انهيار «الشيوعية» في الاتحاد السوفياتي
الاممية الرابعة
2004 / 8 / 19 - 11:56
[صدر هذا القرار عن الأمانة الموحدة للأممية الرابعة في اجتماعها المنعقد في أوائل أكتوبر 1991. وهو يحلل ظروف انقلاب أغسطس المُجهَض وما تلاه من حسم واستكمال لانهيار نظام الحكم «الشيوعي» في الاتحاد السوفياتي]
1 – كرست محاولة الانقلاب في 19 أغسطس نهاية البيريسترويكا بوصفها سياسة قابلة للحياة تسلحها «النومانكلاتورا» [تعبير روسي يشير إلى الشرائح البيروقراطية العليا] الحاكمة. لقد كان إفلاس البيريسترويكا واضحا للعيان منذ أكثر من عام وسبق للاتجاهات المؤيدة للرأسمالية أن انتقلت إلى الهجوم. هذا وقد أفضى فشل المحاولة الانقلابية إلى تقدم مهم لنضال الأمم المضطهَدة في الاتحاد السوفياتي ضد الوحدة القسرية وبيَّن إمكانية تعبئة ظافرة ضد مسعى دكتاتوري. لكن دينامية سيرورة إعادة الرأسمالية قد تعززت فضلا عن ذلك، ولن يكون بالإمكان وقفها بصورة فاعلة إلا في حال انتصار للطبقة العاملة. وأخيرا، فإن النتائج العالمية للانقلاب الفاشل وخاتمته السياسية كرست مثابة الإمبريالية الأمريكية كقوة عظمى وحيدة. لم تتوان هذه الأخيرة عن الاستفادة من هذا الوضع، لاسيما عن طريق دفع الكرملين للانضمام إلى هجماتها ضد كوبا وضد حركات التحرر في شتى بقاع العالم.
كانت المحاولة الانقلابية في 19 أغسطس محاولة من جانب جناح في الكتلة «المحافظة»، النيوستالينية ضمن البيروقراطية، للمحافظة على سيطرته على الهيئات المركزية لسلطة الدولة وصون استمرارية البنى التي تهددها الخضات الجارية (المعاهدة الجديدة حول الاتحاد). وقد حاول قادة الانقلاب الفاشل قبل ذلك أن يحصلوا على النتيجة عينها في البرلمان، لكن محاولتهم باءت بالفشل.
إن ظروف المحاولة الانقلابية لا تزال غامضة جزئيا. ويمكن التكهن بأن الانقلابيين كانوا يراهنون قبل كل شيء على فقدان غورباتشوف لشعبيته المتزايد، وعلى إجماع مزعوم لصالح «سلطة قوية» لدى الجماهير الشعبية، كما على انضباط الجيش والك.ج.ب، لتحقيق النصر. لكن هذه الحسابات أثبتت خطأها. فبالرغم من انعدام شعبية غورباتشوف، بدت إزاحته خطوة نحو إعادة إرساء دكتاتورية استبدادية لا يريدها الشعب أيّا يكن الثمن. وقد نتج عن ذلك أن قطاعات جماهيرية في مراكز مهمة تحركت ضد المحاولة الانقلابية. علاوة على هذا، تبيّن أن الجيش والك.ج.ب. أكثر انقساما مما كان متوقعا. فالقطاع الأكثر تقدما تقنيا في حامية موسكو، والمتمثل بالطيران، لم يدعم الانقلابيين، لا بل هدّد بالتدخل ضدهم. في شروط كهذه، انهار الانقلاب مثل قصر من ورق. كانت قاعدته الاجتماعية ضيقة جدا بحيث لم يتوفر له أيّ حظ في النجاح.
كانت المحاولة الانقلابية رجعية بالكامل، إذ كانت ترمي إلى إرساء سلطة أكثر استبدادا والى إلغاء الحريات الديموقراطية التي تتمتع بها الجماهير قانونا أو فعلا. فقد سعى الانقلابيون لتعليق حق الإضراب وحظر الجمعيات السياسية المستقلة، بما فيها الجمعيات العمالية. وحاولوا استعادة الرقابة الكاملة على وسائل الإعلام. ما كانوا يهدفون إلى وقف تدابير التمليك الخاص، ولا إلى وقف التعاون مع الإمبريالية.
كانت مناوأة الانقلاب ضرورية تماما. وكان لا بد من المشاركة في التظاهرات الشعبية ضده ومحاولة توسيعها وتنظيمها، ونسج كل شبكات المقاومة الممكنة ضد المحاولة الانقلابية.
2 – في غياب قوة سياسية مهمة تمثل نوعا ما المصالح المباشرة للجماهير الكادحة، تمكن جناح يلتسن من تجيير النصر المحقق ضد المحاولة الانقلابية ومصادرته. ويمثل هذا الجناح أنشط أنصار الرأسمالية، أي البيروقراطيين الموصوفين ب«الليبراليين». وبالفعل، نتج عن فشل الانقلاب انتقال السلطة ضمن البيروقراطية، لا على حساب «المحافظين» وحسب، بل أيضا على حساب «الوسط» المتحلق حول غورباتشوف.
هذا التحول لا يعني إطلاقا أن سلطة شعبية ما أو ديموقراطية مؤسساتية ما قد توطدتا. فهذه أو تلك لا توجدان الآن مثلما لم تكونا موجودتين قبل المحاولة الانقلابية. ينبغي فضح الطابع الرجعي لتيار يلتسن بكل وضوح: لا يكمن فقط في توجه يلتسن المؤيد للرأسمالية بصراحة وحسب، بل أيضا باتجاه تسلطي وشعبوي، من سماته الصريحة السير نحو نظام رئاسي وتعزيز الأجهزة التنفيذية على حساب السوفييتات المنتخبة.
