وضع أوروبا أثناء ولادة الرأسمالية (14)
عبد الله أوجلان
2010 / 1 / 25 - 22:42
لا المسيحيةُ ولا الإسلام استطاعا أن يَكُونا حلاً للأزمةِ النهائية المتعمقة مع مرحلةِ انهيارِ الإمبراطورية الرومانية في العصر العبودي. و"النظام الإقطاعي"، أو النظامُ المسمى بـ"حضارةِ العصور الوسطى" الذي طَوَّراه، لم يَكُن مختلفاً كثيراً عن وصفاتِ رهبانِ سومر ومصر، ولم يذهبا بوصفاتهما الميتافيزيقيةِ العسيرةِ على الإدراكِ أَبعَدَ من إقحامِ المجتمع في الوضع المسمى "ظلمات العصور الوسطى"، سواءً من حيث المنهاج السياسي، أو من حيث الممارسات والنشاطات الميدانية. وتلاشت الكثيرُ من القيم الثقافية التي كانت موجودةً في العصور الأولى، واستشرت أزمةُ روما أكثر فأكثر على يدِ وارثيها. وكادت المجتمعات تُبعَد كلياً عن حياةِ الكائناتِ الحية على كوكبِ الأرض، بتحويلِها في الميدان المديني إلى أفرادٍ ينتظرون تحديدَ صفوفِهم على شكلِ "طوائفِ الجنة والنار"، وينخرطون في الحروب يَدُبُّون في الأرض ويَرُجّونها بأقدامهم الثقيلة في سبيلِ هذا الهدف.
ماذا نرى في الواقع الملموس، بموجبِ هذه اللوحة التي عرضناها نظرياً على شكلِ بنودٍ رئيسية؟
آ- إنّ الإغريقَ والأرمنَ والآشوريين، الذين يُعتَبَرون من أُولى الأقوامِ المعتنقةِ للمسيحية، قد خسروا قسماً كبيراً من ميادينهم التاريخية والثقافية مع الفتوحات الإسلامية. فبينما كانت تلك الشعوب تنادي بما مفادُه توطيدَ وتعزيزَ الهوية الإغريقية تجاه روما، والتشبثَ بالهوية الأرمنية والآشورية – السريانية تجاه البيزنطيين والساسانيين، فقد فَقَدَت القسمَ الأكبر مما كان بحوزتها مع موجةِ الفتح الإسلامي العارمة، لِتَسقُطَ في أكثرِ الأوضاع مأساويةً، وتفقدَ ميادينَها في الثقافة المادية والمعنوية المعمرةِ آلافَ السنين. أما القومان الغالبان بنسبةٍ كاسحة، واللذان أنجزا توسعاتٍ عظمى، فهما الأتراك والعرب. في حين استطاع الكردُ والفرس – بالكاد – الحفاظَ على وجودهم وبقائهم. ومقابلَ ذلك كان الروسُ القومَ الأكثرَ انتصاراً وظفراً بفضلِ المسيحية. أما الطَّرَفُ المغلوبُ مقابل الروس، فكان الأتراك، التتار، المغول، بل وحتى الصينيين.
ب- وازنَت القبائلُ الأوروبيةُ بين منجزاتِها ومكاسبها عن طريقِ المسيحية. فبينما شَهِدَت تطوراتٍ نسبيةً في هوياتها القوميةِ بسببِ العقائد المشتركة، فقد أَثَّرِت في خُسرانِ أرستقراطيةِ الرهبان ومن بعدِها الإقطاعيات جزءاً هاماً من انتعاشها الثقافي القديم. وساد الخنوعُ والإذعان على الجوانبِ النيوليتية المتفوقة والأرقى، وفُرِضَت عمليةُ الصهر. لكنّ الحقيقةَ التاريخيةَ الواقعة هي أنّ هذه المرحلةَ شَهِدَت ظهورَ أُولى العناصرِ الوطنية بشكلٍ راسخ.
