أين، وفي أي زمانٍ هي الرأسمالية من الواقع الاجتماعي والحضاري؟ (13)
عبد الله أوجلان
2010 / 1 / 20 - 21:39
إذن، والحال هذه، أين، وفي أيِّ زمانٍ مِن الواقع الاجتماعي والحضاري علينا مَوضَعةَ هذا النظامِ اللااقتصادي والبارزِ بتضادِّه مع الاقتصاد، لكي ننجحَ في إضفاءِ المعاني السليمةِ والقيامِ بالتفسير القديرِ بشأنه؟
لا يمكن بلوغَ نتيجةٍ قَيِّمةٍ بحقِّ الرأسمالية، إلا ضمن سياقِ الممارسات والصراعاتِ التي قامت داخلَ وفيما بين القوى والأنظمةِ المدينية من جهة، والممارساتِ والحروبِ الناشبةِ فيما بينها وبين القوى المضادة للمدنية من جهة ثانية؛ على مَرِّ التاريخ الحضاري.
إني مدركٌ لإفراطي في التطرق للموضوع وتكراره. ومع تقديمِ اعتذاري، إلا أني مضطرٌّ لعرضِ هذه الجولة الغريبة للغاية والشارحةِ للصدور والآفاق، وسردِها مرةً أخرى بخطوطها العريضة.
1- العصر المشاعي البدائي (من الإنسان البدائي حتى نهايات العصر الجليدي الرابع، أي إلى ما قبل 20 ألف سنة):
يتم إرساء أرضيةِ ثقافةِ الاقتصاد في النَّسَقِ الأمومي المشاعي البدائي. حيث تُستَهلك الغلالُ المُؤَمَّنةُ من القنصِ والقطفِ بشكلٍ مباشر، مع الاستفادة من الجلود والألياف. والمرأة – الأم هي السلطة المنسِّقة للكلان بشكلٍ غالب. إنه ضربٌ من ضروبِ الهيمنة الأمومية الأولى. تتجسد العلاقةُ والتناقضُ الأساسي ضمن المجتمع الكلاني في: الحماية من كلِّ ما يُشَكِّل خطراً من بين شروط البيئة الطبيعية، والاستفادة من كلِّ ما يمنح فرصَ التغذية والإمكانيات المناسبة. تتسم هويةُ الكلان بمسحةٍ حياتية ومصيريةٍ لا مفرَّ منها في هذه الظروف. لم يتطور مفهومُ الزوج – الزوجة بعد. المرأةُ المنجبةُ معروفة، في حين أنّ شريكَها – الرجل المضاجع لها – عديمُ الأهمية لدرجةِ الجهلِ به. وقد عاش المجتمعُ البشري 5.98% من مجموعِ حياته إلى الآن على هذا المنوال. هكذا، فهو أطول أشكالِ المجتمع زمنياً. وباعتبارِ أنّ الحجارةَ المصقولةَ بشكلٍ طفيفٍ هي الوسائلُ المستعمَلةُ أساساً حينذاك، فيُطلَق عليه اسمُ العصر الحجري المصقول. وأحياناً يسمى بالعصر الوحشي البدائي. في حين أنّ الاسمَ المفضَّلَ سوسيولوجياً هو النظامُ المشاعي البدائي. تُستَخدَم فيه لغةُ الإشارة، ويَسُوده السكنُ داخلَ الكهوف والأكواخ العالية الموثوقة بالأوتاد على ضفافِ الجداول والأنهار والبحيرات. ويَرجُحُ الظنُّ والاعتقادُ بأنه تم العيشُ هكذا طيلةَ مليونَي سنةٍ في أفريقيا، ومليونِ سنةٍ في آسيا والقارة الأوروبية. لم تتطور بعد اصطلاحاتُ الوطن، الحدود، والمُلكِية. والانتماءُ لا يُعرَف إلا بالكلان. وعندما يُراد ترميزُ الكلان، يتم ذلك بتمثيلها بالطوطم أو أي شيءٍ Nesne مُعَبِّر آخر. وتمر البشريةُ من هذا الشكل النَّسَقي الرتيب حتى نهاياتِ العصر الجليدي الرابع، وإنْ شَهِدَت داخلها قفزاتٍ ومستوياتٍ تطوريةٍ متفاوتةٍ إلى حدٍّ ما.
2- العصر النيوليتي (15000 – 4000 ق.م تقريبياً):
بعد انقضاءِ العصر الجليدي الرابع، وبعد فترةٍ قصيرةٍ من الميزوليتية (العصر الحجري الأوسط) قبل سبعةَ عشرَ ألفِ عامٍ من الآن تخميناً، وعلى حوافِّ سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس؛ يتم العبورُ على شكلِ فرعٍ أساسيٍّ لأولِ مرة، والانتقالُ إلى مرحلةٍ ذاتِ أهميةٍ تاريخيةٍ قصوى تسمى بالنيوليتية (العصر الحجري الحديث) بسببِ استخدامِ الحجر المصقول والمشذَّبِ جيداً والسبج المبَلوَر، إلا أنها في جوهرها تمثل ثورةَ الزراعةِ والقرية. هذا المجتمعُ المبرهَن وجودُه أركولوجياً قبل حوالي عشرةِ آلافِ عام، يَشهَدُ قفزةً عظمى في تلك السلسلةِ الجبلية، بسببِ مناخها الملائم وبيئتها الغنية بالغطاء النباتي والحيوانات الممكنِ الاستفادة منها. وتزداد بذلك فرصُ التغذية، ويُعمَل بالنسج، ويتم الانتقال من الكهوفِ إلى حياةِ الريف. وتؤدي النباتاتُ والحيواناتُ إلى ثقافةِ الزراعة والتدجينِ والتأهيل. وتُصنَع الأواني الفخاريةُ بدءاً من أعوامِ 6000 ق.م تقريباً. ويحصل العبورُ إلى مرحلةٍ ثقافيةٍ وطيدةٍ للغاية ومترابطةٍ ببعضها بأواصرَ كثيفةٍ (ثقافة تل حلف)، وخصوصاً في المنطقةِ الممتدة على شكلِ هلالٍ من حوافِّ جبالِ شرقي البحر الأبيض المتوسط إلى جبالِ زاغروس.
البؤرةُ الأم هي ميزوبوتاميا العليا. حيث يعيش المجتمعُ انفجاراً بالاكتشافات الجديدة وباختراعِ وسائلِ الإنتاج. إنّ ما يُعاش أَشبَه ما يَكُون بعصرِ الصناعةِ النيوليتية. وتَسمو المرأةُ الأم في هذه الثقافة إلى منزلةِ الإلهة – الأم. ويَغلب الظنُّ بأنّ دورَها محدِّدٌ ومؤثرٌ في تكوينِ المجتمع الجديد. فالنسقُ (النظام) الأمومي يترك طابعَه الواضحَ على مجتمعِ الكلان. أما التناقضُ مع الرجل، فيبرز لِتَوِّه آنذاك. في حين أنه كان قد تم العبورُ إلى اللغة الرمزية. ونزوحُ مجموعاتِ العِرقِ الأسود المسماة بالساميّة من الجنوب إلى آسيا وأوروبا من خلالِ المنطقة التي هي الخطُّ الرئيسي للهجرة، لَم يَعُد أمراً يسيراً كالسابق. ويَلُوح أنّ هذا المؤثرَ أدى دوراً هاماً في تكوينِ الثقافة الساميّة. كما تَعَسَّر نزوحُ المجموعات، التي يمكننا تسميتها بذوي البَشَرةِ الحمراء والصفراء، من الشمال إلى المنطقة. فبينما يتوجه فرعٌ منها صوبَ القارة الأمريكية (عن طريقِ مضيقِ برينغ، حوالي أعوام 12000 – 7000 ق.م)، نجد المجموعاتِ الأخرى تتكاثف في كلٍّ من الصين وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية. في حين أنّ المجموعةَ الهندوأوروبية ذاتَ البشرة البيضاء، والقاطنةَ في المنطقة الوسطى، تؤدي دوراً رئيسياً مهيمناً بسببِ ملاءمةِ ظروفِ المناخ والتغذية. نخص بالذكر في شأنِ الهيمنة تلك المجموعةَ التي في الهلال الخصيب، والتي ستحافظ على صفتها وميزتها هذه ردحاً طويلاً من الزمن إلى حين بروزِ عصرِ المدنية.
إنّ ثقافةَ الهلال الخصيب المبرهَن وجودها واستمراريتها لأولِ مرةٍ في التاريخ، قد تم نقلُها إلى ميزوبوتاميا السفلى حوالي أعوام 6000 ق.م، وإلى وادي النيل المصري وبلاد البلقان وإيران وسهوبِ شمالي البحر الأسود في أعوامِ 5000 ق.م، وإلى كافةِ أرجاءِ أوروبا والصين في أعوام 4000 ق.م. وحسب تخميني، فمهما جرى الحديث عن ديناميكياتٍ داخلية في نيوليتيةِ الصين، فهي تعتمد بالأغلب على تلك الثقافةِ المنقولة. فتربيةُ الأبقار، ونقلُ استخدامِ السبج يعزز هذا الطرح. وبسببِ الفترات الطويلة بالطبع، تحظى كلُّ منطقةٍ رئيسيةٍ بفرصةِ تطويرِ نيوليتيتها الخاصةِ بها. إلا أنّ كلَّ الإشاراتِ والدلائل البارزةِ تُظهِر أنّ شرارةَ الثقافةِ الأولى صادرةٌ من الهلالِ الخصيب كبؤرةٍ أُمّ. فالانتشارُ لم يَعنِ الاستعمارَ أو الاحتلال. واتساعُ نطاقِ المناطق الخالية لا يتيح هذا النوعَ من العلاقات. إنّ الرأيَ التاريخي والمعلومةَ السوسيولوجية المُجمَع عليهما عموماً يفيدان بأنّ الحركةَ العالمية الكبرى الأولى، التي تَرَكَت بصماتِها الراسخةَ وآثارَها الواضحةَ في العالم، قد تطورت على هذا الأساس.
3- عصر المدنية السومرية (4000 – 2000 ق.م):
إنّ الثقافةَ المسماة بـ آل عُبَيد، والتي بَرزَت في ميزوبوتاميا السفلى أعوامَ 5500 ق.م، ويُخَمَّن استمرارها حتى أعوام 3800 ق.م؛ إنما تُمَثِّل طَوراً جديداً مؤثراً. تتسم هذه المرحلةُ وثقافتها بالأهميةِ التاريخية، سواء من حيث عبورها إلى المجتمع الأبوي، أو تطويرِها لتقنياتِ صنعِ الأواني الفخارية، وانتعاشِ التجارة واكتسابها الأهمية، بالإضافة إلى اعتمادها على ثقافةِ الهلال الخصيب (وبالأخص ثقافةِ تل حلف)؛ وبدئِها بعصرِ أولى غزواتِ الاحتلال والاستيطان. يمكننا تسميتها أيضاً بثقافةِ أوروك الأولية. ونخص بالذكر بروزَ المجتمع الأبوي، الذي يتميز بأهميته على صعيد التمهيدِ للمدنية. وهنا تَفقدُ ثقافةُ الإلهة – الأم أهميتَها، وتُرغَم على المرأة على الاعترافِ بالتفوقِ الحاسم للرجل. كما تَقطَع الإدارةُ الهرميةُ أشواطاً ملحوظةً في تطورها. فلأولِ مرةٍ نستشعر تأثيرَ البنيةِ الثلاثية لإدارة المدنية الكلاسيكية وحُكمِها في هذه الثقافة على شكلِ مشروعٍ بِدئِيّ. وهكذا سوف تَعلو طردياً أصواتُ أقدامِ الشامان الشبيهِ بالراهب، والشيخِ ذي الخبرةِ بشؤونِ المجتمع، والزعيمِ العسكري صاحبِ القوة البدنية. وتَنتهلُ الثقافةُ الدينية والسياسيةُ والعسكرية الشرقُ أوسطية آثارَها الغائرةَ من هذه المرحلة.
إنها ثقافةٌ أَثبَتَت جدارتَها. ونتلمس تأثيراتِها في ميزوبوتاميا العليا أعوام 4500 ق.م، حيث تُحكِم قبضتَها على ثقافةِ تل حلف، لِتُصَيِّرها على شكلِ مستَوطَنة. وقد بُرهِن في السجلات والمخطوطات الأثرية أنّ المستوطَناتِ الأولى انتشرت في أعوام 4000 ق.م، لتصل ما يُعرَف اليوم بـ ملاطية وألازغ. وتحمِل معها ثقافةَ السلالة، أي ما نسميه بالأسرة الواسعة، حيث لا وجودَ لهذه العناصر في الثقافة السابقة لها. هذا ونعثر على آثارِ نشاطاتها المُدَمِّرةِ أيضاً. فالآثارُ الثقافية لبعضِ القرى المُدَمَّرة تَشهَد على ممارسةِ تدميرٍ واحتلالٍ وغزوٍ مقصودٍ ومدروس. وتبرز آنذاك ملامحُ ثقافةِ التجارة بوضوح. ولَربما تحققت أولُ هيمنةٍ جديةٍ في التاريخ بالتزامن مع هذه الثقافة.
