مشروع مهدي عامل في عصرٍ جديد
مفيد قطيش
2013 / 2 / 25 - 09:48
مقدمة
مرّت الذكرى الخامسة والعشرون لأغتيال مهدي عامل هذا العام في ظل مناخ فكري وأيديولوجي وسياسي مختلف عن الأعوام الماضية، التي كانت الى حد بعيد ،استكمالا وتكرارا رتيبا لتلك الوضعية المأزومة في العالم العربي التي منها خاطب مهدي عامل المستقبل. وقد وصل الأمر ببعض المنظرين والسياسيين الى الحديث عن موت السياسة والفكر والحضارة وعن خروج العرب من التاريخ. يمكن القول وبدون مبالغة أن نظرية كاملة في الأحباط تم انتاجها بدل البحث الجدي في تجاوز أزمة التحرر الوطني العربي، دعّمها انكفاء الجماهير واستتباعها من قبل الطبقات المسيطرة وانغلاق الأزمنة على بعضها، لولا ومضات مضيئة اشعلتها المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية والعراقية.
في هذه السنة وجهّت حركة الجماهير العربية المنتفضة،على محدودية النتائج، تحية خاصة الى مهدي عامل، إذ أكّدت- في تحرّكها- تفاؤله التاريخي وثقته بقدرة الشعوب على صنع تاريخها بأيديها، فأسقطت حكاماً ظالمين وأدخلت انظمة في مسار تفككها على أمل اعادة بناء بدائل عنها تستجيب لمصالح هذه الجماهير ووجهت ضربة لتكلّس البنى الفكرية الذي عطّل وعي وفعل قوى التغيير. باختصار انفجرت أزمة حركة التحرر الوطني العربية التي اجتهد مهدي في التنظير لها، أزمة القيادة البرجوازية وأزمة البديل الثوري. وحصلت هزة قوية ضعضعت البنى الفكرية والنظرية والممارسية لقوى التغيير "الرسمية" ما اعاد طرح كل المواضيع على بساط البحث للفحص وإعادة إنتاجها بما يتناسب والأوضاع المستجدة.
في هذه المناسبة يكتسب الأحتفاء بالتراث الفكري لمهدي عامل نكهة خاصة. اذ ليس هو من يعلن صوابية وراهنية الكثير مما انتجه وانما التاريخ يحكم بذلك. ومع ذلك يبقى تفحص مشروعه الفكري والنضالي مهمة ملحة في عملية من المراجعة لتحديد مستوى هذه الراهنية ولأضاءة سبل الرهننةالمطلوبة لبعض افكاره ارتباطا بالتغيرات الجارية في العالم والبلدان العربية، اذ انه من البديهي أن تطرح ارتباطا بمبدأ تغير الفكر مع تغير الواقع الذي يعكسه، خاصة أن مهدي ترك الكثير من الأسئلة المفتوحة بدون اجابات وقد حال استشهاده دون تمكنه من محاولة القيام بذلك.
نحن أمام فكرة جديرة بالإهتمام و ان تكن المهمة بالغة الصعوبة، هي ملحة و ضرورية لما فيها من استجابة لمناقشة مشروع مهدي عامل و تبديد لتجاهل و لطمس تعرض لهما، و التسلح به في هذه المرحلة المعقدة من تطور امتنا.
ان يكون الفكر و المشروع راهناً, يعني لمن اقرّ بصحته, استمرار المشاكل التي عالجها قائمة, و بالتالي, ما زالت الإجابات التي قدمها صحيحة الى هذا الحد أو ذاك. على ان راهنية هذا الفكر ليست بالضرورة ان تكون كاملة و بالتفاصيل.
من ناحيةٍ اخرى، يُدخل الشق الثاني من العنوان -التحديد الزمني- اي العصر الجديد، نوعاً من التشكيك في الاقرار بالراهنية و يدفع الباحث و المهتم الى مهمة نبيلة هي اتمام الرهننة اي ليس بمجرّد العودة لفكر مهدي عامل و مشروعه والتوقف عندهما و انما بالانطلاق منها، كما علّمنا مهدي ان ننطلق من الماركسية، من اجل تدقيق الاجابات و بحث الجديد في الواقع المتجدد.
و عليه، فإنّننا في هذه المساهمة سوف نوضح مفاصل من مشروع مهدي عامل التي اتيح له ان ينجزها، و ان نقارن هذا المشروع في الزمن الذي كُتب فيه مع الزمن الراهن. و مهدي شاعر التغني باختلاف الأزمنة.
بكلامٍ آخر، تقتضي الضرورة معاينة الموضوع الذي عاينه مهدي (المجتمع العربي) أي، القاعدة المادية للتطور و تلك المشاكل التي بحثها، وتلك العدة النظرية (المفاهيم) التي انتجتها من اجل هذه الغاية، و النتائج التي توصّل اليها و ادوات التغيير للمجتمع التي اقترحها، ارتباطا بالزمن الذي جرت فيه المخاطرة النظرية التي اشار اليها مهدي، بغية التأكد من مدى راهنية مشروعه و اماطة اللثام عما ينبغي القيام به على هذا الطريق في ضوء مستجدات العصر.
اما الكلام عن العصر فينبغي ان يُؤخذ على مستويَين: المستوى الواسع للكلمة، اي ما يعبر عن تشكيلة اقتصادية- اجتماعية، وهي في حالتنا (النظام الرأسمالي) و ما اضاف اليه مهدي من تدقيق باعتباره ان البشرية جمعاء، تعيش عصر الإنتقال من الرأسمالية الى الإشتراكية. أما المعنى الضيق لمفهوم العصر فيشمل الأوضاع العامة العالمية و العربية و اللّبنانية التي كتب خلالها مهدي و تلك نعيش في ظلّها اليوم.
ثلاثية مهدي عامل
لم يمارس مهدي عامل سياحة نظرية في ارجاء الماركسية، لم يتنقل بين المفاهيم و النظريات ليختار منها ما يعجبه، فيعود و يغادره عندما يعثر على ما هو انسب له. لقد حجّ مهدي الى الماركسية واقام معها علاقة حميمة دفعته الى توظيف كل ما يملك من قدرات في سبيل تطويرها و توطينها في بلادنا. اجتهد من اجل ان يجعلها جزءا من ثقافتنا الوطنية لا منتوجا مستوردا. ومن اجل ذلك بذل الجهد من اجل تمييزها اي من اجل اعادة انتاج مفاهيمها و قوانينها ارتباطا بالواقع اللبناني والعربي عبر ادخالها في مواجهة مع مشاكلنا التي كان عليه و عليها أن ينتجا ألأجوبة والحلول لها من اجل اغنائها أو من اجل ما كان يردده باءستمرار، من اجل اغناء و تأكيد كونيتها. فكانت كونية الماركسية و تمييزها بوصلة مهدي في صياغة مشروعه.
وعلى هدى ماركس و أتباعه المبدعين تسلّح مهدي بالفهم المادي للتاريخ لأنه الفهم الذي يسمح بقراءة الواقع قراءة تسمح بتغييره وقام بتطبيقه على واقعنا، لأن مهدي الفيلسوف ما كان يسعى للتفسير الا كرمى عين التغيير وهو المحتفي بالموضوعة الحادية عشر من الموضوعات الماركسية عن فيورباخ :"كل الفلاسفة حتى الآن, قاموا بهذا الشكل او ذاك، بتفسير العالم، و المطلوب تغييره".
