أزمة الماركسية (1)
إبراهيم فتحي
الحوار المتمدن
-
العدد: 4103 - 2013 / 5 / 25 - 16:19
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الآن نقف فى أعقاب هزائم وإحباطات منيت بها الحركات الاشتراكية وحركات الطبقة العاملة فى الغرب والشرق. كما نحس إحساسًا مريرًا بالغياب الفادح لنموذج مناسب يصلح لمواصلة النضال من أجل مجتمع اشتراكى مكتمل التحقق. والذين يسعون وراء مثل هذا النموذج المأمول يواجههم بدلاً منه نموذج "الاشتراكية الواقعية" التى بنيت بالفعل فيما كان يسمى المنظومة الاشتراكية، وسقطت نهائيًا مع نظرياتها الرسمية المحتضرة. أما بقاياها التى ما تزال قائمة، فبعضها تتحول بوضوح نحو حلول تعتمد على السوق فى مشاكلها الاقتصادية، وبعضها يعانى من إخفاق وانعزال وليس أملاً لأحد. والطافى على السطح فى عالم اليوم أن المبادرة الفكرية قد صارت بين يدى يمين هجومى. وذلك قد يجعل الماركسية تبدو فى قلب أزمة يسلم بها أصدقاؤها مع أعدائها.
ولكن ما تسمى أزمة الماركسية ليست ظاهرة قريبة العهد كما يذكرنا ألتوسير. فقد مرت الماركسية فى تاريخها عبر سلسلة طويلة من الأزمات والتحولات. وقد يساعدنا ذلك على وضع ما يحدث اليوم فى منظوره الصحيح؛ أى فى علاقاته الفعلية وأهميته النسبيه، ولكنه لن يزيل شيئًا من خطورته أو متضمناته المنذرة بالسوء. فقد يرى أعداء التقليد الماركسى أن أزمته الراهنة هى أزمتة النهائية المميتة، فهم لا ينظرون إلى الماركسية من خلال تطورها التاريخى وإمكاناته المقبلة.
وفى تضاد مع ذلك نسأل كيف نظر ماركس نفسه إلى ما قدمه من فهم وصفه بأنه علمى للمجتمعات الإنسانية وخصوصًا المجتمع الحديث. لقد اعتبر ماركس هذا الفهم فى المحل الأول فهمًا ثوريًا. فهو يقدم نظرية التغيير الثورى للمجتمع. ويترتب على ذلك أن هذاالعلم لا يقف عند علاقة الوصف والتفسير المعتادة فى العلوم الطبيعية وموقفها من موضوع دراستها، بل يعتبر نفسه بحكم طبيعته قوة للتغيير بعد قيامه بالوصف والتفسير من هذا المنطلق. فهناك بعد تكاملى من الموقف العلمى.
ولفهم الماركسية إذن ينبغى الرجوع إلى المصائر المتغيرة لتراث ماركس الفكرى، انتقالاً من فترة الأممية الثانية وما تلاها فى بلاد الغرب المتقدمة ثم إلى ما انشق عنها فى الثورة الروسية وإلى الذين اهتدوا بهديها. ويؤدى بنا ذلك إلى أن أى فكرة عن تقليد ماركسى مرشد ثرى فى إنجازاته المستمرة يجب التخلى عنها. فالتراث الماركسى يظهر منذ البداية منشقًا منقسمًا. وفكرة الأزمة ماثلة منذ البداية لا باعتبارها فكرة السقوط والموت، فقد انطلقت بواسطة الأزمة وفيها أفكار حيوية ومتحررة، ومثال ذلك الانتقال من ضرورة أن تكون الثورة ممكنه فقط فى أعلى البلاد الرأسمالية تقدمًا إلى أن تكون ممكنة فى أضعف حلقات السلسلة الإمبريالية.
وتواجه الماركسية اليوم عالـمًا يحكمه رأس المال حكمًا راسخًا غير متزحزح فى عصر لم تتحقق فيه وعود اشتراكية ولا توقعات طريق قيل إنه ثالث. ويبدو الوضع الراهن للأمور عند كثير من الناس غير قابل للتغير من ناحيته الأساسية. كما يبدو أن أى تفكير أو فعل عقلانى يجب أن يدور فحسب فى خضوع لمتطلبات رأس المال العالمى الشامل. فالشعار المضمر المتكرر لدى أصحاب القرار ولدى الكثيرين هو لا يوجد بديل للرأسمالية. وهو شعار حتمى قدرى مسلم به بطريقة عمياء قامت الماركسية بتفنيده وقامت على أنقاضة علميًا.
لا يوجد بديل للرأسمالية:
ففى العالم الواقعى لا يمكن وجود بديل لنظام يصفه مفكروه بأنه طبيعى، أى متفق مع الطبيعة البشرية صالح إلى الأبد، يستحيل تغييره. لقد هُجر الوعد الاشتراكى الديمقراطى القديم الذى يؤسس برلمانيًا ما يشبه الاشتراكية شيئًا فشيئًا بالتدريج داخل الرأسمالية، بعد أن انضمت حركة الاشتراكية الديمقراطية إلى الإجماع غير المقدس لشعار لا يوجد بديل للرأسمالية كحقيقة بديهية. فأبدية الرأسمالية هى الإطار العقلانى المزعوم للعالم الواقعى الذى لا يمكن تغييره، الناشئ عن الطبيعة البشرية. فعلينا أن نتظاهر لأنفسنا أن الطبقات والتناقضات الطبقية لم تعد موجودة أو لم تعد تهم. ولم يعد أيديولوجيو النظام القائم يدافعون حتى عن الفكرة التى كانت رائجة شعبيًا عن تحسين نظامهم شيئًا فشيئًا تدريجيًا، مالم يكن فى ذلك خروج على منطق وأسس وعلل النظام العقلانى القائم.
وذات صباح جميل فإن سكان كل بلاد العالم سيستمتعون بكل مزايا نظام المشروع الحر وتحديثه الجميل. أما حقيقية ما أثبتته الماركسية من أن الاستغلال المفترس النهّاب للموارد الإنسانية والمادية لكوكبنا لصالح حفنة بلاد رأسمالية، ضئيلة عدد السكان، تفرض وضعًا غير قابل للتعميم فيتم تجاهلها باستمرار. إن سكان الولايات المتحدة أقل من 5% من سكان العالم ويستهلكون 25% من كل مصادر الطاقة المتاحة فى العالم. تخيل ماذا يحدث إذا تبنى 95% من السكان نمط الاستهلاك الأمريكى نفسه محاولين اعتصار أضعاف أضعاف 25% فى المائه من 75% المتبقية. فلا يمكن تحويل الشروط الاستثنائية للأقلية ذات الامتيازات إلى القاعدة الكلية الشاملة للعالم، فموارد العالم محدودة. فهناك كما تقول الماركسية اختلالات بنيوية (هيكلية) فى صميم النظام الرأسمالى. وكذلك تناحرات متفجرة. وعلى عكس الميثولوجيا المغروسة بجهد كبير للنظام الحاكم، تذهب الماركسية ويذهب الواقع، إلى أن التناقضات المحفوفة بالمخاطر هى باطنة فى النظام الرأسمالى الحاكم وليست خارجية. إن غبيًا فقط هو الذى لا يدرك أننا لا نستطيع أن نسير بدون إزعاج نحو المجتمع الألفى الليبرالى الرأسمالى العالمى, إلا أن التحدى التاريخى لتأسيس بديل قابل للحياة الذى بدأته الماركسية، يتطلب إعادة تقييم كبرى للإطار الاستراتيجى الاشتراكى وشروط تحقيقه فى ضوء ماحدث فى القرن العشرين من خيبات آمال.
التقليد الماركسى:
إنه إمكان مواجهه الأزمة البنيوية العميقة للنظام الرأسمالى. وذلك الإمكان يتحقق بواسطة محاولة إحداث تغيير" بنيوى جوهرى يسير فى اتجاه اشتراكى حقيقى". وهو لن يكون ممكنًا ومقنعًا إلا بلغه الديناميات التاريخية للنظام الرأسمالى الموجود بالفعل. وبديل هذا النظام هو النمط الاشتراكى للسيطرة الاقتصادية خلال الإدارة الذاتية للمنتجين المتشاركين، والنضال من أجل هذا البديل الاشتراكى أصعب من مجرد رفض النظام الرأسمالى. وهو بديل استراتيجى شامل للنظام القائم وليس علاجًا بطريقة يمكن دمجها فى النظام القائم أو تكاملها معه بتقديم نظام هجين مثل المشروعات الاقتصادية الدينية المزعومة. فالمشروع السياسى للماركسية هو مشروع تغيير الحياة اليومية نفسها. إذن فإن أسئلة حول ما هى الماركسية ليست قابلة للتجنب. وبالإضافة إلى ما سبق فإن الأزمة المعاصرة للماركسية ناشئة جزئيًا عن بروز حركات تقدمية، خطاباتها من خارج خطاب العمل، نسائية وبيئية ومعادية للعنصرية ولا تقتصر نظرتها على محل العمل. وثمة أفكار "تقصف" الماركسية عند فوكو وديريدا. ولكن الأزمات التى أصابت الماركسية متعددة، وكثيرة هى أشكالها داخل استمرار الماركسية المشكل.
ما هى الماركسية؟
فمنذ البداية هناك عدم التساوى الأصلى بين مكوناتها، الاشتراكية الخيالية الفرنسية الاقتصاد السياسى البريطانى، الديالكتيك الهيجلى الألمانى. وقد عملت الماركسية على انصهارها معا وتجاوزها. وبعد موت ماركس بعقد، أصبحت الماركسية هى ما يمكن أن يسمى الأيديولوجية المسيطرة فى الأممية الثانية وفى الاشتراكية الديمقراطية الألمانية. وهذه السرعة الرائعة فى الانتشار من ناحية الأفكار العامة أخفت ضعف اختراق النظرية الماركسية العلمية للحركة وما صاحب ذلك من ابتذال أو تدهور.
وقد عارض إنجلز العجوز شباب الحزب أصحاب الاتجاه الاقتصادى الأرثوذوكسى (خطاب إلى بلوخ فى 21 سبتمبر 1890) وهذا يشكل بمعنى ما أول أزمة جنينية. وعبارة ماركس التى ذكرها إنجلز "كل ما أعرفه هو أننى لست ماركسيًا" قد قيلت بالإشارة إلى جملة استعملها لافارج "شديد الأرثوذوكسية". ولا يستنتج منها أن ماركس رفض من حيث المبدأ فكرة أن نسقًا نظريًا بدأ فى النشوء انطلاقًا من أعماله. وقد كتب بليخانوف إن الماركسية نظرة مكتملة إلى العالم واستخدم مصطلح المادية الجدلية الجزئى لوصفها، أما كاوتسكى، الذى لم يوصف بعد بأنه مرتد، فقد ذهب إلى أن أعمال ماركس وإنجلز قد توصلت إلى نظرية متكاملة للتطور المتعلق بالطبيعة والمجتمع البشرى، وتشكل أخلاقيات ذات منزع طبيعى ونظرة مادية ذات منزع بيولوجى إلى العالم جزءًا منها. وكان ماركس ينظر إلى إنتاجه النظرى فيما يبدو باعتباره، فى المحل الأول، دون أن يكون حصريًا مراجعة نقدية للاقتصاد السياسى الكلاسيكى من وجهة نظر الطبقة العاملة، وما يتضمنه ذلك بالضرورة من تصور مادى للتاريخ. ومادى هنا بمعنى أن الطريقة التى ينفذ بها الإنتاج المادى (تقنية الإنتاج) وفق شروط الملكية أى علاقات الإنتاج هى العامل المحدِّد فى التنظيم السياسى وفى التمثيل الثقافى لفترة زمنية. كما أن نقد الاقتصاد السياسى فى تطابق مع هذا التصور المادى للتاريخ لا يضم ببساطة نقدًا لتمثيلات زائفة، ولكن أيضًا نقدًا للشروط الموضوعية (مادية اجتماعية) التى تنتج بالضرورة هذه التمثيلات (للاقتصاد البورجوازى الكلاسيكى).
وإلى هذا المدى لا تكون النظرية الاقتصادية الكلاسيكية البورجوزية "زائفة" ببساطة، ولكنها انعكاس ملائم مناسب وإن لم يكن تامًا لظواهر نمط الإنتاج الرأسمالى وعلاقاته الداخلية. ولذلك فإن الطبقة الوحيدة التى تستطيع إمكانًا أن تتمثل نقد الاقتصاد السياسى الكلاسيكى دون إضرار بنفسها هى الطبقة العاملة. وفى الحقيقة إن تمثل هذا النقد هو الشرط المسبق الضرورى لتحريرها. على حين أن أعضاء، أفرادًا، من البورجوازية مثل إنجلز يستطيعون تجاوز حدود وضعهم الطبقى. فليس من المتصور عند ماركس أن طبقة بأكملها يمكن أن تنتحر بهذه الطريقة.
والآن هل يوجد فى أذهان الجماهير أى مثال منجز، أى إشارة حية إلى مرجع قائم للاشتراكية؛ هل الاتحاد السوفيتى ومنظومته سابقًا وحاليًا الصين وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا يصلح أى منها نموذجًا موحدًا للاشتراكية؛ وهل تكافح حركة الطبقة العاملة فى البلاد الرأسمالية المتقدمة مثلاً من أجل أن تقيم فى بلادها أنظمة كهذه؟
الأزمة:
نشر تى جى ما زاريك T.G.Mazayk وهو بروفيسور محترم من جامعة براغ فى مجلة Lazeit فبراير 1898 أعداد 177-179 فيينا سلسلة مقالات معنونة الأزمة العلمية والفلسفية للماركسية المعاصرة ناقدًا الأسس السوسيولوجية والفلسفية للماركسية. ونقد أ. لابريولا هذا النقد. وقد وقف مازاريك عند نقد مدرسى للماركسية، فقد رفض التفسير الاجتماعى الاقتصادى؛ أى نظرية الطبقتين المتناحرتين والنزعة التخطيطية لمراحل التطور التاريخى. ودعا إلى التخلى عن الأيديولوجية الماركسية والعودة إلى كانط، كما نقد التحليلات الوصفية الضخمة التى اتبعها الماركسيون، والتى أدت فى رأيه إلى انتشار الماركسية المبكرة، ثم استمر فى نقده إلى ما أسماه البدائية والتبسيطية المفرطتين فيما يخص محاولة إنجلز أن يتعقب فى بضع كلمات المراحل الأساسية لتاريخ المدنية. ولم يكن مازاريك إلا مكررًا من الخارج لما كانت تقوله فى داخل الماركسية النزعة المراجعة: فحوالى ما بين 1896-1898 نشرت النيوتسايت مقالات "مشكلات الاشتراكية" بقلم الماركسى إى برنشتاين. فالصعوبات الحادة التى تواجه الماركسية عنده صعوبات ثلاث: ما لدى الرأسمالية من قدرة على التكيف وعلى الضم والإدماج والتجديد، مما يؤدى إلى رفض الطابع الحتمى لا ضمحلال هذه الرأسمالية بعد تطور الكارتلات وأنظمة الائتمان والتركيز الصناعى واتساع وسائل الاتصال وادعاء نهاية الركود الدورى. وكل هذه المزاعم سمحت لبرنشتاين برؤية الانتقال إلى الاشتراكية كعملية للنمو مكتوبة فى المنظور التدريجى لنزعة الاصلاح الاقتصادى والبرلمانية السياسية. أما الثورة وفقًا للنموذج الكلاسيكى الذى أسماه برنشتاين النموذج البلانكى فتعود إلى الماضى، ويظل هذا الزعم متكررًا اليوم عند أدعياء الليبرالية فى العالم رغم تكذيب الوقائع المتعددة، فالثورات الجماهيرية لم تنقطع قط عن العالم.