بات من المعتاد تسمية مرحلة ما بين 4000 – 3000 ق.م على وجه التقريب بعصرِ ثقافةِ أوروك. تتنامى ثقافةُ أوروك بالحذوِ حذوَ ثقافةِ آل عُبَيد. وتتمايز عنها بأولِ ظهورٍ للمدينة – الطبقة – الدولة فيها. أي أنها تنفرد بخاصيةِ البدءِ بالمدنية وبالتاريخ المكتوب. وبالطبع، من المهم للغاية بالنسبة إلى التاريخ، أن نَعُودَ بالثقافةِ الأبوية إلى أولِ ثقافةٍ مدينية. ولمناخِ ميزوبوتاميا السفلى دورُه الأساسي في ذلك، لفَرضِه الريَّ اليدوي. فمثلُ هذا النوع من الري يتطلب تعداداً سكانياً واسعاً، فضلاً عن أنّ وسائلَ وأدواتِ الري شروطٌ تمهيديةٌ للتمدن. فتشغيلُ أعدادٍ ضخمةٍ من الأناس في الوقت عينه قد وَلَّد معه مشكلةَ الإعاشة، كما اقتضَت مستلزماتُ وأدواتُ الري ولادةَ الحِرَف والمِهَن. وفي هذا الوضع، يحصل الاستقرارُ على نطاقِ المدينة بالضرورة. وهذا ما يَفرض بدوره وجودَ إدارةٍ لشؤونِ المدينة، وحلِّ مشاكلِ شرعنةِ الحكم. إضافةً إلى أنه يتطلب الحمايةَ من هجماتِ القبائل الغازية المعتدية، والتي كانت قد بَرزت منذ زمنٍ طويلٍ في الخارج. وباتحادِ كلِّ هذه الأمور، تتولد الحاجةُ لثالوثِ الراهب المقتدر + المَلِك الحاكم + القائد العسكري. وملحمةُ گلگامش، المدوَّنةُ احتفاءً بأولِ مَلِكٍ في أوروك وإهداءً له، إنما تَعكِسُ هذه التطوراتِ التاريخيةَ على نحوٍ مؤثرٍ وصاعق.
المدينةُ بنيةٌ تحتيةٌ قادرةٌ بِحَدِّ ذاتها على إرغامِ المنطق على التطور. ذلك أنها تُسفِر عن مشاكلَ جمة. والمشاكلُ تُشَغِّل المنطق، وبالتالي تُشَغِّل الفكر، الذي بدوره يُطَوِّر وسائلَ الإنتاج الجديدة. ومِن ثَمَّ تتصاعد إدارةُ الاقتصاد، والتي تقود بدورها إلى الإدارةِ السياسية والعسكرية على التوالي. بمقدورنا اعتبارَ التطورِ الطبقي أيضاً ثمرةً من ثمارِ المدينة بالأغلب. ذلك أنّ المدينةَ تَجَمُّعٌ يتخطى آفاقَ مجموعاتِ القبيلة والسلالة. هذا ويمكن الافتراض بأن الإدارة الهرمية الأبوية الحاكمة قد نَبَذَت كثيراً من الأفراد من بنيتها، نظراً لطبيعةِ التناقض السائد لديها. وهكذا تغدو المدينةُ مركزَ جذبٍ للأشخاص المطرودين من تلك المجموعات، حتى ولو لإشباعِ بطونهم فقط. وبما أنّ الشخصياتِ الخارجةَ من نطاقِ العشيرة والسلالة لأسبابٍ مختلفة ستُكَوِّنُ الشريحةَ المَحكومَةَ والعاملةَ في كنفِ الإدارة المتأسسة؛ فولادةُ الطبقية تغدو أمراً لا مناص منه. إنّ العلاقةَ السوسيولوجية – التمايز الطبقي – عاملٌ هامٌّ في ثقافةِ أوروك. وسوف تُولَدُ الدولةُ كامتدادٍ طبيعيٍّ لكافةِ شبكاتِ علاقاتِ المدينة تلك.
لا تتيح الإدارةُ الحاكمة في المدينةِ أيةَ فرصة، سواءً لحكمِ القبيلة أو السلالة. حيث تتطلب إدارةً متمرسةً تتجاوز روابطَ الدم. علاوةً على أنّ المشروعيةَ تقتضي ضرورةَ الإقناع. وأولُ من جاء للنجدة هو الراهب – الذي ربما كان صائغَ أولِ مشروعٍ للدولة – إضافةً إلى المعبد، الذي هو أولُ نموذجٍ للمدينة. أما عملُ الإنشاءِ الذهني للمدينة والدولة والطبقية كمؤسساتٍ أيديولوجية، فيعني الإنتاجَ الميثولوجي والديني. إنّ تأثيرَ الثقافة المادية على الثقافة المعنوية ملفت الأنظار في ثقافةِ أوروك. والعكس صحيح أيضاً، بل ويكاد يصبح من العسير إدراكُ الثقافةِ المادية القابعة تحت التأثيرِ الثقيل للثقافة المعنوية، لأنها باتت مستترةً بوساطةِ الإنشاءِ الأيديولوجي العملاق. فالوظيفةُ الرئيسية لأيديولوجية الدولةِ الجديدة تتمثل في نقشِ هذا الإنشاء في الأذهانِ لغةً وخطابةً ومضموناً، بحيث يعشش فيها لآلافِ السنين، فتستتر وراءه الظروفُ المادية. ونتلمس هذه الوظيفةَ في المجتمعِ السومري على نحوٍ صاعقٍ جداً. فبينما تُضفى المعاني على الدولة كمؤسسةٍ إلهية، تغدو الطبقةُ العاملة في كنفها العبادَ الذين خلقهم الإله. أما الحلقةُ الوسيطة بين الدولة والمحكومين، فتنعكس في اصطلاحِ المَلاك. أي، وبينما تنعكس أكبرُ سلطةٍ حاكمةٍ على أنها الإلهُ الأكبر، ينعكس نوابُها ومساعدوها في هيئةِ مجمعِ الآلهة من الدرجة الثانية، أي مكان الإدارةِ العليا في الدولة ونظام اجتماعاتها. في حين أنّ جيلَ الإلهاتِ القديمات، أي التأثير النسائي للجيل السابق للمدينة، لا يزال يجلب الاستذكارَ كقوةٍ تعكس ذاتها للميدان. وهكذا، فجميعُ العلاقاتِ الاجتماعية تُتَرجَم إلى لغةٍ شبهِ ميثولوجية – شبه دينية، لِتَخلَع على نفسها مسحةً من الشرعية في كنفِ العالَم الميتافيزيقي المغاير كلياً، وعلى صعيد الأفراد. ويُعادُ إنشاءُ المدينة – الدولة – الطبقة مجدداً على الصعيد الأيديولوجي.
وستغدو عمليةُ إعادةِ الإنشاءِ الأيديولوجي تفسيراً لكلِّ أنواعِ التطور المادي، بل وحتى للطبيعة لأنها ثقافةٌ معنويةٌ ذات وظيفةٍ كبرى. فبالاستناد إليها، وبالاعتماد خصيصاً على اللغة التي تعكسها بشكلٍ أساسي، سوف تُشتَقُّ المعاني، وسيُؤمِن بها الناس، وستُعاش الحياةُ بتقديسها في ظلِّ هذا العالَم الشرعي الجديد. وحتى مجرد التساؤل عن وجودِ أو عدمِ وجودِ ولادةٍ ماديةٍ حقيقيةٍ تجاه هذه الولادة الجديدة، يكاد يفقد معناه إزاء هذه التطورات الحاصلة. وحتى لو لوحظ ذلك، فسوف يتم تصويرُه على نحوٍ مغاير. إنّ ثورةَ أوروك هي أولُ ثورةٍ مدينيةٍ تعادل في أهميتها الثورةَ الزراعية، باعتبارها أولَ مدينة. إنها منبعُ انبثاقِ مجرى النهر الأم. أما المساهماتُ اللاحقة، فهي بمثابةِ جداولَ وبحيراتٍ صغيرةٍ مسدودةِ العين، بحيث لا يمكنها التدفق والجريان إلا بفضلِ النهر الأم. أجل، صحيح، ثمةَ ثورةٌ مدينيةٌ في الصين وأمريكا الوسطى أيضاً. إلا أنها ثقافاتٌ محليةٌ لا تُشَكِّل النهرَ الأم، فإما أنها تَنضُبُ في مكانِ انبثاقها وولادتها، أو أنها أَشبَهُ ببحيراتٍ راكدةٍ لا يَستفيد منها إلا قلةٌ قليلةٌ من الناس. من الضروري الاستيعابَ جيداً أنه، ولأجلِ كينونةِ الحضارة، ينبغي أنْ تَكُونَ النهرَ الأم، أو تنخرطَ فيه، كشرطٍ أوليٍّ هام. إذ، ما مِن حضارةٍ نقيةٍ خالصة.
علماً أنّ وراءَ ثقافةِ أوروك يربضُ ميراثٌ نيوليتيُّ يمتد لعشرِ آلافِ سنة. أي أنها لم تنزل إلى الصحراء بِزَنبيلٍ من السماء. تسمى هذه الثقافة أيضاً بالحضارة، ولكن، من الصحة ترجمتها إلى مفردة المدنية. وبينما نُعَرِّفُ بنيتَها الماديةَ والمعنوية وانعكاساتِها على هذا المنوال، نَكُون بذلك قد عرَّفنا المدنيةَ برمتها.
ثقافةُ أوروك توسعيةٌ وفقاً لطبيعةِ بنيتها. فاتساعُ المدينةِ على جميعِ الأصعدة مع زيادةِ العطاء والإنتاج، وبسببِ تحملها الزيادةَ السكانيةَ إلى حدٍّ معين، قد أدى إلى ولادةِ المدن المجاورة على التوالي. فالثقافةُ القروية في الهلال الخصيب أيضاً كانت قد تكاثرت على هذه الشاكلة، لتتمخض عن تأسيسِ سلسلةٍ متعاقبةٍ من القرى. هكذا تتسع نطاقاتُ حزامِ القرى الأول كالتيهور (اعتباراً من أعوام 10 آلاف ق.م)، بدءاً من نوالي جوري (أورفا – سيفرك على ضفاف نهر الفرات) إلى جايونو (ديار بكر – أرغاني Ergani على ضفاف إحدى فروع نهر دجلة)، ومنها إلى جميه خالان (بالقرب من نهر باطمان Batman Çayı)، وهكذا وصولاً إلى كركوك في الأسفل. هذا هو الحَدَث الذي أسميناه بازدهارِ الثقافات. وتَحَوُّلُ أوروك إلى ثقافة أيضاً سلك مساراً مشابهاً. إنّ تكاثُرَ المدن يعني زيادةَ المنافسة. فنظراً لأنّ المدينةَ تعني السوقَ في الوقت عينه، فالثقافةُ الجديدة تَحمِلُ في ثناياها عنصرَ المنافسة حيثما حَلَّت. والتجارةُ باتت مهنةً محطَّ الأنظار منذئذ، بل وكانت الصناعةُ المِهَنِيةُ المعنيةُ بالزراعةِ والمواصلات قد وُلِدَت آنذاك. أما النزاعُ والصراع بين المدن، فسوف يجلب معه مشكلةَ الهيمنة، بطبيعة الحال. مما يعني أن سياقَ العبور من دولةِ المدينة إلى الإمبراطورية البدائية (وهذا ما يعني بسطَ نفوذِ وحكمِ الشخص عينه أو السلالةِ عينها على كلِّ المدن القائمة) سيفرض نفسَه تدريجياً.
ستُقحِم حاجةُ أوروك للتجارة الساحةَ النيوليتيةَ في مرحلةِ التمدن والاستيطان مبكراً. فالعديدُ من المعطيات التي في اليد تبرهن وجودَ مساحةِ انتشارٍ وعملياتِ استيطانٍ أكثرَ رقياً في أوروك، بالحذوِ حذوَ زخمِ المستوطناتِ المعتمدة على ثقافةِ آل عُبَيد. ونخص بالذكر العثورَ على مستوطناتِ أورك الراقيةِ للغاية على سواحلِ نهرِ الفرات. كما تُثبِت اللقى الأثريةُ التي في متناولِ اليد وجودَ نزوعٍ يعكس قيامَ التمردِ من جهة، وتبادلَ البيع والشراء من جهةٍ أخرى في ثقافةِ ميزوبوتاميا العليا – التي لم تُوقِف حلقاتِ التوسع أصلاً منذ عهدِ ثقافةِ تل حلف – تجاه حركةِ الاستيطان المتطورة في أوروك منذ أعوام 3500 ق.م. كما ثمة حفرياتٌ في أطلالٍ كثيرةٍ تشير إلى بدءِ التمدن في المنطقة في أعوام 3000 ق.م بفضلِ ديناميكياتها الداخلية القويةِ جداً. وجميعُ اللقى المتزايدةِ مع مرورِ الأيام تحث على التفكير بانتقالِ ثقافةِ المدينةِ من منطقةِ النبع الأم صوبَ ميزوبوتاميا السفلى، تماماً مثلما انتقلت إلى مصر وعيلام وهارابا. ونخص بالذكر حفرياتِ التاريخِ القريب في مكانِ إقامةِ كوباكلي تبه بالقرب من أورفا، والتي تمخضت عن لقى قادرةٍ على تغييرِ الآراء الحالية وتعديلها (حيث برهنت على بدئها في أعوام 10000 ق.م). فقد تم تثبيت وجودِ ثقافةٍ يمكن اعتبارَها عملاقةً مقارنةً بعهدها، وذلك قبل أنْ تشهد الترييف . ويَرجح الظنُّ بأنها كانت ثقافةَ المعبد. فرغم أنّ الأعمدةَ المنتصبةَ لا تكفي لتحليلِ المعنى، ولكن، من المؤكد أنها تعكس ثقافةً جِدَّ راقية. والبحوثُ الحديثة قد تؤدي إلى انزلاقِ المركز الثقافي وتَبَدُّلِه.