و إنطلاقا من هذه الرؤية اراد مهدي أن يقرأ واقعنا قراءة مادية تسمح بتغييره لأن النظرية الماركسية ليست جاهزة لقراءة كل الوقائع بنفس الأدوات و المفاهيم و ليس بنفس المضمون للأدوات و المفاهيم، وإستنادا إلى إكتشاف ماركسي آخر يقول بالتطور المتفاوت للمجتمعات وللبنى الإجتماعية. هذا التفاوت في التطور يملي ضرورة تمييز المفاهيم و الأدوات المعرفية من أجل إنتاج معرفة صحيحة عن الواقع، تشكّل اداة فاعلة من اجل القيام بتغييره. في هذا السياق اندرج المشروع الفكري النضالي لمهدي عامل.
و مهدي الماركسي المبدع، الحامل لفلسفة التحرير و التغيير، للماركسية - اداة تحرير البشرية -سعى من اجل صياغة مشروع تحرري لبلادنا العربية يستند الى الفهم المادي لواقع هذه البلدان المتميزة في تطورها عن البلدان الرأسمالية الأمبريالية، ولذا فإن عنوان مشروعه كان حركة التحرر الوطني العربية، و اثر الفكر الإشتراكي في هذه الحركة، بإعتبار التحرر الوطني الصيغة الماركسية في بلداننا للإنتقال الى الاشتراكية . وقد صاغ مهدي مشروعه في ثلاثيته الرائعة: في "التناقض"، في "نمط الإنتاج الكولونيالي" و "في تمرحل التاريخ" الذي لم يتح له انجازه.
كان مهدي يعي بحدسه وثقافته ومعارفه ان مجتمعنا مختلف ببنيته عن المجتمعات الراسمالية الغربية باختلاف منطق تطوره عن منطق تطورها. ولذا كان يعرف أن افق تطوره و تغييره و آليات هذا التغيير مختلفة ايضا. فإنطلق في ابحاثه من منطق التناقض والأختلاف كما يقول في "تمرحل التاريخ" و ليس من التماثل بين هذه المجتمعات: فاذا كان الامر كذلك كان لا بد من ابراز هذا الفارق في البنية، و من ابراز الفارق في آليات و اشكال التغيير الاشتراكي، و ابراز الفوارق في القوة الاجتماعية - السياسية حاملة هذا التغيير.
كان هدف مهدي توضيح كيفية تحقق عملية التغيير، و هو ما املى عليه توضيح الفروقات في البنية الإجتماعية التي هي موضوع التغيير، و ان يوضح كيف تتم عملية التغيير هذه. و قد جاءت اجاباته المكتملة و غير المكتملة في ثلاثيته الرائعة التي اعتبرَها عملاً موحداً، لها موضوع واحد هو حركة التحرر الوطني، اتخذت شكل المقدمات النظرية العامة التي تحضّر لإنتاج معرفة في الواقع.
تضمن الجزء الأول "في التناقض" بحثا نظريا هو عبارة عن المفاهيم الأساسية - ادوات انتاج المعرفة - التي تسمح بتناول الموضوع بشكل علمي، اي ماركسي، من اجل انتاج المعرفة، بما هي اعادة انتاج للماركسية في بيئة اخرى, هي بدورها عملية تمييز لها. و نصادف هنا، علاقة الفكر بالواقع و العكس، وازمنة البنية الإجتماعية، والممارسات المختلفة للصراع الطبقي والحركة المحورية للصراع الطبقي وآليات الصراع، وأزمة الطبقة المسيطرة واشكال ترابط المستويات البنيوية في البنية الإجتماعية والتمييز والكونية في الماركسية و الحزب.
وتضمّن الجزء الثاني "في نمط الإنتاج الكولونيالي" دراسة للموضوع الذي يعتبر مسرح انتاج الكتابات الماركسية وتفسير الواقع المادي بشكل علمي اي وطني في سياق انتاج المفاهيم التي تشرح هذا الوجود، من اجل تغييره و تحديد صيغته النظرية "نمط الإنتاج الكولونيالي" كشكل تاريخي تبعي للنمط الرأسمالي.
و قدم مهدي الجزء الثالث دليلاً نظرياً يربط بين المستويين النظري و العملي، اي بين - الممارسة النظرية والممارسة السياسية- هو "في تمرحل التاريخ" الذي لم يتسنّ له انجازه. بهذا المعنى، تشكل الأجزاء الثلاثة مشروعاً موحداً بموضوعه و منهجه و أهدافه: دراسة شروط حركة التحرّر الوطني العربية.
وزاد من حماس مهدي في القيام بهذه المهمة العجز الذي كانت تعانيه الماركسية العربية آنذاك. كل هذا تطلب دراسة الواقع كما هو. لتبيان العلاقات كما هي، و الطبقات وآليات الصراع في بلادنا، ليتبيّن شكل الثورة الإشتراكية فيها، فكان ان خاض ما اسماه المغامرة النظرية.
مهدي ومفهوم عصر الانتقال
كتب مهدي مشروعه في زمن كان يسميه عصر الانتقال من الراسمالية الى الاشتراكية. ولا ترتبط هذه التسمية بما كان يروّج عنه من انقسام العالم لمعسكرين الراسمالي والاشتراكي فقط، بل وارتباطا بالازمة العامة التي يعيشها النظام الراسمالي، حيث شكل وجود النظام الاشتراكي والتجربة الاشتراكية، التي سند ظهره لوجودها، احد تعبيراتها. والازمة هذه قائمة على الرغم من انحسار الرقعة التي استقرت فيها التجربة الإشتراكية حاليا، في تعمق أزمات هذا النظام، ولجوئه إلى خلايا وأدوات غريبة عن بنيته العضوية، التي بدونها يستحيل عليه الاستمرار، ولجوئه لتطوير قطاعات مشوَّهة ومشوِّهة للتطور وما يرافق ذلك من تعفن وطفيلية وتحويل اسغلال قوة العمل إلى استغلال الانسان كنوع. الى ذلك كان العالم و الرأسمالي خاصةً يعيش الطور الصاعد في اطار دورة كوندراتيف الخامسة وشاع الجيل التكنولوجي الخامس في العالم مما ادخل دينامية جديدة على التطور وافضى الى نوع من النمو الطويل الخداع في الأقتصاد الرأسمالي العالمي.
كتب مهدي في زمن كان العالم مازال منقسما والصراع محتدما وكانت الحركة الشيوعية العالمية تشهد دينامية معينة. أما في العالم العربي فكان الوضع مختلفاً لجهة الضعف والهامشية التي عاشتها الحركة الشيوعية العربية، ودخلت حركة التحرر العربية في ازمة نظّر لها مهدي ولأسبابها ولآفاق الخروج منها- ازمة القيادة وازمة البديل الثوري، فخاطب مهدي المستقبل العربي من واقع مأزوم.
وشكّل لبنان نوعا من الأستثناء فقد كانت الأمور أفضل حالاً، إذ تمكن الحزب الشيوعي اللبناني ان يخرج من الأزمة في مؤتمره الثاني وفي تشكيله الحركة الوطنية وفي اطلاق جبهة المقاومة الوطنية لاحقاً وهو ما جعل مهدي أكثر تفاؤلا اذ اطلق عبارته الشهيرة: "انت لست مهزوما ما دمت تقاوم".
"في نمط الانتاج الكولونيالي"
أبرز مهدي عامل مواصفات هذا النمط الرأسمالي المتميز في بلادنا: ولادته، طبقاته، صراعاته، تناقضاته وانسداد افق تحوله الى نمط رأسمالي نموذجي. وكانت النقطة المحورية في هذا كله: العلاقة الكولونيالية.