ماركس فى القرن العشرين
فى نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، انتهت فترة الأنظمة الشيوعية الضخمة والأحزاب الشيوعية الجماهيرية، وما استمر منها قد تخلى فى التطبيق عن المشروع القديم الذى كان يغتصب اسم الماركسية اللينينية. وقد حررت نهاية الماركسية الرسمية للاتحاد السوفيتى ماركس من التماهى معها ومع تطبيقها فى أنظمة قد تكون مرفوضة عند الكثيرين، ومع ذلك خفت اسمه بعض الشئ عند الكثرين. ولكن ما حدث بعد ذلك أدى إلى أن تكتب فينانشيال تايمز عنوانها الرئيسى فى اكتوبر 2008 "الرأسمالية فى اضطراب عنيف" أعاد ماركس إلى المسرح العمومى. فعلى حين تمر الرأسمالية المعولمة بأزمتها الكبرى يظل ماركس فى المسرح العمومى ولكنه سيكون مختلفًا جدًا عن ماركس فى القرن العشرين كما يقول إريك هوبسباوم.
فما الذى أخذه تفكير الناس عمومًا عن ماركس فى القرن العشرين؟. كان تفكيرهم تسوده ثلاث مقولات؛ الأولى كانت انقسام البلاد إلى بلاد تكون الثورة فيها مطروحة وبلاد ليست كذلك. الأولى هى بلاد الرأسمالية المتطورة شمالى الأطلسى والهادى ثم البلاد الباقية. وقد تشعب تراث ماركس إلى تراث اشتراكى ديمقراطى إصلاحى وتراث ثورى تسيطر عليه الثورة الروسية التى وقعت فى بلد متخلف، وهذه هى المقولة الثانية، والمقوله الثالثة هى تدهور الرأسمالية فى عصر الكارثة بين 1914 و 1940، وبلغت أزمتها من الضراوة درجة جعلت الكثيرين يشكون فى إمكان تعافى الرأسمالية ويتمنون أن يحل محلها اقتصاد اشتراكى، مثلما تنبأ جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter البعيد عن الماركسية فى الأربعينات. وفى الحقيقة لقد تعافت الرأسمالية ولكن ليست فى شكلها القديم.
وفى الوقت نفسه ظهر فى الاتحاد السوفيتى بديل "اشتراكى" بدا حينئذ أنه منيع على التدهور، وبين 1929 و1960 لم يكن يبدو من غير المعقول حتى لكثير من غير الاشتراكيين الذين لم يوافقوا على الجانب السياسى من نظامه أن يعتقدوا أن الرأسمالية فى الولايات المتحدة مثلاً منهوكة القوة، وأن الاتحاد السوفيتى على وشك أن يتفوق عليها فى الإنتاج. وفى سنه القمر الصناعى لم يكن ذلك يبدو سخيفًا فى السمع. وهذه الأحداث ومتضمناتها السياسية والنظرية تنتمى إلى فترة ما بعد وفاة ماركس وإنجلز، فهى تقع وراء نطاق تجربة ماركس وتقديراته، فالحكم على ماركسية القرن العشرين ليس مبنيًا على تفكير ماركس نفسه بل على تفسيرات تجئ بعد وفاته أو على مراجعات لكتاباته.
وفى التسعنيات المتأخرة من القرن التاسع عشر، أثناء أزمة المراجعة الفكرية الأولى للماركسية، بدأ الجيل الأول من الماركسيين بعد وفاة ماركس فى مناقشة بعض القضايا التى صارت ذات دلالة فى القرن العشرين؛ قضايا الإمبريالية والقومية. وأوسع المناقشات فى الماركسية، فى القرن العشرين، هى المجادلة حول ماذا يمكن أن يكون أو ينبغى أن يكون عليه اقتصاد اشتراكى لا سبيل لوجودها عند كارل ماركس. وهى مجادلة بزغت بقدر كبير من تجربة اقصاد حرب 1914-1918.
وما قاله ماركس لم يكن أن الرأسمالية قد بلغت الحدود القصوى لطاقتها على تنمية قوى الإنتاج، بل كان إن الإيقاع الخشن للنمو الرأسمالى أنتج أزمات دورية للإنتاج الزائد الذى سيثبت الآن أو لاحقًا أنه سيكون طابع المستقبل ولا يتوافق مع طريقه رأسمالية لإدارة الإنتاج، ويولد نزاعات اجتماعية لا تستطيع مواصلة الحياة بعدها، فالرأسمالية بطبيعتها غير قادرة على تأطير الاقتصاد التالى للإنتاج الاجتماعى، ذلك الذى افترض ماركس أنه سيكون بالضرورة اشتراكيا. ومن ثم لم يكن مدهشًا أن الاشتراكية كانت فى صميم مجادلات وتقديرات القرن العشرين حول كارل ماركس. ولم يكن ذلك بسبب أن مشروع اقتصاد اشتراكى هو ماركسى نوعيًا وعلى وجه الخصوص فهو ليس كذلك، ولكن بسبب أن كل الأحزاب التى تستلهم الماركسية تشاركت فى هذا المشروع، كما أن الأحزاب الشيوعية طالبت لنفسها بالفعل بحق التأسيس، ولكن هذا المشروع فى شكله كما كان فى القرن العشرين مشروع ميت. أى أن الاشتراكية كما طبقت فى الاتحاد السوفيتى والاقتصادات الأخرى مركزية التخطيط أى الاقتصادات بلا سوق نظريًا المملوكة للدولة؛ الاقتصادات الموجهة الأوامرية قد انتهت ولا سبيل لإعادتها إلى الحياة. كما أن الأمانى الاشتراكية الديمقراطية لبناء اقتصادات اشتراكية كانت دائمًا مثلاً للمستقبل، ولكنها حتى كأمنيات شكلية قد تم التخلى عنها عند نهاية القرن العشرين.
ونتساءل كم من نموذج الاشتراكية فى أذهان الاشتراكيين الديمقراطيين وكم من الاشتراكية التى أقامتها النظم الشيوعية كان ماركسيا؟
وهنا من الحاسم أن ماركس نفسه تعمد الامتناع عن كتابة تصريحات نوعية عن اقتصادات الاشتراكية وعن المؤسسات الاقتصادية للاشتراكية، ولم يقل شيئًا عن الشكل العيانى للمجتمع الشيوعى، ما عدا أنه لا يمكن أن يشيد أو يبرمج فهو سينمو انطلاقًا من مجتمع اشتراكى. ومثل هذه الملاحظات العامة التى قدمها عن الموضوع، مثل التى قدمها فى نقد برنامج جوتا الخاص بالاشتراكيين الديمقراطيين الألمان، لا يكاد يعطى خلفاءه إرشادًا نوعيًا ولا فكرًا يعتمد عليه عمليًا.
ومن المثير للاستغراب إن أول نظرية عن اقتصاد مؤمم ممركز لم يقم بابتكارها اشتركيون، بل ابتكرها رجل اقتصاد ايطالى غير اشتراكى هو إنريكو بارونى Enrico Barone فى عام 1908. ولم يفكر أحد آخر فى الموضوع قبل مسأله تأميم الصناعات الخاصة حين وضعت على جدول الأعمال السياسى، أثناء نهاية الحرب العالمية الأولى، وعند هذه النقطة واجه الاشتراكيون مشاكلهم دون أن يكونوا على استعداد، ودون إرشاد من الماضى أو من أى أستاذ. إلا أن التخطيط مضمر فى أى نوع من الاقتصاد موجه اجتماعيًا. ولكن ماركس لم يقل أشياء عملية محددة عن التخطيط، وحينما جرب فى روسيا السوفيتية بعد الثورة كان من الواجب ارتجاله بقدر كبير. ومن الناحية النظرية فعلت ذلك بابتكار وتصميم مفهومات مثل تحليل ليونتيف للمدخل والمخرج وتقديم الإحصاءات ذات الصلة. وظل النموذج الأساسى للاقتصاد المخطط السوفيتى هو اقتصاد حرب أى اقتصاد تكون فيه أهداف معينة محددة مسبقًا؛ مثل تصنيع فائق السرعة أو كسب حرب أو صناعة قنبلة ذرية أو إرسال رواد إلى الفضاء، ولا يوجد شئ اشتراكى على نحو اشتثنائى فى هذا. وعلى الرغم من أن الاقتصاد السوفيتى حاول منذ 1960 لم يستطع أن يخرج من المأزق المستقر فى محاولة جعل السوق متلائمة مع هيكل بيروقراطى أوامرى.
وقد حدد أهم مراجع ماركسى "برنشتاين" المشكلة باصراره على أن الحركة الإصلاحية هى كل شئ، أما الهدف النهائى الاشتراكى فليس له واقع عملى. وفى الحقيقة لقد استقرت معظم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، التى صارت أحزابًا حاكمة بعد الحرب العالمية الأولى، على السياسة "المراجعة" التى تترك للاقتصاد الرأسمالى مطلق الحرية فى العمل، خاضعًا فقط للاستجابة لبعض مطالب الطبقة العاملة، الموضع الكلاسيكى لهذا الموقف هو كتاب "مستقبل الاشتراكية" 1956 لأنتونى كروسلاند، الذى أكد أن رأسمالية بعد 1945 تحل مشكلة خلق مجتمع الوفرة، ولم يعد المشروع العام فى الشكل المعتاد للتأميم ضروريا، وصارت المهمة الوحيدة للاشتراكيين هى كفالة توزيع عادل للثروة القومية. وكل ذلك كان بعيدًا جدًا عن ماركس وعن الرؤية الاشتراكية التقليدية باعتبارها أساسًا ليست مجتمعًا مرتكزًا على السوق، وهى رؤية ماركس أيضا. لقد ذهب ماركس إلى أن محاولة تسليم المجتمع البشرى إلى السوق المفترض بأنها تحكم نفسها بنفسها، وتعظم الثروة أو الرفاهية ويسكنها فاعلون يتبعون بعقلانية مصالحهم ليس لها سابقة وجود فعلية فى أى طور من تطور الرأسمالية فى أى اقتصاد متطور ولاحتى فى الولايات المتحدة. لقد كان ردًا حتى السخف فى قراءة أيديولجيين تمكن تسميتهم بلاهوتيى السوق لآدم سميث. تمامًا مثلما قرأ بعض البلاشفة فى الاتحاد السوفيتى كارل ماركس بالطريقة نفسها ووصل السخف بهم إلى المناداة بمائة فى المائة من اقتصاد دولة مخطط أوامرى وقد سخر ماركس من أشباههم فى أيامه وقال كل ما أعرفه أننى لست ماركسيًا.
وفى القرن العشرين فشل لاهوت السوق عمليًا، كما اختفت اقتصادات الدولة المخططة مركزيًا، وأخفقت أمنيات الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وفقدت مصداقيتها. وقد أدى ذلك إلى زوال الكثير من جدال القرن العشرين حول الاشتراكية. وهذا الجدال كان بعيدًا بعض الشئ عن ماركس على الرغم من أنه كان يقال أنه هو الملهم لهذا الصنف من الاشتراكية، وتمارس الاشتراكية باسمه. ولكن ما لم يفقد الدلالة ولا الأهمية المعاصرة فى القرن الواحد والعشرين هو رؤية ماركس للرأسمالية كنمط إنتاج مؤقت تاريخيًا، وتحليله لقدرتها على التوسع والتركيز وتوليد الأزمة وتجديد نفسها.
التركيب الماركسى:
كما سبق القول أن السياسة والاقتصاد والفلسفة، أى التجربة الفكرية الفرنسية والبريطانية والألمانية، الاشتراكية اليوتوبية والاقتصاد السياسى الكلاسيكى والديالكتيك الهيجلى، تم انصهارها وتحولها وتجاوزها فى التركيب الماركسى أثناء الأربعينات من القرن التاسع عشر. وليس من المصادفة أن هذا التحول قد حدث فى هذه اللحظة التاريخية. ففى وقت حول 1840 اكتسب التاريخ الأوروبى بعدًا جديدًا. فقد تم التعبير عن المشكلة الاجتماعية أو الثورة الاجتماعية الكامنة نموذجيًا فى ظاهرة البروليتاريا، وصار الكتاب البورجوزايون واعين بهذه البروليتاريا كمشكلة تجربية وسياسية، فهى طبقة ذات حركة وقوة فى التحليل الأخير لقلب المجتمع. ووجد هذا الوعى تعبيرًا فى أبحاث نسقية مقارنة، وفى تعميمات تاريخية تذكر بالحجة الماركسية عن صراع طبقى بين البروليتاريا والبورجوازية، وظهرت فى ذلك الوقت حركة ثورية وبروليتاريا واعية "شيوعية" فى فرنسا توصف بكلمة شيوعية التى أصبحت متداولة حول 1850. وعلى صلة وثيقة بها لاحظ إنجلز حركة بروليتارية جماهيرية بلغت ذرتها فى بريطانيا؛ حركة الميثاقchartism. وقبلها ظهرت أشكال مبكرة من الاشتراكية الطوباوية فى غرب أوربا، ثم تراجعت فى هوامش الحياة العامة؛ باستثناء طوباوية فوريية التى ازدهرت بتواضع ولكن بثبات فى التربة البروليتارية. وكان ماركس قد أخذ من هيجل الديالكتيك وهو يرفض الطابع المطلق الذى يعلو على الزمان للفكر ويعتقد بتطوره التاريخى، وصارت فكرة السلب أو النفى والرفض هى الوسيلة الفكرية فى الانتقال إلى اتخاذ موقف إيجابى من العالم. فالنفى هو النبض المحرك للفكر والواقع معًا، والنظر إلى الوضع الماثل فى ضوء ما فيه من إمكانات لم تتحقق بعد وعدم الاكتفاء بالحالة الراهنة، النفى فى الديالكتيك قوة ثورية يسعى دون توقف إلى الحركة الدينامية وينزع إلى التجاوز والعلو، وهو تجاوز مستمد من قلب ما هو موجود، وعلو منتزع من باطن الوضع القائم. وكان ماركس الديالكتيكى يبحث عن قوة يمكن أن تحول المجتمع، بنفيها للمجتمع الموجود، ووجدها فى البروليتاريا التى لم يكن لديه معرفة عيانية بها إلا من خلال إنجلز. ولم يكن قد أعطى بعد للإجراءات الفعلية للاقتصاد الرأسمالى والسياسى الكثير من التفكير فبدأ فورًا فى دراسة الاثنين. ومن الخطأ افتراض أنه لم يركز ذهنه فى الاقتصاد قبل الخمسينيات المبكرة فقد بدأ دراساته الجادة فى زمن لا يأتى بعد 1844. والذى أسرع بهذا الانصهار بين النظرية الاجتماعية والحركة الاجتماعية هو ترابط النصر والأزمة فى المجتمعات المتطورة النموذجية فرنسا وبريطانيا أثناء تلك الفترة. فسياسيًا، أسست ثورات 1830 فى فرنسا والاصلاحات البريطانية المناظرة 1832-1835 أنظمة خدمت بوضوح مصالح الجزء السائد من البورجوزاية الليبرالية، ولكنها قصّرت على نحو مشهود عن تحقيق الديمقراطية السياسية. واقتصاديًا، كان التصنيع المسيطر من قبل فى بريطانيا يتقدم على نحو مرئى فى أجزاء من القارة، ولكن فى مناخ من الأزمة وعدم اليقين الذى ظهر للكثرين كتساؤل حول المستقبل الكامل للرأسمالية كنظام. إن شبحًا كما سيقول ماركس وإنجلز بعد زمن قصير يجوس فى أوروبا؛ شبح الشيوعية. ولم يكن التحويل الماركسى للاشتراكية ممكنًا تاريخيًا قبل الأربعينات من القرن التاسع عشر فى حدود البلاد البورجوزاية الرئيسية نفسها، حيث كانت كل من الحركتين السياسية الراديكالية وحركة الطبقة العاملة والنظرية الاجتماعية الراديكالية والسياسة الراديكالية عميقتى الجذور فى تاريخ طويل وتقليد وممارسة من الصعب التخلص منها. وكما أبان التاريخ اللاحق كان اليسار الفرنسى طويل المقاومة للماركسية، على الرغم أو بسبب قوة التقليد الصادر عن الأرض الفرنسية بثوريته وروابطه. كما بقيت الحركة العمالية البريطانية غير مستجيبة للماركسية زمنًا طويلاً ربما بسبب نجاحها النامى داخليًا فى تطوير حركة واعية طبقيًا ذات مراجعه نقدية للاستغلال, ودون الإسهام الفرنسى والبريطانى كان التركيب الماركسى سيغدو مستحيلاً. فمشاركة ماركس لإنجلز طيلة الحياة بخبرة إنجلز الفذة ببريطانيا التى لم يكن أقل ما فيها أهمية ممارسته كرأسمالى فى مانشستر. ودون تلك التجربة كان من الممكن أن تتم تنمية الطور الجديد من الاشتراكية لا فى الأخذ فى الاعتبار بتجربة مركز المجتمع البورجوازى فى بريطانيا بل بتجربة الهامش الألمانى وبواسطة إعادة بناء للمعمار الشامل التأملى للفلسفة الألمانية.
