالوكالة. ويمثل ذلك بحد ذاته مؤشراً ذا دلالة كبيرة بالنسبة لبلد يأتي فيه توفير الأمن في مقدمة سلم الأولويات.
وعلى مدى السنوات الثلاث التي مضت على عمر حكومة "الشراكة" الوطنية، تناسلت الأزمات، تارة مع حكومة الأقليم وأخرى مع القوى السياسية " السنية" المؤتلفة في القائمة العراقية، واخرى مع حلفاء السيد المالكي وقائمة دولة القانون في اطار قائمة الائتلاف الوطني "الشيعية". وفي احيان كثيرة كانت الخلافات تندلع مع جميع هذه الأطراف في الوقت نفسه. حلفاء المالكي المتشاركون معه في الحكومة يتهمونه بالارتداد عن التعهدات والاتفاقات التي وقعها معهم في اطار اتفاقية اربيل التي تم على اساسها تشكيل الحكومة ويشكون من تهميشهم في عملية صنع والتخاذ القرارات الرئيسية في البلاد، وخصوصاً في مجالات الأمن والدفاع، كما يحذرون من توجه رئيس الوزراء إلى التفرد ومركزة السطات بين يديه، حيث يشغل مواقع رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الداخاية وكالة، كما انه عمل على تنصيب عناصر موالية له ولحزبه على رأس جميع الهيئات "المستقلة" التي ينص عليها الدستور، وآخرها ازاحته لمحافظ البنك المركزي العراقي.
وبالمقابل، يتهم رئيس الوزراء شركائه بعدم الالتزام بالدستور ومطالبته بتنفيذ اتفاقات واتخاذ اجراءات خارج اطاره، كما يتهم بعض اعضاء القوائم المشاركة في الحكومة باحتضان ارهابيين والتستر عليهم ووضع بعض تسهيلات الدولة تحت تصرفهم للقيام بعمليات ارهابية، كما ينوه إلى انخراط بعض شركائه في اجندات سياسية اقليمية تستهدف النيل من العملية السياسية والنظام المنبثق عنها واعادة العراق إلى اوضاع ما قبل التغيير والاجهاز على النظام العراقي الجديد الذي تقوده قوى واحزاب سياسية شيعية.
وتعددت الملفات موضوع الخلاف والصراع ، فمع الكرد هناك قضية كركوك والمناطق المتنازع عليها وتطبيق المادة 140 من الدستور ومسالة رواتب وتسليح افواج "البيشمركة" في الأقليم باعتبارهم يشكلون جزء من المنظومة الدفاعية للعراق كما يقول الكرد، والذي تعترض عليه الحكومة الاتحادية لكونهم ليس تحت امرة القائد العام للقوات المسلحة، وقانون النفط والغاز وهي قضايا عالقة منذ الدورة السابقة للحكومة، اضيف لها مشكلة العقود النفطية التي وقعها الأقليم مع شركات عالمية دون التشاور مع الحكومة الاتحادية وبخلاف موقف ورأي وزارة النفط العراقية، ومن ثم تصدير بعض النفط المستخرج في الأقليم دون المرور بالقنوات الاتحادية، وتشكيل قيادة قوات عمليات دجلة في كركوك وديالى والتي كاد الخلاف بشأنها ان يصل حد الصدام العسكري. اما مع شركائه من القائمة العراقية ذات الهوية السنية، فقد اشتدت بعد تحريك الوزراء لملفات الاتهام بالارهاب ىضد نائب رئيس الجمهورية ، طارق الهاشمي، وضد افراد حماية وزير المالية المستقيل رافع العيساوي. وكانت الخطوة الأخيرة سبباً مباشراً لانطلاق تظاهرات واعتصامات حاشدة في المحافظات ذات الأغلبية السنية في غرب العراق ، محافظات الانبار وصلاح الدين ونينوى كما شملت ايضاً محافظتي كركوك وديالى، وبدرجة اقل بعض مناطق بغداد ذات الصفة الغالبة السنية. تشمل مطالب المتظاهرين اطلاق سراح المعتقلين والموقوفين الأبرياء ، وخصوصاً النساء، ومراجعة ، أو الغاء بالنسبة لمواقف الاطراف اكثر تطرفاً، لقانوني المساءلة والعدالة ( الذي حل محل قانون اجتثاث البعث) وقانون مكافحة الارهاب. وترفع القوى الأكثر تطرفاً القريبة من حزب البعث والقاعدة، اسقاط الدستور والعملية السياسية وحكومة "الشيعة" الخاضعة للنفوذ الايراني. ويشترك الطرفان الممثلان للمكونين الكردستاني والسني بطالبة الحكومة والائتلاف الوطني بتحقيق "التوازن" في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، اي تأمين مشاركة عادلة، وعملياً وفق مبدأ المحاصصة الأثنية والطائفية، في مختلف المرافق القيادية للدولة.
