أسباب ضعف وتشتت حركة اليسار والقوى العلمانية في العالم العربي


كامل السعدون
2004 / 9 / 15 - 10:44     

الحقيقة أن الفكر اليساري والعلماني التقدمي في العالم العربي قد أشرق منذ إطلالة القرن الفائت ، وبالذات في مصر والعراق والشام ، وكان مؤملاً له أن يتعزز بقوة عقب التحول العلماني الخطير الذي حصل في تركيا على يد العظيم اتاتورك ، وانكفاء الترك منسحبين من الشرق الإسلامي كله تاركين لأهل الغرب من إنجليز وفرنسيين وطليان أن يقودوا هذا العالم صوب الحضارة والعلمانية والتقدم ، ثم دخل على الخط عامل جديد تمثل في ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى ، فكان لهذا العامل دور إيجابيٌ كبيرٌ على الشارع إذ ظهر اليسار الشيوعي لأول مرة ، وبذات الآن كان له دورٌ سلبي لأنه أستفزّ المستعمر الغربي وجعله يدعم النخب الوطنية الرجعية بقوة ، مما أضعف اليسار .
حسناً … عشرينيات القرن الفائت وثلاثينياته كانت حافلة بشارعٍ عربيٍ إسلاميٍ ميال بقوة للتقدم والحضارة والنمو الوطني القطري المستقل ، كان الإسلاميين قد انكفئوا على أعقابهم بعد سقوط الخلافة العثمانية ، وما كان مؤملاً أن يكون لهم دورٌ تاريخيٌ كبير في الشارع والسلطة والمجتمع المدني والهيمنة على التربية والتعليم والقضاء ، ولكن المفاجأة التي فجرها لينين وتروتسكي وستالين في ثورة أكتوبر ، لجمت الغرب عن تنفيذ أجندةٍ استعمارية ( وهنا نعني تعمير بلدان الشرق وليس استغلال الثروات ، لأن تلك هي المهمة التي جاء بها الغرب لنا بتفويض من عصبة الأمم ) ، كما وإنها استفزت الألمان والأسبان والقوى الفاشية الأخرى في العالم فكانت النتيجة الحرب العالمية الثانية التي لسعتنا بشواظها ونحن في بلداننا وأدت في ما أدت إلى تعزز مكانة القوى الرجعية التي أنضوي تحت لوائها العسكر والقبائل والقوميون الشوفينييون مضافاً إلى رجال الدين الرجعيون الذين خسروا مواقعهم عقب سقوط الدولة العثمانية .
حسناً لو أردنا أن نوجز ضعف وتشتت اليسار في عالمنا العربي لوجدنا الآتي :

1- لقد خرج العرب من ظلمة قرونٍ من الهيمنة العثمانية والتي سببت انتشار الأمية والجهل المطبق وضعف الإرادة الوطنية والقومية ، وبالتالي لا يمكن مهما كانت قوة المؤثرات الخارجية ( ثورة أكتوبر ، الطفرة العلمية في الغرب ، انتشار الديموقراطية في الغرب وغيرها ) لا يمكن توقع ظهور شارع عربي مثقف ومتفهم وواعي لاحتياجاته الوطنية الحقيقية ، وإذا كان الأتراك قد سهل عليهم التحول من الحكم الأبوي الوراثي المتخلف إلى حكم علماني ، فالسبب هو إنهم كانوا أسياد هذه الأمة ( الإسلامية ) وليسوا المسودين مثلنا ، وبالتالي كان لدى المواطن التركي امتيازات ما كانت لنا نحن في العراق أو الشام أو مصر …!
2- الطبيعة الإلزامية القسرية الضيقة الخيارات والضيقة الأفق والتعسفية ، للدين الإسلامي والتي لا تقبل النقاش أو الجدال أو التمحيص أو التساؤل أو حتى الشك ، بشأن نصوص هذا الدين ومدى صحتها ومدى جدواها وقيمتها ، وبالتالي فهذه الطبيعة ، حرمت العرب والمسلمين عامة والأقليات والأعراق غير العربية خاصة من فرصة التصدي الجاد لمهمات التغيير والتثوير وتطوير المجتمعات وإخراجها من عنق الزجاجة التي حشر الناس بها ، محمد قبل ألف عام .