هذا وتعود شعبية يلتسن النسبية إلى نزاعاته مع الجهاز الذي تأصل منه، وقطيعته مع الحزب الشيوعي السوفياتي، وكذلك وعوده الديماغوجية المتناقضة جدا على الصعيد الاجتماعي-الاقتصادي، فضلا عن تأكيد دعمه لسيادة الجمهوريات، بما فيها جمهورية روسيا. لكن شعبية يلتسن لن تلبث أن تتآكل على كل هذه الأصعدة، بفعل امتحان السلطة وسوف تزداد ميوله التسلطية حدة.
3 – بعد هزيمة المحاولة الانقلابية، كان إجراء يلتسن الأكثر إذهالا وقف نشاطات الحزب الشيوعي السوفياتي وحل بناء المركزية. هذا الحزب توقف منذ زمن بعيد عن مواصلة الحزب البلشفي ـ الذي تولى ستالين تصفيته تماما خلال تطهيرات الثلاثينات ـ لا بل توقف عن أن يكون حزبا سياسيا. فقد تحول الحزب الشيوعي السوفياتي إلى حزب-دولة، أي إلى جهاز للسلطة كانت قممه تتمتع بامتيازات مادية ضخمة. وإذا احتفظ بقاعدة اجتماعية ما، فهذه كانت باقية فيه لأسباب تتعلق بالحماية أو بالارتقاء الفرديين والجماعيين، أكثر مما بدافع الانتماء إلى الشيوعية أو الاشتراكية. والحال أن ملايين الأعضاء في الحزب الشيوعي السوفياتي كانوا يتوزعون على مختلف التنويعات السياسية، من الثاتشرية إلى الماركسية المضادة للستالينية.
وفي نظر الجماهير، كان هذا الجهاز قد فقد أية شرعية منذ زمن طويل. ولا تثير الضربات التي توجَّه إليه الآن غير التأييد أو اللامبالاة. كان الحزب أداة الدفاع عن سلطة البيروقراطية وامتيازاتها. إلا أننا رغم ذلك نعارض حل الحزب الشيوعي وإلغاء صحافته، فهذا انتهاك للحقوق الديموقراطية. صحيح أن التدابير المتخذة ضد الحزب الشيوعي تعكس الحقد الذي تكنه له قطاعات جماهيرية واسعة بسبب تاريخه. ونحن نؤيد تلك التدابير التي تحرم الحزب من احتكاره لجهاز الدولة ولوسائل الإعلام، الخ. لكن بالرغم من أن الحزب الشيوعي السوفياتي يمثل البيروقراطية، يجب أن يحظى بحق التنظم سياسيا كأي حزب آخر، وبحق إصدار منشوراته الصحفية. إننا مع إنزال هزيمة سياسية بالحزب الشيوعي السوفياتي، لكن هزيمة تنزلها به الجماهير في صراع سياسي مفتوح، بحيث تبقى الحقوق الديموقراطية محميّة.
ومع كل ذلك يجب تدقيق صورة تفكيك فعلي وكلي لجهاز الحزب الشيوعي السوفياتي. فإن ما ضُرب في الواقع، هو الجهاز المركزي للحزب، على مستوى الاتحاد بشكل أساسي، بالتلازم مع تفكيك الاتحاد بحد ذاته، الذي كان الحزب دعامته الرئيسية. أما على مستوى بعض الجمهوريات، وحتى مدن وجهات عديدة في جمهورية روسيا، فهذا الجهاز لا يزال يمارس صلاحياته، في جانب أساسي منها.
4 – إن حل الاتحاد وتحويله إلى كونفدرالية رخوة للغاية يمثل التغيير الأكثر جذرية الذي طرأ على الاتحاد السوفياتي في أغسطس 1991. إنه رد فعل شرعي ضد مركز مضطهِد، ونتاج الحدة التي بلغتها المسألة القومية حصيلة تراكمية لسلسلة ظاهرات تجلت ابتداء من العشرينات: الشوفينية الروسية الكبرى؛ تجليات الاضطهاد القومي المتعددة؛ حالات اللامساواة الاجتماعية-الاقتصادية (وإن كانت أقل فداحة مما في العهد القيصري)؛ أعمال القمع على نطاق واسع ضد بعض القوميات، النمو الحاد منذ عهد بريجنيف، لبيروقراطيات إقليمية قومجية تعتمد أكثر فأكثر على النزعة القومية في الجمهوريات وحتى تحفِّزها؛ أزمة أيديولوجية-أخلاقية عميقة جدا، يسّرت صعود النزعة القومية (والسلفية محليا).
بيد أن حل الاتحاد يثير مشكلات كبرى، لاسيما في سياق الأزمة الاقتصادية المفاقمة التي يتم فيها. فالدولة السوفياتية الممركزة لم تكن فقط بنية سيطرة وإكراه واضطهاد على المستوى القومي. لقد كانت أيضا مجموعة مندمجة اقتصاديا، مع تخصص إقليمي للإنتاج وتصريفه في الاتحاد على قاعدة قسمة إقليمية للعمل. لا شك أن المركزة البيروقراطية المفرطة، إذ كانت ترفع عمليا كل مسؤولية عن الجماعات المعنية، كانت مصدرا لتبذير هائل وانعدام متنام للفعالية الاقتصادية. لكن الانتقال إلى أولوية الإنتاج للسوق الداخلي لكل جمهورية، لا بل إلى شبه اكتفاء ذاتي، سوف يتطلب إعادات تحويل كبرى ويستتبع تقهقرا شديدا في المداخيل والوظائف. وهذا الانتقال لا يمكن أن يتحقق فضلا عن ذلك في المدى القصير أو المتوسط.