وبموازاة هذه الخلافات مع الشركاء خارج التحالف الشيعي الحاكم، ظهرت اختلافات حادة ما بين التيار الصدري الذي يقوده السيد مقتدى الصدر وكتلة "الأحرار" النيابية التابعة له مع السيد المالكي وكتلة دولة القانون التي يرأسها.
وعلى مدى الشهور الماضية فشلت جميع المحاولات والمبادرات لا يجاد حلول للأزمة، كفكرة اجراء حوارات وطنية شاملة تمهد لعقد مؤتمر او لقاء وطني عام للقوى المشاركة في العملية السياسية، كما لم تحظ فكرة الانتخابات المبكرة بالدعم الكافي للقيام بها رغم التلويح بها من قبل جميع الكتل بين آونة وأخرى. كما لم تنجح محاولة "خصوم" المالكي في تنحيته من رئاسة الوزارة رغم تضافر جهودهم. ويبدو ان موقف الرئيس الطالباني ومساع ايرانية حالت دون ذلك.
وقد تفاقمت الأزمة بالارتباط مع تواصل المظاهرات والاعتصامات في المحافظات الغربية منذ أكثر من ثلاثة شهور، وقيام العديد من وزراء القائمة بالتوقف عن حضور اجتماعات مجلس الوزراء تضامنا ً مع مطالب المتظاهرين، وكذلك الأمر بالنسبة للوزراء الكرد بعد التصويت على الموازنة العامة في مجلس النواب رغم اعتراضهم ، ما شكّل لأول مرة تجاوزاُ لمبدأ التوافق في التصويت على الموازنة. كما انسحب ايضا الوزراء الصدريون من اجتماعات مجلس الوزراء لتصويت المجلس على قرارت اعترض عليها السيد مقتدى بشدة، رغم تصويت وزرائه عليها، كاسبدال البطاقة التموينية ببدل نقدي. وقد انسحب التردي في العلاقات بين القوى السياسية على البرلمان، فتعثرت اعماله، وبات يجد صعوبة في تحقيق النصاب الكافي لعقد جلساته، ناهيك لمناقشة واقرار قوانين مهمة.
ولم يكن تفاقم التوتر في العلاقات مابين القوى المتشاركة في الحكم ، منعزلاً عن تطور الصراع في سوريا وتنامي قوة الاتجاهات الاسلامية المتطرفة، من انصار جبهة النصرة، داخل القوى المعارضة لنظام بشار الأسد. وتثير هذه التطورا قلقا شديداً في لدى الحكومة العراقية وفي وايران، وتعتبر الربيع العربي "خريفا" يهدد بهيمنة اصولية اسلامية طائفية سنية تحظى بدعم من قطر ومن تركيا بشكل، وبقبول امريكي. وتعتبر القوى الاسلامية الشيعية ان حكمهم سيكون مهدداً في العراق ومن ثم في ايران وتجد في الاحتجاجات الجارية في المحافظات الغربية العراقية جزءً من هذه الاجندة التي تستهدف نظام الحكم في العراق وما المطاليب التي ترفعها إلا غطاء لهذا المخطط.