ج- لم يستطع أهالي أفريقيا وأمريكا وأستراليا صونَ ثقافاتهم الأم، وفقدوا هوياتِهم ردحاً طويلاً من الزمن بشكلٍ كليٍّ مقابلَ المسيحية، وقِسمِيٍّ مقابلَ الإسلام. كما كانت الثقافةُ الهنديةُ أيضاً الطرفَ الخاسر. في حين عجزت الصينُ عن إبداءِ الجرأة على التوسع إزاء هذه الأديان.
اكتسبَ وضعُ أوروبا ماهيةً استراتيجيةً انطلاقاً من كَونِ حضارةِ العصور الوسطى – أو المرحلةِ الحضارية الثانية حسب تعبيري – قد أدت إلى نتائجَ عَمَّقَت الأزمةَ وعَزَّزَتها، بدلاً من حلها. فأوروبا كانت ستخسر كلَّ شيءٍ إذا ما خَسِرَت صراعَ الحضارةِ المدينية، وكانت ستَجزِمُ بتفوقِها الاستراتيجي في حالِ ظفرها. لا ريب في أنّ الصراعَ يدور بين قوتَي العصور الوسطى الاستراتيجيتَين: إنها الحرب بين المسيحية والإسلام داخل أوروبا، وعلى أوروبا. الأمرُ معقدٌ وشائكٌ أكثرَ مما يُعتَقَد.
ومع حلولِ القرن الخامس عشر، كانت المسيحيةُ قد أَكمَلَت انتشارَها في عمومِ أرجاءِ أوروبا، وتَمُرُّ بمرحلتها المَلَكيةِ والإقطاعية المقدسة. وتزعم الإمبراطوريةُ الرومانية – الجرمانية أنها امتدادٌ لميراثِ روما. ولكنْ، هناك منافسوها وأندادُها المعارضون، وعلى رأسهم المَلَكيةُ الفرنسية. كما أنّ سلالةَ هابسبورغ النمساوية تتصاعد كقوةٍ حديثةِ العهد، وتتبنى مزاعمَ مماثلة. في حين أنّ القيصريةَ الروسية أَعلَنَت أنها روما الثالثة (بعد سقوطِ إسطنبول) منذ زمنٍ بعيد. ومَلَكيةُ بولونيا تقف في مقدمةِ الجميع لدرجةِ أنها لا تَوَدُّ لأحدٍ خسرانَ القدسية، باعتبارها الثقافةَ المسيحيةَ الأكثر تجدداً. أما إنكلترا وفرنسا، فتخوضان حربَ المائة عام. ومسيحيو إسبانيا والبلقان في وضعيةِ الدفاع. فضلاً عن أنّ المدنَ الإيطاليةَ تَسِير على دربِ الرَّسمَلَةِ من جهة، وتتزعم حركةَ النهضةِ من جهةٍ ثانية. لم يَكُن متوَقَّعاً أنْ تتنامى مدينةٌ مثل روما، وتُحَقِّقَ وحدتَها، لِتَكُون مثالاً يُحتذى في عمومِ أوروبا. من هنا، فقد أَقدَمَوا على المنافسةِ التجارية وغاصوا فيها حتى الحَلْق، واحتدَّ النزاعُ فيما بينهم. تتجسد مساهماتُهم الوحيدةُ في تَزَعُّمِ حركةِ التمدن لأجلِ أوروبا خلال القرنَين الأخيرَين، ونشرِ الرأسماليةِ التجارية في أوروبا، لِيُهيئوا بذلك إمكانيةً استراتيجيةً لها. ويَرجح الظنُّ بأنّ هذه الإمكانيةَ الاستراتيجيةَ سوف تَكُونُ الفرصةَ الأهمَّ بالنسبة لأوروبا. وسوف يؤكد القرنُ السادس عشر صحةَ ذلك. فالحروبُ الصليبية لم تنتهِ كما كان مرتقباً. ولا يزال مصيرُ أوروبا مجهولاً.