وينطبق الأمر على إعادة تحويل افتراضية لاقتصاد الجمهوريات الرئيسية نحو السوق العالمية. فالكثير من منتجات هذه الجمهوريات، القابلة للتصريف في ظل نظام الاتحاد واحتكار الدولة للتجارة الخارجية، يفتقد القدرة على المنافسة في السوق العالمية. إن إعادة التحويل هذه تستتبع إقفال عشرات الألوف من المنشآت، مع كل العواقب الاجتماعية التي سوف تترتب على ذلك.
في هذه الشروط، فحتى أشد أنصار اقتصاد السوق والتمليك الخاص في تيار يلتسن يؤيدون اتحادا اقتصاديا له بنى قاسرة، يشكل تحديد عملة له أحد العناصر الأساسية في قيامه. لكن مسألة العملة تتقاطع مع مشكلة توسع سيادة الجمهوريات وحدودها، لاسيما في حقل العلاقات مع الدائنين الرأسماليين الحكوميين أو الخاصين.
إن مبدأ عملة مشتركة، مندمجا بالإبقاء على قسمة عمل على مستوى الاتحاد القديم، ربما باستثناء بعض الجمهوريات، هذا المبدأ، مأخوذا على حدة، يحيل إلى الحاجة لمصرف مركزي، ولتمويل موازنة كونفدرالية، ولسياسة مالية، لا بل تجارية، أي إلى بنى سياسية مشتركة. ستكون هناك إذن توترات قوية جدا داخل الاتحاد الاقتصادي الذي هو في طور التكوين، لاسيما إذا حاول الاتحاد الروسي أن يحصل فيه على وزن طاغ. لقد انفتحت مرحلة انعدام استقرار طويل المدى، مصحوبة بتدابير إكراهية وتنظيمات من كل الأنواع. سوف نبقى بعيدين عن «استقلال» و«ليبرالية» اقتصادية فعليين داخل الجمهوريات. إن تسريع انفجار الاتحاد والهجوم الليبرالي-السوقي يحوّلان مشكلات إعادة الرأسمالية في اتجاه الجمهوريات ويزيدان من حدة اللامساواة بينها.
5 – يدافع الماركسيون الثوريون عن حق الشعوب في تقرير مصيرها وصولا إلى الانفصال الدولاني، وبما فيه ذلك الانفصال، حتى وإن لم ندع إليه. إن حل الاتحاد السوفياتي بوصفه اتحادا فدراليا بالترافق مع سيرورات إعادة الرأسمالية، سوف يتسبب بنتائج سلبية تصيب كل شعوبه. لكن العمليتين لا تسيران بالضرورة جنبا إلى جنب، ولا تكون المواجهة الفعالة لإعادة الرأسمالية عبر الدفاع عن الاتحاد القسري. يجب قبل كل شيء معارضة كل إكراه، أكان عسكريا أو اقتصاديا، يهدف إلى أن تُستبقى في الاتحاد شعوب لا تريد ذلك وتطالب اليوم بالاستقلال، وهو حقها غير القابل للتصرف والذي ندعمه.
إن الانتقال ضمن ظروف الاتحاد السوفياتي الملموسة من الاتحاد الفدرالي إلى شكل أو عدة أشكال كونفدرالية يشكل الوسيلة الوحيدة للوصول غدا إلى اتحاد جديد ديموقراطي حقا، بين جمهوريات متساوية الحقوق تساويا تاما. وهو اتحاد يجب أن يتم التفاوض بشأنه بحرية.
إن حق الشعوب في تقرير مصيرها حق ديموقراطي أساسي، لكن لا يمكنه أن يلغي حقوقا أخرى كحريتي التجمع والتظاهر، وحق التصويت، وحرية الصحافة، وبوجه خاص الحريات النقابية وحق الإضراب. وتنبغي مكافحة كل ميل لدى قيادات قومية رجعية إلى تضييق هذه الحريات والانقلاب ضد أقلياتها القومية الخاصة، غداة وصولها إلى السلطة. إن ما يحدث حاليا في جورجيا وأذربيجان وليتوانيا ومولدافيا وأمكنة أخرى يُبرز هذا الميل.
وإذ نميّز كما تقضي الضرورة بين قومية المضطهَدين وقومية المضطهِدين، نبقى مشدودين إلى روح التضامن الأممي الأصيل، روح التضامن لدى الشغيلة والشغيلات ضد كل أشكال الاضطهاد، مهما كانت الفروق العرقية، والقومية والإثنية. إننا ضد كل منطق الدولة «الإثنية الخالصة» وضد كل استغلال لمشاعر قومية لصالح إيديولوجيات رجعية.
6 – يجب وضع أزمة أغسطس في سياق تدهور سريع ومتواصل للوضع الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي. وهذا التدهور لن يتوقف إطلاقا بسبب صعود جناح يلتسن إلى السلطة، بل العكس هو ما سيحصل.
أما تفسير ذلك، بصورة أساسية، فمردُّه إلى أن «اقتصاد الأوامر»، الذي كان ينزع إلى الركود، إنما يتفكك، لكن دون أن يحل محله أي نظام اقتصادي متماسك ولو بعض الشيء. ضمن هذه الشروط، تندمج مساوئ سوء الاشتغال المتنامي «لاقتصاد الأوامر» مع مساوئ بدايات اقتصاد سوق قائم على المضاربة، فوضوي، وغير خاضع للرقابة، إن لم يكن إجراميا بالكامل.
إن الاستقلال المتزايد للجمهوريات والمنشآت أعاق تزويدها بلوازمها، خافضا الإنتاج في غياب سوق حقيقية للسلع الإنتاجية. وربما تراوح الانخفاض بين 5 و 10% كل ستة أشهر، منذ عام. إن عجز الدولة عن أن تدير هذا التركيب الهجين بصورة منسجمة، والذي زاد من حدته ميل الجمهوريات لأن تحد من مدفوعاتها لموازنة الاتحاد أو توقفها، كان يتسبب بعجز ضخم في المالية العامة غذّى سيرورة تضخم متسارع. كان لا بد أن يؤدي هذا التضخم إلى عجز متزايد في ميزان المدفوعات. وبالرغم من بقاء بجزء من الاحتياطي الكبير للذهب الذي كان بحوزة الاتحاد السوفياتي، فهذا الأخير مهدد بأن يصبح قريبا في حالة عجز عن الدفع حيال دائنيه الأجانب.
