الحركات الإسلامية ورفض الحداثة السياسية.
لطفي الإدريسي
2010 / 2 / 1 - 06:43
إذا كانت ظاهرة الحركات الإسلامية تفسر بغياب الحداثة السياسية، فإنها تتميز أيضا برفضها لهذه الأخيرة. وهي بذلك تعبر عن تشبث عفوي وعميق بالدولة القديمة وتصارع من أجل بقائها، معلنة رفضها تأسيس دولة حديثة، منفصلة عن المجتمع المدني وبالتالي عن الدين. فضلا عن ذلك، فإن ظهورها قد ارتبط، بالأحرى، بالبلدان التي تسعى إلى الإنخراط في الحداثة السياسية:)إيران بالأمس (و)الجزائر، مصر وتركيا اليوم (؛ رغم كونها تتعارض بقوة مع هذه الصيرورة. وعلى عكس ذلك، فإنها تمتاز بحضور أقل من داخل البلدان الأقل تقدما على مستوى هذه التجربة: (المغرب، ليبيا، سوريا والعراق(.
في الواقع، يمكن تفسير هذه الوضعية بسهولة: فعلى امتداده التاريخي، ظل الإسلام مرتبطا بشكل وثيق بالدولة وتحت أشكال مختلفة. طبعا فهو عادة ما يكون تابعا للسلطة السياسية، التي تراقبه وتوظفه في نفس الآن، لكن بقاءه مرتهنا بدعم الدولة، التي تعتبر ضرورية لوجوده وتطوره، جعله يقف حاجزا أمام طموحها في أن تتخلص من سطوته، وتصبح علمانية. علاوة على ذلك، فالإسلام، وكغيره من الديانات، ينزع إلى توجيه الحياة في كافة مظاهرها الاجتماعية والسياسية؛ وطموحاته في هذا الإطار تقوده، بشكل طبيعي، إلى رفض الدولة الحديثة والمناداة بتأسيس دولة إسلامية.
كما هو معروف بالعالم الإسلامي، حيث الإسلام يشكل الدين الرسمي للبلاد، تتسم الدولة بطابع ديني واضح المعالم. لكن هذه الوضعية ليست مرضية دائما بالنسبة للإسلام، خاصة وأنها ما فتئت تتطور، مما قد يشكل خطرا عليه. لهذا فقد تطورت الحركات الإسلامية رافضة الحداثة السياسية بطريقتين مختلفتين: فمن جهة فهي توجه نقدا جذريا للدولة الحالية، التي تتجه نحو التنكر لقيم الإسلام ومقتضياته، ساعية إلى اختزاله إلى مجرد أداة بسيطة في خدمة السلطة. فهي تؤاخذ هذه الدولة بكونها تهمل المصالح الروحية والمادية لجماعة المسلمين، وتتجه نحو الحداثة السياسية متخلصة من أي تأثير ديني. وبهذا فهي تعمل جاهدة لمنع قيام دولة حديثة قد تصبح سريعا علمانية، ومجتمع مدني حيث الدين يصبح حرا. هكذا إذن، فهي ترفض الدولة العلمانية بمثل ما ترفض الحرية الدينية. ومن جهة أخرى، فإن الحركات الإسلامية تقترح بناء دولة إسلامية، تستلهم قيم الإسلام وتسعى إلى التطابق مع القانون الإسلامي؛ دولة يجب أن تحترم وتطبق تعاليم الشريعة )القران والسنة(، التي يجب أن توجه حياة الأفراد والمجتمع. الإسلام هنا لم يعد بالإمكان اختزاله إلى مجرد أداة في يد الدولة، بالعكس فالدولة هنا هي التي تصبح في خدمة الإسلام.
إن الدولة الإسلامية إذن، وبالمعنى الدقيق، هي نقيض للدولة الحديثة: وفي هذه الحالة، ليس فقط هناك غياب للفصل بين الدولة والدين، بل أيضا هناك تبعية للأولى تجاه الثاني. وعليه، فإن السياسي والديني يختلطان، ومن منظور اكثر عمقا فإنه لاوجود لأي فصل بين الدولة والمجتمع. فسعيا وراء تحقيق مشروع الدولة الإسلامية هذا إذن، تنخرط الحركات الإسلامية في حرب ضد الحداثة السياسية وتعمل على منع قيام دولة حديثة، بل وأيضا حدوث أي تطور سياسي؛ ولعل هذا ما توضحه بجلاء تجربة البلدان التي تمكنت فيها هذه الحركات من فرض سلطتها: خاصة إيران والسودان .