وإلا من كان يجرؤ على التشكيك بشرعية الحاكم أو شرعية النخبة أو التلاعب في الأدوار ومنح الشارع فرصة التدخل أو التأثير في شؤون القصر ( الحكم ) والدين يقول بطاعة الحاكم حتى وإن كان فاسدا وظالماً ، وإذ نقول لا أحد يجرؤ فإننا نعني أن المجتمع ذاته سيحارب من يسعى للتغيير عن طريق النشاط السلمي ، وبالتالي فلم تكن هناك فرصة للتغيير وتطوير المجتمعات إلا من خلال العسكر ، وكما أسلفنا كان العسكر ذواتهم جزء من الحلف الرجعي غير المرئي القائم بين أهل الدين والقبيلة والقومية .
3- لعب الغرب وللأسف دوراً ( قد يكون مبرراً بالنسبة لهم ) ولكنه بشعٌ إذا نظرنا له من زاوية مصالحنا الوطنية وتقدمنا ، فقد دعم القوى الرجعية العربية لمنع انتشار الديموقراطية والعلمانية واليسار والحرية الاقتصادية والسياسية الحقيقية ، وطبعاً كان هاجس الغرب الأول هو الاتحاد السوفييتي ثم ألمانيا النازية وأخيراً دولة إسرائيل ، ومن أجل هذه العوامل أبقى القوى الرجعية ودعمها لأنها أمنت له مصالحه في منع انتشار الشيوعية ثم الفكر النازي وأخيراً أمنت له الحماية لإسرائيل أو على الأقل البقاء ضعفاء أمام إسرائيل ، وجاء هذا جميعه على حساب مصالح شعوبنا الحقيقية لا في الشيوعية أو الاشتراكية ولكن على الأقل في التحضر والتقدم والعلمانية .
4- الإسلام والغرب والتخلف الأزلي للعرب بحكم تزاوج الإسلام مع الفكر القبلي ، تلك عوامل هامة وخطيرة في استمرار تخلف هذه الأمة وإذ يضاف لها عاملٌ رابعٌ مهمٌ للغاية وهو ولادة إسرائيل والتي أدت في مما أدت إلى أشغال الناس من جديد بهمٍ جديد وهو تحرير فلسطين ، ومثل هذا الهم هو في الأساس ليس هم أبن الشارع البسيط ولا حتى المواطن الفلسطيني ذاته ، ولكنه هم أهل الدين وحلفائهم أهل القبيلة والقومية .
فأما أهل الدين فلهم خرائطهم الجغرافية التي هي في الغالب خرائط اغتصاب بشعٍ لأراضي الكلدان والآشوريين واليهود والفينيقيين والكرد والزنج والأقباط وغيرهم من شعوب الشرق القديم التي استباحها محمد ، وبالتالي فأهل الدين همهم استعادة النسخ الأصلية لخرائط الشرق كما خلفها لهم عمر بن الخطاب ، وأما أهل القبيلة فإنهم يرقصون على كل إيقاع طالما يمدهم هذا الإيقاع بمزيد من الطاقة في حكم شعوبهم وضمان تقبيل الرعية لأيادي شيخ القبيلة وتناول الرغيف من يده والجري إلى الخلاء لرعي أغنامه ، وأما أهل القومية فهؤلاء مهووسون بأيام المجد الزائف الذي كان أسلافهم يعيشون في بحبوحته أيام بنو أمية وبنو العباس ، في تلك الإمبراطوريات التي كانت أقرب إلى العلمانية منها إلى الدينية ، وكانت في واقع الحال حقبةٌ من الدهر لا نشك في أنها بهية ولكنها لم تكن على أية حال عادلة أو إنها لم تقم على موروث عادل .
5- لم يكن الدور السوفييتي حكيماً في التعامل مع الشعوب العربية وقوى اليسار والتقدم ، بل كان في الغالب انتهازيا وكان دعمه يوجه غالباً صوب القوى الفاشية والشوفينية ومُدعي اليسار والتقدم ، مما أثر تأثيراً كبيراً على اليسار الحقيقي ، ونفهم طبعاً أسباب السوفييت في ذلك ، فهم في حالة حربٍ باردة مع الغرب وكان جلّ همهم الوصول إلى أي بقعةٍ في المياه الدافئة ، أملا في الاستمرار .