إنه لمن مصلحة الإمبريالية إذن أن تقدم مساعدات وقروضا لنظام يلتسن، أكثر مما لنظام غورباتشوف الذي كان قائما في السابق. لكن الأمر لا يتعلق بتاتا ب«خطة مارشال» [خطة المساعدات الأمريكية لأوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية] تتيح نهوضا حقيقيا للاقتصاد السوفياتي. فالمساعدة سوف تُمنح بالقطارة، وستتخذ بصورة خاصة شكل قروض يجري منحها للاتحاد السوفياتي لشراء مواد غذائية من بلدان أوروبا الشرقية، لأهداف ثلاثة: مساعدة موسكو، ودعم الاقتصاديات الأوروبية الشرقية وحماية الأسواق الأوروبية الغربية.
وستتخذ المساعدة أيضا، في جزء أساسي منها، شكل شركات مختلطة، سوف يسعى الرأسمال العالمي إلى أن يتملك بواسطتها بعض الأجزاء المربحة في الصناعة السوفياتية. فسوف تسعى المساعدات بالدرجة الأولى لإعادة تقويم إنتاج النفط والغاز، بحيث يتم هكذا خفض ارتهان الاقتصاديات الإمبريالية لبلدان الأوبيك. كما سوف يتم استخدام المساعدات بوجه خاص لزيادة الضغوط والابتزازات السياسية والاجتماعية-السياسية. ومنها على سبيل المثال، شروط الانضمام إلى صندوق النقد الدولي التي تهدف إلى فرض عبء التمليك الخاص على الجماهير المأجورة وتسهيل ظهور طبقة بورجوازية تقليدية في الاتحاد السوفياتي.
7 – إن أحد الأسئلة الأساسية التي طرحها الانقلاب الفاشل في أغسطس ونتائجه المباشرة هو كيفية تفسير محدودية ردود الفعل الشعبية. فغالبية السكان حافظت، في الواقع، على موقف انتظاري سلبي.
لا شك أنه جرت تحركات شعبية ضد المحاولة الانقلابية، لاسيما في موسكو ولينينغراد وجمهوريات البلطيق. وكان لدعوة يلتسن إلى الإضراب العام صدى ما بين عمال المناجم، لكن قليلة جدا أو معدومة كانت المنشآت الكبرى التي توقفت عن العمل في موسكو أو لينينغراد. وفي المراكز الصناعية في المقاطعات، كانت التحركات الشعبية شبه معدومة.
يمكن تفسير ضحالة حالات التعبئة الشعبية بعدة عوامل. فمن جهة، لا يزال قسم كبير من الجماهير غير مسيَّس، بسبب عقود من الدكتاتورية والتذرير. من جهة أخرى، ترتََّب على الضعف الهائل للأحزاب والمنظمات المعارضة (ما عدا في بعض الجمهوريات الطرفية) أنه لم تكن هناك أدوات، حتى جنينية، لتنظيم المعركة: فالتنظيم الذاتي للجماهير لا يزال معدوما.
لكن الواقع الأهم هو أن الجماهير الشعبية مهتمة قبل كل شيء بمشكلاتها المباشرة: فقدان السلع الضرورية، انخفاض القدرة الشرائية بمواجهة التضخم المتسارع، تهديدات تضغط على الاستخدام، تعديات على الضمان الاجتماعي. وثمة شك كبير في قدرة أي من القوى السياسية الرئيسية الموجودة، بما فيها جناح يلتسن، على تقديم حلول فعلية وسريعة لهذه المشكلات.
ويبدو عموما أنه يوجد فرق بين التصويت لل«ديموقراطيين الليبراليين» وإرادة التحرك فعلا للدفاع عنهم. ففي الانتخابات، كان ثمة ميل لدى الناس لتحديد وجهتهم على أسس أيديولوجية، من دون الرجوع المباشر إلى مصالحهم المادية. لكن على مستوى السياسة الملموسة، حين يكون هناك خطر قمع أو فقدان للدخل والوظيفة، تصبح الخيارات دائما أكثر مادية بكثير. فعلى هذا الصعيد، ثمة شعور شائع جدا بغياب الاختيار الحقيقي.
بيد أن هزيمة الانقلابيين يمكن أن تعزز الشعور داخل قطاعات جماهيرية بأن مقاومة تدابير سلطوية أمر ممكن.
8 – إن الطريقة التي انتهى بها الانقلاب الفاشل في أغسطس سرّعت الميول إلى تفكك الدولة العمالية المنحطة والى إعادة الرأسمالية. لكن العلامات الحاسمة لهذه السيرورات لا تظهر على المستوى الأيديولوجي، ولا على مستوى الرموز، بل في ميدان نظام الملكية، وفي حقل الآليات الاقتصادية الأساسية، وفي الطبيعة الفعلية للتجارة الخارجية، وفي تحويل وظائف المراكز الحاسمة للسلطة السياسية، وقبل كل شيء أجهزة القمع (الجيش، شرطة الدولة)، عبر التكييف و/أو الاستبدال.