وفي تلك الأثناء بالضبط يستمر العربُ في كونِهم تهديداً استراتيجياً عن طريقِ إيبيريا – إسبانيا. فقد دخلوا فرنسا مرة، ودُحِروا منها بِشَقِّ الأنفس. ولدى إضاعةِ تلك الجبهة، كانت أوروبا المسيحية ستَكُون أَشبَه بمستعمَرةٍ متوجهةٍ نحو الزوال والانقراض. في حين دَخَلَ أباطرةُ العثمانيين حدودَ النمسا – المجر بسرعةِ البرق، وبَلَغوا مشارفَ بولونيا. ولو لَم تتم عرقلتهم، فسوف ينتهي الوجودُ السياسي والثقافي لأوروبا مثلما حَلَّ بروما. كما أنّ الأتراكَ العثمانيين والعربَ في إسبانيا – الأندلس كانوا يَعلمون عِلمَ اليقين أنه في حالِ عدمِ إحرازهم الظفرَ النهائيَّ الكاسحَ تجاه أوروبا، فسيدخلون مرحلةَ الخسران على التوالي دون أيِّ شك. ودولةُ "الجيش الذهبي"، التي تُعتَبَر استمراراً للمغول، قد تُهاجِم أوروبا عن طريقِ شمالي البحر الأسود في كلِّ لحظة.
لأوروبا بعضُ المزايا الأخرى الضاربةِ في جذورِها أعماقَ الأرض. فتقاليدُ ديمقراطياتِ قبائلها لا تزال نضرة. ولم تَشهَد الشعوبُ النظامَ العبودي المديني بعمق. وتَمَثُّلُها للمسيحيةِ سطحيٌّ لأبعدِ الحدود، حيث لم يتم غزو أذهانها بكلِّ معنى الكلمة. الخطُّ الشمالي بالأخص هو كذلك. فأواصرهم مع الحياة الطبيعية وطيدة، ويعيشون أكثرَ مراحلِ التمدن نضارةً وسرعة. ويطغى الجانبُ الديمقراطي على المدن، نظراً لعدمِ تَعَرُّفِها الجدي على المَلَكيات والإمبراطوريات. وتَسُود جميعَها الحكوماتُ شبهُ الديمقراطية، والتي تؤسسُ الكونفدرالياتِ فيما بينها، ولا تَعتَرِف بسهولة بأيةِ هيمنةٍِ أخرى سوى إرادتِها هي. أما المَلَكياتُ والإقطاعيات المتكونة، فجميعُها حديثةُ العهد وشحيحةُ المواهبِ والخبرة في تمثيل أوروبا. لذا، فأغلبها تناثرَ كالقشور في معمعانِ الحروب الصليبية.
ومقابلَ ذلك، فالحضارةُ الإسلامية صاحبةُ تجربة. ومن خلفها عالَمُها الحضاريُّ القديم. وهي أَدرى بمشاكلِ السلطة. إنهم يثقون بأنفسهم جداً، وأكثرُ دوغمائيةً، نظراً لأنهم يُمَثِّلون آخرَ الأديان والأنبياء. ومثلما أنهم لم يُهزَموا أو يَخسَروا في الحروبِ الصليبية، فالطرقُ التجاريةُ أيضاً لا تزال تحت سيطرتهم. إنهم لا زالوا متفوقين في التجارة.
إذا ما نظرنا انطلاقاً من وسط هذه الوقائع، فلن نجدَ صعوبةً في رؤيةِ معاناةِ أوروبا للأزمةِ المدينية من أعمقِ أعماقها. فخطرُ الإسلام، وبالتالي الأتراك والعرب، يتعاظم مع مرورِ كلِّ يوم. والقسطنطينيةُ ذهبت من أيديهم، والسلطانُ محمد الفاتح أرسلَ جنودَه إلى أوترانتو Otranto في جنوبي إيطاليا. والإسلامُ بِحَدِّ ذاته كابوسٌ يَقُضُّ مضاجعَ أوروبا، سواءً كدين، أو من حيث الأقوامِ التي يجرفها وراءه. والمسيحيةُ ليست شكلاً حضارياً قادراً على تَخَطّي هذا الكابوس. وبالأصل فهي تَخسَر على الدوام، ولم يَبقَ خطٌّ حَربي سوى فيينا. فإذا ما سقطت هي الأخرى، فسيكون من العسير جداً إيقاف زحفِ الإسلام والأتراك.