والحقيقة أن السياسة السوفييتية كانت محكومة بحالة الحرب وكان الضعف قد دب إلى أوصالها منذ بواكير السبعينات ، نتيجة فشلها في المنافسة على الأسواق ومصادر الثروات وتورطها في مستنقعات أفغانستان وأفريقيا وغيرها مما أثر سلباً على مستقبلها وبالتالي فإنها لم تنفع العرب والمسلمين ولم تغنيهم بشكل جدي ، مضافاً إلى أنها استفزت الحكام والغرب بذات الآن فنشط الحلف الغربي مع الرجعية العربية وأدى بالتالي إلى انطفاء أي بصيص أملٍ بخروج العرب والمسلمين من عباءة محمد وقريش وبنو أمية وبنو العباس .
6- لم تكن منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني والبرلمانات في الغرب معنا في العقود الفائتة ، بل كانوا مشغولين أسوة بحكوماتهم بمسألة السوفييت والمد الأحمر ، ولهذا لم يأتنا منهم دعماً أو ضغطا ( كما هو الآن مثلاً ) مما يمكن أن يخدم قضية تحررنا وتقدمتنا ، بل اكتفوا بالاطمئنان إلى استمرار حضارتهم طالما البترول جارٍ وإسرائيل آمنة والسوفييت بعيدون عن الشرق بقوة الرجعية والإسلام والعسكر مع الحليف الغربي .
7- لم تكن منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها الفرعية مهتمة بالشؤون الداخلية للدول ، لأن القطبية الثنائية والتنافس الفرنسي الأمريكي والصراع على المصالح بين أهل الغرب والسوفييت من جهة وأهل الغرب بمحوريهما الفرنسيين والأمريكان من جهة أخرى ، كان يمنع الأمم المتحدة من أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول ، وهذا ما حرم شعوبنا وقوى التقدم فيها من دعمٍ أممي نزيه يمكن أن يكون مؤثراً في تعزيز الحريات في عالمنا العربي والشرق عامة .
هذه جميعاً عوامل موضوعية خارجية ، أثرت في ضعف دعوات وأفكار التقدم والتحضر والعلمانية عامة والفكر الاشتراكي واليساري خاصة .
طيب أين مسؤولية أهل اليسار ذاتهم أو بشكل عام دعاة التقدم والحضارة والعلمانية ، أين مسئوليتهم في الأمس وأين هي اليوم …؟
أولا : لقد تشرذم اليسار والليبراليون والديموقراطيون عامة ، وعاشوا الإحتراب الداخلي في كل بلد عربي على حدة ، ناهيك عن أحترابهم على الصعيد القومي .
لقد افتقدوا الدليل الواقعي العملي الذي يمكن أن يضم جبهةٍ عريضة من دعاة التقدم ، دون الدخول في سفاسف الخلافات الأيديولوجية التفصيلية مثل مسائل ، دكتاتورية البروليتاريا والصراع الطبقي والوحدة العربية وغيرها .
كنا بحاجة أولا إلى أجندة تقدمية علمانية ديموقراطية واسعة وشاملة وقادرة على النزول الآمن إلى الشارع دون أن تستفز الحاكم الرجعي العربي ، القبلي أو القومي أو الديني .

للأسف كان هاجس السلطة أو بشكل عام الهم السياسي ، هو الهم الأكبر لقوى التحضر والتقدم عامة واليسار منهم في المقدمة ، على أساس أنك إن امتلكت السلطة أمكن لك أن تغير شؤون الناس ومعاشاتهم وأنماط تفكيرهم وبالتالي تحقق التقدم المرجو ، وفي واقع الحال ، لم يكن هذا هو الحل ، بل كان الحل هو تعزيز أي فرصة متوفرة لتحقيق التطور الثقافي والتربوي والعلمي للناس وللبلدان .
كنا بحاجة إلى قوى ثقافية اجتماعية تتوجه صوب الشارع تحت أجندة التغيير الثقافي والاجتماعي قبل السياسي طالما السياسي ممنوع ومحظور من قبل الغرب وحلفائه الرجعيون في المنطقة .
