تأملات / تلك كانت هي الأيام !


رضا الظاهر
2011 / 10 / 24 - 19:05     

أحياناً يبدو الأمر وكأننا نحن الحالمين بتغيير العالم والساعين الى غد جديد قد نسينا تضامن الأمم والبشر من أجل قضية سامية، حتى لم نعد نتحدث عنه الا نادراً، ربما لأننا غارقون في همومنا المحلية الناجمة عن طغيان مستبدينا وظلام مجتمعاتنا وتعمق أزماتنا التي تدفعنا الى أن نكون أسرى معاناتنا المريرة، وهي تبدو "معزولة" عن معاناة الآخرين من البشر.
أأنستنا المحن التي أثقلت علينا تلك الروح التي تنير فيها قناديل التضامن الأممي ؟ أترانا نسينا درس أولئك الباريسيين الذي وصفهم ماركس بمقتحمي السماء وهو يقيّم الكومونة ؟ أغاب عنا تاريخنا المفعم بأمثلة الاحتجاج والتحدي ؟ أأمسينا بحاجة الى ما يحركنا من أحداث ننتظرها كي تنهض فينا هذه المشاعر فنعود الى ينابيع التضامن الكامنة فينا لنراها وقد تفجرت من جديد متجلية في أصوات احتجاج عادلة ؟
في أواسط الشهر الحالي شهدت نحو ألف مدينة في مختلف أرجاء العالم احتجاجات يوم الغضب العالمي ضد هيمنة رأس المال وعواقبها الوخيمة. ورفع المتظاهرون شعارات كان من بينها "يا شعوب العالم انهضوا" و"أنزلوا الى الشوارع" و"اصنعوا العالم الجديد"
وبعد خمسة أشهر على ميلاد هذه الحركة اختار الغاضبون أماكن تحمل معنى رمزياً في إطار الأزمة الاقتصادية العالمية، وبينها وول ستريت في نيويورك وحي المال في لندن والبنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت حيث تجمع ستة آلاف شخص وهم يهتفون "لن نبيع أنفسنا للبنك المركزي الأوروبي". وامتدت هذه الاحتجاجات من الولايات المتحدة وأوروبا لتصل الى اليابان وجنوب شرق أسيا. وكانت، باستثناء ايطاليا الغارقة حكومتها بالديون وفيها تظاهر ما يقرب من ربع مليون، احتجاجات سلمية الطابع.
وتزامناً مع انعقاد مؤتمر وزراء مالية بلدان قمة العشرين بباريس، وفيه ناقشوا أزمة اليورو وتوسيع صندوق النقد الدولي، نددت المظاهرات بسياسات حكومات الدول الرأسمالية العاجزة عن مواجهة الأزمة المالية الطاحنة.
ولم يكن مما يدعو الى الاستغراب والمفاجأة أن تشهد شوارع قلعة الرأسمالية في نيويورك هتافات "الغاضبين" المطالبين باحتلال وول ستريت. ولم تكن هذه الحركة الاحتجاجية دون غايات واضحة، كما حاول كبار الرأسماليين ومأجوروهم من الصحفيين الايحاء، وانما كانت حركة شعبية ولدت من آلام معاناة الملايين، في معركة بين الكادحين المضطهَدين وسلطة رأس المال، وهي معركة ليست جديدة، بل تمتد جذورها الى تلك السنوات البعيدة التي ولد فيها هذا النظام الاستغلالي "الجديد".
هل تتذكرون ذلك الزمن الذي كان فيه شعراء أميركا وكتابها يتحدثون عن "الحلم الأميركي" ؟ بات جلياً اليوم أن ذلك الزمن انتهى الى أزمة عميقة لنظام رأس المال حولت الحلم الى كابوس، حيث يعاني البشر، والشباب والنساء خصوصاً، من عواقب سياسات وول ستريت وسائر قلاع الاستغلال.
ولا ريب أن هذه الحركة الاحتجاجية تجسد إطاراً يجمع ضحايا الحرمان والاضطهاد وعواقب الأزمة الرأسمالية المتفاقمة حيث يواجه شباب العالم خيبة الأمل المتزايدة من امكانية ايجاد مخرج من النفق المظلم.
ومن الطبيعي القول إن الأزمة لا تقف عند حدود المال وإن كان هذا هو تجليها الأبرز راهناً، بل هي أزمة بنيوية، بمعنى أنها أزمة جوهرية شاملة للنظام الرأسمالي تستدعي، من بين أمور أخرى، تحليلاً معمقاً ونقداً اجتماعياً طبقياً.
غير أنه مما يبعث على الأسى أن وسائل الاعلام الأساسية الفاعلة في تشكيل الرأي العام العامي تجاهلت، لأسباب عدة، هذه الاحتجاجات، حيث بعضها أدوات بيد سلطة رأس المال، والبعض الآخر يرى أنها مجرد عاصفة عابرة ستهدأ قريباً وستعود المياه الى مجاريها، فيعود سدنة رأس المال ليناموا، من جديد، رغدا.
ومن نافل القول إن ممثلي رأس المال وثقافته المهيمنة يسعون، بكل ما أوتوا من وسائل، الى تأبيد واقع الاستغلال، ومحاصرة الاحتجاج ومنعه من التعبير عن نفسه، ذلك أن هذا التعبير لابد مفضٍ، عبر تراكمه، الى الاطاحة بنظام الاستثمار الجائر.
* * *
يوم كنت طالباً في جامعة بغداد أدرس الأدب الانجليزي ظهرت في عام 1968 أغنية البريطانية ماري هوبكنز الموسومة (تلك كانت هي الأيام) التي تزامن ظهورها مع ربيع باريس حيث انطلقت شرارة الاحتجات الطلابية والشبابية في ذلك العام المميز .. وكنا نحن أبناء ذلك الجيل ممن شاركوا في الاحتجاجات الطلابية في العراق يومئذ نردد أغاني الأمل والتطلع الى الغد، وبينها أغنية ماري هوبكنز الجميلة التي تقول: "تلك كانت هي الأيام ... وقد بدت بلا نهايات .. كنا نغني ونرقص .. نعيش الحياة التي اخترناها .. نقاتل ولا ننهزم .. لأننا كنا شباباً واثقين من خطانا التي ترشدنا الطريق .. الأحلام في أرواحنا التواقة ماتزال هي نفسها ... "
تلك الأيام كانت ربيعاً ننشد فيه أغنيات التضامن والمثل السامية ونحن نمضي الى الضفاف، وهي أيام تضيء، عبر الاحتجاج، في تواصل حميم .. أما أولئك الذين يتوهمون أن ربيعاً لن يحل في أي زمان ليهز عروشهم فقد كشف التاريخ أوهامهم وقال فيهم كلمته البليغة .