لقد استفضتُ في هذا المقطع بهدفِ إيضاحِ كونِ انتشارِ وتوسعِ أوروك لا يمكن أن يقابله إلا ثقافةٌ قويةٌ وطيدة. كما لثقافةِ المنطقة أيضاً مقاومتُها وإصرارها على ماهيتها تجاه الانتشار الثقافي المبتدئ قبلها (ربما أنها ثقافة آل عُبَيد البارزة في 5000 ق.م). بل ونستنبط من رسوخِ ورصانةِ البنية الثقافية في المنطقة وجودَ حالةٍ دائمةٍ من المقاومة والصمود تجاه موجاتِ النزوح والهجرة الآتية إلى المنطقة من الجنوب والشمال على مَرِّ الحقبتَين الميزوليتية والنيوليتية.
هذا الواقعُ، أي انصهار ثقافةِ أوروك في بوتقةِ الثقافة المحلية، مؤشرٌ على مدى قوةِ الثقافة المقابلة. إنه في الأصل سياقٌ لا يفتأ مستمراً إلى يومنا الراهن. أما تَفَوُّقُ أوروك، فيتأتى من قوتها في الإنتاج وقوةِ الدولة المرتكزة إلى التعداد السكاني الضخم. إننا وجهاً لوجهٍ أمامَ أولِ نموذجٍ أوليٍّ مصغَّرٍ من هولندا وإنكلترا.
وتفسيري الشخصي يتمثل في أنّ ثقافاتِ كلٍّ من مصر وعيلام (الجنوب الغربي من إيران اليوم) وميزوبوتاميا العليا قد واجهت أولَ انتشارٍ لأوروك وآل عُبَيد بنجاحٍ مظفر، فخَلَقَت ثقافتَها المدينيةَ الخاصةَ بها. علماً بأنّ البقايا الأثريةَ تزداد مع مرورِ الأيام، بحيث تبرهن على تسارُعِ تطورِ المدينة في تلك المراكز الثلاثة التاريخيةِ اعتباراً من أعوامِ 3000 ق.م، وأنها صَبَّت روافدها وفروعَها الخاصة بها في نهرِ الحضارة.
والأهمُّ في ذلك هو ما حصل في المدنِ والمناطقِ الجبلية المجاوِرة لأوروك. فالتاريخُ يُنَبِّئُ بانقضاءِ عصرِ أوروك الثقافي في 3000 ق.م، وبدءِ عصرٍ جديدٍ مع سلالةِ أور الأولى. من المحتمل أنْ يَكُون هذا التطورُ حصيلةَ الصراع والصدام المحتدم بين المدن. بالأصل، ولدى مطالعةِ الألواح الأثرية، نستشفُّ التطوراتِ في هذا المنحى بكلِّ جلاء. وترانيمُ "مرثياتِ نيبور" و"لعنةِ آكاد Agade" معنيةٌ في جوهرها بنتائجِ تدميرِ وإحراقِ المدن. كَم هي شبيهةٌ بما يجري اليوم في بغداد وجوارها! يستمر عصرُ أور الأولى والثانية حتى أعوام 2350 ق.م، ليبدأَ عصرُ السلالة بقيادةِ سارغون الشهير فيما بين 2350 – 2150 ق.م. وسارغون، الذي يمكن تعريفه أيضاً بأولِ إمبراطور، لطالما يَفتخِر ويتباهى ببسطِ نفوذه، أي إمبراطوريتِه، في الهلال الخصيب بعد خوضِ غمارِ حروبٍ دمويةٍ مروعة. وتُسرَد الوحشياتُ الفظيعةُ على أنها عملياتٌ مجيدةٌ تسمو بالعزةِ والكرامة. من اليسير اقتفاءَ ذلك في المصادر المدوَّنة. حيث يُسَجَّل فيها أنه جَعَلَ آكادَ عاصمةً له، وأنه ينحدر في أصله من العموريين (وهو الاسم الذي أطلقه السومريون وقتئذٍ على القبائل الغازية الآتية من الصحراء العربية. وتعني "الرجال المغبرين الوسخين"). وفي أعوام 2150 ق.م، يقوم المنتمون في أصولهم إلى زاغروس بقيادةِ زعيمهم خودا Gudea بتدميرِ آكاد وتسويتها بالأرض، ليؤسسوا سلالةً جديدة. وفي أعوامِ 2050 ق.م على وجهِ التقريب تنهار هذه السلالة أيضاً. وسلالةُ أور الثالثة الحالَّة محلها – هي أيضاً – لا تعيش سوى مائةَ عام.
يشير التاريخُ إلى أنّ العصرَ البابلي المهيبَ بدأ في أعوام 1950 ق.م. وتبرز أمامنا ثنائيةٌ غريبةٌ ومثيرةٌ للغاية في صراعاتِ المدن هذه. فالسومريون هم المجتمعُ الأم الخالقُ للمدنية. عندما أقول "الأم" فإني أقصد بها المصدر. ومنشأهم يدل على احتمالِ كونهم شعباً أو مجتمعاً متأتياً من ثقافةِ الهلال الخصيب قبل زمنٍ سحيق، ولكنهم غدوا مستقرين آهلين. لغتُهم مختلفةٌ عن جيرانهم القريبين من العموريين والكوتيين، رغمَ كثرةِ المفردات المتداخلة فيما بينهم بالطبع. وبشكلٍ خاص، فهي أقرب إلى مجموعةِ اللغةِ الآرية، في حين أنها مختلفة بشكلٍ بارزٍ عن الجذورِ الساميّة. هجماتُ القبائل العمورية – الساميّة مكثفةٌ متواصلة. علماً بأنّ مدينةَ آكاد وسلالتَها وسارغون نفسَه ذوو أصولٍ عمورية – ساميّة. بل ويَرجح احتمالُ كونه قائداً نشأ وترعرعَ في قصورِ المدن السومرية، واحتلَّ مكانَه في حُكمِها. فالملاحمُ والأساطير تَعكِس ذلك جلياً. أما الكوتيين، فغالباً ما يقتربون من السومريين كحلفاءَ. وتعود أصولهم إلى زاغروس – آريان. النقطة المثيرة والجديرة بالاهتمام، هي تلك اللوحةُ المشابهةُ جداً في عراقِ اليوم أيضاً.
خلاصةً، فالمدنيةُ – كنظامٍ استمر حتى مستهلِّ أعوامِ 2000 ق.م – اتسمت أثناءَ ولادتِها وتطورِها بنسبةٍ عليا من طابعِ الدموية والاستغلال، وتأسيسِ المدن وتدميرها، والتحالف، والاستيطان، وبسطِ الهيمنة. وفي الأراضي المرويةِ المعطاءةِ التي يَعمل فيها العبيدُ الأرقاءُ مقابلَ إشباعِ بطونهم، قد شَهِدَت إلى جانب الزراعة نماءً في التجارةِ والحِرَف، أسفرَ عن زخمٍ هائلٍ من فائضِ الإنتاج. ونظامُ المدنية ذاك المتأسسُ على أرضيةِ هذا الإنتاج، أي الثقافة المادية، يقوم بإنشاءِ ثقافةٍ معنويةٍ مهيبةٍ وعظيمة، ليُؤَلِّه مجموعاتِه الحاكمة، بينما يَحُطُّ من شأنِ العبيد العاملين باعتبارهم مخلوقين من بُرازِ الآلهة. ينبغي الإدراكَ جيداً بأنّ انعكاسَ الحياةِ المادية في أساطيرِ الولادة والإنشاء على هذا المنوال أمرٌ جليٌّ للغاية. أما الإلهةُ – الأم المبدعة، فيتم خلقُها من ضلعِ الرجل الأيمن (الضلع الأعوج). لَكَم هي مثيرةٌ تلك الأساطير، فهي تَعكِس بكلِّ سطوعٍ كيفيةَ خنوعِ المرأةِ الأم بشكلٍ مطلق. لقد غدت الحياةُ أمراً يُدرَك ويُفَسَّر وفق اللغةِ التي تُؤلِّفها الأساطير.
أما الحياةُ المادية الحقيقية، فستبقى قاصرةً عن خلقِ لغتها وتفسيرِها الخاصِّ بها حتى يومنا الراهن، فيما خلا سعيها للتطرقِ أحياناً إلى بضعةِ حقائقَ قديمةٍ بـ"لغةٍ ترميزيةٍ تهكمية". لكن، وبما أنه لا أحدَ يَفهم أو يَفقَه تلك اللغة، فستتخبط في خَرَسِها وخُسران معانيها. علينا ألا ننسى أنه لا يزال العجزُ مسيطراً في خلقِ لغةِ الحقيقة وقابليةِ سردها!
4- عصر المدنية البابلية والآشورية (2000 – 300 ق.م):
رغم اختلافِ الزمان والمكان فيما بين هذَين العصرَين الحضاريَّين المُنفرِدَين بمزايا خاصةٍ بكلٍّ منهما، إلا أنّ التشابهَ الثقافيَّ والتزامُنَ يطغى عليهما من جهةِ الظهورِ إلى مسرحِ التاريخ والانقطاعِ (كسلطة) عن السلالات السومرية. ويَغلب الظنُّ بانحدارِهم من الجذور العمورية – الساميّة، ومشاطرتِهم الحضارةَ مع السلالةِ الأكادية. فالشبهُ اللغوي والثقافي بينهم، والمصادرُ المدوَّنةُ الكثيرة، إنما تؤكد صحةَ ذلك.
مَرَّ العصرُ الأخيرُ للسومريين بكل بهائه في مدينةِ نيبور الثقافية. بالمستطاع التبيانَ بأنها أولُ مدينةٍ تشهد تلقيَ التعليم الأكاديمي. وبعدما دُمِّرَت على يدِ السلالات الأكادية كاحتمالٍ راجح، تأسست وتصاعدت مدينةُ بابل بالقرب منها، والتي تطغى عليها اللغةُ والثقافة الأكادية، ليَكُونَ بالمقدور اعتبارها بدايةً لعصرٍ حضاريٍّ جديد. وبالأصل، فالوضعُ الجديد يتبين بكلِّ سطوعٍ بعد عهدِ سلالةِ أور الثالثة، أي السلالة السومرية الأخيرة، منذ بداياتِ أعوامِ 2000 ق.م، حيث تستولي السلالاتُ الجديدة على المدن واحدةً تلو الأخرى بريادةِ مدينةِ بابل. وتَبرز أهميةُ اللغة الأكادية كلغةِ المدنية الجديدة، حيث تَفرض وجودَها في جميعِ أرجاءِ مناطقِ المدنية كلغةِ التجارةِ والسيادةِ السياسية. ومن ثم تَتَّخِذُ لنفسها اسمَ الآرامية، لِتغدوَ لغةَ التفاهمِ المشترك بين جميعِ الشعوب الحضارية، وتؤديَ دوراً مشابهاً للإنكليزية الراهنة. وعلى الصعيد الحضاري، تَتَّخِذُ الثقافةُ الأكاديةُ من الثقافةِ السومريةِ ميراثاً لها من حيث المضمون. أما التغيرُ والتحول الذي أنجزته ميثولوجياً، فيَنعكس في ارتقاءِ ماردوخ وسموِّه كإله. تُعَدُّ أنوما أليش من أهمِّ الملاحمِ المتبقية من ذاك العصر على الإطلاق. فماردوخ يؤدي دورَ كبيرِ الآلهة في الثقافة التي تَحُطُّ من شأنِ الإلهة – الأم بشكلٍ بارز، وتُؤَلِّهُ الرجلَ – السلطوي وتجعله ثقافةً رمزية. إنّ زيوس في الثقافة اليونانية، وجوبيتر في الثقافة الرومانية، وخودا ذا الأصولِ الآرية في الثقافة الهندوأوروبية (ينحدر القوط الجرمان والإله كوت Got من الجذور عينها. وكذلك مفردة خوديه Xwedê التي لا تزال دارجةً في الكردية تنحدر من نفسِ الجذور)، والله في الثقافة العربية، وبراهمان لدى الهنديين، وتاو لدى الصينيين؛ جميعها تمثل الجيلَ الإلهي نفسه.