ما تزال هذه السيرورات في بداياتها: تقوم القوى المهتمة بإعادة الرأسمالية بالهجوم في ميداني الحكومة والدولة، بهدف تغيير البنى الاجتماعية-الاقتصادية. لكن العوائق هي الأضخم على هذا الصعيد الأخير. فإذا كان هناك بلا أدنى ريب، مشروع لإعادة الرأسمالية، فهذا المشروع لم يتحقق بعد. ذلك أن الاقتصاد السوفياتي لا يشتغل بعد وفقا لقوانين تطور نمط الإنتاج الرأسمالي ومنطقه الداخلي. فلأجل ذلك، ينبغي أن يخضع القطاع العام بحد ذاته لمقاييس رأسمالية، الأمر الذي يفترض بوجه خاص، ضمن الظروف الحالية، إعلانات إفلاس كثيرة وبالتالي تسريحات كثيفة.
فضلا عن ذلك، ليس هناك طبقة صناعيين/مقاولين قادرين على العمل على قاعدة السعي بقدر ولو قليل من الكفاءة وراء ربح المنشأة، في الاتحاد السوفياتي. إن «الأغنياء الجدد» الذين يتكاثرون فيه ـ هناك مئة ألف مليونير بالروبلات ـ يتوجهون نحو المضاربة والأرباح السريعة، سواء أتوا من قطاعات «النومنكلاتورا» أو من قطاعات المافيا.. وحتى لدى الكولخوزيين [الكلخوز هو المزرعة الجماعية]، يقل الحماس للمؤسسة الزراعية الخاصة.
علاوة على ذلك، يتطلب تحويل الصناعة الكبرى إلى الملكية الخاصة تقديم ما لا يقل عن مبلغ يعادل ألف مليار دولار. وهذه الرساميل غير متوفرة لهذه الغاية لا في الاتحاد السوفياتي ولا على المستوى العالمي، لاسيما في المناخ الحالي للشح النسبي للاعتمادات في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، سيكون هناك حاجة لزمن طويل من أجل جمعها. وأخيرا وبوجه خاص، ستكون الأكلاف الاجتماعية لتحويل الصناعة الكبرى إلى القطاع الخاص مرتفعة جدا ـ من 30 إلى 40 مليون عاطل عن العمل، ومن 60 إلى 70 مليون فقير ـ بحيث لا بد أن تحدث ردود فعل شعبية أكثر فأكثر اتساعا، لا بل انفجارات اجتماعية حقيقية.
من جهة أخرى، يضاعف الاقتصاديون والمستشارون من تيار يلتسن تصريحاتهم التي يقولون فيها إن حماية مجمل السكان من عواقب «معالجة بالصدمة» من نموذج «خطة الخمسمئة يوم» مستحيلة عمليا في الاتحاد السوفياتي.
إن انعدام الاستقرار الاجتماعي بهذا الشكل العميق هو أحد الأسباب التي تجعل الرأسمال العالمي غير مستعد للتوظيف بكثافة في الاتحاد السوفياتي.
9 – إن المقاومة الشعبية تبقى أحد العوائق الأساسية في وجه إعادة الرأسمالية. لكن المقاومة الشعبية، وحتى إمكان قيام حركات احتجاج متفجرة، لا يسيران بالضرورة جنبا إلى جنب مع اتجاه عام نحو التنظيم الذاتي، وبصورة أقل أيضا مع مشروع اجتماعي مضاد في آن واحد للديكتاتورية البيروقراطية ولإعادة الرأسمالية. فهكذا اتجاه، وهكذا مشروع غائبان تماما في الوقت الراهن، وسوف يمر زمن طويل قبل أن يتمكنا من الظهور.
في هذه الشروط، لا يمتلك أي من المخارج الأساسية الثلاثة لأزمة تفكك المجتمع السوفياتي ـ عودة ثابتة لنظام من النموذج النيو-ستاليني، أو إعادة الرأسمالية بصورة نهائية، أو إرساء سلطة ديموقراطية حقيقية للشغيلة ـ فرصا للتحقق حتى على المدى المتوسط، إن التوجه نحو الرأسمالية الذي يسيطر اليوم لا بد أن يمر حتما بتفكك طويل الأمد وفوضوي للنظام، تبقى ممكنة خلاله عدة نماذج من الخضات.
يستتبع ذلك بصورة ملموسة أنه لا تزال هناك ثلاثة أنواع من المصالح المتواجهة: 1) مصالح جناح «نومنكلاتورا» العازم على الدفاع عن امتيازاته وسلطته المختلفة عن امتيازات البورجوازية الجديدة والبروليتاريا وسلطتهما؛ 2) مصالح البورجوازية الجديدة التي انضمت إليها كتلة متنامية من «نومنكلاتورا» والتي يدعمها قطاع واسع من المثقفين و«الطبقات الوسطى الجديدة»، 3) مصالح البروليتاريا وقسم من الفلاحين الكادحين لهم اهتمامات مشابهة لاهتماماتها.
يدافع البيروقراطيون بصورة برغماتية عن امتيازاتهم ويختارون معسكرهم تبعا لموازين القوى المحلية والإقليمية وعلى مستوى الاتحاد. وداخل البورجوازية الجديدة، غالبا ما تتناقض توجهات مختلف الأجنحة ومصالحها، لاسيما تلك الآتية من «نومنكلاتورا» وتلك التي تجسّد سيرورات تراكم رأسمالي بدائي. وتجتاز الطبقة العاملة، هي أيضا، انقسامات اجتماعية-مهنية، ناهيكم بالانغلاقات القومية.
لم تُهزم البيروقراطية النيو-ستالينية نهائيا، مثلما ليست عاجزة عن الرد على الصعيد السياسي. وقد بدأنا نشهد في روسيا، ولاسيما في الجمهوريات الأقل فقرا، محاولات انقلابية جديدة أو مبادرات مشابهة أخرى: محاولات نيو-ستالينية، لكن كذلك محاولات لإرساء دكتاتورية هادفة لفرض تعميم السوق بيد من حديد.