طبيعة الأزمة
لقد بات واضحا ان الأزمة عميقة، متعددة الاوجه والأبعاد، ويتفق الجميع، بما في في ذلك قادة الكتل السياسية الماسكة بزمام الأمور في البلاد، على التشخيصن كما لا يختلف الكثيرون في انها من العمق والشدة بحيث اصبحت مفتوحة على جميع الاحتمالات، بما تحول الاحتقانات الطائفية والأثنية إلى نزاعات مسلحة، وقد اشر إلى هذا احتمال الحرب الأهلية رئيس الوزراء نفسه في أكثر من مناسبة، كما تنامى الشعور بان اوحدة الوطنية ووحدة البلاد يمكن ان تتعرض إلى التهديد في حال استمرار الأزمة وتصاعدها. وترافقت الأزمة مع اشتداد الاحتقان الطائفي وتدهور الوضع الأمني وظهور دعوات لاعادة الميليشيات المسلحة في بعض المناطق وازدياد عمليات الاغتيال والتصفية لسياسيين وعناصر امنية وشخصيات اجتماعية ومهنية.
واذا ما نظرنا إلى الازمة السياسية المستحكمة بالترابط مع عملية بناء دولة مشوهة نجم عنها دولة مترهلة تفتقر إلى الكفاءة والفاعلية، تنتج الفساد وتعيد انتاجه في مختلف مفاصلها، ولا تمتلك رؤية موحدة واضحة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والمالية وفي مجال السياسة الخارجية، في خلفية ذلك، تقاطعات صارخة ما بين القوى المتشاركة في السلطة في فهم وتفسير وتطبيق مواد الدستور، الوثيقة المؤسسة للنظام السياسي الديمقراطي، الاتحادي، نخلص من كل ذلك إلى ان عجز القوى المتشاركة في السلطة عن التوصل إلى تسويات وحلول للمشاكل القائمة انما يشير إلى امتداد جذور الأزمة السياسية إلى طبيعة نظام الحكم الذي يعتمد المحاصصة الطائفية والاثنية في رسم ملامح الدولة العراقية وفي بناء مؤسساتها والعلاقات السياسية بين القوى المتنفذة. فالأزمة هي اذن ازمة حكومة، ونظام حكم المحاصصة.
أزمة نظام المحاصصة أم أزمة الديمقراطية التوافقية ؟
في الفترات الأخيرة، صدرت تصريحات لقادة سياسيين من مختلف الانتماءات والمواقع في الطيف السياسي العراقي، تنتقد المحاصصة وتحمّلها مسؤولية سوء اداء اجهزة الدولة واستمرار الصراعات بين اركان الحكم على السلطة والنفوذ والامتيازات، ولكنها في الوقت نفسه تعبر عن اضطرارها للقبول بها بسبب التركيبة البنيوية للقوى السياسية القائمة على الهوية الاثنية والمذهبية. واقوى الشكوى صدرت عن رئيس الحكومة الذي اعتبر المحاصصة عنصر تعطيل لبناء الدولة ولعملية اتخاذ القرار، كما انها تسمح لعناصر غير كفوءة وغير نزيهة من تبوء مناصب عليا في الدولة، واعلن عن رغبته وسعيه للتحرر منها ومن العمل بمبدأ التوافق واقامة حكومة أغلبية.
ان مسلسل الازمات التي يواجهها العراق واستمرار حالة اللااستقرار والعنف والتوتر بين القوى السياسية والاحتقان الطائفي واضطراب العلاقة ما بين الحكومة الاتحادية واقليم كردستان، تؤشر إلى فشل عملية بناء الدولة وتشكيل مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية على وفق مبدأ التقاسم والتشارك في السلطات على اساس التحاصص الأثني والطائفي. وقد اعتبر العديد من صانعي قرار في العراق والولايات المتحدة ومن المنظرين في مجال العلوم السياسية ان العملية السياسية في العراق تستلهم نموذج الديمقراطية التوافقية Démocratie consociationnelle)) الذي وضعه المنظّر الهولندي في العلوم السياسية (ارنت ليبهارت).