يغلب انعكاسُ المراحلِ الحضارية المشتركة وتقاربُ الثقافات المتشابهة لتلك المرحلة في تسميةِ الآلهة التي تمثل المجتمعَ كرمزٍ أساسيٍّ له. فحتى ظهورُ الأسماء جميعُها حوالي أعوام 2000 ق.م ليس بمحضِ صدفة، بل ينبع من الثقافة الغائرة والمشتركة الكامنة وراءها. وبموجبِ شكلِ الترميز (أي الاعتداء والتعدي على المرأة – الأم واقتصادها على يدِ الرجل الماكر الطاغية)، يتم تأليهُ ثقافةِ الرجل المهيمنة. وبينما يَخبو نجمُ الأسماءِ الأساسية للإلهة – الأم شيئاً فشيئاً، والتي هي ستار باللغة الآرية، وإينانا بالسومرية، وكيبالا بالحثية، وعشتار بالساميّة، وكالي بالهندية؛ يتم السمو بأسماء الإله – الرجل المذكورة آنفاً. هذا وتَعكِسُ أعوامُ 2000 ق.م على الصعيد اللغوي والثقافي الهزيمةَ النكراءَ والانحطاطَ البليغَ لشأنِ المرأة، وهبوطَها إلى قاعِ الطوابق الاجتماعية. لقد باتت المرأةُ مهزومةً، منحطة، مكبوتةَ النفَس والصوت، ملعونةً، وذاتَ منزلةٍ هامشيةٍ مميتة؛ تَجتَرُّ نِيرَ العبودية في الحضيض السحيق، باعتبارها الجنسَ المعرَّضَ للعبودية في كنفِ الثقافةِ الماديةِ والمعنوية للمدنية، حتى قَبلَ عبوديةِ الرجل والقبيلة. ضمن هذه الأرضية الثقافية، تتصاعد ظاهرةُ الزوجةِ الخانعة، ويعلو شأنُ الرجلِ – الزوج بصلاحياته اللامحدودة. ومنزلةُ المرأة التي لا تبرح راسخةً ومستمرةً في العالَم العربي والمجتمعاتِ الشرقِ أوسطية ذاتِ الأرضية الثقافية المشتركة؛ تؤكد صحةَ هذا التقييم. وما جناياتُ الشرف سوى غيضٌ من فيض ضمن هذه الثقافة.
العصرُ البابليُّ أَسبَقُ من العصرِ الآشوري. وللتراجعِ خطوة خطوةً نحو شمالي ميزوبوتاميا من حيث المكان الجغرافي دورُه الهامُّ في ذلك. بينما تقع بابل إلى الجنوب من بغداد اليوم، فالمدينةُ المسماة باسمِ الإله آشور تقع بالقرب من الموصل الحالية، حيث سَجَّلَت انطلاقاتٍ لاحقةً باسم نينوى.
يُلاحَظ أنّ مدينةَ بابل قد جَذبَت الأنظارَ في التاريخ ببعضِ مزاياها. فقبلَ كلِّ شيء استساغت وتَمَثَّلَت كلَّ ثقافةِ نيبور، المدينةِ السومريةِ الثقافيةِ الأخيرة. كما ندرك من ذلك أنّ جميعَ التراكمات الثقافية والشخصيات اللامعةِ في كلِّ المجتمعات التي عاصَرَتها قد انتَقَلَت إليها في عهدِها الإمبراطوري. ويَلُوح أنّ بُرجَ بابل الشهير و"رواجَ التحدث باثنَين وسبعين لغة" ليس أسطورةً خيالية، بل حقيقةٌ واقعة، أو بالأحرى هو أَسطَرَةُ الحقيقة. تُعَدُّ مرحلةُ ما بين 1900 – 1600 ق.م أبهى مراحلِ العصر الحضاري لبابل. فنفوذُها يَسري على المناطق الحضارية سائرةً كقوةٍ إمبراطوريةٍ حاكمة. وإمبراطورُها حمورابي الذائعُ الصيت، هو الإمبراطورُ الثاني في التاريخ بعد سارغون. فـ"شرائعُ حمورابي"، التي أعلنها باسمه، تتميز بأهميةٍ أوليةٍ على صعيدِ تأثيرها وآثارها التي تركت بصماتها على صفحاتِ التاريخ؛ وإنْ كانت بالأصل استمراراً للتقاليدِ السابقة في القَونَنَةِ والتشريع. وسواءً كانت "قوانين الإله" أو "القوانين الحقوقية" المعروفة في الثقافة المدينية؛ من المؤكد أنها مشحونةٌ بآثارٍ من عهدِ حمورابي. لقد أَحكَم هيمنتَه على جميعِ مدنِ ذاك العصر بعد حروبٍ دمويةٍ ضارية. فضلاً عن أننا نستشفُّ فَرضَه سيطرةً تعسفيةً على الجوار وعلى ثقافاتِ القبائل القاطنةِ داخلَ حدوده. وبينما يسمي الملوكُ – الآلهةُ المصريون أنفسَهم "فرعون" في تاريخِ المنطقة، نجد أن الملوكَ – الآلهةَ البابليين والآشوريين غالباً ما يُسَمّون أنفسَهم "نمرود".
وخروجُ – أو فرار – سيدنا إبراهيم من أور (أورفا الحالية) المذكورُ في العهد القديم (أقدم كتاب مقدس لدى اليهود)، يبدو فيما يبدو أنه على علاقةٍ وثيقةٍ بجُورِ وظلمِ نماردةِ بابل. يُدَوِّن التاريخُ أنّ حمورابي حَكَم فيما بين 1700 – 1650 ق.م على وجهِ التقريب. ولدى التأمل بِكَونِ هجرةِ سيدنا إبراهيم قد حصلت في التاريخِ عينه، نعي حينئذ جيداً التنازعَ والتصارعَ بين إبراهيم ونمرود. إبراهيم زعيمُ قبيلةٍ هي من إحدى القبائل الكثيرة التي ترتزق من الزراعة والتجارة وتربيةِ الحيوان في جوارِ أورفا. ولَطالما نَشهَدُ اليومَ أيضاً المجتمعاتِ الانتقاليةَ المشحونةَ بتأثيراتِ كِلتا الثقافتَين المنحدرتَين من الأصولِ الآرية والساميّة ضمن المنطقة.
إنّ القيمةَ الرمزيةَ والمعنوية لقصةِ إبراهيم وقبيلته، والمدوَّنةِ بلغةٍ شبهِ دينيةٍ – شبهِ ميثولوجية، أمرٌ معلوم. فاعتبارُ سيدنا إبراهيم الجدَّ الأكبرَ للأديان التوحيدية الثلاثة، وكونه يكاد لَم يَترك ديناً في العالَم إلا وأثر فيه؛ يكفي لبسطِ أهميته للعيان. من المتوقَّع أنّ عدداً جماً من القبائل والمدن قاومت نماردةَ بابل الذين عاشوا أعتى درجاتِ السيطرة والسيادة مع حمورابي (وهم يشملون كلَّ بيروقراطيي بابل والشخصياتِ الشهيرةَ في كلِّ المراكز والأقاليم. ويظهر أنّ كلمةَ نمرود هي الاسمُ أو العنوان الممنوح للحكام المتصدرين في المدن والأقاليم). وأياً كان الاسمُ الإلهي الذي تَفرضُ به الإمبراطوريةُ ممارساتِها (باسم الله)، فمن الواضح أنها سَتَجِدُ نفسَها في مواجهةِ مقاومةِ وتمردِ القبائل، بل وحتى المدن والقرى التي لا تفتأ مثقلةً بتأثيراتِ النسقِ المشاعي الوطيد. ذلك أنه من العسير جداً استعباد المجتمعات التي تجهل طعمَ العبودية، وتضع نصب عينها الإبادةَ الكلية لنفسها أحياناً على أنْ تُستَعبَد. ولَطالما نشهد أمثلةً لا حصرَ لها على ذلك طيلةَ سياقِ التاريخ.
ليس دينُ سيدنا إبراهيم أو أقاصيصُه في الأصل سوى تجسيداً لتلك الثقافةِ العامة المقاوِمة والمناهِضة لنمرود. والمنبعُ الأولُ لهذه الثقافة هو أرضيةُ وزمانُ إمبراطوريةِ بابل في أعوامِ 1700 ق.م. أما منبعُها ورافدُها الثاني، فهو أقاصيصُ مناهَضةِ وتمردِ سيدنا موسى على فراعنةِ مصر اعتباراً من نهاياتِ 1300 ق.م. أي أنها ثقافةُ المقاومة لتجمعاتِ أشباهِ العبيد المتطلعين للخلاص، والمنتفضين في وجهِ الثقافة الممثلة لسيادةِ فرعونِ مصر؛ مقتفين بذلك منحىً يُشبِه أو يطابق مسارَ تقاليدِ وسُنّةِ سيدنا إبراهيم. ومجموعُ تلك المقاومات يُشَكِّل تقاليدَ الكتاب المقدس. هذه التقاليدُ ذات النَفَسِ الطويل، والتي باتت تُشَكِّل مع الزمن ثقافةً جديدةً في معارضةِ النماردة والفراعنة الجبابرةِ في عصرهم، والذين يُصَوِّرون أنفسَهم ملوكاً – آلهة؛ هذه التقاليد قد تجسدت بعد عهدِ سيدنا موسى في الرهبانِ العتاةِ الأشداء (مثلاً: اعتباراً من التقاليد المبتدئة من هارون أخو موسى، مروراً بصاموئيل الأول والثاني، وصولاً إلى أشعيا والعديد من الأنبياء)، والذين أَسَّسوا لاحقاً فوق أراضي إسرائيل – فلسطين الحالية مَلَكيةً منيعةً في عهدِ سيدنا داوود وسيدنا سليمان فيما بين 1020 – 900 ق.م. من هنا، ومن دون التفسيرِ الدقيق والحريص لمسيرةِ تلك التقاليد والقبيلةِ العبرانية التي تمثلها، ولتأثيرِهما ضمن سياقِ التاريخ؛ يستحيل إدراك وتحليل التاريخ المديني وشتى أنواع المقاومات والتمردات المنتفضة في وجهه (أقصد بشتى أنواعها جميعَ الحركات بشتى أنواعها الأيديولوجية، الميثولوجية، الفلسفية، الدينية، السياسية، الطبيعية، الاقتصادية، الحقوقية، القبائلية، والوطنية).
نشاهد أنّ العصرَ البابلي الأول قد انقضى أمرُه عامَ 1596 ق.م على يدِ القوى المسماة بالكاسيين ذوي الأصولِ الحثية والهورية. الأمرُ الملفت والهام هنا هو التحالفُ الذي فيما بينهم بالهَوِيّةِ الحثية والكاسية. هذا الموضوعُ، الذي لم يشرحه المؤرخون بعد، يتميز بأهميةٍ ملحوظةٍ على صعيدِ معرفةِ تاريخِ المنطقة وشعوبها. يبدو أنّ التغلبَ على تقاليدَ ثقافيةٍ وسياسيةٍ وعسكريةٍ منيعةٍ مثل بابل ليس بالأمر اليسير، ويقتضي ثقافةً مضادةً رصينةً للغاية. بَيْدَ أنّ ما فعلَته التقاليدُ الإبراهيميةُ هي الهجرةُ الدائمة، أو بالأحرى الهرب. ولم يَكُن لها أن تصبح قوةً سياسية، إلا عندما تجد الفرصةَ الملائمة من الفراغ الموجود.
من المهم للغاية تحليلَ التقاليدِ المتشكلة في جبالِ زاغروس – طوروس، المتجسدة في فيدراليةِ قبائلِ زاغروس الأخيرة في عهدِ أوروك وأور، والتي مثَّلها خودا (غريب حقاً، إنه يحمل نفسَ اسمِ الإله الأكبر للآريين. ندرك من ذلك دخولَه ضرباً من ضروبِ الحضارة المضادة) مَلِكُ الكوتيين الشهيرُ الذي قَضى على السلالة الأكادية في 2150 ق.م. وبقدرِ غرابةِ ندرةِ (أو عدمِ) تَطَرُّقِ التاريخِ إلى هذه التقاليد، فإنها تُعَدُّ حقلاً أو ميداناً هاماً يقتضي التركيزَ والبحث.
الاحتمالُ الأقوى هنا هو أنّ تجمعاتِ القبائلِ القاطنةِ سويةً في السهول وعلى سفوحِ الجبال وحوافها، والمتميزةِ بشبكةِ علاقاتٍ واسعةٍ جداً فيما بينها، قد قاومت بشكلٍ مشترك، وأَسَّسَت فيدرالياتها إزاء المخاطرِ المشتركة المحيقة، ومن ثم أسست اتحاداتِها السياسيةَ الراسخة، سواءً تجاه مستوطناتِ ثقافةِ آل عُبَيد، أو تجاه الاستيطان السياسي والتجاري لكلٍّ مِن أوروك وأور. وقد اتسمت تلك القبائل بإبداعِها ثقافةً زراعيةً أكثرَ رسوخاً، وأسست شبكةَ قرىً مكثفةً للغاية، وشارفت عتبةَ التمدن، وربما كانت تمدنت قَبلاً (تلة المعابد الكبرى في كوباكلي تبه – أورفا تُذَكِّرنا بإمكانيةِ حصولِ ذلك. فمبدعو تلك الثقافة في أعوام 10 آلاف ق.م يمكنهم – وبكل سهولة – خلقَ ثقافةٍ مدينيةٍ أرقى بكثير مما عليه في أوروك وأور).