10 – على القوى الاشتراكية خلال كل هذه الفترة أن تخوض نضالا مركّبا:
- لأجل الدفاع عن الحربات الديموقراطية، وتوسيعها، تجسيدها في مؤسسات سياسية، لاسيما حرية التعبير والتنظيم السياسي الكاملة، وبوجه خاص في أماكن العمل وفي القوات المسلحة.
- لأجل الدفاع عن كل الحقوق القومية، بما فيها حقوق الأقليات في كل جمهورية، وضد كل إساءة إلى ممارسة هذه الحقوق.
- ضد التمليك الخاص للصناعة الكبرى والمصارف والخدمات الاجتماعية والثقافية، ومع ضمان الاستخدام وحد أدنى من الدخل والمساواة في الوصول إلى ضروريات الحياة، للجميع ذكورا وإناثا.
إن الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، والبطالة طويلة الأمد وحتى المجاعة أمور لا يمكن تفاديها إلا بدفاع نشيط عن الملكية الاجتماعية، وبفتح السوق العالمية أمام منتجات الاتحاد السوفياتي من دون العقوبات والتعرفات المنافقة التي يستمر الإمبرياليون في فرضها. وهذا يستتبع إلغاء شتى القيود والحصارات الإمبريالية.
- من أجل خفض النفقات العسكرية، وإلغاء الامتيازات الممنوحة لقمة الهرم العسكري، وتفكيك قوى القمع، وضد تجنيد الشبيبة، من أجل تدابير لنزع الأسلحة النووية من جانب واحد، كأفضل مساهمة في نزع السلاح النووي العالمي.
11 – إن الشرط الذي لا غنى عنه من أجل أن تتمكن هكذا معركة من أن تتطور تدريجيا وتفضي على مدى أبعد إلى إعادة تشكيل الوعي الطبقي السياسي للجماهير الكادحة، هذا الشرط هو تحقيق استقلال سياسي-تنظيمي أصيل لهذه الجماهير، واستقلالها السياسي الطبقي الضروري.
لهذه الغاية، يجب تقديم التشجيع والدعم النقدي لكل الجهود الجارية لإعادة تجميع اليسار الاشتراكي للاتحاد السوفياتي السابق، وهو اليوم يسار ضعيف وشديد التشتت، يسعى وراء تجميع قواه من دون عصبوية ومن دون أي حالات استبعاد، على قاعدة تعددية، تحترم أوسع ديموقراطية. وسوف يدافع الماركسيون عن تصوراتهم البرنامجية والسياسية من دون تحفظ داخل هذه الأطر، لكن مع الاحترام الصادق لاتفاقات وحدة العمل ولحرية كل التيارات الأخرى.
ومن أجل أن تخدم هكذا تجمعات الهدف المنشود، ثمة حاجة علاوة على احترام الديموقراطية داخلها، إلى الانخراط العملي إلى جانب الجماهير الكادحة المناضلة لأجل مصالحها المباشرة، ورفض التضحية بالتطور الحر للحركة الجماهيرية لصالح اعتبارات سياسية «واقعية»، سواء كانت انتخابية أو اقتصادية. لما كان الاتجاه إلى إضفاء الطابع الأممي على النضال الطبقي يأخذ طابعه الحالي، ويؤكد نفسه بوجه خاص بالتدخل الدائم للإمبريالية في الجدالات والصراعات الجارية في الاتحاد السوفياتي السابق، يتوجب على الماركسيين الدفاع عن مبدأ بناء منظمة ثورية قومية وأخرى عالمية في الوقت ذاته، نظريا وفي الممارسة. إن الجهود من أجل تشكيل تنظيم للأممية الرابعة في الاتحاد السوفياتي تتلازم بالنسبة إلينا مع الجهد لتشكيل تجمعات جديدة أكبر اتساعا.
إن هنالك تدهورا جاريا على المستوى العالمي في موازين القوى بين الطبقات لصالح الرأس مال وعلى حساب العمل المأجور. ولا تفلت من هذا الواقع غير بلدان نادرة. علاوة على ذلك، وفي مدى أبعد، يعدّل الظهور المتجدد لكفاح عمالي جماهيري، في الاتحاد السوفياتي سابقا وعدة بلدان شرقية، يعدّل هذه الصورة، وإن لم يترافق ذلك مع وعي سياسي واضح.
كذلك الأمر، يترك انهيار الستالينية على المدى الطويل حيّزا أوسع لإعادة تركيب الحركة الجماهيرية والحركة العمالية المنظمة، وهي سيرورة يستحيل حاليا توقع وتائرها ومناطقها الجغرافية المعنية بشكل رئيسي.
لكن إعادة التركيب هذه لن تكون الناتج الآلي لموجات نضال متتابعة. وهي تتطلب إعادة صياغة مشروع اشتراكي، مشروع اجتماعي إجمالي مضاد، كما تتطلب استقلال طبقي وسياسي بأفق للسلطة السياسية متميز في آن عن الديموقراطية البورجوازية وعن الدكتاتورية البيروقراطية. ويتعلق الأمر بتغيير لا يمكن أن يتم إلا في المدى البعيد.
12 – إن انهيار السلطة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي وتفكك الاتحاد السوفياتي سرّعا السيرورة التي كفت بها ثورة أكتوبر عن أن تكون مرجعا لجماهير واسعة في الاتحاد السوفياتي، وأوروبا الشرقية والبلدان الإمبريالية وعدد من البلدان نصف المصنَّعة في العالم الثالث. والشيء ذاته يقال بالنسبة لقسم كبير من الطليعة وأقصى اليسار في معظم هذه البلدان.
يزيد من حدة هذه المحصلة السلبية هجوم أيديولوجي واسع النطاق تشنّه البورجوازية العالمية، التي تصف بصورة وقحة جرائم الستالينية، وهي نواتج الثورة المضادة، بأنها من أعمال الثورة. وكل ذلك يتعلق بمسعى للتزييف والتزوير التاريخيين اللذين يتوازيان مع التزييف والتزوير الستالينيين. لكن رؤية الجماهير للتاريخ حاليا بهذه الطريقة، وإن كان الأمر يتعلق برؤية مزيفة، تصبح بدورها عاملا يضغط بثقله على المسار التاريخي الجاري.
