ابن خلدون والتأسيس للخطاب الانقسامي حول المجتمعات المغاربية.
لطفي الإدريسي
2010 / 1 / 28 - 21:52
كيف، وإلى أي حد يمكن الحديث عن نوع من الاستمرارية والتقاطع بين الخطابين "الخلدوني" و "الوضعي" من جهة وبين "الخطاب الانقسامي". حول المجتمعات المغاربية ، فكيف يمكن تقييم الخطاب الخلدوني و محاولات من سبقوه في هذا التوجه الانقسامي؟: خاصة (إميل دوركايم) و (روبير مونطاني) R.Montagne ، وقبلهم ابن خلدون بالطبع؟ وما مدى مساهماتهم في تشكيل عناصر اقتصاد مفاهيمي، سوف يشكل رأسمالا تأسيسيا للبناء النظري الانقسامي؟ أو بشكل أدق: وفي نفس السياق أيضا، ما هي أهم الموضوعات والقضايا التي تركزت حولها اهتمامات الباحثين الانقساميين؟ وما هي أهم الانتقادات التي يمكننا توجيهها لهم في هذا الإطار؟ -
تعد الانقسامية بحق، من بين النظريات التي مارست إغراء كبيرا على الباحثين، خاصة المهتمين منهم بمجال المجتمع القروي بالمغرب وشمال إفريقيا. وقد تبدو أهمية هذه النظرية وجاذبيتها أيضا، في طابعها التبسيطي، وفيما تقدمه من قدرة على استيعاب مختلف أشكال ومستويات الحياة الاجتماعية والسياسية، ضمن مقولات أكثر بداهة وأولية من قبيل: مقولة "النسب". هذه الأخيرة التي تشكل البنية الارتكازية لأي تحليل انقسامي، والمفهوم الذي تتحدد من خلاله وعبره كافة مستويات التنظيم الاجتماعي والسياسي "الانقسامي"؛ بدءا من أصغر وحدة (العائلة)، وانتهاءا بأكبرها وهي (القبيلة). قد تبدو هذه النظرية إذن، وفي تركيزها الشديد هذا على مفهوم النسب، أقرب إلى نظرية ابن خلدون حول "العصبية القبلية"، لدرجة "يصبح ابن خلدون عندها أب التجزيئين (…. ) خاصة لما يعالج (… ) علاقة الدولة بالمجتمع ومسألة اللاتمركز عند المغاربيين". وهنا بالذات تكمن إحدى أسس الطرح الانقسامي التي لم تأخذ حقها بما يكفي من الدراسة والتحليل. في الواقع، لا يمكن نفي ذلك التأثير القوي الذي مارسته النظرية الخلدونية هذه حول "العصبية"، ليس فقط على الانقساميين وحدهم، بل أكثر من ذلك على من سبقهم من مؤرخي وإثنوغرافيي الإدارة الكولونيالية الفرنسية. لكن الذي يمكن قوله بخصوص هؤلاء قد ينطبق – إلى حد بعيد – على الانقساميين: فالكل انطلق من "نصوص خلدونية مفصولة عن سياقاتها، أو دون أخرى تعدلها وتنقحها". علاوة على ذلك، نضيف بأن ابن خلدون نفسه – ورغم موضوعيته – قد ظل سجين تطلع سياسي نحو دولة إمبراطورية وسلطة مركزية، وهذا ما لم يتحقق في إطار تجربة الدولة الموحدية ولا المرينية التي خلفتها؛ مما جعله يضخم من واقع التجزئة و"الانقسام" الذي حال دون هذا التطلع. ومن هنا أصل رؤيته الانقسامية، التي جعلت (إرنست كلنر) يصفه بالمؤسس الفعلي للخطاب الانقسامي حول المجتمعات المغاربية. لكن، إذا كانت إحدى أصول الأطروحة الانقسامية تمتد، بشكل أو بآخر، إلى حدود ابن خلدون ونظريته تلك حول "العصبية والدولة" كما صاغها في مقدمته الشهيرة، فإن الأساس النظري والإبستمولوجي – بالمعنى الدقيق للمفهوم – والذي يؤسس لهذه الأطروحة، قد يعود بأصوله إلى