تأملات / ضحية -التحرير- والمحاصصة !
رضا الظاهر
2011 / 10 / 10 - 17:46
الصحافة العراقية التي علق عليها كثيرون آمالاً في الاسهام بقيام حكومة ديمقراطية انتهى واقعها الى أن تكون ضحية من ضحايا "التحرير" ومحاصصات المتنفذين، حيث تكبل حريتها بمزيد من القيود ويتعرض العاملون في وسطها الى مزيد من العنف.
ومن بين آخر الأنباء ما كشفه تقرير نشرته صحيفة "أتلانتك" الأميركية، الثلاثاء الماضي. فعندما "حررت" إدارة بوش العراق بوسيلة الحرب وشرعت في فرض هيمنتها وسياساتها راحت هذه الادارة "تفتخر ببروز ما وصفته بصحافة حرة مفتوحة، وأنفقت ما يزيد على نصف مليار دولار لتطوير محطات إذاعية وتلفزيونية وتدريب صحفيين شباب" حسب ما أوردته الصحيفة. وفشل جيش العم سام في تقديم "المثال المنشود"، وهو يسعى الى شراء ضمائر وأصوات في ظل خراب روحي وعوز مقيت. ففي تشرين الثاني 2005، كما تشير الصحيفة، "كشف مراسلون أميركيون عن برنامج يديره الجيش يتلخص بدفع أموال الى مؤسسات صحفية وإعلامية عراقية لنشر مواد مؤيدة للأميركان. أما المؤسسات التي أنشأتها واشنطن عام 2004، وبينها شبكة الاعلام العراقي وهيئة الاتصالات والاعلام، فهي الآن تحت سيطرة الحكومة العراقية وتنفذ برنامجها وتستخدم لاسكات الأصوات المنتقدة".
ولا غرابة في قول محللين ومراقبين إن هناك غياباً شبه تام لحرية الصحافة الحقيقية، وأن الانتهاكات تصل الى أعلى مستوياتها منذ "التحرير".
وكان مؤشر الاعتداءات التي وثقها مرصد الحريات الصحفية في تقريره السنوي، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة لهذا العام، قد كشف عن حقائق صارخة في ميدان تهديد حرية الصحافة.
وبحسب جداول المؤشرات صنف المرصد الاعتداءات ضد الصحفيين والمؤسسات الاعلامية على النحو التالي:
ـ 91 حالة اعتداء بالضرب تعرض لها صحفيون ومصورون ميدانيون من قبل قوات الأمن والجيش.
ـ اعتقال واحتجاز 67 صحفيا وإعلاميا لفترات مختلفة.
ـ إغلاق السلطات الأمنية 9 مؤسسات إعلامية أعيد العمل الى 8 منها ومازالت واحدة مغلقة حتى الآن.
ـ تعرض 11 مؤسسة إعلامية الى المداهمة والعبث بمحتوياتها وتحطيم بعض أجهزتها.
ـ تسجيل 69 حالة تضييق و49 حالة منع و8 هجمات مسلحة تعرض لها صحفيون ومؤسسات إعلامية و56 حالة انتهاكات مختلفة.
ـ قتل 12 صحفياً بأسلحة كاتمة للصوت وعبوات لاصقة.
ومن المعلوم أن العراق يحتل المرتبة الأولى في مؤشر الافلات من العقاب، وهو في مقدمة البلدان التي يجري فيها اغتيال الصحفيين بصورة متكررة. ولم تحقق الحكومة بشكل جدي في أي من حوادث قتل الصحفيين منذ عام 2003، ولم يجلب أي من الجناة أمام العدالة.
وبينما تشير إحصائيات الى أن عدد الصحفيين القتلى في العراق زاد على 300، وهو ما وصفته الحملة الدولية لحماية الصحفيين في جنيف بأنه "مذبحة وعقاب جماعي للصحفيين في العراق" جراء دفاعهم عن حقوق الانسان وفضحهم الفساد وانتقادهم الممارسات الخاطئة للحكومة والأحزاب المهيمنة، تواصل الجهات التنفيذية والتشريعية المتنفذة رفع العديد من الدعاوى الكيدية والملفقة ضد الصحف والصحفيين الذي يتجرأون على نقد "حكومة الشراكة الوطنية" وقواها المتنفذة، في أجواء غياب الضمانات القانونية لحماية الصحفيين وإتاحة المعلومات لهم واحترام حرية التعبير في دولة تعمها الفوضى وتتسم قوانين ولوائح الصحافة فيها بوجود نصوص غائمة وحمالة أوجه تخدم الحكام لا الصحفيين.
ومن ناحية أخرى خلق تصاعد العنف المنظم ضد الصحفيين من جانب السلطات الحكومية وأجهزتها الأمنية خوفاً من التعرض للقمع وخشية من العجز عن إنجاز مهامهم الميدانية بسبب التضييق عليهم وتقييد حرية تنقلهم وحركتهم الا بعد موافقات مسبقة.
غير أن مراقبين يشخصون ذلك التمييز الصارخ بين منتقدي الحكومة وسياساتها وإجراءاتها، حيث تدخل عمليات الانتقاد تحت خيمة "التسييس"، إذ تقمع الحكومة البعض بينما تصمت عن آخرين خشية من سلطة أحزابهم المتنفذة ومن احتمالات تعرض نزعة شراء السكوت المتبادل الى تهديد.
* * *
البلاد المكبلة بأغلال "المحررين" .. البلاد التي يضيق الأمل في خروجها من نفق أزمتها المظلم حيث يتشبث حكامها بنهج المحاصصات وتقاسم الغنائم، بينما تتعاظم مآسي الملايين من المحرومين والمهمشين .. البلاد التي عاد جلادو نظامها المقبور الى مراكز تعذيبها وهم يرتدون أزياء "العهد الجديد" تحت ظل أجنحة قوى متنفذة ليمارسوا دورهم السابق بصيغ "محدّثة" .. البلاد التي تنعت مليشياتها مواطنيها الأصلاء من أبناء الأقليات بـ "الكفار"، ويصفى ويشرد خيرة مبدعيها، وتتعرض ناشطاتها الجريئات الى التهديد، وتتفوق في الفساد وفي تجارة الرقيق وسوى ذلك مما يخزي ويؤسي .. البلاد التي تسكت عن انتهاك سيادتها .. البلاد التي تنحدر قيم مجتمعها الروحية .. البلاد التي تبدو مصائبها بلا نهاية .. هذه البلاد ماتزال أخطر مناطق العالم لعمل الصحفيين، السعاة الى كشف الحقيقة وهتك ستر الصمت وتبصير الناس بواقعهم وتحفيزهم على تغييره ..
هذه البلاد ذاتها لن تنطفيء فيها، رغم الآلام، جذوة أهل الفكر التنويري. وإذا كان رماد هذه الأيام العابرة يغطيها فان رياحاً لا ريب آتية لتعصف برماد النوائب فتتقد، من جديد، جمرة العراق الذي ننشد في تلك الضفاف ..