من جهتنا، لن نخضع لهذا الضغط. وسوف نستمر في الدفاع عن شرعية ثورة أكتوبر، وفي انتسابنا إلى إرثها بصورة نقدية. فبفضل ثورة أكتوبر تمكنت روسيا من التخلص من بنى همجية كان يعاني منها الفلاحون بوجه خاص، وتمكنت من التحول في مدى جيل واحد من بلد نصف مصنّع قريب إلى حال العالم الثالث إلى القوة الصناعية الثانية في العالم.
لم تكن ثورة أكتوبر انقلابا. لقد كانت نتاج إحدى الحركات الجماهيرية الأوسع والأكثر جذرية في التاريخ. ولقد سمحت مكتسباتها الاجتماعية-الاقتصادية، وإن جرى تفكيكها جزئيا وتشويهها أكثر فأكثر بفعل الانحطاط البيروقراطي، سمحت بعقود من النمو الاقتصادي المتواصل، بدءا من عام 1952 بارتفاع ولو أكثر تواضعا في مستوى حياة الجماهير. هذه المكتسبات – وبوجه خاص تأميم وسائل الإنتاج والتبادل الكبرى، والتخطيط الاقتصادي واحتكار الدولة للتجارة الخارجية ـ بقيت مكتسبات فعلية بالرغم من الدكتاتورية البيروقراطية، لكن مكتسبات مندمجة بالتبذير الاقتصادي والبيئوي وبالجرائم المخيفة للدكتاتورية.
والحال أن البقرطة قوضت الآثار الإيجابية لمكتسبات ثورة أكتوبر، كما توقع تروتسكي، وذلك بصورة متنامية حين تعلق الأمر بالانتقال من التصنيع الانتشاري إلى التصنيع التكثيفي، ومن أولوية الكمية إلى أولوية النوعية، ومن خلق البنية التحتية الصناعية إلى إعطاء الأولوية لكفاية الحاجات الاستهلاكية للجماهير. لقد تبين عجز البيروقراطية عن القيام بهذه التحولات، ولقد غدت تدريجيا كابحا مطلقا لتطور الاتحاد السوفياتي بالذات.
لهذا السبب ـ وبالتوازي مع الإعلام المعمّم حول الارتفاع النسبي لمستوى حياة بروليتاريا البلدان الإمبريالية خلال التوسع الطويل لمرحلة ما بعد الحرب ـ كفّت الجماهير السوفياتية عن اعتبار ما بقي من مكتسبات أكتوبر مكتسبات حقيقية.
إلا أن الأمر لا ينطبق على الاستخدام الكامل والمضمون على امتداد عقود. إن الشعوب السوفياتية لا تزال متشبثة جدا بهذا المكسب، وتربطه بصورة غريزية بنظام اقتصادي مختلف عن ذلك القائم على الملكية الخاصة. وهي سوف تلاحظ، بالرغم من التقهقر البديهي للمكتسبات الاجتماعية في الاتحاد السوفياتي خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، أن عودة الرأسمالية تمر بتدمير هذه المكتسبات لا بتحسينها.
13 – كان التحليل التروتسكي للاتحاد السوفياتي يلح على الطبيعة الانتقالية ـ المؤقتة ـ للنظام المنبثق من مصادرة سلطة البروليتاريا السوفياتية، ومن الثورة المضادة السياسية الدموية التي أنجزتها الستالينية إبان الثلاثينات. وكان يصر على أن الأمر، تماما كما في حالة الترميدور والبونابرتية اللذين ظهرا بعد الثورة الفرنسية، لم يكن يتعلق بثورة مضادة اجتماعية تستتبع العودة إلى النظام القديم. وكان التحليل التروتسكي يشدد على التحدد التضافري [surdétermination] لتطور الاتحاد السوفياتي بنمو صراع الطبقات عل المستوى العالمي، فاضحا نظرية إنجاز «الاشتراكية في بلد واحد» أو في معسكر واحد على أنها طوبى رجعية.
وفي حين كان التفسير التروتسكيّ يفضح بشدة الوجوه القمعية ـ المناهضة للعمال، والمناهضة للديموقراطية، والشوفينية، والمناهضة للنساء ـ الخاصة بالدكتاتورية البيروقراطية، كان يؤكد أن الإبقاء على الملكية المؤممة والتخطيط المركزي، ولو كانا بيروقراطيين، يتيح تطورا اقتصاديا ومكسبا اجتماعيا رئيسيا ـ هو الاستخدام الكامل الدائم ـ سوف تعرضهما للخطر أي إعادة للرأسمالية. وفي حين كان (ذلك التحليل) يرى في البيروقراطية بيئة ملائمة لنمو اتجاهات لإعادة الرأسمالية، لاحظ أنه على امتداد فترة تاريخية قد تطول، يمكن أن تدافع الفئة البيروقراطية عن سلطتها وامتيازاتها المادية الضخمة في وجه البورجوازية وفي وجه البروليتاريا في آن واحد. وأكد أنه ليس ثمة طريق منسجمة ثالثة على المستوى التاريخي غير إعادة الرأسمالية أو الثورة الاشتراكية المناهضة للبيروقراطية.
كل هذه التصورات ثبت أنها ملائمة لفهم طبيعة الاتحاد السوفياتي وصيرورته. وهي تستتبع بشكل سليم ضرورة الكفاح الحازم ضد الميول إلى التمليك الخاص والى إعادة الرأسمالية، دفاعا عن مصلحة الجماهير، مع النضال في الوقت ذاته ضد الاستبداد البيروقراطي، وهي خلاصة يصعب كثيرا على المدافعين عن تصورات أخرى بصدد طبيعة الاتحاد السوفياتي أن يدافعوا عنها بصورة متماسكة.