ومن الخطأ القول إن اشتراكية ما قبل الماركسية احتضرت فى زمن ماركس، بل ظلت حيه وسط أنصار برودون وباكونين والفوضويين وبعض النقابيين الثوريين، حتى حينما استعاروا الكثير من التحليل الماركسى. ولكن ابتداءً من أواسط الأربعينات فصاعدًا لا يمكن القول إن ماركس استمد أى شئ من التراث الاشتراكى السابق للماركسية، فقد بدأ فى إرساء أسس الاشتراكية العلمية. وحينما نشر ماركس مع إنجلز فى 1848 البيان الشيوعى لقى ما يقرب من ترجمة إلى مائة لغة. فماركس قد رسم خريطة تشريح الرأسمالية واقتصادها السلعى بطريقة أدت إلى أنه مهما تكن الهجمات على نظريته بواسطة مفكرين آخرين، فإن جاذبيته لأناس وجماهير يريدون تغير عالمهم لم تمت قط. وذلك على الرغم من أن موته أعلن مرارًا. والآن يشاع من جانب أنصار الرأسمالية دون سند إنه صار أكثر موتًا مما حدث له قبلاً. فإعلان موته لازمة متكررة طوال سنين كثيرة على الرغم من أن أصد قاءه كانوا قد توقعوا أن يقرع كتابه الموعود رأس المال جرس وفاة الرأسمالية نفسها. وعلى الرغم من أنه كان غزير الإنتاج فى صورة مقالات صحفية ومسودات ودراسات وخطابات ومخطوطات تم نشرها بعد وفاته. لم ينشر قبل وفاته فى 1883عملاً كبيرًا باستثناء المجلد الأول من رأس المال. وقد تغلغل فكربًا إلى أعماق الحزب الاشتراكى الديمقراطى الألمانى، الذى كان يقسم بنظرياته التى اعتقد ماركس أنهم أخطأوا فهمها، وكان هذا الحزب أكبر أحزاب الاشتراكية الديمقراطية فى أوروبا الغربية، واعتبر الماركسية أساس نظريته وكان ليبكنخت وكاوتسكى وبيبل يسلكون كالمفسرين الرسميين للماركسية التى كثر المنشقون عنها، كما كانت عرضه للمجادلة فى الجامعات فقد نقدها بويم باورك Bohm Bawerk زومبارت Sombrt وفيبر Weber وقدمت أفكار تقول إن نظرية ماركس غير متسقة وأنها تقادمت ولا جديد فيها.
مصائر مختلفة لأفكار ماركس:
أرسى المجلد الأول من رأس المال الخطوط الرئيسية للهجوم على الرأسمالية، فى القسم الثامن فصل نظرية دورات الربحية والبطالة فى الرأسمالية. ولكن كان هناك منظور أطول، فالرأسمالية ليست إلا حلقة فى سلسلة أنماط الإنتاج، فلماركس نظرية فى المراحل التاريخية، ولكن عنده مثل هيجل وبخلافه مرحلة أعلى تتجاوز الرأسمالية. وكانت قوة أسلوب ماركس فى البيان وفى أقسام من المجلد الأول من رأس المال فى مهاجمة الرأسمالية وإبراز تناقضاتها جعلت كثيرًا من أتباعه يظنون أن تجاوز الرأسمالية وشيك. ولكن هذا الأمل الجامح انحسر بعد 1871 وهزيمة كوميونة باريس. وبعد نشر المجلد الثانى من رأس المال فى 1885 ظهر أن نظريته يمكن أن تستعمل لتفسر إمكان زمن طويل جدًا من التوسع الرأسمالى دون أزمات قاتلة. وأدى ذلك إلى مجادلات عنيفة. أما المجلد الثالث المنشور عام 1894، فقد ذكر اتجاه معدل الربح إلى الهبوط مما أسعد محترفى القول بهلاك الرأسمالية. وكتب بويم باورك أستاذ كرسى الاقتصاد فى جامعة فيينا هجومًا قويًا على عدم الاتساق كما يدعى بين الحجة البسيطة فى المجلد الأول والحساب التفصيلى لكيف يترجم استغلال العمال نفسه إلى أرباح رأسمالية فى المجلد الثالث. أما إدوارد برنشتاين بعد قضائه عدة سنوات فى بريطانيا، فقد اقتنع بأن الرأسمالية تغيرت وأن أفكار ماركس لم تعد قابلة للتطبيق. وكتبت روزا لوكسمبورج كتابًا مسهبًا محاولة مصالحة الصيغ الثلاثة لدينامية قصة الرأسمالية ضامة إليها مسألة المستعمرات. وظلت تأمل فى أن العمال فى البلاد الرأسمالية المتقدمة قد يستطيعون عبر الإضراب العام أو أداة مماثلة أن يسرعوا بموت الرأسمالية. كما أكد كاوتسكى التقدم الثابت لقوة العمال من خلال الحزب والطريق البرلمانى إلى الاشتراكية.
وقد غيرت الحرب العالمية الأولى التى نشبت أغسطس 1914 الكثير من صورة العالم فى الأذهان عن قوى اللاعقلانية والتعصب القومى والعنف والعنصرية بدلاً من المدنية والعقلانية.
ولكن الصدمة الهائلة كانت من نصيب الماركسيين. فالعمال بدلاً من أن يتحدوا أمميًا كما كانوا يتوقعون نظرا للوضع الخاص والطبيعة الخاصة المفترضة نظريًا لهذه الطبقة قد أظهروا أسوأ ملامح التعصب القومى، كما صوت الحزب الاشتراكى الديموقراطى الذى ادعى أنه يسترشد بالماركسية إلى جانب اعتمادات الحرب. وخلافًا لمعظم التوقعات استولى لينين والبلاشفة على السلطة فى روسيا المتخلفة اقتصاديًا فى ثورة تذكر بثورات باريس. وأصبح ماركس وأفكاره الملكية الخاصة للحزب الذى يعرف الجميع أنه وصل إلى السلطة باستخدام الماركسية والإخلاص لها، مما جعل تفسير البلاشفة للماركسية هو الصيغة المعتمدة لها. وتوالت المصائب فلم تنتصر الثورة المأمولة فى الغرب ولم تنتصر الأحزاب الشيوعية فى الانتخابات بل انتصرت الفاشية فى ألمانيا وإيطاليا، وحققت العسكرية اليابانية أكبر نفوذ. ولم تهزم الأحزاب السياسية الفاشية بل هزمتها الحرب التى اشترك فيها الاتحاد السوفيتى، ثم تلت ذلك الحرب الباردة حينما حقق الاتحاد السوفيتى تصنيعًا باهرًا، فقد أنجز فى عشرين سنه ما استغرق مائة سنة فى البلاد الرأسمالية، وأثر مثاله فى البلاد المتحررة حديثًا فى آسيا وإفريقيا بعد حركات وطنية عميقة الجذور. وأضافت الثورات فى الصين وفيتنام مجدًا للصيغة اللينينية للماركسية. ورغم الحرب الباردة أصبحت الماركسية قوة بارزة فى الجامعات وفى أحزاب سياسية، وفى 1956 حدثت عاصفة غزو الاتحاد السوفييتى للمجر لإخماد الانتفاضة هناك، كما حدثت إدانة لستالين فى مؤتمر سرى للحزب الشيوعى السوفييتى، وظهرت مسودات كتبها ماركس ولم تكن قد نشرت، وولد اليسار الجديد فى الغرب. وصارت الماركسية الغربية مشروعًا مهمًا جادًا داخل وخارج الجامعات. وأخيرًا سقطت المنظومة الاشتراكية وواصلت الرأسمالية الحياة بل صارت ظاهرة عالمية دينامية قادرة على التقدم التكنولوجى لايكاد أحد يصدق التنبؤ بموتها. فنظرية ماركس قصد بها دراسة ديناميات الرأسمالية، نواحى قوتها وحدودها، وهو يؤكد أنه لا يختفى نظام اجتماعى على النطاق العالمى قبل أن تتطور قواه المنتجة المتاح لها مساحة فيه، ولا تظهر أبدًا علاقات إنتاج جديدة أعلى قبل أن تنضج الشروط المادية لوجودها فى رحم المجتمع القديم نفسه. فالاشتراكية على النطاق العالمى ليست فى مرحلة النضج لأن الرأسمالية لم تستنفذ بعد طاقتها على التطور. وهى ليست متصورة دون مشروعات هندسية رأسمالية كبيرة مبنية على آخر اكتشافات العلم الحديث. ويرى لينين أنها غير متصورة دون تنظيم دولة مخطط، حيث يراعى عشرات الملايين من العمال بدقة مقياسًا موحدًا فى الإنتاج والتوزيع. وفى روسيا رأى لينين أن من المهم الانتقال إلى رأسمالية الدولة والسماح برأس مال خاص محلى وأجنبى للخروج من الوضع المتميز باقتصاد المالك الصغير إلى توسيع المشروع الرأسمالى الكبير. فالرأسمالية أفضل من الإقطاع والرأسمالية الكبيرة المنظمة أفضل من الإنتاج السلعى الصغير بالنسبة للانتقال إلى البناء الاشتراكى الذى هو هدف تحرير الطبقة العاملة. لقد أكد لينين فى غياب ثورة فى الماينا على رأسمالية الدولة فى روسيا، فهو الذى طعم الاقتصاد الروسى بالصيغة المعتمدة على الدولة للرأسمالية الألمانية، واحتفل بفضائل رأسمالية الدولة. على العكس من الأممية الثالثة أيام ستالين التى اعتبرت الرأسمالية-بخلاف لينين-تحتضر فى أزمة الموت والثورة الاشتراكية وشيكة، فالرأسمالية لا مستقبل لها مهما يكن محدودًا. ولكن الستالينية اعتمدت على اقتصاد الدولة الممركز واعتبرته اشتراكيا. وقد أصابت عدوى الستالينية بعض الليبراليين فكتبوا عن "الاشتراكية" وأنهم "رأوا المستقبل فى روسيا ورأوه يعمل بنجاح".
وقد هيأت الحرب العالمية الأولى دافعًا ضخمًا لإزالة الأرستقراطية من موقعها الحاكم فى كل مكان من أوروبا، فحلت محل الإمبراطورية النمساوية جمهورية كان رئيسها أحد قادة الحزب الاشتراكى الديموقراطى الألمانى فريدريك إيبرت. أما اليسار الثورى للحزب فقد شكل عصبة سبارتاكوس، واحترق فى انتفاضة ثورية قرب نهاية 1918 وبداية 1919، واستعادت القيادة اليمينية النقابية سيطرتها وأصلحت الموقف لحسابها، واغتيلت روزا لوكسمبورج التى اعتبرها السوفييت وجميع الثوريين شهيدة عظيمة. واستمرت الرأسمالية ولكنها انتقلت من المنافسة الحرة إلى الاحتكار. وبزغت رؤيتان للاشتراكية تتنازعان الأرضية السياسة. رؤية الأممية الثانية عن الاشتراكية ضمن الرأسمالية، فالهدف فرض الطابع الانسانى على الرأسمالية، تحسين أوضاع العاملين وخلق خدمات عامة أفضل من صحة وتعليم، ونقل وحماية كبار السن والعاطلين ببناء دولة رفاهية دون تحد لنظام الربح. وأشد الخطوات راديكالية كانت تأميم بعض الصناعات المتدهورة غالبًا وكان التوسع المتزايد لملكية الدولة وإشرافها عند يساريى الأممية الثانية طريقة للتغلب على الرأسمالية سطوا. وقد التزم حزب العمال البريطانى بالاستيلاء على وسائل الإنتاج من جانب الملكية العامة فى دستور 1917 المادة 4 الشهيرة. ومشكلة الاشتراكية فى أحضان الرأسمالية هى أن نجاحها معتمد على رأسمالية لابد أن تكون ذات رخاء تعمل جيدًا بتشغيل جيد واقتصاد ناجح، وهى الأوقات التى تربح فيها الأحزاب اليمينية الانتخابات، وقد أراد السوفييت وأرادت الأممية الثالثة اشتراكية خارج الرأسمالية. ولكن الرأسمالية كانت متخلفة فى روسيا وكانت سلطة الطبقة العاملة من الواجب عليها مهمة الإسراع بالتطور الرأسمالى. ولكن ليست هذه هى الاشتراكية كما تصورها البيان الشيوعى أو نقد برنامج جوتا. إن رأسمالية الدولة، كانت مخلوقًا لزجًا بديلاً للرأسمالية لا يأتى بعد نضج الرأسمالية بل يسابقها بحذائها، يستعمل التخطيط على نطاق مجمل الاقتصاد. وبالنسبة للتراكم البدائى؛ يستعمل الريف من خلال التبادل أو المصادرة وبناء اقتصاد الدولة متطور ذى وتيرة متسارعة باستعمال تقنيات مماثلة لما استعمل فى تاريخ الرأسمالية ولكن بدون رأسماليين.
وهذا ما كانته الاشتراكية خارج الرأسمالية وكان هناك بطبيعة الحال صيغة ثالثة لم تأخذ قط أى فرصة أو لم تأخذ بعد وهى الرؤية الكلاسيكية الماركسية للاشتراكية التى تأتى بعد الرأسمالية المتطورة متجاوزة إياها. مجتمع واع بذاته يفطن الآن إلى أن الرأسمالية كنظام ملكية خاصة تربح من التقسيم الاجتماعى للعمل، لا تسطيع أن تقدم أى تحسين يمكن أن يتحول نحو أن يسيطر ويتحكم فى الاقتصاد، هذا التحسين يتطلب ملكية المجتمع وليست ملكية الدولة؛ فالمجتمع هو الذى يسيطر بوعى ذاتى على الاقتصاد وليست الدولة. هناك عند ماركس مرحلة انتقالية حينما تستولى الطبقة العاملة على السلطة وتلغى التمايزات الطبقية، فهناك فى رأى هوبسباوم ما يقرب من خيط يشبه اتجاه إلغاء الدولة فى رؤية ماركس للاشتراكية بمجرد أن يستوعب الشعب بوعى تبادل أفراده الاعتماد، بمجرد أن تصير يد آدم سميت غير المنظورة منظوره لكل إنسان، حينئذ سينطلقون نحو تنظيم المسائل الاقتصادية بحيث تأتى حاجات كل فرد أولاً، وسيستمر الناس فى العمل لا بيع قوة عملهم، ولكن سيكونون جزءًا من تبادل اجتماعى معمم. وسيشترك كل فرد فى أخذ القرار الواعى بالنسبة لكيف يدار الاقتصاد، وسيعمل كل فرد لنفسه وهو يعمل للمجتمع. وهذه رؤية تشبة أن تكون طوباوية بمعنى مزدوج فهى ليست تفصيلية ولم تواجه قط الواقع الخشن للحياة من يوم ليوم. فكيف يمارس الإشراف الواعى بواسطة "المجتمع" وكيف يتم توصيل حاجات الناس وما يريدون، كيف لمثل هذا المجتمع أن يقرر الادخار والاستثمار كلها مسائل تركت دون استكشاف. ولم يكن هناك حتى مشروع افتراضى أو سيناريو لبناء تلك الرؤية.