إن البلدان الإسلامية تظل، بشكل خاص، ضعيفة ولاحول لها ولاقوة أمام صعود الحركات الإسلامية، لكونها لم تتمكن بعد من ولوج الحداثة السياسية. فهي قد حاولت، في هذا الإطار، أن تتبنى موقفا معتدلا وان تقدم تنازلات لإرضاء بعض المطالب الأساسية للإسلاميين. ولهذا نجدها تسعى جاهدة للحفاظ على الإسلام كدين دولة، وتبذل قصارى جهدها للاستجابة لمتطلباته، وهذا ما يتجسد بالخصوص في دمجها إياه في نظمها التعليمية والسهر على تطبيق القانون الإسلامي فيما يتعلق بشؤون الأسرة، مع العمل على بناء وصيانة المساجد والمعاهد الإسلامية. لكن هذا الموقف بالطبع، لا يسمح لها بأن تصبح دولا حديثة وعلمانية. وبالمثل، فإن التقدم المستمر للحركات الإسلامية، ولجوءها إلى العنف، يشكلان تهديدا يمنع بحق هذه الدول من التوجه نحو الحداثة السياسية ويصد أمامها أيضا طريق التطور.
تأسيسا على ما سبق، فإن الحركات الإسلامية تتعارض بشكل مباشر مع الحداثة السياسية، حتى وإن كانت تستفيد من المكتسبات التقنية للعصر وتتمسك بمسايرة التقدم العلمي. لهذا، فإذا كان من الممكن تحديث الإسلام بشكل تدريجي، وذلك عن طريق سلسلة من الإصلاحات المناسبة، فإنه قد يبدو من الصعب جدا، بل من المستحيل أسلمة الحداثة، لأن ذلك يقود حتما إلى تدمير هذه الأخيرة. في الواقع، هناك تعارض كلي بين الحركات الإسلامية والحداثة السياسية، فالأولى تستثني كلية الثانية، ولايمكن أن تقود إليها البتة .
إن أكبر وهم إذن، هو أن نفكر في أنه بإمكان الحركات الإسلامية – لو وصلت إلى السلطة – أن تؤسس دولة حديثة، وتحل بذلك مختلف المشاكل التي يتخبط فيها المجتمع. بالعكس من ذلك تماما، فإنها ستعمل على تسييد وتأبيد نموذج للدولة القديمة، مانعة بذلك كل إمكانية للتطور نحو الحداثة السياسية. من هذا المنظور إذن، قد يبدو من غير المستساغ تماما، البحث عن تسويات مع الحركات الإسلامية واقتسام السلطة مع مناصريها، وذلك لسببن: أولا من المحتمل ألا يكتفي هؤلاء بهذا الانتصار الجزئي، مما يدفعهم نحو البحث عن تعزيز وضعهم وفرض نفسهم أكثر فأكثر، وبالتالي يصبح حضورهم هذا ونشاطهم السياسي متعارضا بشدة مع تكوين دولة حديثة منفصلة عن المجتمع، وبالتالي عن الدين. وبناءا عليه، فالأجدر أن يتم إبعاد الحركات الإسلامية عن مجال الدولة والعمل على ألا يصلوا إلى السلطة، وذلك بحجة الديمقراطية. لامجال إذن للتفاوض مع الإسلاميين ولا لإشراكهم في الحكم، بل يجب بالأحرى التصدي لهم بقوة، ولو اقتضى الأمر باللجوء إلى الإكراه والعنف الشرعي.