مباديء التوافقية والعوامل المساعدة على نجاحها
يطرح نظام الديمقراطية التوافقية كطريقة لبناء الديمقراطية في مجتمعات منقسمة اثنيا وطائفياً(متعددة)، من خلال مؤسسات سياسية يقر بالاختلاف بين المكونات الأثنية وتدير النزاعات.
وتختلف الديمقراطية التوافقية عن الديمقرطية القائمة على حكم الأغلبية، بتأكيدها على بناء التوافقات ما بين المجموعات الأثنية المختلفة. وتستند الديمقراطية التوافقية إلى اربعة معايير :
1. الحكم من خلال ائتلاف واسع من الزعماء السياسيين من كافة المكونات الهامة في المجتمع المتعدد الأثنيات والطوائف.
2. الفيتو المتبادل أو حكم "الأغلبية المتراضية" لكون ذلك يشكل حماية اضافية لمصالح الأقلية الحيوية ويشجيع المكونات للتوصل الى حلول متوافق عليها، ووضع شروط اغلبية عالية لتمرير تشريعات مختلف عليها. واعتماد آليات عابرة للطوائف والمكونات للتعاون.
3. النسبية كمعيار أساسي للتمثيل، التعيينات في مجالات الخدمة المدنية، تخصيص الأموال العامة، نظام انتخابي يعتمد التمثيل النسبي.
4. درجة عالية من الاستقلال لكل قطاع أو مكون في ادارة شؤونه الداخلية الخاصة. الاستقلال الذاتي للمكونات الأثنية، عبر مثلا اقامة اقاليم اتحادية. ولاينحصر الاستقلال باقامة مناطق منفصلة ماديا، فبالنسبة للمناطق المختلطة يمكن ان يتخذ شكل التحكم في التمويل الاقليمي لموارد المكون، كاقامة المدارس والمؤسسات الثقافية. بما يساعد في تمكين المكونات من ممارسة تقرير شؤونهم ويعكس اعتراف الحكومة بالخصوصيات.
وفي ضوء الدروس والاستنتاجات المستخلصة من التجارب الناجحة في هولندة وشمال افريقيا وايرلندة الشمالية وغيرها تم تحديد العوامل المؤاتية التالية التي يساعد توفرها على نجاج نظام التوافقية :
1. التعاون بين النخب السياسية .
2. الفصل الطوعي والعزل ما بين المكونات، (الجغرافي أو سواه).، التصور والتقدير المشترك للتهديدات الخارجية.
3. توازن قوى متكافيء بين القطاعات والمكونات.
4. حجم سكان صغير للبلد.
5. فاعلون خارجيون ايجابيون وغير منحازين.
التوافقية في الدستور العراقي
ويمكن تشخيص بعض عناصر نموذج الديمقراطية التوافقية في الدستور العراقي حيث تضم مواده بعض النصوص الداعية إلى التوافق ، كالمواد المتعلقة بالبناء الفدرالي ومنح استقلالية ذاتية إلى الكرد ولامكانية انشاء اقاليم جديدة، وتوزيع الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم كما في المواد 120 و121، كما يتح الدستور تشكيل ائتلاف واسع من النخب الحاكمة في المادة (62) التي تدعو إلى ايجاد المجلس الاتحادي التشريعي، والذي يضم ممثلين عن اللأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم. كما تنسجم مع مباديء التوافق المادة 105 الداعية لمشاركة عادلة في ادارة مؤسسات الدولة والبعثات والزمالات المختفة والوفود والمؤتمرات الدولية والاقليمية، بحيث تتمثل فيها الحكومة الاتحادية والاقليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، ولكن لم يحدد الدستور طريقة تحقيق هذه الأهداف ما قد يخلق مشاكل في التطبيق. ثم جاءت قوانين ن انتخابية تعتمد مبداُ النسبية.