اليسار ودعاة التقدم العرب عامةٍ لم يحسنوا قراءة التاريخ العربي ، تاريخ الإسلام والقبيلة والموروث العربي ، تاريخ الظلم العربي والقسوة والعنف والإرهاب العربي ، وبالتالي نزلوا إلى المعركة وهم معزولين جماهيرياً ، لأن شعاراتهم كانت مستفزّة للعقل العربي وبشكل صارخ .
ثانياً : دعاة التقدم واليسار والعلمانية العرب ، أجازوا لأنفسهم أن يتواطئوا مع الحاكم العربي والنخبة الرجعية الحاكمة العربية في مراحل عديدة ، سواءٍ ضد أشقائهم في البلدان الأخرى أو ضد رفاقهم في ذات البلد من ذوي الميول والعقائد المغايرة أو البعيدة قليلاً عن ما لديهم وهذا ما أدى إلى تشتيت قوى التقدم وتمزيقها وكما أسلفنا كان حلمهم ضيق الأفق وغير بعيد المدى وقاصر على المشاركة السياسية مع الرجعية في السلطة أو الاستحواذ على تلك السلطة عن طريق العنف والانقلابات ، في وقتٍ لم يكن فيه وعي الشعب بحجم التغيير ، فخذل هذا التغيير في مرات عديدة .
ثالثاً : قوى التحضر والتقدم العربية لم تنل ثقة الغرب أو القوى المؤثرة في الساحة العالمية ،لأن مشروعها في الغالب لم يتميز كثيراً عن مشروع قوى الرجعية العربية ، فجميعهم أو أغلبيتهم كانوا يقفون خلف لواء معاداة الغرب وإسرائيل وبشكل انتهازي فج وقصير النظر ، وأنت لا يمكن لك أن تكون تقدمياً أو علمانياً وأنت تبطن تحت الإبط ملفاً شوفينياً يعادي الحضارة الغربية أو مسلمات الواقع الموجود وهو أن أهل إسرائيل في أرضهم التاريخية وإن المسألة الفلسطينية لا يمكن أن تحل بالعنف لأن الشعوب لا تقلع من أوطانها بعد أن عادت إليها .
رابعاً : وكما في المسألة اليهودية ، ففي مسألة الأقليات ، لم يتميز اليسار العربي وقوى التحضر والتقدم العربية كثيراً في النظر إلى أقوام الشرق الأخرى من شركائنا في تلك الأوطان ولم يقفوا مع الأقليات في معاركها مع الرجعية والقومية الشوفينية العربية ، وبالتالي فإنهم حرموا أنفسهم فرصة نيل ثقة الأقليات وأهل الغرب الديموقراطي ، وبالذات المجتمعات الغربية ولا نقول الحكومات .
خامساً : لقد أفتقد اليسار وقوى التقدم فرصة نيل الشرعية السياسية في العمل في الشارع لأنهم لم ينزلوا إلى ساحة العمل موحدين ولم يكن لديهم برنامج سياسي شفاف ومرن وواسع وعمومي يمكن أن يمثل غطاءٍ عريضاً واسعاً لا يفضح أجندات ذات تفاصيل ثانوية مستفزة للناس كما وللحكام .
خامساً : لم يقيض لليسار وقوى التحرر والعلمانية في الشرق عندنا رموزاً فكرية وسياسية متميزة قادرة على التأثير الجماهيري الواسع في الداخل أو في الخارج ، كلينين مثلاً أو تروتسكي أو سلفادور اليندي أو غاندي أو نهرو أو الدالاي لاما أو لوثر كينغ أو ماندلا ، في حين أمتلك الآخر نماذجه التي خدمت قضيته ، قضية الرجعية والشوفينية والقبلية والدين ، ، حسن البنا ، عبد الناصر ، عرفات ، صدام حسين ( مع التأكيد على أنها نماذج هزيلة لقضية هزيلة في الأساس ) .
تلك إشارات سريعة لمشكلة تشتت قوى اليسار والعلمانية والتقدم والحرية .
قطعاً …لا أظن أني غطيت مثل هذا الملف الكبير بمثل هذه العجالة ، ولكني احسبني أشرت إلى بعض أسباب هذا التشتت الذي كلف شعوبنا ولا زال يكلف الكثير والمزيد .