على ضوء هذه الاعتبارات إذن، يمكن تقدير المواقف التي يتبناها بعض المختصين في دراسة الإسلام أو بالأحرى الحركات الإسلامية؛ فهؤلاء لديهم معرفة دقيقة بالظاهرة الإسلاموية في تنوعها وتعقيدها. لقد قاموا بتحليلات صارمة وموضوعية، مقدمين تاويلات ثاقبة مصحوبة أحيانا بتعاطف حذر، بل وأيضا بنوع من المجاملة، وهم بذلك يقدمون الدليل على مدى انفتاحهم وتفهمهم. لكن، وإن كانوا قد أدركوا موضوع دراستهم بطريقة علمية، فعادة ما تنقصهم الأطر النظرية اللازمة لتقديم حكم مناسب حول ذلك الموضوع؛ فاستنتاجاتهم واقتراحاتهم العملية تعاني من الضعف الحاصل على مستوى مفاهيمهم السياسية. في الواقع، إنهم لا يتوفرون على نظريات سياسية ملائمة كي يدفعوا بأبحاثهم إلى نهايتها؛ فهم يتساءلون حول طبيعة العلاقات بين الحركات الإسلامية والحداثة، ويبحثون في طرق المصالحة بينهما. لكن، يبدو أن مفهوم الحداثة الذي يتم استخدامه أيضا من قبل الإسلاميين، يظل مفهوما فضفاضا وغير محدد. أما بخصوص مفهوم الحداثة السياسية فيظل غائبا ومجهولا أيضا، في حين أنه ضروري لمناقشة وإبداء الرأي حول ظاهرة الحركات الإسلامية كظاهرة سياسية بامتياز.
إن ثغرة كهذه هي التي تفسر سقوط هؤلاء في مثل تلك الأحكام المتسرعة، والتي قد تكون أحيانا ساذجة بل وخطيرة أيضا. وهكذا، فهم يعتبرون بأن الحركات الإسلامية تتوافق مع الحداثة ومع الديموقراطية ، كما أنهم يشيرون أيضا إلى أنه بإمكانها أن تقود إلى الحداثة، وأن تعيد اكتشاف القيم الديموقراطية . وفي تقديرهم هذا، يصبح بالإمكان إدماج الإسلاميين في اللعبة الديموقراطية، كما أن الحركات الإسلامية تبقى أقل خطورة من النزعة العلمانية المحافظة . علاوة على ذلك، فهم يعتقدون أيضا بأن الحركات الإسلامية تلعب دورا إيجابيا في تجديد النخب الحاكمة، وأنه- ومن دون الحاجة إلى ضمانات- فإن مساهمتها في سيرورة البناء الديموقراطي ممكنة، بل حقيقية ؛ كما يأملون أيضا في أن تتحول الحركات الإسلامية إلى قوة ديموقراطية فاعلة . حقيقة، تبقى هذه المواقف الكريمة والصادرة عن حسن نية بالطبع، مردودا عليها وساذجة، لأنها تتجاهل الطبيعة الفعلية للحركات الإسلامية ومنطقها العميق. ففي جوهرها، تظل هذه الأخيرة غريبة عن الحداثة السياسية ومتعارضة معها ومع كل ما تعنيه من قيم، بما في ذلك الديموقراطية الناتجة عنها. بهذا الشكل إذن، فإن الحركات الإسلامية لايمكنها أن تحضى بأية قيمة سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة، كما أنها اقل ديموقراطية لأنها ترفض مبدأ استقلالية السياسي بمثل ما ترفض مبادىء الديموقراطية.
لكن، وبالمقابل، يمكن للحركات الإسلامية أن تؤدي – وبشكل غير مقصود – وظيفة هامة على مستوى التطور السياسي بالعالم الإسلامي، لأنها تقسم وبعمق هذا الأخير، مفسحة بذلك المجال للتعددية، تماما كما قسمت البروتستانتية أوروبا المسيحية وعمقت خلافاتها في القرن 16. كما أنها تساهم كذلك في إرساء ثنائية من داخل هذا العالم المعروف بواحديته التقليدية ؛ هذه الثنائية في المجال الديني التي يمكن أن تقود، ومع الزمن، إلى فصل بين الدولة والدين ثم بين الدولة والمجتمع. بطبيعة الحال، قد تعني هذه الصيرورة اللجوء إلى الإكراه والعنف، مما قد يفتح الباب أمام حروب أهلية، إلى حدما، طويلة وعنيفة تماما كما في أوروبا التي شهدت حروبا دينية مرعبة في القرنين)16 و17 (18. وهكذا وبشكل غير مباشر إذن، وبطرق غير متوقعة أيضا، يمكن للحركات الإسلامية أن تؤدي عكسيا إلى ظهور الحداثة السياسية. فوراء المطالبة بدولة إسلامية، تنم هذه الحركات في الواقع عن ضرورة عميقة إلى الدولة، وعن مطلب للحداثة السياسية. هكذا إذن، فإن ما يخشاه الإسلام بشكل أكب،ر هو انقسام الجماعة الإسلامية و انشقاقها )الفتنة (؛ الأمر الذي يؤدي إلى تطور سياسي قطعي، ويقود بالتدريج نحو إقامة الدولة الحديثة والديمقراطية. ولهذا، فإن بلدا بمثل تجربة الجزائر- في هذا الصدد- يبقى، ومن دون شك، أكثر تقدما على هذا الطريق من غيره من البلدان التي ظلت في مأمن من الظاهرة الإسلاموية، أو أن تأثير هذه الأخيرة عليها ظل ضعيفا.