ولكن إذا فهمت الماركسية الكلاسيكية بأن على المرء أن ينتظر حتى النضج الكامل للرأسمالية، حتى استنفاد طاقتها على التطور، فهل يعنى ذلك أن على الرأسمالية أن تتطور فى آخر البلاد تطورًا أى البلد الأكثر تأخرًا قبل إمكان التغلب عليها؟ هذه المجادلات بين 1883 و1913 لها منظور أوروبى غربى وبدا أن أكثر البلاد تطورًا "بريطانيا العظمى" أو أسرعها تطورًا "ألمانيا" سيصل إلى الاشتراكية أولاً، ثم تأتى البلاد الأقل تطورًا وهذه النقاط لم يوضحها ماركس فى أى كتابة. وكان البلاشفة الروس يسيطرون على الأممية الثالثة وهم أمميون فى أفكارهم، فروجوا لفكرة أن الثورة ستنشب فى الوقت نفسه فى عدة بلاد. وقد حدثت بالفعل ثورات متواقتة فى ألمانيا والنمسا والمجر وشمال إيطاليا وروسيا، ولكن أقلها تطورًا اقتصاديًا وهى روسيا التى استمرت وحدها فى ثورة منتصرة. وقد قدم تروتسكى بالاشتراك مع بارفوس Parvus (الكسندر هلبهاند Alexander Helphand) فكرة أن أضعف حلقة فى سلسلة البلاد الرأسمالية هى الأولى التى تتحطم ثم تنتشر الثورة. ولكن الاشتراكية فى بلد واحد لم تكن مسألة اختيار بل مسألة واقع مفروض.
وكان برنشتاين كما سبق القول؛ أول مراجع تخلى عن الماركسية فى كتابه "مشاكل الاشتراكية "، شكك فى تفاقم أزمات الرأسمالية (كذبه الواقع حتى الآن) وتزايد بؤس الطبقة العاملة ( جاء فى كتاب فخ العولمة سلسلة عالم المعرفة رقم 238 أنه فى القرن الواحد والعشرين سيكون هناك فقط 20% من السكان الذين يمكنهم العمل والحصول على دخل أما السكان الفائضون 80% لن يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان ص 9.) وقد فكر برنشتاين فى إمكان وجود طريق ارتقائى إصلاحى إلى الاشتراكية كبديل. ويقال إنه مرتد عن الكنيسة الجديدة للماركسية التى أقامها الحزب الاشتراكى الديموقراطى الألمانى بعد موت ماركس. أما ماركس فلم يكن مصرًا على الصدق الحرفى لكل كتاباته، ويتأكد ذلك فى مراسلاته مع الماركسية الروسية فيرا زاسوليتشvera Zasulich فقد كان شديد التواضع عن نطاق نظريته فى التاريخ بالقياس إلى ادعاء وتصور تلاميذه. ففى نهاية التسعينيات 1890 من القرن التاسع عشر كان أنصار قادة الحزب الاشتراكى الديموقراطى الألمانى، SPD كارل كاوتسكى وأوجست بيبل Bebel وقبلهم ليبكنخت Liebknecht، يبدون كأنهم قرروا أن نظرية ماركس تضم كل الحقيقة. وكان هذا المذهب فى ترويجه الشعبى مبنيًا على فقرة مفردة فى الفصل 32 من المجلد الأول من رأس المال، عن البؤس واتساع الهوة بين المالكين والعاملين وزيادة الجيش الاحتياطى من العمال وحِدَّة التضاد بين المستغِلين والمستغَلين، وازدياد الهوة بين المالكين والذين بلا ملكية اتساعًا بواسطة الأزمات الصناعية.. الخ. وهذه هى الماركسية المنتشرة فى صفوف الشعب كما قدمت للملايين من الاشتراكيين باتساع العالم. وهذه الصورة للرأسمالية لا تسندها نظرية الأزمات كما لخصت فى المجلد الأول من رأس المال القسم السابع، أو فى نظرية هبوط معدل الربح فى المجلد الثالث. وأعلن برنشتاين أنه ضد نظرية انهيار الاقتصاد البورجوازى فى المستقبل القريب، ورد عليه بابا الكنيسة "كاوتسكى"-كما يطلق عليه أعداء الماركسية-بأن الرأسمالية التى صارت عالمية تفاوتت بشدة ولم تعد مستوية. أما كتابات ماركس نفسه فلا تنص بدقه على سقوط وشيك للرأسمالية، وكل ما تقوله هو أن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية سيستغرق زمنًا أقل من الانتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية، أى يعنى ذلك أى وقت بين أربعة وستة قرون!! ولا يستطيع أى حزب سياسى أن يعيش على مثل هذا الوعد عند أتباعه، فلقد كان على الحزب أن يقلل من جدولة زمنه. وكانت هناك مسأله ما عند ماركس من مخططات Schemes إعادة الإنتاج آخر المجلد الثانى من رأس المال. هل هى مخططات تقدم فعلى أو ممكن للرأسمالية متحرر من الأزمة فى نمو ثابت دائم، أو هل هى برهنة على استحالة مثل هذه النتيجة علمًا بأنها تفترض سلوكًا استثماريًا متناسقًا Co - Ordinated سط الرأسمالية. وعلى أى حال كيف يستطيع الماركسيون الاعتقاد أن إنتاج السلع المتسع دومًا لقيم استعمالية سيجد سوقا؟ فالعمال المستغَلون سيفشلون فى تهيئة سوق تستطيع استهلاك الإنتاج.
روزا لوكسمبورج:
وقد قدمت روزا نقدًا لما ذكره ماركس من مخططات إعادة الإنتاج. وهى الإنسان الماركسى الوحيد فى كل هذه السنوات الذى استخدم منهج ماركس فى نقاط خلاف معه هو نفسه، وفى كتابها قدمت إسهامين كبيرين أدمجا فى الاقتصاديات الماركسية. أولاً ربطت مشكلة الطلب فى اقتصاد رأسمالى متقدم بهامشه الإمبريالى. وظل الماركسيون يكررون ما كتبَتْه كحقائق بديهية عندما يتكلمون عن الاستعمار. وقد أضافت قطاعًا ثالثًا إلى مخطط ماركس كان دوره أن يمتص فائض الإنتاج، فلا يأتى الطلب عليه من العمال أو من أى مستهلكين آخرين بل من الحكومات هو صناعة السلاح، وهكذا فإن صناعة السلاح استطاعت امتصاص فائض الآلات من القطاع بأن تصنع سلاحًا تشتريه الحكومات، فالمنظور هنا هو أن الرأسمالية تحتاج قطاعًا يقوم بوظيفة البالوعة يستطيع امتصاص فائض إنتاج الالآت ( نتذكر أن ماركس حل مشكلة فائض إنتاج الآلات فى مخططه).
مصائر الماركسية:
كانت الماركسية ضعيفة الجاذبية لدى الاشتراكيين الأمركيين والبريطانيين ولم تصبح أبدًا فلسفة لحزب سياسى جماهيرى. فالاشتراكيون الأنجلو أمريكيون ابتعدوا عمدًا عن الماركسية واتجهوا نحو النظرية الحدية المعادية للكلاسيكية بسرعة. وكذلك قد جادل الاشتراكيون الفابيون نظرية فائض القيمة، وذهبوا إلى أن النظرية الحدية تقدم تفسيرًا أفضل للقيمة والتوزيع. فالسلع لها قيمة لا بسبب محتواها من العمل كما تقول الماركسية، ولكن لأنها نادره فى الطلب عليها، والمستهلكون يعادلون المنفعة الحدية بالثمن. وكان الاشتراكيون البريطانيون والجناح الراديكالى من اللبيراليين مهتمين بنقد تأثيرات الرأسمالية على نوعية الحياة وما نسميه اليوم اغتراب العمال وكانوا إصلاحيين فى نزوعهم. ولدى الفابيين اعتقاد قوى بقدرة من يعتبرونهم موظفين محايدين أو خبراء على تحقيق تغيرات حسنة فى اقتصاد السوق أى اعتقاد بقدرة البيروقراطية على تنظيم السوق ضد تقلباتها المتطرفة. ولم يكن لدى ماركس ما يقوله عن تدخل الدولة فى السوق، فمنطق النظام البحث عن الربح أما الإصلاحات التى يمكن كسبها مثل ساعات عمل أقل فهى تأتى نتيجة للصراع الطبقى الذى يأخذ أشكالاً مختلفة فى البلاد المختلفة. أما عمل ماركس ضد الاغتراب فقد ظل فى مخطوطته ولم يرى النور حتى منتصف القرن العشرين وقد اعتبر بعض الماركسيين انتقاداته للرأسمالية فى هذا المجال لا تخلو من رومانسية. ولم يستطع الماركسيون أن يوفقوا بين تطلعاتهم وبين الجذور المسيحية للاشتراكية البريطانية، وكانوا يعلنون أنهم لا يدخلون الدين فى سياستهم، فهم يعلنون بحسم أن الرأسمالية مهما تسببه من تعاسة فهى نمط إنتاج مفضل على كل ما سبقه. وهم يعتبرون الحنين إلى ماضٍ روحى مزعوم ومحاولة استعادته محاولة مكتوب عليها الإخفاق فهو حنين إلى ماض لم يكن قط كما هو فى الخيال أو لم يكن ينبغى يستمر فى الأوضاع الجديدة.
وفى روسيا استشهد بعض النارودينك بماركس فى تمجيد الملكية المشتركة للأرض، ووقوفهم ضد إدخال الملكية الخاصة فى الزراعة ودفاعهم عن أن الرأسمالية ليست مرحلة مرغوبة. فهناك مسار روسى فريد. وقد ترجم كتاب رأس المال إلى الروسية بعد خمس سنوات من نشره فى ألمانيا 1872 حتى قبل أن ينشر بالفرنسية. وترجم الزعيم النارودنيكى نيكولاى دانييلسون المجلدات الثلاثة لرأس المال إلى الروسية، وكان يقول أنه فى داخل ريف روسيا توجد ترتيبات مؤسيسة للملكية العامة للأرض وإعادة توزيع دورية داخل القرية، وعلى روسيا أن تتجنب تدمير ذلك ولا تدخل الملكية الخاصة. أى كان يقول أن روسيا تستطيع أن تقفز وتتخطى المرحلة التعسة للرأسمالية وتمضى فورًا نحو الاشتراكية التى تتطلب الملكية العامة. وقد استشهد مع رفاقه بماركس لإثبات أن الرأسمالية مرحلة غير مرغوب فيها. وعلى النقيض كانت توجد مجموعة ماركسية روسية آخرى يقودها بليخانوف. وكانت المجموعتان محظورتين وقادتها إما فى المنفى أو فى السجون القيصرية ومنشوراتهما سرية.
ومن منفى روسى تلقى ماركس من فيرازاسوليتش Vera Zasulich عام 1881 خطابًا تسأله فيه أن يحكم فى النزاع بين الماركسيين الذين اعتقدوا أن قوانين ماركس للمادية التاريخية تنبأت بأن كل بلد يجب أن يمر بالمراحل نفسها لأنماط الإنتاج المتعاقبة: الشيوعى البدائى والعبودى والإقطاعى والبورجوازى والاشتراكى، وبين النارودنيك الذين اعقدوا أن روسيا تستطيع أن تحرق المرحلة الرأسمالية وأن تتجه مباشرة من الإقطاع إلى الاشتراكية. ومن فضلك أيها السيد هل تستطيع أن تحسم جدالنا؟. وكتب ماركس ردًا رفض فيه أى ادعاء بأنه اكتشف قوانين عامة للتاريخ. فنظريته تنطبق فقط على أوروبا الغربية. وعلى الرغم من دراسته لشروط روسيا فهو لا يظن أنه يعرف الكفاية بما يمكنه من الحكم عليها. فالمير وهو المؤسسة التى تسمح بالملكية الجماعية قوية، ولكن من الصعب القول كيف تستطيع مواصلة البقاء. وهو لا يستطيع حذف أن تتحدى روسيا الاتجاه ولكن هو لا يستطيع التنبؤ به أيضا. فروسيا تستطيع الذهاب فى أحد الطريقين كما سبق له القول ردًا على عرض روسى للمجلد الأول من رأس المال: " إذ تحاول روسيا أن تكون أمة رأسمالية... وفى السنوات القريبة قامت بجهود ضخمة فى هذا الاتجاه لن تنجح ما لم تحول أولاً جزءًا كبيرًا من فلاحيها إلى بروليتاريا. وبعد ذلك بمجرد أن تعبر عتبة النظام الرأسمالى عليها أن تخضع للقوانين التى لا يمكن تفاديها لهذا النظام". كان هذا ماركس فى آخر أيامه، شديد المرونة؛ لا توجد قوانين حتمية inevitable للتاريخ بوصفه كذلك، ولكن إذا دخلت الرأسمالية، كما حاولت روسيا أن تفعل فى هذه الأيام، فإن للنظام قوانينة التى لايمكن تفاديها. وإذا كانت الثورة الروسية علامة أو إشارةsignal ثورة بروليتارية فى الغرب، بحيث أن الملكية المشتركة والخاصة تكمل كل منهما الأخرى، فإن الملكية المشتركة الحالية للأرض يمكن أن تصلح نقطة بداية لتطور شيوعى. ولكن إجابة ماركس لخطابها فى العام السابق لم تكن معروفة على نطاق واسع فى ذلك الوقت.
وروسيا كانت تسير بقوة وبغير تردد فى التطور الرأسمالى. ودلل لينين على أن الفلاحين لم يعودوا متجانسين بل متمايزين.
وبدأت الحرب العالمية الأولى فى أغسطس 1914، وفى الخمس وسبعين سنه التالية 1914-89 أى فى القرن العشرين القصير لم تظل أى من الرأسمالية أو الماركسية مماثلة لنفسها.
كانت حرب 1914 عند برتراند رسل وبرنارد شو دخولاً فى عالم اللامعقول، وعند الماركسيين الذين كانوا يتجادلون حول الإمبريالية هناك من تخيل واهمًا أن الحرب ينبغى أن تتحول إلى حرب أهلية أو عصيان عمالى ضد النظام الرأسمالى، فالعمال فى هذا الوهم ليست لهم أرض آباء وسيستعملون الحرب للاسراع بانهيار الرأسمالية. ولكن ما أن بدأت المعارك حتى تبخرت الأممية. فمندوبو الحزب الاشتراكى البرلمانيون صوتوا مع اعتمادات الحرب، فالناخبون يريدون استجابة قومية متعصبة، فهل يستطيع حزب يريد أن يكسب أصواتًا ومقاعد أن يواصل المقاومة وأن يظهر معاديًا للقومية؟.
وقد أطلق الألمان على تجربتهم فى اقتصاد الحرب المخطط اشتراكية الحرب. وكان ذلك أول مثال لاقتصاد رأسمالى متقدم يدار بوعى من المركز. وقد جذبت التجربة الألمانية فى " اشتراكية" الحرب التى لا علاقة لها بالاشتراكية اهتمامًا كبيرًا فى روسيا وخصوصًا عند لينين. وبدأت القوى المتحاربة الأخرى تفكر فى تنسيق خطط الإنتاج وتخصيص موارد المواد النادرة وقد فتحت بوابات السلطة أمام النقابات بترحيب لأول مرة، وكان هناك تشغيل كامل مستمر وكان الاقتصاد يدار بواسطة لجان من البيروقراط وهيئات الجيش ورجال الأعمال، وولد منطق جديد للاقتصاد لمراعاة ظروف الحرب. وكانت هناك حروب من قبل وكانت الجيوش فى الماضى تشبه اقتصادات مخططة ولكن هذه الحرب كانت حربًا عالمية جماهيرية شاملة فلم يفلت شئ من المجهود الحربى. وعلى الرغم من أن " البزنس" ظل ملكية خاصة لم تعد السوق هى منطق الاقتصاد كائنًا أمام طور جديد للرأسمالية.