يُلاحَظ أنّ هذه الجماعاتِ المجتمعةَ تحت اسمِ الهوريين (أطلقه عليها السومريون) في أعوام 3000 ق.م، قد أسست صوبَ الشمالِ اتحادَين سياسيَّين منيعَين أعوامَ 1650 ق.م؛ أحدُهما باسمِ الحثيين، ومركزُهم كانيش وهاتوشاش، والثاني باسمِ الميتانيين، ومركزُهم واشوكاني Wajukani (أو خوشكاني Xweşkanî، ومعناها الينبوعُ الجميلُ الطيبُ المذاق. وهي حالياً مدينةُ سريه كانيه Serêkanî التي تُقابِلُ الاسمَ عينَه، والموجودةُ في سوريا وفي جيلان بنار Ceylanpınar). وتُبَرهِن العديدُ من الوثائق على أنّ الميتانيين مَدُّوا توسُّعَهم من كركوك وزاغروس إلى تل علال وأمانوس، وأنهم في أعوامِ 1400 ق.م غدوا ثالثَ قوةٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ عظمى مع المصريين والحثيين. إنهم يشتركون مع الحثيين في الثقافة واللغة، وتربطهم ببعضهم روابطُ الدم الوثيقةِ والزيجاتُ السياسية (يقول الإمبراطور الحثي شوبيلوليوما Şupiluliuma للأمير الميتاني ماتيزافا Matizava "أعطيتك ابنتي، فلنَحكم المنطقة معاً كالرجال"). هذا وتنعكسُ قوةُ الميتانيين بسطوعٍ في الهيروغليفية المصرية. كما تَكتظُّ القصورُ بالعرائس الميتانيات. وما نفرتيتي الشهيرةُ سوى واحدةٌ منهن.
كما أنّ الإلهةَ الأنثى بودوهابا Puduhepa الشهيرةَ لدى الحثيين ذاتُ أصولٍ هورية، وكأنها آخرُ ممثلٍ لأثَرِ المرأةِ في ثقافةِ المنطقة. وأولئك المُسَمَّون لاحقاً بالميتانيين، والذين كانوا قبلها يُدعَون بالكوتيين والكاسيين، يَعكِسون الفروعَ السفلى للهوريين. وأتيمولوجياً، فمفردةُ هوري تعني "الجبليين" في اللغةِ السومرية، ولا تزالُ تسميةً مستَخدَمةً بين الحين والآخر حتى يومنا الراهن. والأهمُّ من ذلك أنّ كلَّ العلاماتِ والدلائل القويةِ تشير إلى كَونِ جميعِ ملوكِ وأمراءِ الدولةِ المسماة بالحثية يحملون أسماءَ هورية، ومتزوجون من أميراتٍ جميعُهن هورياتُ الأصل. وحسب تفسيري الشخصي؛ فبينما يَكُون الميتانيون بالأغلب اتحاداً سياسياً أو كياناً أَشبَه بالفيدرالية، مؤسَّساً في الهلال الخصيب الواقع على الحواف الجنوبية لقوسِ سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس؛ يتم تأسيس فرعٍ من المجموعاتِ الهوريةِ في الشمال وصولاً حتى جبالِ البحر الأسود، وتأسيس الفرع الثاني على طولِ شمالي جبالِ طوروس تحت اسمِ الحثيين؛ لِيُشَكّلوا تنظيماً أقوى، بل وأقربَ إلى إمبراطوريةٍ بدائية. ويمكن سرد المؤثراتِ المؤكدةِ لصحةِ ذلك متمثلةً في الأرضيةِ الثقافية، والقرابة، والعلاقاتِ الدبلوماسية، وحتى في التحالفِ الحثي – الكاسي الأهمِّ من كلِّ ذلك.
من اليسير التبيان بأنّ هذه المقاومةَ الثقافية، ومن ثَمّ الاتحادَ السياسي المتشكلَ بعدها، قد طَوَيا صفحةَ العهدِ البابلي الأول. أما في العهد البابلي الثاني (1600 – 1300 ق.م)، فقد قامت بابل بِمَدِّ هيمنتِها على ذاك الاتحاد السياسي، أو بحكمِ البلاد سويةً فيما يشبه الوفاق، واستمرت في حياتها بالأغلب كمركزٍ تجاريٍّ هو الأكبر في عهده، لِتَكُون شبيهةً بباريس اليوم.
لقد أثرت الثقافةُ البابليةُ من الصميم في الكتبِ المقدسة الثلاثة أيضاً، وتَرَكَت العديدَ من البصمات. هذا ويمكن تعريفها كمستودعِ التجارة، والسوقِ الإقليمية، ومدينةِ الجامعة. هذا ويمكن التبيان بكلِّ سهولة بأنها جَسَّدَت دورَ المركز الدولي – فيما بين الدول – (أو بالأصح فيما بين الأقوام والمذاهب) لحضارةِ عهدها. وباتت كلُّ الألاعيبِ السياسية والتجارية والاستخباراتية تُحاك في بابل. ولا يمكن غضَّ الطرف عن دورها كمركزٍ تآمري. علاوةً على أنّ تصويرَها وأوصافَها في الكتاب المقدس صاعقٌ ومثيرٌ للغاية. باختصار، لقد أدت دورَها كمركزٍ حضاريٍّ بجدارةٍ كاملة. وهي بجانبها هذا شبيهةٌ للغاية بلندن اليوم.
أما التحالفُ الذي أبرموه مع الميديين (وهو شبيهٌ للغاية بالتحالف الشيعي – الكردي الراهن) في العصر البابلي الثالث (610 – 330 ق.م)، فيبدأ مع مسحِ نينوى من الخريطة في 612 ق.م، وينتهي مع غزوِ الإسكندر 330 ق.م؛ مع استذكاره بإمبراطوريةِ نبوخذ نصر الذائعةِ الصيت، وهي آخرُ أكبرِ إمبراطورياتِ ميزوبوتاميا. وبعد هذا التاريخ تبدأ ميزوبوتاميا رويداً رويداً بخسرانِ دورِها كمركزٍ أُمّ. فبعدَ أنْ عَجَنَت ثقافةَ البشريةِ كمركزٍ أُمٍّ للتاريخ على مَرِّ خمسةَ عشرَ ألفِ عامٍ تقريباً في أحضانِ وديانِ نهرَي دجلة والفرات، وعلى جانبَيهما، وفي ثنايا الجبال والسهول التي يحتضناها، ومن ثَمَّ قامت بِنَشرِها في جميعِ أرجاءِ القارات؛ باتت منهمكةَ القوى، ولكنها تُعِدُّ نفسَها اليوم لمرحلةٍ جديدةٍ وهي آملةٌ متفائلة.
يمكن تقسيم عصر آشور أيضاً إلى ثلاثةِ مراحل على نحوٍ مماثل. فهي أعتى قُوى التاريخِ القديمِ سياسياً وعسكرياً وتجارياً. وتؤدي دورَ الحلقة الوسيطة الواصلة بين المدنية السومرية والمدنية الإغريقية – الرومانية. ويتم استذكارها في المدنية بإراقةِ الدماء والطغيان والجور والإبداع التجاري، والاحتفاء بانهيارها كيومِ عيدٍ من قِبَلِ جميعِ شعوبِ الشرق الأوسط (بما في ذلك شعبها أيضاً). ولانتهاءِ الاستبدادِ والطغيان الأقرب إلى طرازِ نمرود وفرعون نصيبُه الوافر والمُحدِّد في تلك الاحتفالات.
العهدُ الأول (2000 – 1600 ق.م) هو عهدُ نماءِ الأرستقراطية التجارية. والضارب للنظر أنّ الزمرة التجاريةَ والسياسية تتجسد بكثافةٍ في نفسِ الشخصية كشكلٍ احتكاري. وبالمقدور القول أنّ احتكارَ القوةِ السياسية والتجارية قد تأسس لأولِ مرةٍ على يدِ المجتمعات الآشورية. كما يمكن التبيان – وبكلِّ سهولة – أنهم اعتمدوا على إرثٍ تاريخيٍّ واسع، واستخدموا الخبرةَ التجارية لكلٍّ من آل عُبَيد وأوروك وأور وبابل، واقتفوا أثرهم، وطوَّروا التجارة اعتباراً من أعوام 2000 ق.م في جميعِ المناطق الحضارية بالاشتراك مع جيرانهم من القرى النيوليتية والجماعات النازحة، وأسسوا المستوطناتِ التجاريةَ في المراكز المتقدمة الرئيسة. ولأولِ مرةٍ عملوا بما هو أَشبَه بالامتيازات الأجنبية المستقلة، وامتلكوا شبكاتٍ من القوافل المترامية الأطراف، فكانوا المدنيةَ الأرقى من حيث الوعي التجاري، ولَجَأوا إلى القوة التعسفية بلا هوادةٍ في سبيلِ ضمانِ جميعِ هذه العلاقات الاستراتيجية. وتزخر نينوى بالغنى والذهب والفضة، فكانت بذلك بمثابةِ أمستردامِ هولندا. وباتت مركزُ أفضلِ أنواعِ الأقمشة، وأشهرُ القصور والسرايا تجتمع في نينوى والمدن المجاورة لها. ومثلما الحال في المنافسة بين أمستردام وباريس، فإنّ بابل هي المنافس الند لنينوى (آشور). كلتاهما تبذلان جهوداً مريرةً للتأثير في الأخرى ومَدِّ هيمنتها عليها. كما لم تتناقص اشتباكاتهما وصداماتهما الاقتصادية والتجارية والسياسية والعسكرية بسببِ المصالح المتبادلة. ورغم تبدلِ التفوق المرحلي بينهما من حينٍ لآخر، إلا أنهما تعجزان عن إحرازِ التفوق النهائي.
يمر العهد الثاني (1600 – 1300 ق.م) يمر تحت ظلِّ الهيمنةِ التي بسطها الميتانيون والبابليون حصيلةَ التحالفِ فيما بينهما. إلا أنهم يستمرون في أداءِ أدوارهم التجارية.
العهد الثالث (1300 – 600 ق.م) هو العهد الذي أنشأوا فيه قوتَهم العسكرية والسياسية الأصلية، فغدوا القوةَ الأعتى والأكثر هولاً في عهدها. وفيما عدا الأورارتيين، لم يتركوا مكاناً إلا واحتلوه وفرضوا عليه الضريبة، بما فيها مصر أيضاً. ويَفرضون عهداً تجتر فيه الأقوامُ والقبائلُ أشدَّ درجاتِ الآلامِ والمخاضات. بالمقدور نعتهم بالوجهِ الأكثر دمويةً للمدنية، حيث يغدقون أنفسهم بالمديح والثناء في كيفيةِ بنائهم الأسوارَ والقلاع من الجماجم، ويذكرونه وكأنه معيارُ عظمتهم. ويُقتَل كلُّ أفرادِ الأقوام والقبائل، فيما خلا المستَعبَدين الأرقاءَ منهم. فحتى مدنيةٌ مثلَ مصر لم تَتَخلَّص من الاحتلال (670 ق.م)، وتُسَوَّى مَلَكيةُ القدس أرضاً. إنها قوةٌ عالميةٌ أَشبَه بحالِ أمريكا اليوم. ومثلما الأمرُ في كلِّ إمبراطورية، فهم يعيشون الأنانيةَ بأعلى درجاتها، ولا يعترفون بثقافةِ الوفاق والحياةِ المسالمة المشتركة. هذا ولا يمكن الاستهانة بنصيبهم الوافر في خلقِ وتشييدِ تقاليدِ الإمبراطورية.
ومرةً أخرى يؤدي ذوو الأصولِ الهورية دوراً محدِّداً ومصيرياً في دمارهم وانهيارهم. جميعنا نعلم أنّ الميتانيين كتموا على أنفاسهم وكبحوا جماحهم مدةً طويلة (1600 – 1300 ق.م). لكنّ تدميرهم وقضاءهم على الميتانيين لا يُنهِي مقاومةَ ذوي الأصول الهورية. حيث تُقاومهم التجمعاتُ العشائريةُ المعروفة باسمِ النائيريين (وتعني في الآشورية "شعب الأنهر") لمدةٍ طويلةٍ (1200 – 900 ق.م) ضمن الاتحادات الأقرب إلى فيدرالياتِ العشائر، وذلك في إقليم بوطان الحالي. وبعد هذا التاريخ، يَدخل الاتحادُ السياسي المسمى بالأورارتيين حيزَ العمل، لتستمرَّ مقاوماتُهم تجاه آشور من أعوامِ 870 ق.م إلى حين انهيارها (610 ق.م). تتحول هذه المقاومةُ المستمرة ما يقارب الثلاثةَ قرونٍ إلى كيانٍ سياسيٍّ حصينٍ للغاية في مركزِ وان الحالية، ليتركَ بصماتِه على صفحاتِ التاريخ. ويُحتَمَل وجودُ بنيةٍ سياسيةٍ عليا هجينة. ففي البداية يطغى تأثيرُ اللغةِ الآشورية، ويَغلب الظنُّ باستخدامِ لغةٍ هجينةٍ مفعمةٍ بآثارِ اللغات الهورية والأرمنية والقفقاسية. إنّ هذه البنيةَ اللغويةَ تَعكِس الموزاييكَ الذي تشتمل عليه المقاومة. نستشف من ذلك أنّ هذه الشعوبَ القاطنةَ كخليطٍ مشتركٍ في المنطقة قد اتحدت تجاه المخاطر المشتركة المحيقة، وحافظت على وجودها من خلالِ كيانٍ سياسيٍّ موحدٍ منيع. كما أنه عهدٌ شَهِدَ النشاطَ المؤثرَ للإسكيتيين ذوي الجذورِ القفقاسية. وإذا ما وضعنا نصبَ العين احترافَ الأورارتيين في الحِدادة، واستخدامَهم البرونز في صنعِ العديد من الأسلحة والأوعية، وتفوقَهم في العمار يتصدره بناءُ القلاع والحُصُن، وتَغَلُّبَهم العسكري المتواصل على آشور؛ فإننا نعي حينئذ أهميتَهم على نحوٍ أفضل. وبالرغم من عدمِ إلحاقهم الهزيمةَ النهائيةَ بالآشوريين، إلا أنّ النصيبَ الوافر في إبلائهم وإنهاكهم هو من حصةِ دولةِ أورارتو. إنها أثرٌ يصعب محوه من صفحاتِ التاريخ الحضاري.