الحق يقال، لايمكن للحداثة السياسية بالعالم الإسلامي إلا أن تكون أفقا بعيدا؛ بحيث أن تحقيقها يطرح الكثير من الإشكاليات، وهذا ما تفسره الروابط القوية التي لا زالت قائمة بين الدين والدولة. هنا كما هناك، تبقى الحداثة السياسية نتاج تطور تدريجي بالطبع، وهذا يتطلب الكثير من الوقت والطاقة أيضا؛ ولعل معظم البلدان الإسلامية حديثة العهد بالاستقلال، لا تزال في بداية الطريق على خط هذا التطور، كما أن البعض منها لم ينخرط بعد في هذه السيرورة. قد يبدو إذن بأن غياب الحداثة السياسية، أو صعوبة تحققها، هو ما يفسر تنامي الحركات الإسلامية بهذه البلدان. وعلى العكس من ذلك أيضا، يبدو بأن هذه الحركات، في الأصل، هي التي تقف حاجزا أمام تطورها السياسي في أن تصبح دولا حديثة. وفي هذا الصدد، يبقى المثال الذي تقدمه فرنسا مفيدا، لأن هذا البلد قد عرف- وعلى امتداد قرن من الزمن- نظاما تصالحيا: حيث الدولة ظلت تحافظ على وشائج الارتباط بالدين، في الوقت الذي استمرت فيه في مراقبته والحد من تأثيره السياسي. فالكاثوليكية لم تكن أبدا دين الدولة- )ما عدا أثناء مرحلة الإصلاح (- لكنها ظلت تحت وصاية الدولة، التي توفر لها حاجاتها المادية وتستفيد بالمقابل من دعمها. إن الوضعية الحالية للبلدان الإسلامية، حيث الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، لا تختلف كثيرا عن مثيلتها بفرنسا التصالحية تلك. والحال هذه، أن فرنسا نجحت في رسم المسافة الفاصلة بين الدولة والدين، على إثر مرحلة طويلة من التطور استمرت قرنا من الزمن. ويمكن أن يحصل نفس الشيء بالنسبة للعالم الإسلامي، حيث مختلف الأوضاع ممكنة: الحياد الديني للدولة، روابط تعاقدية بين الدولة والإسلام، الفصل التام بينهما...الأمر يقتضي إذن ألا تكون الدولة مذهبية أو طائفية بالمرة، وبالتالي ألا يكون الإسلام أبدا دين دولة. هذا يعني أن على التشريع أن يفلت من تأثير الشريعة، وأن يكف القانون الإسلامي عن التطبيق على المستويين الجنائي والمدني:)خاصة فيما يتعلق بشؤون الأسرة(. وهذا لا يمنع بالطبع، من أن تستمر بعض الروابط بين الدولة والإسلام، وبخاصة كي يتلقى هذا الأخير دعما ماديا مناسبا من قبل الدولة، ويصبح كذلك موضوعا لتعليم اختياري، لكن شريطة أن يتم الاحترام التام لحرية التدين.
من دون أي شك، ستكون الحداثة السياسية بالعالم الإسلامي، وعلى غرار ما حدث بفرنسا، نتيجة لسيرورة طويلة وصعبة؛ ولعل هذه السيرورة قد بدأت فعلا في معظم بلدان المنطقة، وإن كانت ما تزال في مراحل بداياتها الأولى. فهي ترتكز على تحقيق فصل تدريجي بين الدولة والمجتمع، بالشكل الذي يسمح بإقامة تمييز واضح بين الفضاء العمومي والمجال الخاص، ويمكن بالتالي من بروز مواطنة حقيقية وحريات فردية فعلية. لكن، ولكي تكون الحداثة السياسية مكتملة، يجب بالمثل إحداث فصل بين الدولة والإسلام، أي إرساء نظام لائكي )علماني )؛ هذا الفصل بالطبع غير مستحيل، ولكن لايمكن إنجازه إلا بشكل تدريجي، فهو في نفس الوقت يعد نتيجة للحداثة السياسية وعلامة أيضا على تحققها.