ماذا بقى من الثورة العالمية:
بعد هزيمة ألمانيا فى 1917 كان هناك تمرد فى الأسطول فى كييل Kiel وقام تكتل سبارتاكوس المنشق داخل الحزب الاشتراكى الديمقراطى المستقل بقيادة روزا لوكسمبروج وليبكنخت بانتفاضة سحقت سحقًا دمويًا. وكانت هناك انتفاضة فى النمسا وفى المجر حيث جاءت أحزاب اشتراكية ذات اتجاه ماركسى إلى السلطة وكانت هناك اضطرابات عمالية شمالى إيطاليا لبعض الوقت فى أواخر 1918 وأوائل 1919. وبدا أن الوضع مشابه لما جرى فى ثورات 1848 مرة ثانية وكأن أوروبا تحقق التنبؤات الماركسية. وكانت هناك مجالس عمال وأحيانًا مجالس عمال وجنود (سوفييتات). ولكن سرعان ما انتهى كل شئ فجأة كما بدأ. وفى أواخر 1919 كان البلاشفة الروس وحدهم هم الذين ما يزالون فى السلطة. وأكثر من ذلك أنهم واصلوا الحياة رغم الحصار الذى فرضته عليهم السلطات الغريبة ووسط حرب أهلية ومجاعة.
إن استمرار صمود الثورة الروسية بقيادة البلاشقة طبع بعمق شكل القرن العشرين. فقد انتقل النفوذ الأكبر للماركسية من الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية إلى الأحزاب الماركسية اللينينية، وتحول ماركس فيها من عملاق إلى ما يشبه الإله غير مسموح بانتقاده فى هذه الأحزاب الماركسية، ولم تعد تلك الأحزاب تقبل ما تسمية الديمقراطية البورجوزاية، بل صارت شديدة المركزية تحكمها قيادات قد تكون زعامية فردية تقترب بعضها من أن تكون تآمرية.
وبسطحية شديدة، صرخ أعداء الماركسية كيف تكون هناك ثورة برولتيارية فى بلد ما تزال الطبقة العاملة فيه فرخًا صغيرًا، أليست ثورة لينين دحضًا لماركس بدلاً من تحقق لنظرياته ( كان النظام الرأسمالى الإمبريالى قد نضج كنظام للثورة، وكانت الثورة عند لينين وتروتسكى ممكنة فى أضعف حلقات السلسلة الإمبريالية، وعند أعداء الماركسية تسقط الماركسية فى 1917 بقيام الثورة الروسية، وتسقط فى 1989 بانهيار ما بنته تلك الثورة. فلابد من المغالطة) فلم يكن الاتحاد السوفيتى بكل نقائصه إجهاضًا لجنين غير مكتمل فقد كان دولة عظمى. أسهمت أكبر إسهام فى هزيمة النازية.
وينتشر فى الغرب تفسير تروتسكى من خيانة الثورة الاشتراكية بواسطة ستالين فى أواخر العشرينيات بواسطة نظرية الاشتراكية فى بلد واحد ووضع بيروقراطية الحزب بديلاً لنشطاء العمال ( الإبدال substitutionism)، وتحطيم التحالف بين العمال والفلاحين بواسطة سياسة ستالين فى الزراعة الجماعية قسرا. ولكن الرأى المنتشر إعلاميًا كان أن الاتحاد السوفييتى هو البلد الاشتراكى، وأن ستالين رغم دكتاتوريته ودمويته هو قائد " المعسكر الاشتراكى" وكان النموذج السوفييتى هو النموذج اللينينى، ومن الاستراتيجية التى تتبعها الأحزاب الشيوعية الأخرى ومن ناحية العددية لم يحارب" التطهيرات" سيئة السمعة أو الإجرامية أحيانًا إلا "أقلية" وغادرت معهم أقلية أخرى بسبب ميثاق مولوتوف بيبنتروب بين ستالين وهتلر. ولكن من الناحية الرقمية الشكلية كان مقابل كل فرد يغادر جعلت الجبهة الشعبية ومرحلة 1941-1945 (الحرب ضد الفاشية) كثيرين ينضمون إلى أحزاب الكومنترن التى صار بعضها قوة جماهيرية فالحزب الشيوعى الفرنسى صار مشاركًا فى السلطة وصار الحزب الشيوعى الأمريكى غير الجماهيرى محترمًا فى الولايات المتحدة أثناء الحرب. وعلى حين أن الحرب الباردة أرجعت وضع الأحزاب الشيوعية فى المحور الأنجلو أمريكى إلى ما قبل ذلك فإن بعض الأحزاب الشيوعية احتفظت باحترامها فى القارة الأوروبية ( الحزب الفرنسى والإيطالى مثلا). فلم تكن الحرب الباردة ولا مطاردة الساحرات بواسطة ماك آرثى هى التى حطمت وضع الأحزاب الشيوعية كقوة ملموسة يحسب حسابها وسط اليسار، بل خطاب خروشوف فى المؤتمر العشرين للحزب السوفييتى عن الفترة الستالينية وما أسماه عبادة الفرد. وكان التاريخ الماضى الستالينى شيئًا بغيضًا لابد من اجتثاثه وتصفيته وادعاء الرجوع إلى اللينينية. ولم يكن ستالين أقل احتفاءً -صوريًا من حيث الادعاء-باللينينية ولم تكن الماركسية تذكر إلا مقرونة باللينينية أثناء ذلك وبعد ذلك، وإذا لم يكن المرء لينينيًا فلن يكون ماركسيًا، أما التروتسكية-ولاجدال فى أن جريمة كبرى ارتكبتها الستالينية والستالينيون فى حق مناضل ماركسى عظيم-اكتسبت فضيلة الثورة الروسية وعباءة لينين. وواصلت الأحزاب الشيوعية فى عهد خروشوف ومن أتوا بعده محاربتها ومحاصرتها. والافتراء عليها. ولم تستطيع التروتسكية أن تؤسس أحزابًا جماهيرية ذات فاعلية وخطوط سياسية مستقلة نوعيًا فى الصراع ضد الإمبريالية والرأسمالية وإن انتمى إليها مفكرون ماركسيون ذوو ابتكارات مهمة فى النظرية والتوجهات الثورية أبرزهم إرنست ماندل وهناك غيره. واكتفى بعض التروتسكين الأقل جدارة بترديد صيحة الثورة التى تمت خيانتها وركزوا هجومهم على الاتحاد السوفييتى والأحزاب الستالينية أكثر من أى شئ آخر.
الأرستقراطية والثورة البورجوازية الديموقراطية:
كانت لدى الحزب الاشتراكى الديموقراطى الألمانى SPD ابتداء من أصوله اللاسالية ( المعتمدة على دور الدولة) واتحاده فى جوتا وما تلا ذلك رؤية الانتقال إلى الاشتراكية كعملية تدريجية شديدة الطول. ويمكن أن ترى أنشطته البرلمانية بوصفها إسهامًا فى تحقيق ثورة بورجوازية ديموقراطية سلمية. ولم تحقق ألمانيا المرحلة البورجوازية الديموقراطية عند 1914 فكانت الأرسقراطية قوية جدًا كفئة حاكمة فى ألمانيا، وكانت الشريحة الصناعية الرأسمالية شريكًا تابعا. وقد حدد ماركس تاريخ الثورة البورجوازية فى فرنسا باعتباره 1830 وفى بريطانيا 1832 (مقدمة رأس المال المجلد الأول الطبعة الثانية) ويختلف بعض المؤرخين مع دقة ذلك. فبمصطلحات إزالة الحضور السياسى والحضور الاقتصادى للارستقراطية يذهبون إلى أن فرنسا يمكن أن يقال أنها لم تحقق ذلك الا بعد أربع ثورات بين 1789و 1871 وأن الجمهورية الثالثة وحدها هى التى حققت دومًا الحكم المدنى السياسى فى فرنسا باستبعاد النفوذ الارستقراطى وأن كوميونة باريس حتى وهى مهزومة قوت البورجوزاية فى مواجهة الارستقراطية ومن الواضح الآن أن هذا لم يحدث فى بريطانيا فى أى وقت خلال القرن التاسع عشر وفى ألمانيا أخفقت ثورة 1848 فى إقامة ديموقراطية برجوازية، وقد رأى ماركس المتحمس للتنوير والعقلانية الرأسمالية كنمط إنتاج قد يؤدى البحث العقلانى فيه عن الربح والتراكم من جانب الرأسماليين إلى نواتج لها طابع لا عقلانى مثل الأزمة؛ على النقيض من آدم سميث الذى تؤدى عنده العقلانيات الفردية إلى ناتج جماعى حميد Fenevolent، فعند ماركس ولينين الحرب قد تكون العاقبة منطقيًا للاعقلانية المنافسة الرأسمالية بين الدول.
الإمبريالية
إنه الماركسى "لينين" فى المنفى السويسرى عام 1916 كتب "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" ولم ينشر الكتاب حتى عام 1919. فلم يؤثر فى الجدال الماركسى أثناء الحرب ولم يلعب دورًا فى انقسام الأممية الثانية. ولكنه بحسم شكل وجهة نظر عن الرأسمالية تبعها الماركسيون والكثير من الاشتراكيين بل وكذلك الكثير من المحافظين أثناء السبعين سنة التى تلت. وفى حرب البروباجندا استولت صورة ماركس باعتباره المعادى العنيف للرأسمالية والمتنبئ بنهايتها، بدلاً من صورة ماركس باعتباره الباحث المدقق الذى فهم ديناميات الرأسمالية أفضل من أى أحد قبله أو بعده.
الحرب العالمية الثانية والماركسية:
كان دور الاتحاد السوفييتى فى الحرب ضد الفاشية وتحالفه مع قوى الرأسمالية الديمقراطية سببًا فى أن تغير آلة الدعاية الضخمة ضده اتجاهها مؤقتًا. وفى هذه الدعاية المؤقته كان العم جو (ستالين) شخصية مقبولة لأنه يحارب هتلر. ومعه جاء إدراك مختلف فى الغرب لأفكار ماركس وإنجلز ولينين. وكانت تلك الماركسية المقبوله مؤقتًا جزئيًا ذات طابع اختزالى. وكان الاتحاد السوفييتى قد نشر لماركس وإنجلز مخطوطات لم يسبق نشرها وقد أصبحت الكتابة والمحاورة حول ماركس ممارسة تبدأ فى الانتشار. وبدأ الاقتصاديون الكلاسكيون الجدد والكينزيون يواجهون ماركس وتنوعت طرائق التناول، قدم له شومبيتر تحية فى كتابة عام 1942 "الرأسمالية-الاشتراكية-الديمقراطية". وناقشته جوان روبنسون Joan Robinson فى "مقال عن الاقتصاديات الماركسيةan easay on Marxion Economics " وبول سويزى الماركسى فى كتابه نظرية التطور الرأسمالى، فالكتابان من نواتج الأربعينات. كما أن المؤرخين وعلماء الاجتماع ازدادوا إلمامًا بمنشورات مدرسة فرانكفورت التى تميل إلى الماركسية والمهاجرة إلى الولايات المتحدة فى ذلك الوقت. وكان تأثير الماركسية أكبر فى أوروبا الغربية. فالحزب الشيوعى الفرنسى اكتسب سمعة المطابقة مع المقاومة ضد الاحتلال النازى. وفى بريطانيا لم يكن حزب العمال قط ماركسيًا ولكن فى ذلك الوقت صار فيه أعضاء كثيرون من الشباب ينتبنون الماركسية. وكان رئيسه هارولد لاسكى البروفيسور فى مدرسة لندن للاقتصاديات -على الرغم من أنه ليس ماركسيا-شديد التعاطف نحو الماركسية، وفى عام 1948 بمناسبة مرور مائة عام على صدور البيان الشيوعى، أصدر حزب العمال إعادة طبع له بكلمة استهلال رسمية وإن تكن بلا اسم، وبمقدمة فى مائة كلمة بقلم هارولد لاسكى. وكانت تلك لحظة نادرة فى تاريخ حزب العمال لن تتكرر أبدا.
ثم يجى الحدث الهائل حدث الثورة التى يقودها الشيوعيون فى الصين، وهى ثورة تشبه الروسية فى وقوعها فى بلد زراعى متخلف صناعيًا. وإنشاء جمهورية شعبية صينية لا بفرض من جانب ستالين كما كانت الحال مع الجمهوريات الشعبية فى أوروبا الشرقية بل بواسطة حركة شيوعية صينية أصيلة. وقد رفع ذلك من شأن سمعة الماركسية، فآسيا الآن لها ثورتها التى تقول عن نفسها أنها شيوعية. ولكن الشيوعية الصينية كانت مختلفة عن الغربية فى تركيزها على المسألة الزراعية. كما أبلى الشيوعيون الصينيون بلاء حسنًا فى حرب التحرير ضد اليابان. وكان جيش الشعب جزءًا لا يتجزأ من الآلية الحاكمة للحزب الشيوعى الصينى. وتتميز الشيوعية الآسيوية حيث نجحت فى الصين ولاوس وفيتنام وكمبوديا بأن كان لها ذراع عسكرى مغروس فى الحزب. وقد لاقى الأمريكان مشقة كبيرة ودفعوا ثمنًا هائلاً فى لقاء الجيوش الآسيوية الشيوعية فى كوريا وفيتنام بعد ذلك.
الحرب الباردة
ولم يستمر التحالف أثناء الحرب بين المعسكر الأنجلو أمريكى والمعسكر الشيوعى، بل نشبت المواجهة بين الرأسمالية ومعاداة الرأسمالية فأصبحت المسألة الأساسية مواجهة نظام مبنى على الملكية الخاصة وحافز الربح ضد نظام ملكية الدولة والتخطيط المركزى. وكان هناك بطبيعة الحال عنصر من التخطيط أو الاقتصاد المختلط فى رأسمالية ما بعد الحرب، ولكن الكتلة الأكبر من رأس المال الصناعى والمالى والتجارى كانت مملوكة ملكية خاصة حتى فى أوج أوقات الاقتصاد المختلط. وقد خيضت الحرب الباردة على أرض عسكرية وأيديولوجية ولم تكن المسائل الاقتصادية الخالصة فى المقدمة وإن تكن موجودة. وعلى حين صارت مقدرة الولايات المتحدة على تقديم بضائع استهلاكية على نطاق واسع سلاحًا فى الصراع الأيديولوجى، فإن جدول أعمال الليبراليين من سوق حرة وتجارة حرة ودعه يعمل ومن حريات ديمقراطية لم يتم تبنيه قط من جانب الغرب، بل كانت المعركة تدور حول معدلات النمو ومستويات المعيشة والتكنولوجيا فى الفضاء والسلاح. وكان للعالم الرأسمالى ترتيبات مؤسيسة مختلفة متباينة حينما يتعلق الأمر بالقيم الليبرالية. وجعلت الحرب الباردة الأمريكان متسامحين إلى أقصى درجة مع أنظمة معادية للديمقراطية بمقدار ما تكون فى معسكر معاداة الشيوعية. وكان الاتحاد السوفييتى شديد التعاون مع أنظمة تحارب الشيوعيين داخل بلادها إذا كانت متناقضة مع المعسكر الآخر. وهكذا صار النظامان أكثر تشابهًا وهمًا يتواجهان.
وكان كل من النظامين يقدم صورة كاريكاتيرية من الآخر فى الدعاية التى يطعم بها الجمهور المحلى. وقد قدم ليبرالى ملتزم هو جوزيف شومبيتر تشخيصًا للاقتصاد بطريقة ميكانيكية على أساس الكفاءة الاقتصادية. فقد أعجب بالشركات الاحتكارية وكفاءتها النامية حتى لقد ظن أن مجرد الكفاءة سيجعل الرأسمالية تلتقى بالاشتراكية الواقعية Convergeأو تتقارب معها (التقاء تقارب النظامينConvergence ). فأصحاب المشاريع الفرديين سيتقادمون ويفقدون سيطرتهم وستحكم الشركة، ولن تختلف شركة رأسمالية عن شركة اشتراكية.