وفي هذه الحال، فإنّ تَشَبُّثَ المدن الإيطالية بالرأسمالية التجارية على نحوٍ استثنائي، وطرحَها حركةَ النهضةِ إلى الميدان، يُعَدُّ أمراً قَيِّماً ونفيساً. فكِلتا الحركَتَين تُعتَبَران مسألةَ وجودٍ أو عدمٍ بالنسبة إلى أوروبا. والأحداثُ المعاشةُ في شبهِ الجزيرة الإيطالية مصيرية على هذا الصعيد.
إنَّ المسيحيةَ والإسلامَ البارزَين للوسط كقوتَين تسعيان لحلِّ الأزمة بطموحِِ إخراجِ البشرية من ظلماتِ انهيارِ روما وإيصالها إلى الخلاصِ والنور، قد ضاعفا مِن عمقِ الأزمة، سواءً في داخلهما أو في مواجهةِ بعضهما، وأديا بالتالي إلى ظهورِ مشاكلِ الخلاصِ والتنويرِ مرةً أخرى. من هنا، وبعد أنْ احتَضَنَت أوروبا في أحشائها القوتَين الممثلتَين للمرحلةِ الحضارية الثانية، فحَصَرَت بذلك الأزمةَ في ثناياها؛ كان عليها إما حلَّ هذه الأزمة، أو السقوطَ إلى الحضيض، مثلما حلَّ بروما.
وفي هذه النقطةِ بالذات يَبرُزُ التساؤلُ الحيوي بكلِّ ثقله: تُرى، هل بمقدورِ "الرأسمالية، التي تَحَرَّينا ولادتَها في القرن السادس عشر، أنْ تَكُونَ وسيلةً للحل؟، ويَفرُضُ نفسَه في الميدان بكلِّ وطأته. ربما تَمنَحُ مزايا ولادةِ الرأسمالية فرصةَ الحلٍّ للأزمات المتمخضةِ عن الإسلامِ والمسيحية في نهاياتِ العصور الوسطى (في القرنَين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديَّين). وبالفعل، فتجربةُ هولندا وإنكلترا في القرن السادس عشر تُسَلِّط الضوءَ على فرصةِ الحل. ولكن، لدى تَفَحُّصِ هذه الخصائص بإمعانٍ وعن كثب، سعينا للإيضاح بأنّ مخاطرَ استفحالِ وتجذيرِ الأزمة ونَشرِها في العالَم أجمع خلالَ المرحلة الحضارية الثالثة ليست أقلَّ نسبةً مما كانت عليه في المرحلتَين الأولى والثانية على الإطلاق. إنّ تَوَاجُدَ الرأسماليةِ بالذات كاحتكارٍ حربيٍّ وسياسي واقتصادي، هو المؤثرُ الأساسي للأزمة خلال سياقِ التاريخ الحضاري برمته. إنها مَنتوجُ الأزمةِ ومُنتِجُها في نفسِ الوقت. وبمقدورها بسط وتعميم الأزمات على الزمان والمكان. ولكنْ، من المستحيل أنْ يَكُونَ هذا حلاً. والأحداثُ والمجرياتُ الحاصلة منذ القرن السادس عشر حتى وُلوجِنا القرنَ الحاديَ والعشرين، إنما تؤيدُ صحةَ ما أَوَدُّ قولَه بما فيه الكفاية، بل ويزيد.
سيَكُون العنوانان الرئيسيان بعدَ الآن تحت اسمِ الدولة القومية والصناعوية. فسوف أَجهَدُ للتَّحَرّي والتحقيق في هاتَين الوسيلتَين اللتَين أَدخَلَتهما الرأسماليةُ حيزَ التنفيذ لأولِ مرةٍ في التاريخ على أنهما دعامتان أساسيتان لحلِّ القضايا الاجتماعية. وسأعمل في فصلِ النتيجة على استخلاصِ مناقشاتي وتحرياتي بشأنِ الرأسمالية من حيث كونِها – هي بالذات – نظامَ الأزمة، ومدنيةَ الأزمة.