بالمقابل لم ترد في الدستور احكام تضمن فيتو للأقليات ، كما لم ترد اي اشارة إلى التوافق كآلية او شرط لتمرير القوانين واتخاذ القرارات والمواقف وانما نص على شرط توفر الاغلبية، والتي قد تكون بسيطة او مطلقة او الثلثين حسب المواد والمواضيع.
فاذا كان الهدف من النظام التوافقي Consociation)) هو تحقيق الاستقرار منع اندلاع النزاعات بين المكونات وازالة التوترات ما بينها وبناء الديمقراطية، فان اشتداد الاحتقان وارتفاع نبرة التجييش الطائفي في الحملة الانتخابية لمجالس المحافظات وتصاعد وتائر العنف الذي يحمل دوافع طائفية، وخصوصاً خلال فترة الاحتراب الطائفي قي السنوات 2006-2007 انما يؤشر إلى حالة فشل، وهذا ما سجله عدد من الباحثين والمهتمين في الشأن العراقي.
ملاحظات تقييمية لتجربة التوافقية في العراق
ويعزى فشل نظام التوافقية حتى الآن إلى مجموعة من العوامل، اهمها ان ايا من العوامل المساعدة التي تخلق الشروط المؤاتية لنجاح نظام الديمقراطية التوافقية المشار اليها فيما تقدم لم يتحقق في العراق. فالنخب السياسية لم تتحل بالمرونة والميل ولم تكشف عن استعداد لاعتماد الحوار وتقديم التنازلات المتبادلة وتغليب المصلحة الوطنية العليا على الاعتبارات الفئوية وتلط التي التي تخص الجماعة التي تنتمي لها تلك القيادادت، فطغت لغة التشدد والتصلب في المواقف والعصبية الضيقة ، وجرت المطابقة التعسفية ما بين مصالح القيادات و"النخب" الحاكمة ومصلحة المكون الذي تنتمي اليه، كما لم يكن لقيادات العملية السياسية المنتمين للمكونات المختلفة تصور مشترك موحد للتهديدات الخارجية، فكان الاختلاف في النظرة للتدخل الخارجي وفي الموقف من القوى الدولية والأقليمية. فالولايات المتحدة وايران وتركيا وسوريا وبلدان الخليج تعتبر صديقا وحليفاً للبعض ، فيما يعتبره البعض الآخر عدواً، او مصدر تهديد رئيس لأمن وسيادة ووحدة العراق. وللسبب نفسه لم يتوفر ذلك العامل او الفاعل الخارجي الذي يحظى بثقة وتعاون جميع الأطراف والقادر على المساعدة في اسناد وتذليل المصاعب التي تواجه عملية تحقيق التوافقات الوطنية. اما الشروط الموضوعية الأخرى المتعلقة بحجم البلد والوزن النسبي للمكونات المختلفة ، فهي لا تنطبق على العراق. اما عامل الانفصال والتمايز بين المكونات، الجغرافي او سواه، فهو متحقق إلى حد كبير بالنسبة للكرد، ومذهبيا متحقق جزئياً في بعض المحافظات ولكنه غير قائم المحافظات العراقية المختلطة كبغداد وديالى.
واعتبرت بعض الدراسات والتحليلات ، ان الاجراءات التي تم بموجبها تنفيذ عملية صياغة الدستور ومن ثم التصويت عليه لم تكون موفقة في خلق ظروف التوافق الوطني وغرس الثقة بالعملية السياسية، وخصوصاً لدى مم4ثلي المكون السنيز فمن المعلوم ان المحافظات ذات الأغلبية السنية قد قاطعت العملية السياسية وعملية صياغة الدستور، ولكن تم ضم عدد من الشخصيات السياسية والاجتماعية السنية إلى لجنة صياغة الدستور وجرى الأخذ ببعض مقترحاتهم وآرائهم ، اما بالنسبة لبعض التعديلات الجوهرية التي تتعلق ببناء الدولة وهويتها وطبيعة النظام السياسي غيرها والتي كان يتعذر حسمها ضمن الآماد الزمنية المقررة لصياغة واقرار الدستور، فقد تم معالجتها بادراج المادة 142 في الدستور التي تنص على تشكيل لجنة نيابية تضم ممثلين للمكونات الرئيسة في المجتمع تقوم بتقديم توصية بالتعديلات الدستورية الضرورية الواجب اجراؤها على الدستور، على ان تقدمها خلال فترة اربعة شهور إلى المجلس لاقرارها دفعة واحدة. وقد تم تشكيل تلك اللجنة بالفعل ومارست عملها لعدة سنوات وتوصلت إلى اتفاقات لأكثر من 80% من القضايا التي تمت مناقشتها ، ولكنها لم تستطيع التوصل للقضايا المتبقية، فلم تستطع تقديم توصيتها بالتعديلات دفعة واحدة، وظل الموضوع معلقاُ حتى الآن.