وقد ادعى السوفييت وكررت وراءهم الأحزاب الشيوعية فى المنظومة المسماة اشتراكية بناء الأسس المادية للاشتراكية وأسس الملكية العامة لوسائل الإنتاج والتخطيط المركزى والتوزيع على أساس المشاركة فى العمل والإنتاج. ولكنهم لم يستطيعوا رغم كل الادعاءات أن يستوعبوا بنجاح نتائج الثورة العلمية والتكنولوجية وهو الاستيعاب الذى مكن البلاد الرأسمالية من تحقيق معدلات عالية لنمو ومن فتح مجالات جديدة للتقدم الاقتصادى. وفى تناقض مع ادعاء السوفييت أنهم يسترشدون بالماركسية فى التطبيق كانت البلاد المسماة اشتراكية هى التى تعانى من الركود الاقتصادى وانخفاض معدلات النمو خلال السبعينيات والثمانيات وزيادة حجم القروض التى حصلت عليها " الديمقراطيات الشعبية" من السوق الرأسمالية الدولية وتعرض بعضها لأزمات مديونية حادة، واضطرت إلى تغيير قوانينها الاقتصادية لتسمح باجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار فيها. ويرجع كثيرون من الماركسيين هذه الأزمة إلى تعطيل البيروقراطية المركزية الحاكمة صاحبة الامتيازات للممارسة الديمقراطية، أى لمشاركة الطبقات العاملة الشعبية فى اتحاذ القرارت وتجريم النقد وانعدام النقد الذاتى ومحاربة التجديد والتطوير تحت دعوى المحافظة على "نقاء" النظام الاشتراكى. فنحن أمام أزمة النموذج "الاشتراكى" الواقعى القائم وليست أزمة الماركسية أو الاشتراكية. وتتمثل فى تضخم المركزية البيروقراطية والإدارة الأوامرية البعيدة عن رغبات المنتجين المباشرين، والاعتماد على أساليب الكبت والقهر والعنف وعبادة الرئيس. ولم يكن كل ذلك متفقًا مع أفكار ماركس وإنجلز ولينين بل جاء على النقيض منها مرتكزًا على الخروج عليها، فإن نظرية ثورية مهما تكن صحيحة لا تتخذ شكلها النهائى إلا فى صله وثيقة بالنشاط العملى للحركة الجماهيرية الحقه والثورة الحقة، ولايصح أن تدعيها بيروقراطية تستغل المنتجين المباشرين وتقهرهم.
لقد انتهت فترة الأنظمة "الشيوعية" والأحزاب الشيوعية الجماهيرية مع سقوط المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتى. وحتى إذا استمر القليل جدًا من البقايا فقد تخلت جميعًا عن المشروع القديم الذى كان يغتصب اسم الماركسية اللينينية كما سبق القول. وقد حررت نهاية الماركسية الرسمية للاتحاد السوفييتى ماركس من التماهى معها الذى كان مفروضًا عليه فى الأذهان وبدا كما لو كان اسمه يخفت أو يدركه النسيان. ولكن حينما كتبت فينانشيال تايمز مثلاً فى أكتوبر 2008 أن الرأسمالية فى اضطراب عنيف، عاد ماركس إلى المسرح العمومى مع تلازم الرأسمالية والأزمة كما اتجهت دراسته للرأسمالية إلى إبراز ذلك، وليس من المحتمل أن يخرج منه والرأسمالية المعولمة تمر بأزمتها الكبرى. إن ماركس القرن الواحد والعشرين سيكون كما يقول إريك هوبسباوم مختلفًا جدًا عن ماركس القرن العشرين المرتبط فى الأذهان خطأ بملكية الدولة البيروقراطية والاقتصاد الأوامرى.
الأزمة فى المجتمع الاشتراكى:
لم تشكل فكرة أزمة فى مجتمع اشتراكى حتى وقت قريب أى جزء من الفكر الماركسى، بل على العكس كانت الاشتراكية مقصودة باعتبارها حلاً حاسمًا لتناقضات وأزمات الرأسمالية، التى كانت النظرية الماركسية وما تزال معنية فى المحل الأول بتحليلها. وقد رفض ماركس وإنجلز التأمل فى الترتيبات الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع المستقبل الذى اعتبراه متطورًا على أسسه الخاصة، ولكنهما افترضا بوضوح أنه تطور منسجم لا تمزقه الصراعات الطبقية؛ ففيه سيسلك المنتجون المترابطون جماعيًا وبطريقة تلقائية لتدعيم الصالح العام. ولكن بعض الماركسيين من الجيل اللاحق تعرفوا على أن بناء اقتصاد اشتراكى ومجتمع اشتراكى سيكون بعيدًا عن أن يكون مسألة بسيطة مذللة وسيقدم تـنوعًا من المشاكل. إن كاوتسكى (1902) فى نصه عن " اليوم الآتى بعد الثورة" درس بعضها، على حين أن أوتو باور Otto Bauer (1919) قدم حجة أن عملية البناء الاشتراكى بعد أن تكسب الطبقة العاملة السلطة السياسية ستكون بالضرورة بطيئة وصعبة. فلا يجب عليها فقط أن تحقق توزيعًا للمنتجات أكثر عدالة، بل يجب عليها أيضًا تحسين الإنتاج، فلا ينبغى عليها تدمير النظام الرأسمالى للإنتاج دون أن تقيم فى الوقت نفسه تنظيمًا اشتراكيًا يستطيع إنتاج المنتجات على الأقل بالقدر نفسه من الفاعلية. وعمومًا كان الماركسيون سيئى الإعداد لمهمة تطوير اقتصاد جديد. ولكن فى روسيا بعد ثورة 1917 صارت المشكلة أكثر حدة، ضاعفها التأخر الصناعى والدمار الذى أحدثته الحرب والحرب الاهلية والتدخل الأجنبى، ثم دارت المجادلات حول التصنيع السريع. وبعد سيطرة ستالين حول ما سمى باسم بناء الاشتراكية فى بلد واحد وانتهت بالشمولية والتصنيع والزراعة الجماعية جبرًا وتدمير الفلاح المتوسط مع الكولاك. وبعد 1945 فرض شبيه لهذا النظام على بلاد أوروبا الشرقية. وبعد موت ستالين 1953 زاد عدم استقرار هذا النظام كما تمثل فى تعاقب تمردات فى الخمسينيات والستنيات، ثم بدأت علاقات الأزمة فى البروز من بدايات السبعينيات ثم تفاقمت الأزمة بوتيرة سريعة فى الثمانيات وبلغت الذروة فى اضطرابات نهاية 1989. ويمكن وصف الأزمة بأنها "عامة" بمعنى أنها أثرت فى الإطار الاجتماعى بأكمله؛ اقتصادى وسياسى وثقافى وطرائق حياة. ففى الدائرة الاقتصادية زادت مشاكل التخطيط خانق المركزية فى اقتصادات صارت أكثر تقدمًا وتنوعًا وتغيرًا، ونوقشت باتساع فكرة اقتصاد سوق اشتراكية بديل، وكانت الأزمة السياسية حادة بالمثل وأكثر أهمية من ناحية مباشرة فى حركة التمردات الجماهيرية التى كانت مطالبها الرئيسية تحقيق الديمقراطية والانتخابات الحرة وإنهاء احتكار الحزب الواحد للسلطة، وعلى الأخص إنهاء جحافل البوليس السرى المبثوثة فى كل مكان. وطالبت المعارضة السياسية أيضًا بتحرير الحياة الثقافية من الرقابة وإنهاء فرض نزعة دوجماطيقية تنتسب إلى الماركسية كمذهب رسمى، وإقامة حرية الصحافة ووسائط الاتصال الأخرى. وكلها مطالب ناضل من أجلها ماركس طيلة حياته كما أن مطلب حق تكوين التنظيمات النقابية العمالية المستقلة عن الدولة طبقة لينين فى روسيا أثناء سيطرة حزبه على السلطة.
ويذهب بعض الماركسيين ومن أبرزهم شارل بتلهايمCharles Bettelheim فى كتابه الحساب الاقتصادى وأشكال الملكيةCalcul economique et Formes de propriete (1970) إلى أن هذه المجتمعات الانتقالية. لم تكن اشتراكية بل رأسمالية دولة أو ذات سلطة عمالية متدهورة بيروقراطيًا فيها طبقة حاكمة جديدة أى نخبة نشأت ورسخت نفسها.
الماركسية والثورة الروسية:
يقول بتلهايم: إن تأميم المشروعات الرئيسية لتصير ملكية دولة، كما أوضح لينين، حدثت بالنسبة إلى الملكية فى شكلها القانونى فهى ليست مطابقة لإقامة سلطة ومقدرة اجتماعية على تشغيل وسائل الإنتاج وعلى التصرف فيها ومنتجاتها، فهى بعيدة على أن تشكل تشريكًاsocialization. ويتضح الفرق الجذرى بين التأميم القانونى وبين التشريك فى حالة الزراعة فى الاتحاد السوفييتى فقد أممت الأرض عام1917. ومع ذلك فإلى أن قامت الزراعة الجماعية ظل الجزء الأكبر من الأرض الزراعية يستعمل كالسابق رغم أن الاستعمال وقع فى أيدى مستعملين مختلفين عن ذى قبل، وأثناء السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) ظلت الأرض تباع وتشترى وبدأت تتركز من جديد فى أيدى الفلاحين الأغنياء "الكولاك".
فبعد ثورة أكتوبر زحف الجنرالات البيض والمتدخلون الأجانب والجوع والخراب والاشتباكات القاتلة، ولم توجد القوى والإمكانات التى تتيح الخطوات الأولى للبناء الاشتراكى. فحدث الاضطرار إلى الجمع بين أصول متضادة ومتناقضة. الصناعة المؤممة الكبيرة والمزراع الفردية الفلاحية الصغيرة، التخطيط والعلاقات السلعية النقدية فى الاقتصاد، وكذلك الديمقراطية والمركزية فى هيكله وفى الدولة. وكتب لينين " إننا جمعنا المتناقضات غير مرة خلال ثلاث سنوات ونصف السنة من ثورتنا" (عن النقابات) وفى سنوات الحرب الأهلية بدأ وضع خطة الدولة لكهربة روسيا وخطة بناء الصناعة الآلية الضخمة، فهذه هى القاعدة المادية التى لاغنى عنها للاشتراكية. ولم يحل زمن طرح القضايا النظرية لبناء الاشتراكية إلا فى أوائل العشرينيات مع الانتقال إلى أوضاع تكاد تكون طبيعية سليمة, وكانت قد حسمت نظرية إمكان نشوب الثورة فى بلدان ضعيفة تطور الرأسمالية حيث لم يتحقق فيها التحويل البورجوازى كل التحويل. وقد هاجم لينين النظرية الانتهازية التى تذهب إلى أن طابع الثورة الطبقى يعتمد اعتمادًا آليًا كليًا على مستوى تطور القوى المنتجة فى البلد المعين. فهذه النزعة الاقتصادية الصيغة تؤدى إلى تحويل الحركتين العمالية والفلاحية إلى مجرد ذيل للحركة البورجوازية. إن روسيا لم تكن قد بلغت من حيث تطور القوى المنتجة الدرجة الكافية الضرورية التى تجعل الاشتراكية إمكانًا فعليًا. ولا جدال فى حقيقة عدم نضج المقدمات الاقتصادية الموضوعية للاشتراكية ولكن تلك الحقيقية تنعكس فى الواقع المعيش فى كل مرة على نحو فريد غير متوقع. فقد أوضح لينين إن ذلك النضج القاصر للعوامل الموضوعية قد يعوضه فى إطار معين وإلى بعض الحدود نضج العوامل الذاتية. واتهم لينين الانتهازيين إنهم لم يفهموا أساسًا من أسس الماركسية وهو الديالكتيك الثورى. فالثورة فى روسيا تختلف فى تطور الرأسمالية والديموقراطية عن أوروبا الغربية، كما أنها قد ارتبطت بالحرب الإمبريالية العالمية الأولى التى أضافت إلى التاريخ سمات جديدة، لأنه لم تقع فيما مضى حرب مثلها فى أوضاع كأوضاعها. ففى روسيا اقترنت حرب الفلاحين بالحركة العمالية وهو ما كان يعتبره ماركس فى 1856 احتمالاً ممكنًا بالنسبة إلى بروسيا. إن القول بتبعية السياسة تبعية مباشرة للاقتصاد عارضة لينين بالقول بأولية السياسة وتفوقها على الاقتصاد وسيطرتها وإمكان استيلاء الطبقة العاملة على السلطة فى البلاد ناقصة التطور الرأسمالى نسبيا. إن لينين يبرز فاعلية الجماهير الثورية بقيادة الطليعة السياسية الواعية ودورها الذى يسرع من سير حركة التاريخ. وكان بليخانوف فى بحوثه الماركسية المبكرة قد استنتج نظرات صحيحة فى هذا الموضوع ولكنه تخلى عنها فى أكتوبر 1917 عندما كان هذا هو وقتها الحاسم. فللعوامل الدولية تأثيرها وكذلك للوضع الثورى فى تهيئة الشروط الملائمة لكى تقوم العوامل الذاتية بفاعليتها فى التطوير.
الماركسية وشيوعية الحرب فى روسيا بعد الثورة:
فى أوضاع شديدة الصعوبة فى زمن الحرب الأهلية 1918-1920 قام الحزب الشيوعى بتأميم الصناعات كلها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وفرض عليها مركزية صارمة ومنح حرية التجارة وقام بالمصادرة العينية أى انتزاع جميع فوائض الحبوب من الفلاحين، وبالقسر انتزع قسمًا من النتاج الضرورى. وقد أتاحت هذه السياسة للسلطة السوفيتية إنشاء جيش يدافع عن الثورة وإمداد الصناعة ببعض الخامات وتحاشى انهيارها وإطعام المدن. ولكنها أحدثت تناقضًا ضخمًا مع الفلاحين ومصالحهم فى حقبة البناء السلمى فاندلعت أزمة حادة وقلت مساحة الأرض التى يزرعها الفلاحون واشتعلت موجات من الاضطرابات الفلاحية، فغير المؤتمر العاشر للحزب الشيوعى البلشفى الشيوعية الحربية إلى السياسة الاقتصادية الجديدة النيب التى ارتكزت على الضريبة العينية، أى انتزاع قسم معين من محاصيل الفلاحين أما ما يتبقى عندهم فبإمكانهم أن يبيعوه فى السوق بحرية؛ مما أدى إلى قيام علاقة سلعية بين المدينة والريف. أى أن النيب أدت إلى انتعاش العلاقات الرأسمالية فى المدينة والريف. ولكن هذه العلاقات كانت خاضعة لرقابة الدولة السوفيتية التى تهدف بالنيب إلى بعث التحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين وإعادة الحياة إلى كل الاقتصاد. فالهيكل الفوقى الطليعى عمل على إنشاء اقتصاد ناضج كل النضج وثقافة شديدة التطور مناظرة له. وبعد حلول السلام والوفاء بالحد الأدنى من حاجات العاملين ضد المجاعة، اتجه العمل الثورى اتجاهًا رئيسيًا نحو تغيير جهاز الدولة الذى تم الاستيلاء عليه كما هو من القيصر ومن البورجوازية. وقد كانت نظرية الدولة فى قلب أزمة الماركسية ابتداء من نقطة انطلاقها كما يذهب هنرى لوفيفر. فقد عاصرت ذلك الجدال حول الدولة بين لاسال أى اشتراكية الدولة وباكونين الذى اتجه نحو الإلغاء الفورى للدولة. أما تفكير ماركس فقد عبَّد طريقًا بينهما وتمت صياغته من خلال هذا الصراع. ومن الضرورى تذكر أن ماركس وافق على كوميونة باريس باعتبارها إلغاء للدولة القائمة ومضيًا نحو ذبول الدولة كدولة. وهذا التأكيد لم يتمش مع الاشتراكية كما تشكلت فى ألمانيا كحركة وحزب للطبقة العاملة بدءًا من ستينات القرن التاسع عشر، وهذا الصراع طفا على سطح نقد برنامج جوتا لماركس وهو برنامج احتوى من قبل واقعيًا وعلى نحو تقريبى كل اشتراكية الدولة. وهذه الأزمة سنواجها فى اشتراكية الدولة السوفيتية فالمسألة تتعلق بتناقضات عميقة مستمرة تواجهها الماركسية فيما يتعلق بالدولة وفى النظرية السياسية.