1. لم ينشأ هذا النمط بولادة طبيعية من رحم النمط الإقطاعي، بل انه نتاج العنف الاستعماري الذي هدم العلاقات السابقة وانتج علاقات الإنتاج الكولونيالية، أي أنتج رأسمالية تبعيّة، وعطّل التطورالطبيعي الداخلي الموضوعي، فتعايش النمط الرأسمالي التبعي الجديد مع الأنماط السابقة عليه، أي خلافاً لما جرى في بلدان الرأسمالية الكلاسيكيّة حيث ولدت الرأسمالية بعنف ثوري قامت به البرجوازية، بينما ولدت هنا بعنف استعماري.
2. هذا الإختلاف في الولادة أدى إلى اختلاف في مواقع الطبقات وأدوارها. فإذا كانت البرجوازية الأوروبية قد ولدت من الطبقة الوسطى وقطعت مع الإقطاع في كل المجالات فإن الاستعمار وأد الطبقة الوسطى في بلادنا وأنتج طبقة كولونياليّة تكيفت مع الإقطاع، بل هي ولدت في الأساس كعملية تحول وتكيف لعناصر اقطاعيّة.
3. يولي مهدي اهتماماً كبيراً للفوارق بين الطبقة الوسطى في الغرب وفي البنية الكولونيالية.
فالطبقة الوسطى في الرأسمالية الكلاسيكية طبقة ثورية كانت واقعة بين الإقطاع والفلاحين وحاملة لنمط انتاج جديد ولذا قطعت مع الاقطاعات وصفّت العلاقات الإقطاعيّة.أما في البنية الكولونيالية فلم تكن هناك طبقة وسطى، كان هناك نواة جرى وأدها. بل ولدت برجوازية كولونيالية من نوع متميّز هي إعادة انتاج لعناصر الطبقة المسيطرة من إقطاعيين، تتجدد بتجدد علاقات التبعية للبرجوازية الامبريالية. وهنا الفرق الرئيسي بين البرجوازية الامبريالية والكولونيالية، إذ ان تبعية الثانية للأولى شرط لتجددها.
4. أوضح مهدي ميزة مهمة للبنية الإجتماعية الكولونيالية هي ضعف التفارق الطبقي أو اللاتفارق الطبقي، ليس لجهة صعوبة التمييز بين ما هو برجوازي وغير برجوازي، وانما تفارق الطبقة العاملة عن الفئات البرجوازية الصغيرة والفئات الكادحة الأخرى، بسبب ضعف البرجوازية على تصفية علاقات ما قبل الرأسمالية، حيث أنتجت طبقة عاملة ضعيفة.وهو أمر سيترك تأثيره على الممارسة السياسية للطبقة العاملة وحزبها لجهة الدور الكبير للتحالفات في هذه الممارسة.
ومع ذلك تتميّز وظيفة هذه الطبقة العاملة عن وظيفة الطبقة العاملة في اوروبا. فإذا كانت مهمة الأخيرة انجاز الإنتقال إلى الأشتراكية مباشرةً فإن الطبقة العاملة في بلادنا مدعوة، حسب مهدي، لتحقيق ثلاث ثورات في ثورة واحدة:
أ- ثورة ديمقراطية تحقق ما عجزت عنه البرجوازية في تصفية علاقات ما قبل الرأسمالية.
ب- ثورة وطنية أي انجاز قطع علاقة التبعية.
ت- الانتقال إلى الإشتراكيّة.
5. حدد مهدي الميل العام لهذا النمط المتمثل في العجز عن تصفية علاقات ما قبل الراسمالية والتعايش معها، وكذلك في التوسع المكبوح للإنتاج عكس التوسع الموسّع للإنتاج في الإقتصاد الرأسمالي وهو ما يحيل إلى القضية الرئيسية في مشروع مهدي أي إلى التبعية التي تسم كل مفاصل هذا النمط: الانتاج، التوزيع، التبادل، الطبقات.
6. مفهوم التبعيّة: التبعية عند مهدي علاقة وظيفية بين بنية وأخرى: علاقة بنيوية. بنية تابعة لبنية أخرى تتحدد بها هي بنية علاقات انتاج كولونيالية تابعة لبنية علاقات انتاج رأسمالية امبريالية. من هذه العلاقة البنيوية تشتق علاقة تبعية طبقية وليس العكس. وهذا يعني، حسب مهدي، أن المضمون الطبقي لأي سلطة سياسية في نمط الانتاج الكولونيالي لا تتحدد بطبيعة السلطة (كولونيالية أو برجوازية صغيرة) بل بالبنية الإجتماعية الكولونيالية التي تجعل كل طبقة تصل إلى السلطة ولا تغير العلاقات البرجوازية الكولونيالية.
و إذا برزت التبيعية للعين المجرّدة على شكل تخصّص معين في الإنتاج الزراعي أو الإستخراجي أو التجاري أو الخدماتي في ظل غياب الحلقة الصناعية، فإن هذا الأمر ليس هو ما يحدد التبعية. ذلك أن حضور الحلقة الصناعية و بقوة لا يغير من طبيعة التبعية و إنما من شكلها فقط. فالتغيرات في التقسيم الدولي للعمل لا تغير طبيعة التبعية بل تعمقها. فالنشاطات على اختلاف انواعها مرتبطة بالسوق الخارجية و حاجاتها تتطور معها و تتأزم معها. و قد دخلت الحلقة الصناعية لبنان، مثلاً، في وقت متأخر من تكوّن البنية الكولونيالية، واليوم دخل لبنان في تبعية مالية.
فإذا كان التقسيم الدولي للعمل قد أفرد للبلدان الإمبريالية القيام بالإنتاج الصناعي، و خاصّةً الثقيل منه، و للبلدان التابعة انتاج الخامات و تصديرها، فقد تغير كثيراً هذا التقسيم اليوم بتصدير الإنتاج المادي كله تقريباً الى البلدان التابعة و الإحتفاظ بالإنتاج العالي التقنية والإنتاج التكنولوجي. إن هذا التغيير في تقسيم العمل لا يغيّر في طبيعة العلاقة الكولونيالية حيث الجانب المسيطر فيها هو الإمبريالية والجانب الخاضع هو البلدان التابعة، بل إنّ تغييره يبقى يسير بإتجاه تعميق و تثبيت هذه التبعية وهذه العلاقة الكولونيالية كما يثبت اليوم التقسيم التكنولوجي الدولي للعمل عبر الهرم التكنولوجي.
و أخيراً تتعين التبعية ليس فقط في بنية الإنتاج بل وبنسبة تحققه و تجدّده وبكمية ونوعية المنتوج امكانية التصريف، بالقدرة أو بعدم القدرة على التجديد الذاتي الموسّع للإنتاج.
7. الإستبدال الطبقي: من هذا الفهم للتبعية البنيوية والتبعية الطبقية كشف مهدي مفهوم الإستبدال الطبقي أي ارتقاء وانتقال فئات برجوازية جديدة (هي في الأساس صغيرة ومتوسطة) لتحل محل البرجوازية الكولونيالية تحت شعار انجاز ما عجزت عن تحقيقه الأخيرة، دون ان تغيّر شيئاً في علاقات الإنتاج الكولونيالية، فتتحول بدورها الى ىبرجوازية كولونيالية متجددة، تنفصل بالتدريج فئتها العليا التي وصلت الى السلطة عن جماهير تلك الطبقة. بهذا المعنى يقول مهدي ان لا وجود لشيء اسمه برجوازية وطنية في بلادنا حيث رفض هذا المفهوم جملةً و تفصيلاً.