من ناحية أخرى ، ليس من الصحيح اعتبار المواقف ونتائج التصويت التي في تلك المحافظات وكأنها معبرة بصورة ثابتة عن راي الغالبية في تلك المحافظات. فالمواقف المتشددة في رفض الدستور والعملية السياسية قد تغيرت لدى اوساط غير قليلة منهم، انعكست في مشاركتهم بالعملية السياسية وبالانتخابات النيايبة ولمجالس المحافظات في الدورتين الماضيتين وفي تبدل الموقف من الفدرالية. لذا من المرجح ان انماط التصويت قد طرأ عليها تغيير ملموس وذو شأن خلال السنوات الأخيرةلدى الاوساط المعتدلة من اهالي المحافظات ذات الأغلبية السنية، مع بقاء بعض التحفظات على بعض مواد الدستور والتي ليست جوهرية كما يعتقدها بعض الرافضين للدستور.
والاستنتاج الأرأس الذي استخلصته بعض الدراسات للتجربة العراقية يرى في الديمقراطية التوافقية صيغة لا تزال ممكنة التحقيق في ظروف العراق شرط ان يحسن ادارتها وووضع الاجراءات المناسبة التي تنسجم مع روحيتها وهدفها الرئيس في اقامة الديمقراطية وتثبيت الاستقرار، كما يجب السعي لتامين العوامل المساعدة بقدر ما يتعلق الأمر بالاطراف العراقية.
خلاصة واستنتاجات وتوجعات للخروج من الأزمة
ثمة انتقادات اساسية توجه إلى المنطلقات والمرتكزات الفكرية لنظرية الديمقراطية التوافقية، نتناولها بصورة مكثفة.
من الجدير بالملاحظة ان النظرية تؤكد على اقامة ائتلافات "للنخب" الممثلة للمكونات والقطاعات المجتمعية الرئيسية تتحقق من خلالها المشاركة في الدولة على جميع المستويات، اضافة إلى التشجيع على تحقيق الاستقلالية الذاتية للقطاعات والمكونات الأثنية والطائفية. وقد وجد ذلك ترجمته العملية في التجربة العراقية باعتماد النظام المتبع حاليا للمحاصصة الحزبية والسياسية في توزيع السلطات والمسؤوليات والموارد، والذي يعتبر المسؤول الساسي عن الفشل في اداء الدولة الخدمي والاداري واستشراء الفساد وتأجيج الصراعات تغذية التعصب الأثني والطائفي، وتراجع عملية الاندماج الوطني وانحسار الهوية الوطنية لصالح الهويات الثانوية وتخلخل وتشظي عملية صنع القرار على الصعيد الاتحادي، والاضطراب وعدم الانسجام في العلاقة بين الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، والخجومة الاتحادية، وضعف وعدم كفاءة آلياتها.
ولا هذه النتائج مستغربة، إذ كيف يمكن ضمان ادارة رشيدة وعقلانية لدولة والاقتصاد من قبل حكومات تتشكل من ممثلي المكونات الرئيسة دون ان يرشد عملهم المشترك برنامج سياسي واقتصادي اجتماعي متفق عليه يتضمن المشتركات ويثبت الرؤية الموحدة للدولة والحكومة. وفي غياي مثل هذا البرنامج، من الطبيعي ان يكون عمل مفاصل الدولة عير منسجم وتكون الأولويات مضببة وترتبك عملية صنع القرار ورسم السياسة العامة للدولة.
