تأملات / -وهم- الانسحاب وحقيقة الاضطراب !
رضا الظاهر
2011 / 10 / 31 - 19:04
تأملات
"وهم" الانسحاب وحقيقة الاضطراب !
أمامنا لوحة معقدة، وبمعنى ما ملتبسة، ونحن نواجه قضية انسحاب القوات الأميركية من بلادنا التي تعاني من أزمة عميقة ناجمة عن عواقب الاحتلال وما ابتكره من منهجية محاصصات طائفية وإثنية نشهد تجلياتها في مناخ صراع سياسي محتدم، ومعارك متنفذين على المغانم، وغياب لدولة المؤسسات، والدور الرقابي الفاعل للبرلمان، وانشغال سياسيين متنفذين بابتكار المزيد من أنسب سبل النهب وأساليب الحفاظ على امتيازات السلطة والنفوذ والمال.
وفي ظل العقل السياسي السائد في بلادنا نشهد، من بين أمور أخرى، تلك الازدواجبة التي تسم سلوك السياسيين، وتناقض القول والفعل، وضيق الأفق ومحدودية نمط التفكير، واللجوء الى "التسييس"، وتفاقم نزعة الاستحواذ والسعي الى إقصاء "الآخر" وتهميشه، بينما تتعاظم اللاأبالية بمصائر البلاد ومعاناة أهلها المريرة.
ومن الطبيعي أن تبرز، في ظل الأزمة المستعصية الراهنة، والتدهور الأمني والفوضى الشاملة، وسائر المظاهر السلبية الأخرى على مختلف الصعد، مشاعر الخوف من عواقب الانسحاب الأميركي من بلاد دولتها مشلولة، ويعجز حكامها عن تقديم ضمانات جدية لحماية حياة وحقوق ومكتسبات مواطنيها، والوقوف بوجه قوى الارهاب والحاق هزيمة بها وبمن يقدمون لها الدعم من قوى اقليمية يهددها أفق نجاح العملية السياسية في بلادنا.
وليس من المبالغة في شيء القول إن سلوك القوى المتنفذة واشتداد صراعاتها في ظل عواقب الاحتلال وأزمة المجتمع، وتوتر العلاقات بين القوى السياسية، وانتهاك الدستور، واللامبالاة بمعاناة الملايين ومصائر الوطن ووجهة تطور البلاد ومستقبلها، إن هذا مبعث قلق عميق، ويكشف عجز الحكام، أسرى منهجية المحاصصات والصراع المقيت على الامتيازات والمصالح الضيقة، عن مواجهة الواقع الجديد وحماية مصائر البلاد التي تعصف بها الأزمات.
وعلى الرغم من تباين المواقف من قضية الانسحاب وعواقبه يمكننا تأشير حقيقتين أولاهما أن القوى السياسية المتنفذة مرتبطة، بهذا الشكل أو ذاك، والى هذا الحد أو ذاك، بالمحتلين. أما الثانية فتتمثل في المواقف المزدوجة والملتبسة والمتقلبة من الاحتلال وانسحاب قواته. وهذا النمط من المواقف ليس غريباً مادام لا يستند الى عقل يتسم بالوضوح والشعور بالمسؤولية والاحتكام الى الديمقراطية الحقيقية.
أما "المحررون"، الذين لم يتركوا نائبة إلا وأنزلوها بهذه البلاد، فيواصلون تصريحاتهم الخطابية، الغامضة وحمالة الوجه أحياناً، ولكن الكاشفة، غالباً، عن حقيقة مراميهم. فالرئيس الأميركي قال مؤخراً إن "الولايات المتحدة لن تتخلى عن العراق". وهو تصريح يكشف، من بين أمور أخرى، توجه العم سام الى استثمار بعيد المدى يتجاوز الوجود العسكري المباشر.
غير أن ما يلفت الانتباه تلك الاشارة خطيرة الشأن في خطاب أوباما وفيها قال "إن أياماً صعبة تنتظر العراقيين". وهي إشارة قابلة لتأويلات عدة بينها، بالطبع، أن الوجود الأميركي سيرتدي صيغاً أخرى تأخذ بالحسبان الصراع الاقليمي على النفوذ في العراق.
لقد انتهت الحرب غير أن المحتلين تعلموا أن وضع أقدامهم على أرض غريبة في حرب طاحنة ضرب من الجنون. لكن مثل هذا الجنون يمكن أن يستمر بصيغ مختلفة حيث هناك فجوة كبيرة بين الخطاب والواقع المحيط برحيل المحتلين. وعلى الرغم من مغادرة 39 ألف جندي أواخر العام الحالي فان "المحررين" سيكونون قادرين على ممارسة تأثير عسكري عبر سبل عدة بينها السفارة، التي تعد الأكبر والأكثر كلفة في العالم، والقنصليات والمقاولون المتعاقدون المندفعون الى حد تعزيز احتمال عودة بلاكووتر المثيرة للجدل الى البلاد، وهي التي ارتكبت مذبحة النسور سيئة الصيت. ومما يلفت الأنظار أن رئيسها تيد رايت أبلغ "وول ستريت جورنال" مؤخراً بأنه يرغب في القيام بـ "بزنس" في العراق مرة أخرى.
أما السبل الأخرى للوجود الأميركي فتتمثل، بايجاز، في المدربين العسكريين، وهذا جزء من صفقات أسلحة، وتحرك واشنطن تحت مظلة الناتو، وطائرات الاستطلاع وعمليات اغتيال المستهدفين.
وبالتالي فانه أياً كانت صيغة العلاقة بين واشنطن وبغداد على المدى البعيد فان الولايات المتحدة باقية في العراق على المدى القريب.
وتجدر الاشارة هنا الى أن الحرب كلفت ما يزيد على 800 مليار دولار منذ عام 2003 حسب تقرير نشرته "الكريستيان ساينز مونيتور" الثلاثاء الماضي. هذا فضلاً عن الكلفة البشرية حيث قتل ما يقرب 4480 وجرح ما يزيد على 32 ألف جندي. أما الضحايا العراقيون فقد وصل عددهم الى ما يقرب من 655 ألف قتيل حسب مجلة "لانسيت" الطبية البريطانية.
* * *
هل نحن أمام "وهم" الانسحاب وسط حقيقة الاضطراب، وهو اضطراب عظيم خلقه "المحررون" أساساً فغاصوا في مستنقعه وراحوا يحاولون الخروج منه "دونما هزيمة" ؟
يعرف القاصي والداني أن الأميركان تخبطوا متغطرسين وفشلوا فشلاً ذريعاً في العراق وانتهى نموذجهم الذين أرادوه قدوة الى نموذج كارثي. ومازالوا، في تعبير عن جوهر سياساتهم، يحاولون إمساك كل خيوط اللعبة وعلى النحو الذي يحفظ مصالحهم.
كأن الانسحاب وهم بينما تتجلى أمامنا حقيقة الاضطراب الذي يعم عراقاً في مهب الريح ..
أية مصائر تنتظر هذه البلاد المنكوبة ؟ الى أين تسير، وفي أي الدروب تمضي ؟