و في هذا السياق، يُدخل مهدي مفهومين ضرورين هما السيطرة الطبقية والهيمنة الطبقية، حيث السيطرة تعبر عن وصول فئات لا تحمل بديلاً اجتماعياً الى السلطة وتسيطر، امّا الهيمنة فهي ميزة الطبقة الحاملة لنمط انتاج اجتماعي. وتتحول البرجوازية الكولونيالية المتجدّدة الى مهيمنة على خلفية احتلالها هذا الموقع.
انّ البرجوازية الصغيرة تتعرض الى هذا التحول ليست بطبيعتها وانما بفعّل السلطة السياسية التي تنتزعها، حيث يتحول الأستبداد الى وسيلة دائمة في ممارسة هذه الطبقة، وهو ما شهدت عليه ممارسة الأنظمة العربية التي تبدى لنا جانب تقدمي في ممارستها في لحظة تاريخية قصيرة. ويمكن لهذه العملية من الأستبدال الطبقي ان تتكرر الى ان تنوجد قوة اجتماعية قادرة على ايقاف هذا المسلسل من الإبعاد و الإستبدلال. لا بدّ من قوة اجتماعية تقوم بقطع التبعية وتغيير بنية علاقات الإنتاج.
8. هذا هو نمط الإنتاج، وهذه مواصفاته، وهذه الطبقات التي تولدت عنه. إنّها رأسمالية مكبوحة التطور، و لذا ينجم عنها تأخر مازالت امّتنا تعاني منه. وقد انتج هذا النمط بنيته الفوقية السياسية و الأيديولوجية، هي انظمة سياسية و احزابها البرجوازية التبعية، ثم هي أحزاب الطبقة العاملة و أحزاب البرجوازية الصغيرة و الفئات الوسطى.
و نتج عن هذا النمط من الإنتاج صراع طبقي من نوع خاص هو صراع وطني تمارسه الطبقة العاملة والفئات الكادحة ضد البرجوازية الإمبريالية وضد البرجوازية الكولونيالية المحلية، في صيغة تحرّر وطني هو الشكل الملموس في بلادنا لتجاوز الرأسمالية والإنتقال الى الإشتراكية، عبر قطع التبعية وبناءالقاعدة المادية للتطور الإقتصادي- الإجتماعي المستقل.
ووفقاً لمنطق مشروع مهدي، كان عليه ان ينجز نظريته في آلية الإنتقال واشكاله واساليبه والأدوات الضرورية لهذا الإنتقال في الجزء الثالث أي "في تمرحل التاريخ". غير أنّ اندلاع الحرب الأهلية و استشهاده حالا دون أن ينجز هذه المهمة بالصيغة النظرية. و مع ذلك نجد في هذا الجزء المنجز كثيراً مما أراد مهدي قوله في هذا الموضوع: تمرحل التاريخ وتمرحل الصراع الطبقي وتمرحل التحالفات، وهو ما فصّل فيه في "أسباب الحرب الأهلية" في الملحق الأخير بعنوان "حركة التحرر الوطني- الأزمة والبديل".
"في تمرحل التاريخ"
وضع مهدي في هذا القسم غير المكتمل بداية نظرية الإنتقال في شروط نمط الإنتاج الكولونيالي، هي الصياغة النظرية المفترضة لمراحل الثورة الإشتراكية، نظرية في المُمارسة السياسية الثورية. وهذا استنتاج منطقي من تسلسل الثلاثية التي وضع في جزئها الأول الجهاز المفهومي الأساسي ثمّ طبّق في الجزء الثاني على الموضوع الذي هو نمط الإنتاج الكولونيالي منتقلاً الى النتيجة المنطقية اي التحويل الثوري لعلاقات الإنتاج الكولونيالية.
يفيدنا مهدي أن التمرحل يعني انفصال المراحل عن بعضها نسبيّاً، و الإنتقال يعني أن كل مرحلة ثورية هي مقدّمة للدخول الى مرحلة لاحقة، ولذا يقف مهدي أمام مرحلة خاصة من التطوّر الإجتماعي في نمط إنتاج كولونيالي، هي مرحلة النّضال الوطني لقطع العلاقة الكولونيالية وهي مرحلة لم تعرفها الرأسمالية الكلاسيكية. وتنبع ضرورة تحديد هذه المرحلة من ضرورة تحديد العوائق الداخليّة والخارجية التي تعرقل التطور والأنتقال من نمط الأنتاج الكولونيالي الى ما بعده. بهذا المعنى يمكن اعتبارها دراسة للصعوبات والعراقيل امام التحويل الثوري للبني الأجتماعية منتقدا التحليل البنيوي الذي يتجاهل دور الصراع الطبقي في عملية الأنتقال والتحويل هذه.
في هذا الجزء من المشروع أضاف مهدي مساهمة رائعة في تطوير النظرية الماركسية في الصراع الطبقي. فاذا كان الماركسيون يعرفون جيدا عبارة "الصراع الطبقي هو محرك التاريخ" فإن مضمون هذه العبارة ليس واضحا للجميع اذ ان كثيرين منهم اقتصر الفهم على ما تولده الثورة الأجتماعية من ظروف جديدة بعد اسقاط السلطة السياسية للطبقة المسيطرة السابقة، بما يحرر تطور القوى المنتجة من تلك القيود التي كانت تكبح تطورها اي من علاقات الأنتاج السابقة. لكن النقد المستفيض الذي قام به مهدي للبنيوية في تفسير عملية الأنتقال من نمط انتاج الى آخر ومن مرحلة الى أخرى داخل نمط الأنتاج جاء تطويرا لنظرية الصراع الطبقي، عندما أشار الى أن العامل الرئيسي في عملية الأنتقال من نمط الى آخر ومن مرحلة الى أخرى وما يترافق مع ذلك من تطوير للقوى المنتجة هو الصراع الطبقي.
فبالصراع الطبقي تحمي الطبقة المسيطرة نظامها وعلاقات الأنتاج والملكية وتؤمّن الظروف لأنتظام العملية الأنتاجية ولعملية تجديد الأنتاج الموسعة. وبه تتطوّر القوى المنتجة والأنتاج تحت ضغط المنافسة من أجل كسبها (الصراع الطبقي داخل الطبقة المسيطرة بصدد اقتسام القيمة الزائدة) حيث يتم اخراج المشاريع الضعيفة من حلبة الصراع وحيازة بعضها عبر الأبتلاع او الأندماج. وبالصراع الطبقي تفرض الطبقة المسيطرة على الكادحين حصتهم من المنتوج بما يتيح لها اقتطاع الحصة الأعظم من أجل تطوير القوى المنتجة والتنكنولوجيا والأنتقال الى اسلوب انتاج جديد، مستخدمة في ذلك كل الوسائل الرجعية الأجتماعية والسياسية. وبالصراع الطبقي تكسر الطبقة المهيمنة النقيض سيطرة الطبقة المسيطرة بفرض تنازلات عليها في زمان سيطرتها وتكسر هذه السيطرة بالثورة الأجتماعية من أجل تحرير القوى المنتجة من قيود علاقات الأنتاج السابقة. والصراع الطبقي قانون في التشكيلات الأجتماعية القائمة على استغلال الأنسان للأنسان لا يظهر الاّ للعين التي تنظر للمجتمع بمنطق التناقض والأختلاف ولا يفهمه الاّ فكر متسلح بالديالكتيك المادي. وأوضح مهدي أن التناقض الرئيسي أي التناقض السياسي هو الذي يرسم هذه الصراع ومراحله. اذ به يتمرحل الصراع والتحالفات أي بتغير طرفيه.