وإذ يؤكد واقع العراق المجتمعي التعددي ضرورة ضمان المشاركة الفاعلة لمكوناته الرئيسية في الدولة والحكومة على مختلف المستويات، فان ذلك لا يعني حصراً تحقيق ذلك عبر نظام المحاصصة الراهن. فالتمثيل والمشاركة لا بد ان تكون مفردة اساسية لأي برنامج حكومي، ويمكن التوصل عبر الحوارات ودراسة التجارب الناجحة والاستعانة بالخبرات المتخصصة، لتجسيد هذه المشاركة لمختلف القطاعات المجتمعية والمكونات مؤسسياً بشكل ينسجم مع مبدأ المواطنة ومعايير الكفاءة والنزاهة، ووفقا لما تفرزه العملية الانتخابية، خلافا للنهج الحالي الذي يختزل المكون ، تعسفاً، بالحزب او الاحزاب التي تحمل هوية ذلك المكون، ويجري توزيع واقتسام السلطات والمنافع مابينها. فالنظرية تؤكد على الهوية الجمعية وتقلل من شأن التمازيزات الاجتماعية – الاقتصادية والفكرية- السياسية داخل كل مكون وتتغافل عن حركة تطورها الداخلي وما يترتب عنها من تعددية لا تعكسها الصيغ الاحادية للتمثيل القائمة على الهوية.
واذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان المطلوب في المجتمعات المتعددة هو ايجاد اطر المؤسسية وآليات العمل واسس توزيع السلطة والموارد بما يحقق هدف الاطار الوطني الجامع الذي يعترف ويحترم التنوع ويضمن حقوق ومصالح القطاعات المختلفة ويؤسس لحالة انسجام بين الهوية الخاصة لكل مكون والهوية الوطنية الجامعة. وهذا يفترض وجود الرغبة في العيش المشترك، واصبح اليوم الحفاظ على هذه الرغبة او الارادة في العيش المشترك وانعاشها لدى جميع مكونات الشعب العراق احدى التحديات والمهام الكبرى التي تواجه البلاد وقواه السياسية والاجتماعية الفاعلة في ظل الازمات المتوالية وازدياد التوترات وضعف الرغبة الجادة للأطراف المختلفة في اعتماد الحوار وتفهم الآخر والسعي للوصول إلى تفاهمات مشتركة.
ان اصلاح الأوضاع وتغييرها بات امراُ ضرورياً وملحا ومطروحا على جدول أعمال البلد. وهذه الموضوعات حضرت جزئياً في انتخابات مجالس المحافظات ، وستكون أكثر حضوراً في انتخابات مجلس النواب القادمة. ثمة طروحات تعتبر الحل يكمن في الانتقال إلى نظام أغلبية سياسية. الدستور يسمح بذلك ولكن هذه الرؤية تظل قاصرة إذا لم تضمن المشاركة وحقوق وتطلعات مكونات المختلفة، إلى جانب المصالح العامة للشعب. خلاف ذلك، سيعتبر الحديث عن الأغلبية اقصاء للآخرين وهيمنة لمكون. بالمقابل هناك من يدعو إلى اسقاط التجربة والدستور ويروج إلى بدائل مشدودة إلى الماضي وتفرط بالديمقراطية والحريات، وهو امر غير مقبول ايضاً. فالتوجه نحو تعزيز الدولة المدنية والمؤسسات الديمقراطية اصبحب يمثابة مكتسبات اجتماعية – سياسية موضع قبول ورضا وتأييد متزايد الاتساع، ويجري البحث عن الحلول على اساسها وليس بالنكوص عنها. ويمثل تكريسها ودفعها إلى امام وتطويرها رهاناً اساسياً في الصراعات الجارية ومحورا رئيسياً يحدد ىفاق تطور الأوضاع في العراق مستقبلاً.