أما الهزيمةُ الساحقة النهائية، فلَحِقَت بآشور عام 612 ق.م حصيلةَ التحالف بين الكونفدرالية الميدية ودولةِ مدينةِ بابل، بعد دبلوماسيةٍ خفيةٍ سيَّرتها بابل على المدى الطويل، وبعد الانشغالِ الدءوب للرهبان الميديين المسمَّين ماغ Mağ (وتعني موقد النار في الكردية). وهكذا يبدأ عهدُ الميديين والعصر البابلي الثالث في المنطقة.
النتيجةُ الأهم الممكن استخلاصها من الواقع العملي للمدنية الآشورية، هي تداخُل الاحتكارِ التجاري مع الاحتكار السياسي، واهتمامهما بالحروب. تُشَكِّل آشور المرحلةَ الأهمَّ للاحتكار السياسي والتجاري في التاريخ الحضاري. وبالمقدور القول أنّ الحلقةَ المركزية الأولى الواصلةَ بين المدنيات المصرية والصينية والهندية – قبل الإمبراطورية البرسية – هي الاحتكاراتُ التجارية الآشورية. لقد خلقوا عالَماً تجارياً بِحَدِّ ذاته. إنها شكلٌ من العولمة في ذاك العصر. ومرةً أخرى يتبدى للعيان أنّ الاحتكارَ التجاري ليس اقتصاداً، بل يُفرَض على الاقتصاد من الخارج بنسقٍ إرهابيٍّ يَندر وجودُ نظيرٍ له، لينهبَ ويسلبَ الثرواتِ التي جَمَعَتها وأوجدتها الشعوبُ والقبائلُ بِشَقِّ الأنفس وبالكدح المرير. ساطعٌ جلياً مدى استحالةِ ممارسةِ الاحتكار التجاري بدون الدولة. فبينما كانت الاحتكاراتُ السياسية السابقة برمتها متعلقةً بنمطِ الزراعة العبودي، اكتَسَبَت التجارةُ هنا، ولأولِ مرة، ثقلاً يُعادِل ما للزراعةِ منه. وإذا ما عرَّفنا الاحتكارَ التجاري على أنه الرأسمالية، فالاحتكار السياسي يحتل مكانه في المدنية كقوةٍ استعماريةٍ استغلاليةٍ أكثر تأثيراً في نهبِ وسلبِ فائضِ الإنتاج في الزراعة. الإمبراطوريةُ هي شكلُ الحكم الذي تشجعه التجارةُ أكثر من الزراعة. فضمانُ الطرق حاجةٌ ضروريةٌ لتجارةِ المناطق الشاسعة. وهذا ما لا يُؤَمِّنه إلا الإمبراطورية. أما لجوءُها إلى العنف المكثف، فمن الجلي بلا جدال أنه يتصاعد بالتداخل مع المقاومة التي يبديها المجتمعُ تجاه الإرغاماتِ الاقتصادية الجديدة المفروضة عليه.
من الساطع أنّ الزراعةَ، السوق، التجارةَ الصغيرة، الحِرَفة، وعدداً جماً من الشرائح الخاصة المستقلة هم ذوو فائدةٍ للاقتصاد. فكدحُ الإنسان في جميعِ هذه الميادين قد أثبتَ قيمتَه المُطوِّرة للإنتاجية والعطاء. وليس من العسير تشخيص عدمِ لزومِ أو جدوى الاحتكار السياسي أو العسكري أو التجاري – الاقتصادي بالنسبة له. فهل كان الاقتصاد سيركد لو لَم تَكُن آشور؟ بالعكس، من المفهوم أنّ الوسطَ الذي يستتب فيه السلامُ والأمن قادرٌ على خلقِ حياةٍ اقتصاديةٍ مغايرةٍ وأكثر إيجابية. والدولةُ باعتبارها الحكم المعادي للديمقراطية، ليست دون جدوى أو ضرورة وحسب، بل هي قوةٌ مخرِّبةٌ للاقتصاد والمجتمع من خلال البيروقراطية التي تنتجها، والحروبِ التي تشنها، وعملياتِ النهبِ والسلب التي تقوم بها. لا أناقش هنا أهميةَ وضرورةَ المدينة والتمايز الطبقي؛ بل أتحرى وأحقق في العلاقةِ بين المدنية والقوة الجبارة الطاغية المتلثمة بالأردية الأيديولوجيةِ الإلهية، والمتحصنة بجدارٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ غليظٍ يَحُفُّ بها. أكررُ ثانيةً؛ حتى ولو كان للمدنيةِ جوانبُها الإيجابية على صعيدِ التمدن، فهي قد دُنِّسَت، وطغت عليها الجوانبُ السلبية بالعوائق الرجعية التعصبية التي تجرها للوراء. فتنسيقُ الإدارة أمر، واحتكاراتُ الطغيان والسلب أمرٌ آخر.
وأشدد على أنّ تداخلَ الاحتكار السياسي والتجاري والاقتصادي لا يقتصر على الرأسمالية فحسب، بل ظهرَ منذ أولى بداياتِ المدنية بالتزامن مع التمدن وحكم السلالة، متخذاً لنفسه الخاصياتِ نفسَها، وداهساً الجوانبَ الإيجابيةَ والفعالياتِ الديمقراطيةَ للحضارة، ومحيطاً بها على شكلِ سلسلةٍ متواصلةٍ لا يمكن انفكاكها؛ لِيُحَقِّقَ بذلك وجودَه إلى يومنا الراهن. لِنستمر في التعرف على حلقات تلك السلسلة.
5- المدنيات المصرية، الهندية، الصينية، الحثية والفينيقية:
إنّ نقاشَ مساهماتِ مصر والهند والصين في النهر الأم للحضارة موضوعٌ يتطلب عملاً كبيراً محلُّه ليس هنا. ولكن، قد يَكُون من المفيد التحري والتحقيق الموجز في أسبابِ طغيانِ الزراعة عليها بالأرجح، ودوافع عجزها عن إبداءِ قدرتها وإرادتها لتخطي مناطقها. إني على قناعةٍ بأنها راقيةٌ للغاية في داخلها، وأنّ بقاءَها صامدةً متماسكةً ردحاً طويلاً من الزمن مَدِينٌ إلى عدمِ لجوئها إلى الاحتكار الاقتصادي، وبالأخص إلى الاحتكار التجاري للمناطق الشاسعة. فثلاثتها تكاد تغيب فيها التجارةُ الخارجية. ويبدو أنّ البنيةَ الداخلية للزراعة والتجارة لا تتيح الفرصةَ كثيراً للاحتكار. فبقدرِ ما يقف الاحتكارُ السياسي الموجود بعيداً عن الاحتكارِ الاقتصادي، يَكُون حينها ذا عمرٍ أطول. فالقوةُ السياسية والعسكرية تُواجِه اعتراضاً وردودَ فعلٍ أقلَّ عند قيامِها بعرقلةِ للمخاطرِ الخارجية والفوضى الداخلية، وبالتالي، عمرها يطول. جميعُها في نهايةِ المآل احتكاراتُ السمسرةِ والريع الاقتصادي، ولكنّ الأمر المفهومَ أيضاً هو كونها لم تَختَنق حتى حَلْقِها في الاحتكارات الاقتصادية.
لقد قدَّمَت مصرُ مساهماتِها في الثقافةِ والمدنية الأوروبية بقدرِ تأثيرها في الثقافة الإغريقية – الرومانية. في حين أنها بَقِيَت بالنسبة إلى أفريقيا وكأنها لَم تَكُن. لم تتدخل في التجارةِ أبداً. كما جَرَّدَت نفسَها من الشرق الأوسط. وربما كانت من أولى الأمثلة بالنسبة إلى الاشتراكية المشيَّدة بِيَدِ الدولة. إذ ما مِن أمثلةٍ شبيهةٍ مؤثرةٍ بقدرِ ما هي مصر. لقد انخرطت مصرُ كلياً، والهندُ والصينُ جزئياً في حضارةِ العصور الوسطى عن طريقِ الشرق الأوسط. وقد أدت الديانةُ الإسلاميةُ دوراً أساسياً في صَبِّها جميعَها في حوضِها، ومن ثم تقديمها لأوروبا.
لا داعي لتخصيصِ بندٍ منفصلٍ حولَ الحثيين، الذين نشروا الحضارةَ في بلادِ الأناضول، باعتبارِهم حلفاءَ الهوريين – الميتانيين. فمن خلالِ تأثيرهم ونفوذهم في سواحل إيجة، قدموا مساهماتهم في إنجازِ التطور الحضاري الجديد داخل شبهِ الجزيرة اليونانية بما يعادل مساهمةَ المصريين والفينيقيين بأقلِّ تقدير. وقد سدوا الطريقَ أمامَ انتشارِ مصرِ عن طريقِ سوريا، وأثروا أيضاً في عرقلةِ تَوَسُّعِ آشور ومِن قَبلِها بابل.
أما تجارةُ المناطق الشاسعة، التي عَجِزَت مصرُ عن إنجازها، وتَرَكَتها خاليةً؛ فقد أنجزها القومُ المتموقعُ في شرقي البحر الأبيض المتوسط، والمسمى بالفينقيين. حيث يَعُود الفضلُ في نجاحِ تأسيسِ أولى المستوطنات التجارية المحيطة بجميعِ أطرافِ البحر الأبيض المتوسط إلى الفينيقيين. كما أنّ الفينيقيين هم أولُ مَن نشرَ وأشاعَ الثقافةَ الشرقَ أوسطية والمصرية في أوروبا. فضلاً عن أنّ فنونهم في الأبجدية وصناعةِ السفن مؤثرةٌ على الصعيد الحضاري. فهم مَن عَلَّمَ اليونانيين حروفََ الأبجدية. وهم أولُ مؤسِّسي الموانئ. ودورُهم بارزٌ وهام في نقلِ الثقافة المعنوية. إنهم أثرٌ مؤثرٌ في التاريخ الحضاري، بقدرِ الأورارتيين على الأقل.
أما تأثيرُ المَلَكية الإسرائيلية، فتَرجح كَفَّتُه في الساحة المعنوية. والأهمٌّ من ذلك هو إنتاجُ التقاليد العبرية للأديانِ التوحيدية. وكأنّ لهم ذرائعَ ومسوغاتٍ تاريخيةً في إبرازِ الدولةِ المعنوية في مواجهةِ الدولة المادية المصرية والسومرية. من الضروري عدم النظر إلى التقاليدِ العبرانية من النافذة اليهودية الضيقة. فبينما تصاعَدَ وارتقى اليهودُ بالأغلب في الجناح المالي المادي من هذه التقاليد، نَجِدُ الأنبياءَ والكُتَّابَ والمتنورين والمثقفين الواعين قد تواجَدوا في جناحها المعنوي. أما طغيانُ تأثيرهم في كِلا الجناحَين، فقد تَرَكَ بصماته الغائرة في تاريخِ المدنية العالمية. من هنا، وللتعرف على المدنية بشكلٍ كلي، يتوجب بالضرورة تحليلَ وتفكيكَ التقاليدِ السومرية والمصرية والعبرية بكلِّ جوانبها. ولهذا السبب، فإيضاحُ أوروبا مِن خلالِ إسنادها إلى العصور الوسطى، ونسبياً إلى الثقافةِ الإغريقية – الرومانية العريقة؛ يُعَدُّ نمطاً من السردِ المُعَلَّقِ في الهوء دون جذور أو قوائم. إنه نمطٌ ناقصٌ وخاطئٌ للغاية. وسأجهد لاحقاً لتناولِ ماهيةِ النتائجِ الوخيمة المتمخضة عن تلك النواقص.