وبعد الثورة الروسية كان الهيكل المعين المكون من علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج فى هذه الفترة يقتضى أن العمليات الإنتاجية المختلفة لا يمكن السيطرة عليها إلا فرادى وهى منفصلة داخل وحدات إنتاجية مختلفة كما يقول بتلهايم. وبذلك تكون وحدات الإنتاج أو مجموعاتها أو اتحاداتها التى تمارس هذه السيطرة هى حائزة لوسائل الإنتاج التى تقوم بتشغيلها وحينما تدعم هذه "الحيازة" بعلاقات قانونية ملائمة تصبح الوحدة أو المشروع شخصًا قانونيا. فالمشروع يتصرف فى رأس المال الثابت والمتحرك ويشترى ويبيع المنتجات ويقترض من النظام المصرفى. وتبعًا لذلك هناك اتجاه أو ميل فى الحيازة يدفعها إلى اتخاذ الأوجة القانونية للمكلية. ولكن طالما أن الدولة تمارس بطريقة فعالة سلطات المالك على المشروعات فإن أفعال هذه المشروعات تصير قانونية خلال النفوذ النابع من ملكية الدولة. فمثلاً حينما يباع المنتج يدخل المبلغ المحصل "حيازة" المشروع ويصبح ملكية للدولة.
وهنا يثار سؤال وراء مظهر الأشخاص القانونيين أى فئة من الفاعلين هى التى "تحوز" بالفعل وسائل الإنتاج؛ رأس المال الثابت والمتحرك الذى يمكن التصرف فيه بالفعل. هؤلاء الفاعلون فى الاتحاد السوفييتى لم يكونوا العمال بل كانوا مديرى المشروعات ورجال الإدارة المعينين بواسطة الدولة، وكانت كثرة وتعدد قدرات التصرف وكلها ذات جذور فى كل مشروع معين هى إحدى الأسس الموضوعية للتبادل السلعى بين وحدات الإنتاج. وهكذا فإن وجود ملكية الدولة "فوق" حيازة وسائل الإنتاج تفرض حدودًا على هذه الحيازة بواسطة المشروعات. وتلك الحدود هى التى تعوق الحيازة والحقوق المقرة قانونًا لها من أن تصبح ملكية بطريقة بسيطة خالصة وذلك بشرط أن تكون ملكية الدولة واقعًا اقتصاديًا وليست وهمًا قانونيًا بسيطا. وهذا يتوقف على الصراع الطبقى الذى ينتج السياسة التى تنتهجها السلطات الحكومية فى هذا المجال.
وفى الواقع الفعلى فإن الحدود المفروضة على الاستقلال الذاتى للمشروعات هى تجل لسلطة الدولة ومقدرتها على التصرف فى المنتجات وتخصيص وسائل الإنتاج. أى أن مايبدو من الناحية السلبية حدودًا على المشروعات هو من الناحية الإيجابية أثر أو نتيجة لعلاقات إنتاج نوعية لعلاقات ملكية بالمعنى الاقتصادى يمكن أن تكون علاقات اشتراكية، إلى المدى الذى تكفل فيه بالفعل سيطرة العمال على شروط الإنتاج وإعادة الإنتاج ولذلك على وسائل ونتائج العمل، إن سلطات الدولة ليست إلا أحد الأشكال الممكنة لسيطرة العمال فى المجال الإنتاجى؛ وهى ليست أكثر الأشكال تطورًا. فإن ملكية الدولة. وحتى الدولة العمالية ما تزال تناظر انفصال العمال عن وسائل الإنتاج، وهى بذلك تناظر علاقة شخصها ماركس بوصفها تعتمد على الحق البورجوازى، تحويل الوحدة الاقتصادية إلى وحدة اقتصادية سياسية فى الوقت نفسه وحيث المتطلبات الاجتماعية والسياسية التى لها الأولوية على المطلبات الاقتصادية. وبدا وجود المشروعات كحد على سلطة الدولة، ووراء ذلك على سلطة العمال من الناحية السلبية، سلطة التصرف والتخصيص. أما من الناحية الإيجابية فهو تعبير عن علاقات إنتاج نوعية هى علاقات الإنتاج الرأسمالية. من ثم يبرز الطابع الرأسمالى للإدارة الذاتية للمشروعات. فالمشروع المدار ذاتيًا يدخل إلى نطاق العلاقات الرأسمالية للإنتاج التى يعيد المشروع إنتاجها. وفى غياب التخطيط الاشتراكى الحقيقى فإن المشروع (سواء أكان مسيطرًا على إدارته أو لم يكن، تسيطر عليه علاقات الإنتاج الرأسمالية ولا يمكن أن يعمل إلا بهدف زيادة قيمة رأس ماله.
ويذهب بتلهايم إلى أن المشروع الإنتاجى بالمعنى الدقيق للكلمة، أى مشروع كائنًا ما كان، هو جهاز رأسمالى فهو أحد الأماكن حيث تتمفصل علاقات الإنتاج الرأسمالية وحيث يتم داخله إعادة إنتاج تلك العلاقات. وهذه هى الحال حتى اذا سيطرت علاقات أخرى مختلفة فى النوع تتدخل من جانب المستوى السياسى على المشروع. وإن تثوير هذه الوحدات الإنتاجية وحده هو الذى يستطيع أن يضع حدًا لهذا الجهاز الرأسمالى ويستبدل به جهازًا جديدًا تتمفصل فيه العلاقات الاجتماعية الاشتراكية ويعاد إنتاجها. وهذا التثوير لا يمكن إصدار قرار به بل لا يستطيع إلا أن يكون نتيجة لصراع مركب تتمكن فيه الملامح النوعية لطراز جديد من وحدة الإنتاج أن تشق طريقها إلى الظهور. وفى الواقع يجب أن تتلاءم هذه الملامح مع الاحتياجات الموضوعية التى لا يمكن أن يبرزها إلى الضوء إلا الممارسة وهى لايمكن تخيلها حيث أن أية محاولة للجوء إلى الخيال ستكون أفضل طريقة لإعادة اكتشاف أشكال للتنظيم تطابق العلاقات الاجتماعية القديمة.
وترجع طبيعة المشروع، أى مشروع الرأسمالية إلى واقع أن هيكله يتخذ شكل انفصال مزدوج، انفصال العمال عن وسائل إنتاجهم (ومقابل ذلك حيازة تلك الوسائل من جانب مديرى المشروع) وانفصال المشروعات بعضها عن بعض. وهذا الانفصال المزدوج يشكل السمة المركزية لنمط الإنتاج الرأسمالى وهو دعامة شاملة لتناقضات ذلك النمط إلى المدى الذى يقيم هذا النمط تعارضًا بين الطابع الخاص للملكية أو الحيازة وبين الطابع الاجتماعى للقوى المنتجة. ولا تقدم رأسمالية الدولة والتأميمات إلا الوسائل الشكلية للتغلب الجزئى على هذه التناقضات؛ أى فى الواقع الوسائل التى يمكن بها إزاحة آثارها. إن الدولة العمالية هى التى تفتح الطريق لإزالة التناقص الناجم عن الطابع الخاص لحيازة وسائل الإنتاج الاجتماعية لأنها تفتح الطريق لإزالة المشروع أولاً بتحديد وانتقاص استقلاله الذاتى ثم لأنها تجعل تثويره ممكنًا. كما أن طابع الانفصال المزدوج الذى يتخذه هيكل المشروع يتعلق بكلية العلاقات الخاصة بهذا المشروع. فطابع الانفصال المزدوج هو نتيجة لعلاقات الإنتاج نفسها وتبعًا لذلك نتيجة للشروط التى يتم فيها ربط قوة العمل بوسائل الإنتاج ( تحت سيادة علاقات الإنتاج). وداخل نطاق المشروع فإن هذا الربط يتم تحت إشراف وتوجيه المديرين بعد "شراء" قوة العمل الضرورية لعمليات العمل. وبذلك فإن قوة العمل ووسائل الإنتاج تدخلان عملية الإنتاج فى شكل القيمة وتصير عملية العمل عملية تخضع فيها قيمة وسائل الإنتاج لزيادة ذاتية.
وكما يتعلق طابع الانفصال المزدوج الذى تتخذه ممارسة المشروع لوظيفته بدرجة تطور الطابع الاجتماعى للعمل، ويجب ألا يفهم ذلك كمعادل بسيط "المستوى" تطور القوى المنتجة. ففى الواقع ليست المسألة ببساطة هى مسألة مستوى التطور بل أيضًا خصائص القوى المنتجة. وهذه الخصائص نفسها تتحدد بطبيعة علاقات الإنتاج التى قد تطورت داخلها القوى المنتجة تاريخيًا. فالصناعة الآلية والمشروع الصناعى هى نواتج التطور الرأسمالى للقوى المنتجه، أى تطور هذه القوة تحت سيطرة علاقات الإنتاج الرأسمالية، لذلك فإن خصائص القوى المنتجة التى تورث عن الرأسمالية بواسطة التشكيلات الاجتماعية الانتقالية بين الرأسمالية والاشتراكية يجب أن يتم تحويلها بعمق. وفى المستوى الاقتصادى فإن فترة الانتقال إلى الاشتراكية هى التى يتم خلالها التحويل إلى العلاقات الاشتراكية الإنتاجية لطابع القوى المنتجة. ويوضح التاريخ أن التغيرات فى الشروط المادية للعمل ( قوى الإنتاج) تتحقق بعد التغيرات فى الشروط الاجتماعية للإنتاج (علاقات الإنتاج) فالصناعة الآلية تطورت داخل نطاق علاقات الإنتاج الرأسمالية وعلاقات الإنتاج الرأسمالية أخذت شكلها قبل الصناعة الآلية فقد تطورت الأخيرة تحت سيطرة علاقات الإنتاج الرأسمالية لتشكل نمط الإنتاج الرأسمالى نوعيًا وبالطريقة نفسها فإن علاقات الإنتاج الاشتراكية تبدأ بممارسة تأثيرها على قوى إنتاج معطلة تاريخيًا. وخلال تحويل معين لهذه القوى يمكن تشكيل نمط للإنتاج اشتراكى نوعيًا لم يتحقق حتى الآن فى أى بلد. وهو النمط الذى يتخلص من تأثير قوانين المركز والتمركز الرأسمالية التى لا يستطيع أن ينقلها على حساب الاستغلال الهائل للمنتجين المباشرين (تراكم بدائى على نطاق هائل)، إن النمط الاشتراكى نوعيًا هو نمط يبتكر تكنيكات على أساس التقدم العلمى ولكنه لا يتخذ التكنيك الرأسمالى نموذجًا يتبعه تبعيه عمياء. وهو لا ينقل عن المشروع الرأسمالى نفوذ الإدارة ولا التنظيم الداخلى الهيرارشى للمشروع ولا التقسيم الاجتماعى للعمل داخله الذى يربط العمل التنظيمى بالعمل العقلى والعمل التنفيذى بالعمل اليدوى. ويرى بتلهايم أن التأميم كما حدث فى الاتحاد السوفييتى وبلاد المنظومة الاشتراكية لم يشكل نمطًا للإنتاج اشتراكيًا نوعيًا.
والانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية اتسم على وجه التحديد بوجود سمات هى علاقات اجتماعية رأسمالية ولم يكتمل الانتقال لأن هذه العلاقات (وحامليها) لم يتم تصفيتها. وهنا لابد من الإشارة إلى تحليل ماركس بوجود علاقات رأسمالية فى مسار ما يسميه الطور الأول للشيوعية أى الاشتراكية (البيان الشيوعى ونقد برنامج جوتا) وتعليقات لينين على فترة الانتقال (الأعمال الكاملة الجزء 32 الفصل الأول والخامس). وما هو جديد ليس استخدام علاقات العمل المأجور فى مشروعات الدولة حيث أن هذا الاستخدام يرتكز مباشرة على تحليل ماركس لرأس المال المتغير بل استخدام مصطلح رأسمالية الدولة كما يؤكد بتلهايم وتوسيع نطاق ذلك المفهوم.
الماركسية ورأسمالية الدولة:
ويبدو أن توسيع نطاق هذا المفهوم له ما يبرره، بوجود نظام من علاقات الإنتاج الرأسمالية متمفصل مع ملكية الدولة فى التشكيلات الانتقالية وقد استخدم بريو براجنسكى مفهوم النظام السلعى الاشتراكى فى كتابه الاقتصاديات الجديدة. ويرى بتلهايم أن هذا المفهوم غير محكم لأنه مقصور على دائرة التداول. كما أن بمقدور هذا النظام من العلاقات الرأسمالية أن يعيد إنتاج نفسه وأن يسيطر على العلاقات الإنتاجية الأخرى حينما لا يخضع هو نفسه لسياسة تحويل. ومفهوم رأسمالية الدولة بعد الثورة يشير إلى نظام العلاقات الرأسمالية للإنتاج المتمفصلة داخل نطاق ملكية الدولة فى ظل ديكاتورية الطبقه العاملة. ومن المعلوم جيدًا أن لينين كما يذهب بتلهايم غالبًا ما استعمل مصطلح رأسمالية الدولة وخاصة فى كتابات 1917 و1918 حيث أشار هذا المصطلح فى الوقت نفسه إلى كل من نظام العلاقات الناشئ عن التأميم وإجراءات إشراف الدولة. وفى كتابات 1921 و1922 حيث أشار المصطلح إلى نظام التنازلات التى قدمتها الدولة إلى رأس المال الخاص وإلى تطوير التعاونيات تحت إشراف الدولة وإلى استخدام الاخصائيين البورجوازيين فى قطاع الدولة وإلى إدخال العلاقات النقدية والمالية بين مشروعات الدولة. ولكن استعمال هذا المفهوم لم يكن نقيًا، بل كان له من حيث الجوهر طابع وصفى. ونجد المصطلح أيضًا عند لينين فى وصف رأسمالية الدولة الاحتكارية وفى كتاباته التى خصصها لتحليل الرأسمالية الألمانية على وجه الخصوص.
أما سيطره العلاقات الاشتراكية على العلاقات الرأسمالية فتمنع استغلال العمال (فيصبح فائض القيمة الذى ينتجه العمال فى المشروعات ملكية دولة العمال التى تستحوذ عليها وتعيد توزيعه وفقًا لمتطلبات بناء الاشتراكية). ولكن وجود العلاقات الرأسمالية مع ذلك يستتبع إمكان استعادة استغلال العمال بواسطة هؤلاء الذين يسيطرون على استعمال وسائل الإنتاج ويمكن أن يتحقق هذا الاستغلال بالدرجة نفسها بواسطة هؤلاء الذين يفترض أنهم يشرفون عليهم باسم ملكية الدولة. فهؤلاء الذين يدخلون باسم ملكية الدولة لم يعودوا ممثلين للمنتجين المباشرين بل يشكلون ببساطة فئة من الفاعلين يستغلون المنتجين لهم اشبه بطبقة سائدة.
ويؤكد الماركسيون عمومًا على الطابع الوهمى لصيغة الإدارة الذاتية، (يوغوسلافيا تيتو) ففى أحوال كثيرة تمكن هذه الصيغة بعض المنتجين المباشرين من أن يكون تحت تصرفهم ملكية مشتركة قانونية لبعض وسائل الإنتاج التى تخص المشروع الذى يعملون فيه. ولكن هذه الصيغة تؤدى إلى تقسيم العمال إلى مجموعات كثيرة متفرقة بعدد المشروعات. وتظل هذه المشروعات مرتبطة بالسوق وفى هذه الشروط لا يستطيع العمال بالفعل السيطرة على وسائل الإنتاج ولا على المنتجات فعملهم نفسه تسيطر عليه العلاقات السلعية.