14 – لكن ذلك لا يعني البتة أن في وسعنا اليوم الاكتفاء بالقول: «لقد كنا على حق». لا شك أننا لم نتوقع مسار الأحداث في الاتحاد السوفياتي كما تحدد عام 1991. ينبغي بالتالي أن نكتشف مصادر الأخطاء في حكمنا. ومن الضروري في الوقت ذاته أن نبدأ بعمل إعدادي لبلورة نظريتنا حول المجتمع الانتقالي وبناء الاشتراكية.
- لقد تأخرنا في الاعتراف ب«القفزة النوعية» في الأزمة المنظومية للاتحاد السوفياتي التي كان يمثلها تباطؤ النمو الاقتصادي وكل النتائج الاجتماعية التي انبثقت منه. وهذه القفزة كانت قد حدثت، بلا ريب، حوالي نهاية السبعينات.
- ولقد أسأنا أيضا، بصورة خطيرة، تقدير العواقب المترتبة في المدى الطويل، على الدكتاتورية البيروقراطية، وعلى تذرير البروليتاريا والأزمة الأيديولوجية-الأخلاقية العميقة جدا اللذين نتجا عنها، بالنسبة للوعي الطبقي للبروليتاريا السوفياتية وللدينامية المحتملة للقطيعة مع النظام البيروقراطي.
- وتأخرنا، وإن بصورة أقصر زمنيا، في التعرف إلى الانعكاسات السياسية لأزمة المصداقية المعمّمة للاشتراكية بالنسبة لقسم مهم من البروليتاريا العالمية وقبل كل شيء بروليتاريا بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي. وفي عودة إلى الوراء، يمكن تحديد موقع «القفزة النوعية» في هذا الصدد أثناء الانقلاب العسكري للجنرال ياروزلسكي، أي انطلاقا من عام 1982. تنضاف إلى ذلك الآثار المركّبة لكارثة كمبوديا والتدخل العسكري في أفغانستان.
بعد ذلك التاريخ، بات توجه الجماهير في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي سياسيا على نحو مشابه لما جرى في المجر عام 1956، وفي تشيكوسلوفاكيا عام 1968، وفي بولندا عام 1980-1981، أمرا بعيد الاحتمال. غدا تفكك الدكتاتورية مترافقا أكثر فأكثر مع الرفض الإجمالي لنظام تجري تسويته بالاشتراكية ومع البحث الوهمي عن حلول من جهة السوق الرأسمالية. وقد حدث هذا الانعطاف في السياق الأوسع لتراجع في الثورة العالمية: لم يحصل انتصار ثوري واحد منذ انتصار نيكاراغوا عام 1979، ولم يحصل أي إضراب عام طويل المدى في أي بلد إمبريالي خلال الثمانينات.
15 – فضلا عن ذلك، فإن عملا إنتاجيا نظريا وسياسيا يعمّق تحليل الجردة التاريخية لاتحاد السوفياتي وتحديد مهامنا يفرض نفسه. وينبغي أن يتناول بوجه خاص النقاط الآتية:
- مؤسسات السلطة السياسية خلال الفترة الانتقالية، أي أشكال تركيب أجهزة الدسموقراطية المباشرة، وأجهزة الديموقراطية التمثيلية، والأجهزة التي تضمن تساوي الجنسين، والمساواة بين القوميات، الخ.
- المضمون الملموس «للنموذج» الثالث للتطور الاقتصادي، المتعارض في آن مع استبداد الدولة (اقتصاد الأوامر) واستبداد السوق والمال: نموذج ديموقراطية المنتجين والمستهلكين الذي يدمج البعدين النسوي والقومي؛ تحديد أدق لأشكال التخطيط الاشتراكي على مختلف الدرجات الإقليمية ومع أخذ متطلبات حماية البيئة بالحسبان؛ نقاش حول تركيب أشكال الملكية، وحول حاجات استهلاك الجماهير وأشكال ضمان مساواة متنامية.
- تفكير إجمالي بصدد الدينامية المتناقضة للمسألة القومية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الوسطى وإعداد أجوبة برنامجية متماسكة بصدد الضرورة المزدوجة لتحرر الأمم والقوميات وتخطي الإطار الضيّق للدولة-الأمة.
- توضيح البعد الأممي لهذه الاستراتيجية.
هذه الصياغة تجريبية بالضرورة. وسوف تنطبع بقوة بالخلاصات المتتالية التي سيصل إليها الشغيلة، رجالا ونساء، والاشتراكيون في الاتحاد السوفياتي بأنفسهم فيما يتحاورون مع ماركسيي باقي أصقاع العالم.
وفي الواقع، إن أحد أسباب النقص في الصياغة النظرية التي قمنا بها في العقود الماضية يتمثل في أنه منذ الأربعينات كانت هذه الصياغة منقطعة عن كل ممارسة سياسية داخل الاتحاد السوفياتي بالذات. وهذا الانقطاع قد جرى تخطيه الآن. كما أن التحرك المستجد لقطاعات من البروليتاريا السوفياتية (عدة ملايين من المضربين) يشكل النتيجة الإيجابية الرئيسية لتفكك الدكتاتورية البيروقراطية، بمعزل عن البلبلة الأيديولوجية لدى تلك القطاعات.
إن بناء تنظيم موحد للطليعة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وعلى المستوى العالمي، وهو لا ينفصل بالنسبة إلينا عن بناء الأممية الرابعة، إنما يتخذ لهذا السبب بعدا خاصا.
عن مجلة "المطرقة" ـ مجلة شيوعية ثورية لعموم المنطقة العربية، العدد 8 ـ يناير 1992.