السوسيولوجيا الوضعية Sociologie positive خاصة مع إميل دوركهايم E. Durkheim . ونستحضر هنا بالتحديد، ما كتبه هذا الأخير حول المجتمع "القبائلي" بالجزائر، ضمن كتابه الشهير "حول تقسيم العمل الاجتماعي"باعتباره عملا مرجعيا في هذا الإطار. فقد غذى كثيرا تلك النزعة "الانقسامية" التي سرعان ما تم احتضانها ضمن مشروع الأنثروبولوجيا الاجتماعية الأنجلو – سكسونية، خاصة مع الباحث الإنجليزي (إيفانس برتشارد. إذا كان الباحث الأنثروبولوجي (إيفانس بريتشارد) هو أول من طبق إذن مبادئ التحليل الانقسامي، في إطار دراسات ميدانية حول قبائل "النوير" (Newer) السودانية وقبائل البدو الموالية للزاوية السنوسية بصحراء "برقة" الليبية، فكيف يمكن تقييم محاولات من سبقوه في هذا التوجه الانقسامي: خاصة (إميل دوركايم) و (روبير مونطاني) R.Montagne ، وقبلهم ابن خلدون بالطبع؟ وما مدى مساهماتهم في تشكيل عناصر اقتصاد مفاهيمي، سوف يشكل رأسمالا تأسيسيا للبناء النظري الانقسامي؟ أو بشكل أدق: وفي نفس السياق أيضا، ما هي أهم الموضوعات والقضايا التي تركزت حولها اهتمامات الباحثين الانقساميين؟ وما هي أهم الانتقادات التي يمكننا توجيهها لهم في هذا الإطار؟ -Iابن خلدون والتأسيس للخطاب الانقسامي حول المجتمعات المغاربية.في مقال له تحت عنوان "العرب والبربر في مختبر التاريخ الاستعماري"، شدد الأستاذ (بنسالم حميش) كثيرا على ما اعتبره – بشكل من الأشكال- علاقة تأسيسية بين كل من الأطروحتين: الكولونيالية "الفرنسية"، والانقسامية "الأنجلو-سكسونية" من جهة، وبين نظرية ابن خلدون حول "العصبية والدولة" من جهة ثانية. فقد كان تعاطي هؤلاء مع المتن الخلدوني تعاطيا انتقائيا، بحيث تم التركيز على عناصر من داخل النظرية ومفاهيم دون غيرها؛ كما تم اعتماد نصوص مبتورة من سياقاتها العامة أو دون نصوص وشواهد أخرى تكملها وتعدلها. ولعل هذا ما يفسر سوء الفهم الذي ميز تعاطي هؤلاء مع النظرية الخلدونية، التي استحالت معهم إلى مجرد نظرية حول العنف والعنف المضاد. بل أكثر من ذلك، لا يقف الأمر هنا عند حدود (مسألة سوء فهم) فقط، إنما نعتقد جازمين بأن التعبير الأنسب لتوصيف هذا الوضع هو: (أنه كانت هناك سوء نية) وجهت علاقة هؤلاء مع المتن الخلدوني – كعلاقة انتقائية – . وهذا ربما يحيلنا، بشكل أو بآخر، على واحدة من أهم خصائص الخطاب الاستشراقي؛ من حيث نزوعه الانتقائي ذاك، أو ما اصطلح عليه الأستاذ (إدوارد سعيد) بالطبيعة "الاقتباسية" للاستشراق.إذن، فاختيار نص دون آخر، والتركيز على جوانب دون غيرها، أو زوايا نظر دون أخرى لاستجلاء معالم هذا النص واستنطاقه، هي سياسة مدروسة بدقة؛ (ولا بأس أن نتحدث هنا عن نوع من الاقتصاد السياسي للمعنى). فالنص، أي نص، لا يحمل بداهته في ذاته، إنه عملية بناء وهدم مستمرة من أجل توليد المعنى: (وهذا ما يقتضيه منطق التأويل)؛ أو بتعبير اقتصادي: إنه مادة خام يمكن تشكيلها عن طريق صهرها أولا (وهذا ما نعنيه بالتحويل). وفق هذين المنطقين المتكاملين إذن: منطق "التأويل" ومنطق "التحويل"، اشتغل إثنوغرافيو ومؤرخو الإدارة الاستعمارية على المتن الخلدوني: (هانوتو – ما سينيون- ج. دراك- هنري طيراس- دوتي- ميشو بيلير … )، لتكتمل الصورة بشكل أوضح مع من أعقبهم من أنثروبولوجيي المدرسة الأنجلو-سكسونية ذات التوجه البنائي - الوظيفي، والتي أصبحت تعرف بالمدرسة الانقسامية: (إيفانس بريتشارد- إرنست كلنر- د. هارت- ر. جاموس – جون واتربوري… ). لقد شكل النص الخلدوني إذن، لدى هؤلاء- (خاصة الانقساميين)، تلك الأرضية المهيأة والمعدة سلفا لبناء نظري أشمل وأدق، وهو ما ستتمخض عنه النظرية الانقسامية لاحقا؛ وكأن ابن خلدون توقف بمجهوده عند حدود تمهيد الأرض ووضع الأسس والدعامات. لعل هذا ما عبر عنه صراحة أحد أقطاب المدرسة الانقسامية، والأمر يتعلق هنا بإرنست كلنر حين اعتبر بأن نظرية العصبية عند ابن خلدون، ظلت صالحة لفهم وتحليل التاريخ الاجتماعي والسياسي للمجتمعات المغاربية إلى حدود الدخول الاستعماري للمنطقة. بل أكثر من ذلك، كل ما حدث هو تطوير هذه النظرية والارتقاء بها من "نظرية العصبية" إلى "نظرية الانقسام والتجزيء"؛ وليس هناك أبلغ من هذا الاعتراف -من قبل إرنست كلنر- الذي يعتبر فيه بأن ابن خلدون كان انقساميا في تحليلاته للمجتمعات المغاربية، من دون أن تكون لديه مفاهيم انقسامية. وهنا إقرار بالأصل - كمصدر للاقتباس- لدرجة يصبح معها الخطاب الانقسامي بمثابة خطاب للمجتمعات المغاربية والعربية حول نفسها، عبر وسيط هو ما تقدمه الكتابة الأنثروبولوجية في قالب نظري واضح ودقيق. بمثل ما أصبح الاستشراق ذلك التشكيل الخطابي والجمالي، الذي يتحدث من خلاله وعبره ذلك "الشرق المتوحش" عن نفسه، عبر وسيط هو عين الغرب المتقدم وعقله المدرك تمام الإدراك كيف تصنع الحقيقة وتروج بلا غيا؛ من داخل النص وعبره.ألم يكن الاستشراق وفيما بعد الأنثروبولوجيا، ولا يزالان، عناصر حاسمة ضمن أخرى في إطار استراتيجية الهيمنة الشاملة للغرب الإمبريالي على باقي العالم؟! هنا بالذات تفتح مسارات أخرى للبحث هذا ليس مجالها.لنعد إذن إلى موضوعنا، ونرى كيف أثرت نظرية "العصبية القبلية" لابن خلدون على الأطروحة الانقسامية، من خلال بعض الأمثلة. من الأمور التي لفتت انتباه الدارسين أكثر من غيرها، بخصوص ابن خلدون وفكره الاجتماعي، ارتباط اسم هذا الأخير بعلم جديد حقق قفزة نوعية في مجال المعرفة الاجتماعية لذلك الوقت – (من دون أن يعني ذلك طبعا إنجاز قطيعة إبستمولوجية مع كل ما كان سائدا من أنماط معرفية سابقة)- . والأمر يتعلق هنا بعلم العمران البشري، الذي اعتبره صاحبه بمثابة علم جديد، ذي قانون خاص به وموضوع ومنهج متميزان. وقد عرفه بما يلي: "وكأن هذا علم مستقل بنفسه، فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد الأخرى. وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا".ليس هدفنا هنا هو مناقشة هذا العلم الجديد، والتعريف به وبحدوده، وهل يستحق ابن خلدون من خلاله أن يسمى المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع كما يذهب البعض...