من هنا كانت دعوة مهدي الى الضرورة، في دراسة الظواهر الأجتماعية، في ردها الى شروطها المادية : الى نمط الأنتاج (الى علاقات الأنتاج بعلاقتها بالقوى المنتجة) والى التناقض الأساسي الذي يرسم عبر جزئه الأول (علاقات الأنتاج- البنية الطبقية- الطبقات وصراعاتها وتناقضها الرئيسي الذي لا يعمل منفلتا من التناقض الأساسي) مستخلصا من ذلك علاقة التحدد أو التحديد التي يقوم بها التناقض الأساسي وعلاقة السيطرة التي يمارسها التناقض الرئيسي.
في ضوء هذا الفهم عيّن مهدي في الملحق الذي ذكرناه لكتاب "اسباب الحرب الأهلية" الواقع اللبناني والعربي خاصة برّده الى نمط الأنتاج الكولونيالي والى المرحلة التي يمر بها والى شكل التحالفات الضروري والمفترضة في هذه المرحلة من أجل انجاز عملية الأنتقال من الرأسمالية التبعية الى الأشتراكية.
وحاول مهدي إستخدام منهجية ماركس في عملية الأنتقال من نمط انتاج الى آخر فصاغ نظرية أزمنة البنية الإجتماعية الثلاثة: زمن التكون (في رحم النظام القديم)، زمن التطور (أي تكرار إنتاج علاقات الإنتاج) وزمن القطع أو التحول. وعلمنا مهدي أن القيام بالتغيير في البنية الاجتماعية يفرض علينا معرفة بنيتها الزمنية أي معرفة التاريخ الاجتماعي للبنية في زمانها حتى تنجح السياسة الثورية .ففي زمن القطع كما في زمن التكوّن يكون العامل السياسي مسيطرا ويكون على الممارسة السياسية أن تكون منسجمة مع طبيعة المرحلة. وهذا هو الأساس الذي يفترضه مهدي لتمرحل الصراع السياسي وتاليا لتمرحل التحالفات.
لقد حاول مهدي في هذا الجزء من مشروعه تزويد الحركة الثورية العربية بأدوات نضالية في ممارسة الصراع الطبقي- السياسي، ورفض تلك الأشكال والتفسيرات التي ربطت تمرحل بلداننا بالشكل الكلاسيكي الذي يجعل مسار التاريخ محطات لقطار يقطعها بالتسلسل ، ويجعل الطبقة العاملة تنتظر البرجوازية كي تنجز"تحرير الرأسمالية من طابعها الكولونيالي" كي تبدأ هي عملية التحويل الأشتراكي.
التحرر الوطني وأزمة حركة التحرر الوطني العربية
بهذه المنهجية قارب مهدي تطور البنية الاجتماعية في لبنان والبلدان العربية رافضاً التمرحل الذي يجزء عملية الإنتقال إلى مرحلتين:مرحلة تحرر وطني بما هي تحرير الرأسمالية من طابعها الكولونيالي وبناء رأسمالية وطنية تقودها بورجوازية وطنية، ومرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية التي تقودها الطبقة العاملة. وأكد أن أفق الخروج ومسار الخروج من هذه الرأسمالية الكولونيالي هو تحرر وطني تأخذه عملية الانتقال إلى الاشتراكية أو بكلام أخر تحرر وطني من هذه الرأسمالية الكولونيالية وليس تحريراً لها.
وحدد مضمون الصراع الطبقي الذي يؤدي إلى هذه الخاتمة السعيدة على أنه صراع وطني تقوده الطبقة العاملة في تحالف طبقي ضد البرجوازية الكولونيالية وضد البرجوازية الامبريالية، من أجل قطع علاقة التبعية .و لعملية التحرر من البورجوازية الامبريالية ومن البرجوازية الكولونيالية مضمون واحد هو تغيير علاقات الانتاج الكولونيالية واستبدالها بعلاقات إنتاج إشتراكية.
غير أن المسار التاريخي والصراع الطبقي الذي رافقه منذ تكون هذه التبعية وحتى اليوم رفع لأسباب موضوعية وذاتية البورجوازية الكولونيالية إلى سدة قيادة التحرر الوطني مما أدخل هذه العملية في أزمة هي أقرب إلى المأزق . فقيادة الحركة نتاج لهذه العلاقات ولا وجود لها وبقاء لها إلا بتجدد هذه العلاقات. من ناحية أخرى لا تحرر للبنية الاجتماعية ولا تصفية لعوائق التطور أمامها إلا بتغيير هذه العلاقات، وهو ما يضع البرجوازية في مأزق. فهي لأنها عاجزة وليست راغبة في التغيير تفقد شرعيتها في القيادة وتقوم بالخيانة الوطنية.
من جهة أخرى دخل البديل الثوري في أزمة ليست بالضرورة مأزقا، هي نتاج الممارسة السياسية للصراع الطبقي وليس نتاج الطبيعة الطبقية لهذا البديل.هذه الأزمة نجمت عن التناقض ألقائم في الخط السياسي الذي تنتهجه الطبقة العاملة وأحزابها الشيوعية في ممارستها الطبقية للصراع الوطني وبين طبيعة الحركة التحررية في تحددها كحركة تحويل ثوري لعلاقات الإنتاج الكولونيالية القائمة.
والأساس الطبقي والنظري لهذا الخط هو ألفصل في الصراع الوطني بين الجانب القومي والجانب الاجتماعي أو بين مهمات التحرر القومي ومهمات التحرر الاجتماعي، إن إقامة فصل زمني بين مرحلة التحرر القومي ومرحلة التحرر الاجتماعي تبدأ فيه الثانية بعد إنتهاء الاولى. بهذا المعنى جرى طمس من قبل البرجوازية الكولونيالية للجانب الاقتصادي -الاجتماعي - الطبقي بحجة تحقيق المهمات القومية قابله رد من الأحزاب الشيوعية بطمس جزئي للجانب القومي لصالح الاجتماعي. وهو ما ادى الى ما بات معروفا بالفصل بين جانبي الصراع الطبقي في البنية الكولونيالية في وقت بات تشابك المهمات القومية والأجتماعية في غاية الوضوح ويدحض فكرة التمرحل الخاطىء هذه وتشويه وعي الطبقة العاملة عبر تأجيل مشاركتها في الصراع الى أن تحين مرحلة الانتقال الى الاشتراكية.
بهذا المعنى تكمن أزمة البديل الثوري في أزمة خطه السياسي. ويكمن الخروج من الأزمة في تغيير هذا الخط ورسم خط يجمع التحرر القومي والتحرر الإجتماعي في عملية وحدة تمليها طبيعة التحرر الوطني من الرأسمالية الكولنيالية .
دورالحزب.