6- العصر الميدي – البرسي (700 – 330 ق.م):
للميديين تأثيرٌ حضاري لم يبرز بعد إلى وجهِ البسيطة. من أهمِّ المزايا المعروفة عنهم انتماءهم لأصولِ الهوريين القاطنين في جبالِ زاغروس، وقرابتهم مع الفرس، وتكوينهم فرعاً على شكلِ قبائل آرية. وقد اكتسبوا هويةً مقاوِمةً تحت نيرِ القمعِ الكثيف للآشوريين. وثمة رهبانهم المسمّون ماغ، والذين هم المُعَلِّمون والمدربون والمنظمون الأساسيون، بحيث يمكن القول أنهم أَدَّوا دوراً بارزاً في شؤونِ الإدارة طيلةَ مدةٍ زمنيةٍ طويلة. من المؤكد أنهم أسسوا اتحاداً كونفدرالياً في مستهلِّ أعوام 700 ق.م، وعاشوا في منطقة ميديا، التي تشمل غربي إيران اليوم، وتقع في منطقةِ تقارُبِ الحدود الإيرانية والعراقية والتركية الحالية. وقد شهدوا صداقةً حيناً وصداماً أحياناً أُخَر مع الإسكيتيين الوافدين من بلاد القفقاس. وبتغلبِهم على الآشوريين في 612 ق.م، تزداد شهرتهم، وتُفسَح الطريقُ أمامهم. من المعلوم أنهم هَزَموا الفريغيين عامَ 585 ق.م على شواطئِ النهر الأحمر. وفي تلك الأثناء يَظهَر علاّمةٌ متمرسٌ مقتدرٌ من بين رهبان الـ ماغ، اسمه زرادشت، ليؤسسَ ديانةً يطغى عليها الطابعُ الأخلاقي. إنها ليست ديناً خالصاً، ولا فلسفةً خالصة. وبالإضافة إلى تَمَيُّزِها عن التقاليد العبرانية، إلا أنّ التأثيراتِ المتبادلةَ كثيفةٌ بينهما. وقد تبلورت تأثيراتُ الزرادشتية على وجهِ الخصوص في مرحلةِ أسرِ بَنِي إسرائيل في بابل 595 ق.م على يدِ نبوخذ نصر إمبراطور بابل. تَنظر الحضارةُ اليونانيةُ إلى الميديين بأنهم أكثر أهميةً وارتقاءً من البرسيين. وهم الشعبُ الأكثر ذِكراً في تاريخِ هيرودوت. وحصيلةَ خيانةٍ داخليةٍ عامَ 559 ق.م، يستلم الأخمينيون البرسيون دفةَ الكيانِ السياسي الميدي. لقد تمت تنشئة كيروس، مؤسسُ هذا الكيان، في القصور الميدية. أي أنّ البرسيين والميديين هما العنصران المشتركان المؤسِّسان للإمبراطورية. بالتالي، فالاقتصارُ على القول بالإمبراطورية البرسية تسميةٌ ناقصة.
لقد وَطَّدوا أوسعَ نطاقاتِ الاتحاد السياسي للإمبراطورية البرسية – الميدية في عهدهم خلالَ حيزٍ زمنيٍّ يصل الثلاثةَ قرون، لتمتدَّ من مصر إلى أعماقِ بلادِ الهند (التي فُتِحَت في 515 ق.م)، ومن حدودِ الصين إلى شبهِ الجزيرة اليونانية. وقد قسَّموها إلى اثنتَين وعشرين مقاطعة، ليؤسِّسوا نوعاً من شبهِ دولة. وقد تجسدت مساهماتُهم في الحضارة في البيروقراطية، والنظام الجيد في الطرقات والبريد، وبناءِ أعظم وأروع قوى الجيش في عهدهم. فضلاً عن إيلائهم الأهميةَ للتقاليد الأخلاقية.
انتَهَلت الحضارةُ اليونانية العديدَ من عناصرها الثقافية من الميديين والبرسيين. وفي ذاك العصر تَبَلورت معالِمُ التمييز بين الشرق – الغرب. ثمة تأثيرٌ متبادلٌ وثيقٌ فيما بينهم. فالعديدُ من اليونانيين موظفون في القصور البرسية، والآلافُ منهم صاروا جنوداً مرتزقة. إنّ تكديسَهم للثروات الكبرى، ومدَّهم نفوذَهم على منطقةِ إيجة على مَدى قرنَين من الزمن، قد طَوَّر معه تياراً مضاداً للبرسيين لدرجةِ الهَوَس. وبات تحطيمُ طَوقِ ضغطِ البرسيين من جهة، والاستيلاءُ على ثرواتهم من جهة أخرى، وكأنه هدفٌ قومي مللي. من هنا، فظهورُ الإسكندر وكأنه هرقل الجديد ليس بمحضِ صدفة. فقد أخذ حصته من هذا المناخ، وتلقى تدريباً خاصاً على يدِ أرسطو. فحتى الفلسفةُ اليونانية مشحونةٌ بتأثيراتِ الصراع في كيفيةِ التصدي لهذا القمع السائد. أما التأثيراتُ الميثولوجية، فهي بالأصل أكثر بأضعافٍ مضاعفة. لقد تكوَّنَ ما هو أَشبَه بثقافةِ المقاومة. فتجاربُ الميديين ضد الآشوريين قد طَبَّقَها اليونانيون ضد البرسيين. إنّ القوةَ الكامنة وراء تمزيقِ الإسكندر – الذي هو مقدوني الأصل، ولكنه ابن الثقافة اليونانية – للإمبراطورية البرسية وكأنها قلعةٌ من ورق؛ نابعةٌ من التركيبةِ الجديدةِ المؤلَّفةِ من ثقافةِ المقاومة الممتدة لمئاتِ السنين، والتنوير الفلسفي بشكلٍ خاص، وروحِ القبيلة المقدونية الحرة.
7- الثقافة والحضارة الإغريقية – الرومانية:
يتم تقييم الثقافة والحضارة الإغريقية – الرومانية خطأً على أنها بدايةُ الثقافةِ الغربية. حيث لم تَلِد هكذا ثقافةٌ أو حضارةٌ في الغرب، أي في أوروبا، حتى يُقال عنها الثقافةُ والحضارةُ الغربية. إنها تعني نقلَ الأحداث والوقائع – بما فيها المسيحية في العصور الوسطى – وكذلك نقلَ الثقافات والحضارات النابعة من الشرق الأوسط (ميزوبوتاميا ومصر) إلى أوروبا، مع تأخرٍ قَيِّمٍ حتى القرنِ الخامس عشر الميلادي. ما نسعى لإيضاحه هنا هو كيفيةُ تدفقِ الثقافة المعمرة "فترةً طويلة" تمتد لخمسةَ عشرَ ألفِ عام إلى أوروبا، كنهرٍ أمٍّ، وعلى شكلِ حلقاتٍ متسلسلةٍ نابعةٍ من "مكانٍ مُعيَّن".
رغم أنّ الحلقةَ الإغريقية – الرومانية تكونت في الأراضي الأوروبية، إلا أنها استَقَت كلَّ شيءٍ من إرثها المرتبطة به. إذ لم يتشكل أيُّ جديدٍ جديٍّ كثقافةٍ ماديةٍ ومعنويةٍ بعد القرن السادس عشر، كما لم تتكون أيةُ "متقطعات". يستحيل تَصَوُّر أي ظهورٍ فلسفي يمكننا افتراضه كتجديد، من دونِ الثقافة المستقاة من البابليين، المصريين، الحثيين، الأورارتيين، الميديين، والبرسيين. فحتى أفلاطون يَعتَرِف كيف طافَ الحكماءُ اليونانيون – وفي مقدمتهم صولون وفيثاغورس وتالس – وجابوا مراكزَ الحكمة الشرقية، وفي صدارتها بابل، اعتباراً من أعوام 600 ق.م؛ وكَوَّنوا بذلك آراءهم وأفكارهم الفلسفية. وفيما خلا بعض التسميات، فالميثولوجيا اليونانية والرومانية – من حيث المضمون – تُعتَبَر النسخةَ المعدلةَ الرابعةَ والخامسةَ من الميثولوجيا السومرية، ونسبياً من الميثولوجيا المصرية (سومر + بابل + الهورية – الحثية – الميتانية + اليونان + روما). وبالأصل، فالنيوليتية – كثقافةٍ ماديةٍ – وَصَلت جميعَ مجالاتِ الحياة الأوروبية في أعوام 4000 ق.م. أما الثقافةُ السومرية والمصرية، فقد وَصَلت فيما بين 2000 – 1000 ق.م. في حين أنّ التركيبةَ الجديدة (الجَميعة) المتناميةَ في شبهِ الجزيرة اليونانية في نهاياتِ أعوامِ 2000 ق.م، وبعد مرورها بالتجربة الأولى فيما بين 1600 – 1200 ق.م؛ بدأت بالإثمار والعطاء في العصر القديم المبتدئ اعتباراً من أعوام 1000 ق.م. وقد كان هوميروس وهسيودوس أول من تطرق لذلك وأشاعه. إضافة لذلك، فالتخمر المبتدئ مع الأتروشكيين في شبهِ الجزيرة الإيطالية أعوامَ 1000 ق.م، غدا مَلَكيةً في أعوام 700 ق.م، ليؤولَ إلى الجمهورية أعوامَ 500 ق.م.
تَبسطُ لنا مرحلةُ الألفِ عامٍ فيما بين 500 ق.م – 500 م خصوصياتٍ هامةً معاشة. فبعد أوروك تَكَوَّنت سلسلةٌ من المدن الخليقةِ بوصفها بالحلقة الثانية. لا ريبَ في أنّ التمدنَ الإغريقي – الروماني مرحلةٌ ذات جماليةٍ نفيسة. أما الطبقيةُ وأشكالُ الحكم، فقد كانت مُعاشةً قبل آلافِ السنين بالعديد من خاصياتها ومزاياها، وإنْ لم تَكُن بنفسِ الدرجةِ من النضوج. كما كانت تشكلت قبل آلافِ السنين العديدُ من عناصرِ الثقافة المادية والمعنوية، من قَبِيل التجارة، السوق، المال، الأبجدية، العلم، الفلسفة (الحكمة)، المعنويات، والميثولوجيا. بالمستطاع القول أنهم قد مرَّروا كلَّ ذلك من نسخةٍ ثانيةٍ معدلةٍ جدِّ هامة. لكنّ عدمَ إسنادها إلى الإرث، وإظهارها كأنها عشبٌ انبثق من باطنِ الأرض في كِلتا شبهِ الجزيرَتين فقط؛ ليس بسردٍ ذي معنى. لقد استوعَبَ التاريخُ الغربي مسألةَ الجذور على نحوٍ ناقصٍ وخاطئٍ مدةً طويلةً من الزمن. في حين تطورت التفسيراتُ الأكثر صحةً في عصرِ ما وراء الحداثة.
تتجسد خصوصيةٌ بارزةٌ في الثقافة الإغريقية – الرومانية في عيشها نظمَ الدولة من قبيل المَلَكية، الجمهورية، الديمقراطية، والإمبراطورية على التوالي وبالتداخل. فبينما كانت الديمقراطيةُ والمَلَكيات متداخلةً في البداية، تداخلت الجمهوريةُ والإمبراطورية في مراحلها الأخيرة، لِتكتسبَ الإمبراطوريةُ أهميتها كنمطٍ تكويني أخيرٍ قُبَيل الانهيار. لقد شَكَّلَت ما هو أقربُ إلى النظام الثقافي والحضاري الأخير والأشمل للنظام العبودي. إنّ هذه الخاصيةَ مهمة. فإما أنْ تنهار أو تتحول. علماً بأنّ الإمبراطوريةَ الرومانية انهارت فتحوَّلت. وبعدما شهدَ التاريخُ فترةً طويلةً من أكثرِ مراحله نضوجاً مع المدنية الإغريقية – الرومانية، دخل مرحلةَ أزمةٍ غائرة. فالإنتاجُ المعتمد على الزراعة في الريف والحِرَف في المدينة يفسح الطريقَ لفائضٍ إنتاجيٍّ هام. ووفرةُ فائضِ الإنتاج تُشَكِّل أرضيةَ تنظيمٍ من نوعِ الدولة. كما أنّ فائضَ الإنتاج مرتبطٌ في جوهره بالكدح المحتَرف الماهر والمبذول مقابل إشباعِ البطن. وتقديمُ واستخدامُ الكدحِ من الطراز العبودي، يُشَكِّل النوعَ الرئيسي. فاستناداً إلى هذا النوع يتأسس احتكارُ الدولة المؤلَّف من الثالوثِ الأيديولوجي والسياسي والعسكري. هذا النظامُ المتصاعد بالتداخل مع التمدن، يُطَوِّر من تقسيمِ العمل بالتزامن مع ظهورِ الحِرَف اليدوية، ليُؤَمِّنَ تكوينَ سلسلةِ التبضع – السوق – المال. وفي هذه الحلقة يَدخل الاحتكارُ التجاري حيزَ العمل، ليتيحَ الفرصةَ للاستيلاء على قسمٍ من الإنتاج الزائد. ومن حيث المضمون، يتولد احتكاران يتنافسان، ومن ثَم يتصارعان شيئاً فشيئاً، للاستيلاء على زائدِ الإنتاج المتكون من الزراعة والحِرَف، سواءً داخلَ الدولة أو فيما بين الدول. ورغم صعوبةِ التمييز الحاسم فيما بينهما، إلا أنّ مصطلحَ الاحتكارَين يُشَكِّل مربضَ الفرسِ من حيث تحليلِ العديدِ من العلاقات والصِّدَامات السياسية والعسكرية.