فوجود نظام رأسمالى عالمى يجعل جزءًا من وسائل الإنتاج يدخل فى عملية الإنتاج كسلع ليس معروفًا ما الذى يحدد قيمتها مباشرة ولا يعرف ذلك إلا على نحو غير مباشر عن طريق ثمنها. كما أن وجود السوق الرأسمالية العالمية والعلاقات الإنتاجية الرأسمالية يجبر جزءًا من وحدات الإنتاج على أن تعمل من أجل السوق العالمية الرأسمالية التى قد يبلغ ضغطها درجة تجعلها تسيطر على جزء يكبر تدريجيًا من الإنتاج. وقد يكون ضغطها سياسيًا وأيديولوجيًا فهى تمارس ضغطًا على طرز الاستهلاك وعلى أشكال تنظيم المشروعات. ووجود جهاز الدولة بعد الثورة يلعب دورًا فى فرض انفصال بين المنتجين المباشرين ووسائل الإنتاج، ونتيجة لذلك فهى تسهم فى فرض علاقات سلعية داخل دائرة الإنتاج. وتشير نصوص ماركس فى "الحرب الاهلية فى فرنسا" إلى أن الدولة ذات المركزية الضخمة شكل طفيلى لا يجب أن تستعمله دولة العمال بل يجب عند لينين (المجلد 24) فى مقاله عن السلطه المزدوجة أن ترتكز الدولة السوفيتية على المبادرة التى تأتى من أسفل، من الجماهير الشعبية وليس على قانون تسنه دولة مركزية. وقد أطلق لينين على الشكل المركزى الذى فرضته الملابسات التاريخية على روسيا "دولة عمال ذات تشويه بيروقراطى" وذلك بسبب هيكلها الهيرارشى ونظام التعيينات السائد فيها. وبقيت دولة عمالية لأن جهاز الدولة فقط هو المبقرط على حين أن السلطة السياسية التى تسيطر على هذا الجهاز سلطة عمالية لا تمارسها مباشرة كل الطبقة بل تمارسها طليعة الطبقة فى حزبها المرتبط بجماهير الطبقة بشكل واضح. وكان ترابط فاعلية الطليعة وجهاز السوفييتات والنقابات هو الذى يكفل سيطرة العمال على جهاز الدولة مما يمكنهم من الإمساك بالسلطة السياسية. وقد حذر لينين من أن وجود هذا الشكل السياسى البيروقراطى للدولة يلعب دورًا كبيرًا فى إعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية. ويشير لينين فى "النقابات والوضع الراهن وأخطاء تروتسكى- المجلد 32" إلى الدولة العمالية ذات التشوية البيروقراطى، ويوضح ضرورة التنظيمات النقابية "المستقلة" للطبقة العاملة لتمكنها من الدفاع عن نفسها فى مواجه دولة ليست دولة العمال تمامًا.
وإذا لم يتم تثوير الدولة تدعمت خصائصها ذات الطابع المركزى وانفصلت بشكل متزايد عن العمال وأصبحت تحكمهم أكثر فأكثر مشكلة بذلك جهازًا يكون أعضاؤه جسمًا له قواعده الداخلية فى التعيين وفيه تصير القاعدة مسؤولة فقط أمام القمة التى يتوقف عليها مصيرها.
وبعبارة أخرى فإن هذا الشكل من أشكال الدولة فى الاتحاد السوفييتى يستطيع أن يلعب دور الحاضنة للعلاقات الاجتماعية الرأسمالية.
كما إنه يستطيع أن يمسى المكان الذى تصنع فيه أدوات القمع الموجه ضد العمال. ولا يمكن تحليل أثار ملكية الدولة دون الأخذ فى الحسبان الخصائص العينية لمؤسسة الدولة التى ترتكز عليها تلك الملكية. فبعد الثورة أصبح العمال ملاكًا من خلال توسيط الدولة وهم منفصلون عن الملكية المباشرة والدلالة الواقعية لملكية الدولة تعتمد على العلاقات الواقعية الموجودة بين كتلة العمال وجهاز الدولة. فإذا سيطر العمال على الجهاز بدلاً من أن يكون هذا الجهاز فوقهم ومسيطرًا عليهم تصبح ملكية الدولة الشكل القانونى لملكية العمال الاجتماعية. أما كما حدث ابتداءً من الفترة الستالينية التى طالت ولم تنته بوفاة ستالين، إذ سيطر على الدولة جسم من الموظفين والإدرايين وببغاوات الزعيم وأفلتت من سيطرة وإشراف وتوجية الكتل العمالية فسيمسى هذا الجسم من البيروقراطية المالك بالفعل أى يمسى علاقة إنتاج، ويشكل وقد شكل بالفعل طبقة اجتماعية يسميها بتلهايم بورجوازية دولة. نتيجة للعلاقة الموجودة بين هذا الجسم ووسائل الإنتاج من ناحية وبين الجسم والعمال من ناحية أخرى وهذا الوضع لا يتضمن أن هذه الطبقة تستهلك كل الناتج الفائض ولكنه يتضمن أنها تتصرف فى هذا الناتج تبعًا لمعايير طبقية، معايير تشمل التزامًا بالسماح للسوق ومعايير الربحية أن تلعب دورًا سائدًا. ومصطلح بورجوازية الدولة الذى يستعمله بتلهايم هنا للإشارة إلى تلك المرتبة الاجتماعية فى الاتحاد السوفييتى السابق يجد تبريره بأشكال الانفصال بين المنتجين المباشرين ووسائل الإنتاج التى تعتمد عليها سلطة تلك المرتبة كما يجد هذا المصطلح تبريرًا أيضًا بالوظائف التى تقوم بها تلك المرتبة الطبقية. ووظيفتها الأساسية كانت وظيفة التراكم التى تقوم بها كوكيل فاعل لرأس المال الاجتماعى. لذلك فإن مسألة الاستهلاك الشخصى لتلك المرتبة الطبقية هى مسألة ثانوية نسيبًا، وبالمثل نمط الوصول إلى هذه الوظائف أى نمط الدخول إلى تلك المرتبة. وعلى أساس من السيطرة والإشراف على جهاز الدولة. إما من جانب المنتجين المباشرين أو الموظفين الإداريين لا نجد أنفسنا فى مواجهة موقفين أقصيين فحسب، بل هناك أيضًا تدرجات وسيطة وتبعًا لذلك فالحركة فى هذا الاتجاه أو ذاك ممكنة. وفى هذا المستوى تشكل هاتان الحركتان إحدى الخصائص الجوهرية للطور الانتقالى. فحينما تبلغ الحركة فى اتجاه سيادة كيان الإداريين على جهاز الدولة أوجها ( نتيجة لتطور القوى السياسية داخل جهاز الدولة والحزب وخارجهما) لا يمكن توقع حركة فى الاتجاه المضاد إلا خلال عصيان من جانب الجماهير الشعبية. وحينما لا تسطيع الجماهير أن تستند على تأييد جانب أو جزء من إدارة الدولة والحزب الحاكم، فإننا نسطيع القول إن سيطرة بوجوزاية الدولة قد تم تدعيمها، وأن الطور الانتقالى بعد الثورة والتأميم والتخطيط المركزى قد انتهى باستعادة الرأسمالية. وعلى العكس حينما يتم التحويل العميق لمجمل العلاقات الاجتماعية فى اتجاه سيطرة اجتماعية واقعية من جانب العمال على وسائل الإنتاج والمؤسسات السياسية فإن ملكية الدولة نفسها تختفى لتفسح الطريق للامتلاك الاجتماعى. ومن الواضح أن هذا الهدف يفترض تحقيقه تحولاً جذريًا فى علاقات القوى داخل الوضع الدولى نفسه ومدى سيادة نمط الإنتاج الرأسمالى أو تزعزعه على النطاق العالمى. ولا تكاد الماركسية اليوم تلقى بالا إلى الصورة التبسيطية عن الاشتراكية التى تذهب إلى أن علاقات الاستغلال تنتهى بمجرد أن تختفى الملكية الخاصة القانونية لوسائل الإنتاج بالتأميم، وأن الطبقات أو الفئات الاجتماعية التى تظل موجودة تجمعها روابط الصداقة الحميمة وأن مصالح الفلاحين هى مصالح العمال ولا يوجد أى تناقض بينهما وبين المثقفين الشعبيين الذين ليس أمامهم إلا خدمة مصالح العمال والفلاحين، فلا توجد طبقات أخرى تحتاج إلى خدمة. وينتشر بين الماركسيين تصور التناقضات فى صفوف الشعب ولا ينتشر بينهم المفهوم القانونى للملكية. الذى سخر منه ماركس فى خطاب إلى أنينكوفAnnenkov عام 1846 باعتباره وهمًا ميتافيزيقيًا عند برودون الذى يعتبر الملكية مستقلة عن تقسيم العمل، فهو لم يستوعب الرابطة التى تجمع كل أشكال الإنتاج البورجوازى. فالملكية عند ماركس فى أعمق معناها ليست مجرد مقولة قانونية، بل هى نتاج العلاقات الاجتماعية ككل وخاصة تقسيم العمل. وينتشر بين الماركسيين رفض تصور الملكية الاشتراكية باعتبارها تصورًا قانونيًا يتحقق بالتأميم، فالمكلية الاشتراكية ليست قابله للاستنباط من الشكل القانونى لها ولا يمكن فهمها دون تحليل عيانى. ولكن عدم وجود نموذج للملكية الاشتراكية فى عالم اليوم يشكل جزءًا من أزمة الماركسية يؤثر حتى فى مفهوم الملكية الاشتراكية النظرى بعد إخفاقات "الاشتراكية الواقعية".
أزمة الماركسية:
إن أزمة الماركسية عبارة تكررت مرارًا على ألسنة أعداء الحركة العمالية لأغراضهم من أجل توقع سقوطها وموتها ويقول ألتوسير إن علينا أن نأخذ العبارة لإعطائها معنى مختلفًا تمامًا، ولسنا نخاف تلك العبارة فقد مرت الماركسية بفترات أخرى من الأزمة عند إفلاس الأممية الثانية وهروبها إلى معسكر التعاون الطبقى، ولكن الماركسية واصلت الحياة، وأزمة اليوم مرئية للجميع وخصوصًا لأعدائها الذين يفعلون كل ما فى وسعهم لاستغلال الوضع، ولكن الماركسيين معتادون على هذه الأساليب وهم يحيون عبر الأزمة زمنًا طويلاً، ولكنهم الآن يعاصرون نضال الطبقة العاملة والجماهير الشعبية ضد العولمة الرأسمالية، وقد اعتادت الأحزاب الشيوعية والاشتراكية أن يمضى كل منها فى طريقة المنفصل. ومن الواضح أن التناقضات بين الاستراتيجيات والممارسات المختلفة لها تأثيرها على النظرية الماركسية نفسها، وليس ذلك إلا وجهًا ثانويًا من هذه الأزمة العميقة. فإن شيئًا ما قد "انقصف" فى تاريخ الطبقة العاملة بين ماضيها وحاضرها شئ يجعل مستقبلها غير أكيد. ومن الصعب إحداث تكامل بين ماضيها وحاضرها، بين الدور العالمى الهائل لثورة أكتوبر ومعارك مقاومة النازية وفظائع نظام ستالين وبريجنيف، فلا يوجد نموذج موحد للاشتراكية فى أذهان الجماهير، ولا يكفى القول الذى يتداولة الماركسيون من أن هناك مسارات متعددة نحو الاشتراكية. ولا تزال المشكلة قائمة عن كارثة الانتقال من ماركس ولينين إلى ستالين وبريجنيف فلم تقدم الأحزاب الشيوعية تفسيرًا ماركسيًا مقنعًا لتلك الكارثة التى أصابت النظرية الماركسية نفسها. فالماركسيون لا تقنعهم فكرة أن النظرية الماركسية توجد فى مكان ما فى شكل نقى دون أن تشتبك وتختبر فى النضالات التاريخية ونتائجها باعتبرها "مرشدًا" للعمل، والمطلوب منها أن تقدم تفسيرًا للانقسامات الحادة فى الحركة الشيوعية. فالكثير من المبادئ المعصومة الموروثة من الأممية الثانية والثالثة والرابعة وضعت أو وضعتها الممارسة موضع الشك. وهناك استجابات متعددة لهذه الأزمة الماركسية عند الماركسيين، فهناك إنكارها واعتبارها افتراءً يخترعه أعداؤها ولا يطلقون عليها اسم الأزمة، وهناك مقاومة الأزمة بإعلان الإيمان بقوة الحركة العمالية والديموقراطية. وهناك الإقرار بانفجار الأزمة وبأن شيئًا حيويًا يمكن تحريره بواسطتها وفيها. فهى لا ترجع إلى أزمة الحركة الشيوعية التى أسفرت عن نفسها بوضوح بالانقسام الصارخ بين السوفييت والصنيين، "والاختلاف" بين السوفييت والشيوعية الأوربية، بل ترجع إلى زمن أبعد كثيرا. ففى الثلاثنيات مثلاً كانت هناك أزمة حادة وانقسامات جمة، ولكن ستالين حاصرها ومنعها من الانفجار العلنى. ولكن الانفجار العلنى يتيح فرصة معاملة الأزمة بمنطق التحرر الممكن، وبمنطق التجديد بالاعتماد على الحركة الجماهيرية المتعاظمة، فهذه الأزمة تجبر الماركسيين على تغير أشياء فى علاقاتهم بالماركسية ونتيجة لذلك على تغير أشياء فى الماركسية. فهى ليست ميراثًا نقيًا تشوه بواسطة فرد اسمه ستالين أو بواسطة فترته التاريخية، ولكن العودة إلى ماركس ولينين وجرامشى التى انتشرت فى أعقاب الستالينية بصيغها وممارستها الجامدة جعلت الماركسيين كما يقول لويس التوسير يقرون بأن تقليدهم النظرى ليس نقيًا ( صافيًا صفاءً محضًا)، واختلفوا مع عبارة لينين المتسرعة القائلة بأن الماركسية كتله من الصلب وذهبوا إلى أنها تحوى صعوبات وثغرات وتناقضات لعبت دورها فى الأزمة. فكلاسيكيات الماركسية لم تقدم أى منها كلاً موحدًا منجزًا تمامًا بل هى سلسلة أعمال تضم عددًا من التحيليلات والمبادئ النظرية المتينة مختلطة بصعوبات وتناقضات وثغرات.
إن كلاسيكيى الماركسية بشر يبحثون ويكتشفون ويخطئون ويتحركون فى أرض مجهولة ويحتاجون إلى التصويب كحاجة كل بحث، ولا شئ يثير الاستغراب إذن فى حقيقة أن كتاباتهم تحمل علامات أفكار عصرهم وأنها تحوى صعوبات وتناقضات وثغرات وأنها فى حاجة إلى متابعة وتطوير وتصويب أوضحت الأزمة المتفجرة ضرورتها.
ومهما يكن من شئ فإن هناك أسئلة كثيرة حول الماركسية ليست قابلة للتجنب فمع تطور نمط الإنتاج الرأسمالى يحتاج إدخال مفاهيم جديدة إلى النظرية التى ألهمها ماركس.
ولكى يتم فهم العالم المعاصر من الضرورى عدم الاقتصار على بعض مفاهيم ماركس الأساسية، بل تجب إضافة مفاهيم جديدة (قدمها باحثون ماركسيون مثل إرنست مندل)، كما تجب إضافة مفاهيم جديدة عن اليومى والحضرى (المدينى) والزمان والمكان الاجتماعيين (عند هنرى لوفيفر). لكى يصير التفكير الماركسى شاملاً أى أن يتطور فى شكل يناسب وضع العالم المعاصر لكى يفهمه وهو يحوله.
ولا جدال، فى أن شيئًا أساسيًا من التفكير الماركسى قادر على البقاء. وفى المقدمة المنطق المتماسك للسلعة وبعد ذلك الفهم التحليلى النقدى لعلاقات التبعية والاستغلال والإذلال ليس فقط لطبقات معينة بل لشعوب بأكملها مثل شعوب آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية جعلت أصواتها مسموعة. فالماركسية أداة بحث واكتشاف تساعد فى فهم ما الذى يجرى فى عالمنا المعاصر وفى توجيهه وتحويله.