إن تشابك مهمات التحرر القومي والتحرر الإجتماعي الذي يشكل السبب الرئيس لازمة البرجوازية في قيادة التحرر الوطني كشف عن الضرورة الموضوعية في أن تكون القيادة في هذه الحركة للطبقة العاملة لأنها، حسب مشروع مهدي، الطبقة الأكثر ثورية بين كل الطبقات. غير أن مهدي كان يدرك جيداً الوضع الذي هي به الطبقة العاملة في بنية إجتماعية سمتها اللاتفارق الطبقي، وبالتالي فإن تكوينها ضعيف ناجم عن ضعف الرأسمالية والبرجوازية الكولونيالية. لذا ألقى مهدي هذه المهمة على عاتق حزب (أحزاب) الطبقة العاملة - الحزب الشيوعي- كأكثر الأحزاب ثورية في هذه البنية الإجتماعية، وألقى على عاتقه مهمات إنتاج المعرفة ومهمة القيادة في الصراع الطبقي وإنشاء الأطر النقابية والجماهيرية وإدخال الوعي إلى صفوف الطبقة العاملة كونه مسلحاً بمعرفة ماركسية - لينينية.
وإعتبر مهدي الحزب ضامناً لممارسة سليمة للطبقة العاملة وضامناً للحركة الثورية بإعتباره أداة ثورية في الصراع الطبقي ضد البرجوازية ودولتها، أداة لا يمكن أبداً أن تتحول إلى جهاز. وعدم تحوله إلى جهاز يعني بقائه في دينامية دائمة تنتج الفكر والمعرفة والممارسة والتنظيم، ويمنع عنه التكلس ويبقى التغيير فيه سمة أساسية. بهذه المواصفات، على الحزب الثوري أن يواجه أداة البرجوازية التي هي جهاز - منظومة أجهزة - أمنية سياسية خصوصية وظيفتها الدفاع عن النظام، لها طابع الثبات مما يجعلها تنكلس ويجعل الفساد لحظة دائمة فيها.
وما شجع مهدي على هذه الصياغة النظرية لوضعية الحزب هي الانجازات التاريخية التي حققها الحزب الشيوعي اللبناني منذ أواسط الستينات إذ إحتفى مهدي بالمؤتمر الثاني الذي شكل انعطافة تاريخية في تصحيح مواقف الحزب في السياسة والتنظيم، وبالمؤتمر الثالث الذي صاغ الشعار الرئيس المترجم لطبيعة المرحلة أي الحكم الوطني الدمقراطي، وشارك في المؤتمر الرابع في صياغة نظرية أزمة حركة التحرر الوطني وفي المؤتمر الخامس الذي انتخبه عضواً في اللجنة المركزية. لكن مهدي كان يدرك ايضا ان هذه المهمات ليست حصرية بالطبقة العاملة وانما تطال فئات اجتماعية أخرى لا بد من تأطيرها في عملية نضالية واحدة لتحقيق هذه المهمات.
التحالفات الطبقية
أدرك مهدي جيداً طبيعة المرحلة - التحرر الوطني- ومهماتها المتشابكة فما كان صعباً عليه أن يستخلص ضرورة التحالفات الطبقية من أجل إنجاز هذه المهمات محتفياً بالنقد الذاتي الذي مارسه المؤتمر الثاني بحق الخط الإنعزالي اليميني واليساري الذي مارسه الحزب والمواقف التي اتخذها من القوى السياسية والإجتماعية .
لا نبالغ بالقول أن مهدي منظّر التحالفات. والاّ لما كان لديه مبرر لكتابة "في تمرحل التاريخ". لأن الحديث عن مرحلة حديث عن مهماتها والمصالح والقوى الإجتماعية صاحبة المصلحة بتحقيقها. والتحالف كما قال مهدي إستناداً إلى لينين مفهوم مادي ينطلق في ممارسة التحالفات الطبقية من تحديد علمي دقيق لطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها البنية الإجتماعية، لأن طبيعة المرحلة هذه هي التي تحدد طبيعة تلك التحالفات. وينطلق أيضاً من واقع الأختلاف الطبقي بين القوى الأجتماعية المتحالفة وليس من واقع التماثل بينها ولا تماثل أصلاً بينها، سواء في انتمائها الطبقي أم في مصالحها الطبقية. ولو كان هذا التماثل قائماً لانتفت ضرورة التحالف نفسه. وحين تتحدد المرحلة التاريخية بكونها مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية فإن التحالف الطبقي بين القوى الإجتماعية التي لها مصلحة طبقية في تحقيق هذه الثورة أو قل في تحقيق هذه المرحلة المحددة من السيرورة الثورية العامة، لا يمكن أن يقتصر على العمال والفلاحين وحدهم ، دون غيرهم، من الفئات والطبقات الإجتماعية الأخرى،لأن اقتصاره على هؤلاء يعني أن المرحلة التاريخية هي مرحلة الإنتقال المباشر إلى الإشتراكية وتحققها، وفي هذا يتناقض مع التحديد السابق لهذه المرحلة.
ويبحث مهدي أسباب إقتصار التحالف على العمال والفلاحين في شعارات الحزب السابقة ويقرر أن مثل هذا التناقض في الممارسة السياسية يدل على ان الغموض يكتنف ليس فقط مفهوم الثورة الوطنية فحسب بل مفهوم المراحل في السيرورة الثورية هذه ومفهوم التحالفات الطبقية واختلافها باختلاف هذه المراحل ومفهوم علاقة التناقض ونوعه بين عناصر التحالف الطبقي، ومفهوم الدور الطبقي للطبقة العاملة في هذه السيرورة الثورية المتميزة من حيث هي سيرورة ثورة التحرر الوطني وفي مراحلها المختلفة في اطار تلك التحالفات الطبقية.
ويؤكد مهدي أن"سياسة التحالفات هي في ممارسة الطبقة العاملة أساسية لصيرورتها طبقة مهيمنة نقيض، وأن الشكل الذي تقوم فيه هذه التحالفات الطبقية يتحدد بالشكل الذي يتحرك فيه الصراع الطبقي في البنية الجتماعية، ويختلف، في هذا التحدد نفسه، باختلاف المرحلة التاريخية التي تمر بها هذه البنية الاجتماعية. ولأن الصراع الطبقي في البنية الاجتماعية الكولونيالية يتحرك بالضرورة في شكل صراع وطني فان علاقة التحالف الضروري بين الطبقة العاملة وحلفائها الطبقيين تأخذ في معركة التحرر الوطني، أي في معركة الصراع الطبقي ضد البرجوازية الكولونيالية، شكل الجبهة الوطنية. فغياب شعار هذه الجبهة يدل اذن ،في الممارسة السياسية للحزب ،على غياب الفهم البروليتاري الصحيح لحركة التحرر الوطني."
ويجتهد مهدي في تحديد الأسس التي يعتمدها الحزب في التحالف وأهمها:
- عدم محاولة فرض الهيمنة على الحلفاء، بعكس ما يحاولون هم القيام به..
- البحث عن كل ما يوحّد ونبذ كل ما يفرّق.
- عدم اعتبار ان الوصول لموقع الهيمنة الطبقية في التحالف يتم بقرار مبدئي وانما في حقل الصراع الطبقي واقناع الناس وبممارسة الطبقة والحزب وهذا يعني أن الطبقة العاملة وحزبها لا تكون في موقع الهيمنة لان موقعها الطبيعي كذلك.وان موقع الهيمنة هو نقطة وصول وليس نقطة انطلاق.
- على الحزب أن يعمل دوماَ للحفاظ على هذا التحالف الطبقي الضروري، وعلى تماسكه الداخلي، برغم الصعوبات وبرغم تردد الحلفاء وتذبذبهم، وبرغم رفضهم أحياناً التحالف مع حزب الطبقة الفاضلة وخوفهم منه. (هنا تكمن مرونته السياسية) ويعمل في الوقت ذاته للحفاظ على استقلالته (وهنا تكمن صلابتها الطبقية) لأن الإستقلال شرط لديمومة التحالف ولأن التحالف اطار لتحقق الاستقلال الطبقي.
