تأملات / عراق بلا حدود !
رضا الظاهر
2011 / 9 / 19 - 15:47
كنا أيام الصراع ضد الدكتاتورية الفاشية قد عرفنا منظمات من قبيل: أطباء بلا حدود ومراسلون بلا حدود ... وكانت لها مواقف إنسانية مشهودة في التضامن مع شعبنا. وشهدنا أشياء أخرى "بلا حدود"، بينها، بالطبع، وحشية النظام السابق وانتهاكاته الصارخة. أما في العهد "الجديد" فقد رأينا أنماطاً أخرى من ظواهر "بلا حدود"، بينها: صراع على الامتيازات بلا حدود، مآسٍ بلا حدود، وفساد بلا حدود ... غير أن عجائب بلاد الرافدين وغرائبها جعلتنا نرى جديداً مميزاً بلا حدود، يكشف عن أن حكام هذه البلاد قد جاوزوا الحدود حتى لقد أوصلوا البلاد الى "عراق بلا حدود" !
فمنذ ما يزيد على شهرين يواصل "الجيران" قصفهم للقرى الحدودية الآمنة في إقليم كردستان، ويدكون منطقة قنديل وسواها بالمدفعية والطائرات مما تسبب بمقتل مدنيين أبرياء ونزوح آلاف من العوائل عن قراها، فضلاً عن إلحاق أضرار مادية بالبساتين والمزارع والغابات في تلك المناطق.
ويترافق هذا مع قطع ايران، التي تركز هجومها على مناطق تواجد "بيجاك"، المياه عن نهري الوند وهوشياري وروافد أخرى. وقد أثار التصريح الاستفزازي لناطق رسمي إيراني بالمطالبة بتعويضات عن الحرب العراقية الايرانية ردود فعل متزايدة في الأوساط السياسية والشعبية العراقية ضد الموقف الايراني.
ويواجه القصف التركي لأراضي إقليم كردستان موجة من الانتقادات، غير أن حكام تركيا يصرون على تجاهل الانتقادات ويواصلون تدخلهم السافر، هذا ناهيكم عن حرماننا من الحصول على حصة عادلة من مياه دجلة والفرات.
ووسط صمت أميركي مقصود بشأن قضية ميناء مبارك يسعى البعض، وبينهم أنصار النظام المقبور ممن يرتدون جلوداً أخرى في الحكم الجديد، الى تأجيج الموقف مع الكويت وإثارة روح الانتقام وتسميم أجواء المنطقة، فيما لم تعلن حكومتنا موقفاً وطنياً موحداً بشأن مشروع ميناء مبارك، حيث التباسات الحسابات الضيقة للكتل السياسية والضغوط الخارجية وتجاهل مصلحة الوطن. وقد حق لمحللين أن يتهموا الحكومة، المنشغلة قواها المتنفذة بصراع الامتيازات والمكبلة بأغلال الولاءات، بالتواطؤ مع دول الجوار.
ومن الجلي أن جيران العراق يستغلون ضعف وهشاشة الوضع في بلادنا، وصمت الحكومة والبرلمان عن تلك التجاوزات التي تعد خرقاً للسيادة الوطنية وتمثل نمطاً من جرائم حرب ضد الانسانية، وفشل الدبلوماسية العراقية في احتواء الأزمة، ليوغلوا، اعتماداً على حجج واهية، في تدخلاتهم السافرة في شؤوننا الداخلية ويهددوا مصالح بلادنا الحيوية.
كيف لا تبقى بلاد بلا حدود وقد تركها حكامها نهباً للجيران الذي تنوعت تدخلاتهم السافرة في مختلف الشؤون ؟ وكيف لا تخترق حدود بلاد وقد سكت عن اختراقها "المحررون" وهم الذين يفترض بهم، يا للأسى، حمايتها من أي اختراق ؟ وكيف لا تنتهك سيادة بلاد وهي عاجزة عن تشييع جثمان أعظم نحاتيها بما يليق به وبابداعه السومري الجميل ؟ وغير آبهة بحماية حياة مبدعيها وآخرهم الهادي المهدي القتيل ؟ وكيف وفيها تسيل الدماء في الشوارع، وآخر التجليات المروعة جريمة النخيب النكراء ؟ وكيف وفيها يستمر الفساد على كل المستويات متحولاً الى ثقافة في بلاد ما تزال رابع أكثر الدول فساداً ؟ وكيف وفيها تطحن رحى المآسي الملايين من المحرومين من الماء والكهرباء وفرص العمل والحقوق، ممن يلجأ بعض من هم تحت خط فقرها، وهي بلاد الذهب الأسود، الى المزابل والنفايات، ويجول بعضهم في شوارع عاصمتها، "منارة المجد التليد"، وهم يشحذون ؟ وكيف وحقوق نسائها، نصف المجتمع الأعظم، منتهكة، وأصوات "ناقصات العقل والدين" فيها مرغمة على الصمت ؟ كيف وشبابها يلاحقون ويتعرضون للعسف لأنهم يعبرون بالاحتجاج السلمي عن مطامحهم العادلة بينما يتبارى الحكام في تخصيص "غرف عمليات" لاقتفاء أثر المتظاهرين ؟ كيف وقد صارت مرتعاً للارهاب وممراً للمخدرات وموطناً لتلوث يمتد من بيئة غير آمنة ولا ينتهي عند حدود معاناة سايكولوجية في ظل دمار روحي عظيم ؟ وكيف وفيها أدعياء "ديمقراطية" جديدة ممن يقمعون الرأي الآخر ويستحوذون على الحقائق المطلقة ويزورون الانتخابات ويعرقلون إقرار قانون عادل لاجرائها ويتجاهلون قوانين لا غنى عنها أولها قانون الأحزاب وليس آخرها قانون عادل لحماية حقوق الصحفيين ؟ وكيف وفيها من يحرّمون الموسيقى والنصب والسفور ويطوقون فضاءات الحرية بمتاريس العقل المؤبِّد للراهن ؟ وكيف والبلاد غارقة في ظلام التخلف والتجهيل وفيها من النسب ما يروّع بشأن الأمية والأرامل والأيتام والمعوقين ؟ وكيف وكيف وكيف، والأسئلة هي الأخرى "بلا حدود" ؟ وكيف، أخيراً وليس آخراً، لا تبقى بلاد بلا حدود وفيها يستمر متنفذون في صراع امتيازات تحت خيمة محاصصات طائفية وإثنية، هي أم البلايا، وفي ظل أزمة اجتماعية بنيوية عميقة مستعصية ؟
* * *
متواطئون، "محررين" ومتنفذين، صمتاً، في شراء سكوت متبادل .. كلٌّ بصيغته وحسب منافعه وسبل تأبيده للراهن حفاظاً على امتيازاته، في بلاد يريدون لها أن تبقى ضعيفة ومشلولة ..
الى أين تسير هذه البلاد ؟ هل قُدّر لمآسيها أن تكون بلا حدود !؟