ويؤكد مهدي أن "علاقة الاختلاف الطبقي بين الطبقة العاملة وحلفائها الطبقيين في مرحل تاريخية محددة (الثورة الوطنية الديمقراطية) هي الأساس المادي لعلاقة التحالف".
من موقع هذا الاختلاف تمارس الطبقة العاملة صراعها الطبقي لفرض التحالف على حلفائها ضد البرجوازية المسيطرة. فالاختلاف هو الذي يسمح للطبقة العاملة ان ترى مصالح الآخرين واخذها بعين الاعتبار لإقامة التحالف. وينتقد مهدي ممارسة الحزب السابقة ( وهذا ينطبق عليها اليوم) لأن الحزب كان (واليوم) يطلب من حلفائه او المرشحين للتحالف معه ان يسيروا في تحالفهم مع الطبقة العاملة وفق مصالحها الخاصة لا وفق مصالحهم.
ان سياسة التحالفات الطبقية تنطلق بالضرورة من تحديد العدو الطبقي الرئيسي في المرحلة المحددة. وبتحديد العدو الرئيسي يتحدد الحلفاء الطبقيون. في تحديد الحلفاء نحدد بينهم الأساسي والثانوي لأن بينهم تفاوت يعقد عملية الصراع الطبقي. ويميز مهدي بين فئات مختلفة من البرجوازية المسيطرة، حيث يتكلم عن الفئات العليا الرجعية والصغيرة والفئات المتوسطة وتلك التي ترتبط مصالحها الطبقية بتطور الانتاج المادي المحلي. فهناك الفئة المهيمنة (الطغمة المالية) يعني أن الطبقة المسيطرة ليست كتلة متجانسة بل فيها فئات مختلفة تخضع للفئة المهيمنة التي تحاول جعل مصالحها اساس السيطرة كما توجد بين هذه الفئات تناقضات ثانوية ينبغي استغلالها والحؤول دون تماسكها ومن الضروري عزل الفئة المهيمنة واقامة علاقات مع الفئات الاخرى.
"هذا هو الأساس المادي الذي يستند اليه الحزب الشيوعي اللبناني في ممارسة سياسة تحالفاته الطبقية بعد مؤتمره الثاني. فهو عكس حلفائه الطبقيين، لا يحاول فرض هيمنته عليهم، ولا يجعل من هذه الهيمنة شرطاً لتحالفهم معه. انه من موقع استقلال خطه السياسي البروليتاري ينطلق في البحث عن كل ما يوحّد، وفي نبذ كل ما يفرّق، لأن موقع الهيمنة الطبقية في اطار التحالف الطبقي لا يتحدد بقرار مبدئي، أو بإرادة ذاتية بمعزل عن علاقة القوى الطبقية المتحالفة في حقل الصراع الطبقي، بل هو يتحدد في هذا الحقل، بهذه العلاقة الممارسية نفسها. والعلاقة هذه ليست ثابتة بل تاريخية متحركة.."
هنا تظهر بالفعل ضرورة الحزب بالنسبة إلى الطبقة العاملة لأن الحزب هو الذي يقودها في ممارسات صراعاتها الطبقية لضرورة احتلالها موقع الهيمنة في تحالفاتها الطبقية. ولان موقع الهيمنة في هذه التحالفات هو نقطة وصول لا نقطة بداية من الصراع الطبقي، ولان منطق هذا الصراع هو - في البنية الاجتماعية الكولونيالية - منطق الضرورة في وصول الطبقة العاملة الى موقع الهيمنة الطبقية في تحالفها الطبقي... فان الحزب يعمل دوماً على الحفاظ على هذا التحالف الطبقي الضروري وعلى تماسكه الداخلي برغم الصعوبات وبرغم تردد الحلفاء وتذبذبهم وبرغم رفضهم احياناً التحالف مع حزب الطبقة العاملة وخوفهم منه.
العصر الجديد:
1)- نعاين منظومة مهدي الفكرية في زمن مختلف، الى هذا الحد او ذاك، اذا ما اخذناه بالمعنى الضيق للكلمة اذ انه مازال عصر سيطرة النطام الرأسمالي وعصر الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية الذي يعبر عنه بطموح الشعوب لتجاوز الرأسمالية الى نظام عادل وانساني وفي ما تبقى من تجارب اشتراكية في الصين وكوبا وفيتنام وكذلك في المقاومة التي تبديها امريكا اللاتينية وحركة الشعوب في البلدان الرأسمالية. لكن الراسمالية تمر بمرحلة جديدة هي العولمة.
2)- اتخذت العولمة ابعادا واسعة حتى منذ الوقت الذي كتب مهدي فيه مشروعه، لكنها اتسعت اكثر في الثلث الاخير للقرن العشرين ومازالت حتى اليوم مما غير في طبيعة العلاقات الدولية ومصائر الدول والشعوب عندما تحول العالم الى حقل موحد للنشاط البشري ولاستغلال الإنسان للإنسان واستغلال شعوب بحالها واللجؤ الى الحروب والاحتلال المباشر.
في هذا الزمن اكتسبت الرأسمالية بعض الخصائص الاضافية المتمثلة في تشكل نوع من البنية الفوقية -البنية المالية التي باتت تطبع التطور الرأسمالي بطابعها و خاصة لجهة تحولها الى مصدر رئيس لانفجار الأزمات الاقتصادية المالية عبر الية انتاج الفقاعات المختلفة كرد فعل على مفاعيل قانون ميل معدل الربح الى الانخفاض.
3)- الى ذلك تعيش الرأسمالية اليوم الطور الأنحداري من دورة كوندراتيق الخامسة وما يعنيه ذلك من استنفاذ الجيل التكنولوجي الخامس لطاقته على دفع التطور الاقتصادي والتحضير لانطلاق الجيل السادس النانوتكنولوجيا وغيرها وما يرافق هذا التطور من اهتزازات وصراعات دولية ومحلية وأقليمية ستشهدها البشرية منذ الان وحتى اواسط العشرينيات وهوما اسميه الخمسية الخطرة و العشرية المضطربة.
ويمتاز هذا العصر الجديد عالميا بانهيار التجربة الاشتراكية المحققة واتساع رقعة عمل علاقات الانتاج الرأسمالية ووصول بعض انساق تطورها الى حدوده التاريخية مما يعد باعادة تغيير موازين القوى في العالم لصالح الصين وبلدان البريكس عموما ودخول الاتحاد الاوروبي مرحلة من اعادة المراجعة لمسيرته ودخول النمط الامبريالي الرأسمالي في ازمة حقيقية
4)- يمتاز العصر بتغيرات جوهرية في تقسيم العمل دوليا اذ بات التقسيم التكنولوجي الدولي (الهرم التكنولوجي) محددا لواقع البلدان في البنية الرأسمالية العالمية حيث بات إنتاج المبادئ التكنولوجية عموما من اختصاص الثالوث الامبريالي وتخلى مقابل ذلك عن قطاعات الانتاج المادي لصالح البلدان التابعة الناشئة تاركا الدور التابع في مجال تأمين الخدمات ويد العمل والأموال لصالح المركز الامبريالي للدول التابعة المتأخرة في تطورها .وقد انعكس هذا الامر في طور العولمة في تعمق تبعيتها بالثالوث الامبريالي مما عقّد أكثر مسارات تطورها وعمّق مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية
5)- على المستوى العربي تمتاز المرحلة الراهنة بانفجار ازمة حركة التحرر الوطني العربية التي يمكننا القول ان مهدي قد كثف كل جهده النظري السابق لصياغة نظرية هذه الازمة -أزمة القيادة البرجوازية الكولونيالية وازمة البديل الثوري.
لقد انفجرت ازمة البرجوازية المسيطرة التي باتت عاجزة عن الاستمرار في الحكم بأساليب وطرق واهداف بالية على يد حراك شعبي ثوري شمل غالبية البلدان العربية ومازال مستمرا، وانفجرت ازمة البديل الثوري الذي عجز عن انتزاع المبادرة في قيادة الجماهير الكادحة في عملية التغيير.
6)- على الصعيد اللبناني امتاز عصرنا بفشل مشروع الحركة الوطنية وفقدان الجماهير التي أمكن فكها عن القيادات البرجوازية من جهة وبروز فئات اجتماعية سياسية مستظلة بالدين تطمح لحمل مجموعة من الاهداف والقضايا التي تهم الجماهير وانقسام المشهد السياسي بين معسكرين 8 و14 اذار. الى ذلك تراجع دور اليسار وخاصة الماركسي منه كثيرا وفقد مواقعه التي احتلتها الأجيال السابقة وضمر دور وفعالية الحزب الشيوعي في جميع المجالات. وإذا كانت البرجوازية قد نجحت في تشغيل اليات النظام السياسي لسيطرتها بصيغته الطائفية وعمقت الانتماء والوعي الطائفيين، الاّ ان هذا النظام وصل على ما يبدو إلى حدوده التاريخية إلى مأزقه التاريخي مما يجعله امام امتحان التاريخ - اما ان تغيره واما ترك البلد عرضة لمختلف الأنماط بما فيها التفكك والتعفن. لكن مصادفات تاريخية متعددة جعلت لبنان مختبرا للتصدي للهجمة الامبريالية ولافشال عدة حلقات منها خاصة تلك التي سعت لوضع اليد عليه مع اغتيال الحريري او حرب تموز التي يمكن اعتبارها معلما تاريخيا لم تتم دراسته كفاية حتى الأن.
في تفحص مشروع مهدي عامل
1)- نمط الأنتاج الكولونيالي
أ- بمعزل عن التسمية التي استخدمها مهدي لشكل النمط الرأسمالي التبعي في بلادنا تتأكد تلك السمات وآلية عمل وحركة القوى الأقتصادية في هذا النمط من اللاتفارق الطبقي إلى التبعية المطلقة .
ب- وقد ادت التعديلات على الرأسمالية الناجمة عن ازماتها وانتاج بنية مالية الى تعميق التبعية فباتت الاسواق المالية الية جديدة للاستغلال ولربط الاقتصاديات التابعة بآلية تجديد الانتاج الرأسمالي الامبريالي.
ج- إلى ذلك و بنفس الاتجاه يدفع التقسيم التكنولوجي الدولي للعمل الذي يبقي التكنولوجية المعاصرة احتكارا بيد خفنة من الشركات والدول الأمبريالية ويبقى للبلدان التابعة دور المختبر الذي تطبق فيه الأختراعات والنشاطات والحقل الذي تنتج فيه حاجات المليار الذهبي على الرغم من التغير في اشكال التبعية بنقل قطاعات الانتاج المادي الى البلدان التابعة.
د- وتم إحكام ربط عملية تجديد الانتاج في البلدان التابعة ان على مستوى تزويدها بالخامات او وسائل الانتاج والتكنولوجيا أو تصريف المنتوج او الحصول على التمويل وإحكام ربط هذه العملية بتجديد الانتاج للحياة المادية في البلدان الامبريالية.
هـ- تعمّق وتوسع استغلال المراكز الأمبريالية للبلدان التابعة عبر اليات التبعية هذه مما يجعل كل نشاط البلدان التابعة موظفا لخدمة عملية التراكم في البلدان الأمبريالية ولعملية الاستقطاب عبر قانون القيمة المعولمة .
و- إن ولادة الجيل التكنولوجي السادس, وفي ظروف عدم استيعاب البلدان النامية لمنتوجات الجيل الخامس (الألكترونيات الجزئية، الأتصالات، الكومبيوتر) يفضي إلى تهميش متزايد والى زيادة الهوة بين بنى العالم الرأسمالي.
ز- تستمر البنية الأجتماعية الطبقية على شكلها السابق مع زيادة في تهميش فئات واسعة لم تجد مكانا لها في المجتمع، وتنكشف اكثر علاقة البرجوازية الكولونيالية بالأستعمار وتتسع دائرة الفئات الوسطى وخاصة تلك المرتبطة بالأعمال الحرة والانماط التكنولوجية الجديدة.
مازالت الحاجة إلى دراسة مفصلة لآليات عمل قوانين هذا الأقتصاد التبعي قائمة من اجل فهم افضل لتناقضاته.
2) - أزمة حركة التحرر:
ما جرى ويجري في البلدان العربية من انتفاضات هو انفجار لأزمة حركة التحرر الوطني العربية: ازمة البرجوازية الكولونيالية و ازمة البديل الثوري:
أ-لم تعد البرجوازية الكولونيالية البالية و لا أنظمتها القائمة على الإستبداد و الفساد والقهر، قادرة على الإستمرار في اعتماد الأسلوب الذي تمارسه في قمع الجماهير من أجل تأمين تجديد انتاج علاقات الإنتاج الكولونيالية.ففاجأت الجماهير الشعبية هذه البرجوازية بتفجير غضبها ضدها في سلسلة من الأنتفاضات الشعبية.
و المؤسف أنّ الإمبريالية الأميركية نفسها وليس القوى الثورية اكتشفت هذا الأمر في مطلع القرن الحالي و لذلك أعدت مشروع الشرق الأوسط الجديد لتجديد هذه الأنظمة و استبدال طواقمها السياسية، غير أنها جوبهت بمقاومة من هذه الأنظمة و أصحابها. كما جوبهت بمقاومة ديموقراطية ليست هي من أوقفت الإمبريالية عن الإستمرار في مشروعها.
ب -انفجار ازمة البديل الثوري اي احزاب الطبقة العاملة و خاصة الشيوعية التي بقيت عاجزة عن تقديم بدائل في البرامج و الممارسة و العلاقة مع الجماهير. و قد فوتّت فرصة عندما جرى احتلال العراق لتأخذ المبادرة وتطلق حركة تحرّر جديدة فكان انتفاض الجماهير اعلانا بتجاوز هذه الأحزاب والبحث عن اشكال تعبير تتجاوز النظريات المتجمدة في الكتب.
ج -ان انفجار المبادرة الشعبية بدون برنامج و بدون قيادة شكّل من جهة شكلاً لحل أزمة البديل الثوري عبر ولادة تنظمات يسارية جديدة في البلدان العربية، عليها ان تتحالف مع الأحزاب الشيوعيّة الكلاسيكيّة التي استخلصت الدروس و العبر مما حدث و يحدث من اجل بناء حركة تحرّر وطني عربيّة جديدة.
د- هذا الإنفجار، و بهذه المواصفات، نجم عنه ضعف في مناعة الحركة الشعبية استغلّته القوى الإمبريالية للتدخّل في شؤون هذه البلدان لوضع اليد عليها و منع انجاز تحولات حقيقية والتحريض على الثورة المضادة. وقد اختلفت اساليب هذا التدخل من بلدٍ لآخر، و هذا مصدر اضافي