تلك القوى، التي يمكننا اصطلاحها بشكلٍ فظٍّ بأنها الزمرُ الاحتكارية الزراعية والتجارية؛ يمكننا إطلاق تسميةِ المدنية على نظامها (شكلها) الاجتماعي الذي تُكَوِّنه من الكليات والتكاملات الثقافية المادية والمعنوية المؤلِّفةِ لنواةِ الأجهزة الأيديولوجية والسياسية والعسكرية المتكاثفة حول المدينة. ونظراً للشكلِ السائد بالنمط العبودي في استغلالِ الكدح والجهد، فسيَكُون نعتُ تلك النظم بـ"المدنيات العبودية" ذا معنى. بمقدورنا الفصل بين فرعَين مورِسَت المنافسةُ والمنازعةُ من خلالهما على مَرِّ التاريخ الحضاري: أولاً؛ في كنف المدنية ذاتها، فيما بين الاحتكارات عموماً، وفيما بين الاحتكارات الزراعية والتجارية خصوصاً. وثانياً؛ فيما بين جميعِ القوى الاجتماعية (الطبقة، القبيلة، العشيرة، الشعب، الحِرَفيّ) المتناقضةِ مع النظم المدينية. ووفقاً لطبيعة الحروب، فبقدرِ ما تقتات من كِلا الفرعَين، فإنها تُطَوِّرهما دائماً – ولنفسِ الأسباب – في أوساطِ الثقافة المادية والمعنوية التي يَسودها الصراعُ والمنافسة الكثيفة، بغرضِ إحرازِ النصر والغالبية. وتبدأ الكيانات، التي ننعتها بالتفاعلات المتسلسلة، بالظهور في التاريخ الحضاري.
التفاعلاتُ المتسلسلةُ تلك، والتي أوجزناها باختصار إلى حين العصر الإغريقي – الروماني، إنما هي مرحلةٌ حرجةٌ ومتأزمة. فانهيارُ أو ضعفُ الزراعة والتجارة في بعضِ المناطق لأسبابٍ مختلفة، يَجعل الأزماتِ قائمةً دوماً. ومن أهم الأسباب الرئيسية للأزمة: المناخ، الإفراطُ في الإنتاج، النزاعاتُ والصراعاتُ الداخلية والخارجية، الهجراتُ الداخلية والخارجية، أنماطُ الإنتاج المعطاء، النظامُ (الفلسفة) والتنظيماتُ الأكثر رقياً على الصعيد التحليلي في المواضيع والمسائل العسكرية والسياسية والأيديولوجية. فالشرائحُ التي لا ترغب في الزوالِ من الزمر الاحتكارية، بل وتَفرض زيادةَ نصيبها منها؛ تستخدم الصراعات والحروب كوسائلَ إنتاجية. الأمرُ كذلك لأنهم الاحتكارُ المؤسَّسُ على دعامةِ الاقتصاد. ونخص بالذكر الدولَ والمدنياتِ المرتكزةَ إلى الأسسِ التجارية بنسبةٍ أكبر، والتي تَفتح الطريقَ أمامَ الحروب أكثر بسببِ تكرارِ الأزمات الاقتصادية مراراً. في حين أنّ الدولَ والمدنياتِ التي تسيطر عليها الاحتكاراتُ الزراعية ذات المناخِ المساعِد والمرويةُ بانتظام، تَكُون أكثر استقراراً ويستتب فيها الأمنُ والسلام، بسببِ عدم معاناتها الأزمات كثيراً. وإذا ما أمعنا النظر للأمر انطلاقاً من هذا المنظور، سوف نَعِي على نحوٍ أفضل أسبابَ ندرةِ خوضِ الحروب في كلٍّ من مصر، الهند، والصين، عدا بضعةِ تمرداتٍ وانتفاضاتٍ للعبيد أو في بعضِ المدن والمناطق. بينما المدنياتُ ذات الأصول الميزوبوتامية عموماً توسعيةٌ ومحاربَةُ باستمرار، وهذا أمرٌ مفهوم، نظراً لتبعيتها المفرطة للتجارة. فعيشُ مدنياتِ آل عُبَيد، أوروك، أور، بابل، آشور، وبرس في أوساطٍ يسودها الاستيطانُ والتوسع والحروب الدائمة، على علاقةٍ وثيقةٍ بدورِ التجارة الذي لا غنى عنه في مرحلةِ الإنتاج.
كما أنّ كون المدنية الإغريقية – الرومانية في حالةٍ دائمةٍ من الحروب والأسفار البرية والبحرية، سواءً في عهد أثينا، أو بزعامةِ روما؛ على عُرىً وطيدةٍ بوزنِ وثقلِ التجارة في عالَمِ البحر الأبيض المتوسط، كشرطٍ ضروريٍّ لا ملاذَ منه. لقد باتت ميزوبوتاميا مهدَ الزراعة والتجارة منذ مرحلةِ تشييدِ المدنية. وتطغى الأسبابُ عينُها بالأغلب على خوضِ البرسيين في الشرق والإغريق والرومان في الغرب "حروبَ الألف عام" عن طريقِ ميزوبوتاميا منذ أعوام 600 ق.م، سواءً لتشبثهم بالمناطق الإنتاجية والتجارية الأولية التابعة لهم، أو لارتباطهم بالتجارة والزراعة في ميزوبوتاميا.
لا وجودَ للمدنية من دون تجارةِ ميزوبوتاميا والتجارة عموماً. فإما أنْ تنهار كلتاهما أو إحداهما فجأةً، أو أنْ تتوازنا وتتكافآ. لقد وُجِد الغالِبُ والمغلوب، لكنّ حالةَ التوازن، ومراحلَ عدمِ غالبية كِلا الطرفَين كانت أطولَ زمناً. وكمثالٍ على ذلك مجدداً: الصراعُ والتوازن بين آل عُبَيد وأوروك. فقبل ذلك كان كِلاهما في حالةِ صراعٍ وتوازن مع المجتمع في ميزوبوتاميا العليا. كما نشبت صراعاتٌ مهوِّلة بين سلالاتِ أور وأكاد، وحصل التوازن بينها، ولكن، ثمة أيضاً مراحلُ مُسِحَت فيها أور وأكاد من صفحاتِ التاريخ. هذا وشهد الأكاديون والكوتيون مراحلَ اشتباكاتٍ وسحقٍ وتوازن. فضلاً عن أنّ بابل وآشور كانتا متوازنتَين ومتصارعتَين. كما مرت مراحل من الحرب الضروس والتوازنات بفواصلَ زمنيةٍ متقاربةٍ فيما بين البابليين والآشوريين من جهة، والهوريين عموماً من جهة ثانية (بما فيهم الحثيين، الميتانيين، الكاسيين، الميديين، والأورارتيين). في حين أنّ مراحلَ التوازن والحرب حافظت على وجودها بين الحثيين والمصريين. وفي نهايةِ المآل، نشبت حروبُ "الألف عام" (550 ق.م – 650 م) بين الإغريق – الرومان والبرسيين – الساسانيين. هكذا هي الصراعاتُ والمسالماتُ داخل زمرِ المدنيات وفيما بينها!
فضلاً عن أنّ مقاوماتِ وتمرداتِ الشعوب والقبائل والعبيد الأرقاء والمدن (الحِرَفِيين) تجاه فرضِ إرفاقهمِ عنوةً بالمدنية، أي بالعبودية والنهب والسلب التجاري؛ تُمثل فئةً أساسيةً أخرى لا تَعرف الخمودَ والهوادة. فالمدنيةُ نظامٌ عبودي دموي تعذيبيٌّ واستعماري استغلالي، لا يقتصر وجودُه على فائضِ القيمة في الرأسمالية (رأس المال) وحسب، بل ويكمن وراءَ الإنتاج الزائد (رأس المال) على مَرِّ خمسةِ – ستةِ آلافِ عام.
8- الإسلام والمسيحية:
لا ريب في أنّ كلاً من الإسلامِ والمسيحيةِ حضارة. ونقاطُ الشبهِ والاختلاف بينهما هامةٌ ومثيرةٌ للاهتمام. ورغم الحديث المطوَّلِ وكتابةِ الكثير عن منزلتهما وتأثيراتهما في التاريخ الحضاري، إلا أنّ التفسيراتِ والشروحَ ذاتَ النوعيةِ العلمية المتطورة قليلة. ولنشوءِ الشخصيةِ تحت تأثيراتهما نصيبُها البارزُ في ذلك. قد يَكُون صياغةُ البراديغما بالخروجِ من نطاقِ المسيحية والإسلام مَهَمَّةً تقتضي إنجازَها بنجاحٍ مستقبلاً. فالتفسيراتُ الوضعية العلمانية بِحَدِّ ذاتها أَشبَه بِدِينٍ وثنيٍّ هو الأكثر فظاظة، وتفتقر للمضامين القادرةِ على تحليلِ وتَخَطّي الأديانِ عموماً، والدياناتِ اليهودية والمسيحية والإسلامية على وجهِ التخصيص.
تُمَثِّل حركتا الإصلاح والتنوير تكييفَ المسيحيةِ وأَقلَمَتَها مع الرأسمالية. وبالأصل، من المعلوم أنّ حركةَ النهضةِ لم تَدخل في عراكٍ مع المسيحية. فضلاً عن أنّ مناهَضةَ حركةِ التنوير للدين والمسيحية تفتقر لماهيةِ "التخطي" بقدرِ ما هي بعيدةٌ أيضاً عن توجيهِ انتقاداتٍ وبلوغِ شروحٍ مبدئيةٍ صادقة.
أما الإسلام، فقد شهد تعصباً وتحجراً مبكراً في الصراعات المذهبية، أكثرَ من توجيهِ منسوبيه الانتقاداتِ بشأنه. كما لَم يَخضَع لتفسيراتٍ وشروحٍ فلسفيةٍ بقدرِ المسيحية. ولم يشهد البتة مراحلَه في النهضة والإصلاح والتنوير. في حين أنّ تياراتِ "الإسلاموية مجدداً"، التي هي عبارة عن ردودِ فعلٍ وتحريضٍ واستفزاز، قاصرةٌ عن التعبير عن معاني تتجاوز مفهومَ السلطة القوموية والفاشية في ظلِّ ظروفِ الرأسمالية.
بمقدورنا تفسير الإسلام والمسيحية باعتبارهما المرحلةَ الثانيةَ من التاريخ الحضاري. لقد كانت الأزمةُ التي شهدَتها الإمبراطوريةُ الرومانية في القرنَين الرابعِ والخامس الميلاديَّين أزمةً حضاريةً بوجهٍ عام. حيث يتسارع الانحلالُ العام للحضارة العبودية المعمرة ما يقارب 4000 عاماً خلال هذَين القرنَين اللذَين يَنعتُهما المؤرخون بـ"عصر الظلمات". فالبشريةُ التي تئن تحت نِيرِ عبوديةِ التاريخ الحضاري أثناءها، بحاجةٍ ماسةٍ من الصميم للخلاص ولوسائله البنيوية الذهنية والمادية. ويَرُوجُ البحثُ عن الهدف والوسيلة في كلِّ الأرجاء. وتَسُودُ حالةٌ نفسيةٌ كَمَن على وشكِ الاستيقاظِ من كابوسٍ مزعج. الشمسُ ساطعةٌ لا محال، ولكن، كيف سيَكُون النهار والشمس؟ هذا ما هو مجهول. فالعقائدُ القديمة والتصوراتُ الوثنية لم تَعُد تساوي خمسةَ قروش في الأسواق. بل وحتى أباطرةُ روما أضحَوا لا يَمُرُّون على معبدِ جوبيتر. من هنا، فولادةُ المسيحية والمانوية والإسلامية أمرٌ مفهوم، باعتبارها ملائمةً لروحِ تلك المرحلة التي يَفرُضُ فيها موضوعُ التركيز الذهني والميول العقائدية نفسَه من الصميم.
السؤالُ الأكثر حيويةً وأهميةً هو: رغم كونِ الإسلام والمسيحية على السواء حركتَين سياسيتَين بكل تأكيد، لماذا أَصَرَّتا على عرضِ نفسَيهما كحركتَين "إلهيتَين" و"لاهوتيتَين"، أي كَدِين؟ بقدرِ ما يكمن الجوابُ على هذا السؤال الهامِّ في الوسطِ السائد المذكور آنفاً، سيَكُون من المفيد أيضاً البحث عنه في الأشكالِ الثقافية الباحثة عن الخلاص في ذاك العصر. إذ كان ينبغي على المفاهيم الفكرية والمنهجية والتنظيمية وأنماطِ التعاطي أنْ تقتفي أثرَ الأمثلة المتكونة سابقاً بالضرورة.
وأهمُّ التقاليدِ في هذا السياق هي تقاليدُ النبوة الإبراهيمية. فالأنبياءُ أولُ مَن سوف يبشر بالخلاص. فبدون وجودِ – أو إيجادِ – النبي، لن يَتبَعَ أحدٌ أيَّ مناضلٍ أو متنورٍ يَقول "أنا المنقذ". وقد لا تتوفر الفرصةُ كثيراً لأيِّ خيارٍ آخر، بسببِ رسوخِ تلك التقاليد بشكل وطيد. علماً بأنّ المانويةَ سعت لتجربةِ تقاليدَ مغايرةٍ نوعاً ما، ولكنها عجزت عن إحرازِ النجاح التام بسببِ التقاليد القديمة، رغم مضمونِها التنويري. واستمرارُ تقديمِ الحركاتِ ذاتِ الأصولِ الشرقِ أوسطية نفسَها برداءٍ ديني حتى الآن على صلةٍ وثيقةٍ بهذه التقاليد التاريخية.
بالتالي، من الضروري لدى تفسيرِ الإسلام والمسيحية الاستيعابَ جيداً أنهما حركتان سياسيتان كلياً، دُثِّرَتا بالكساء الديني. ولا شك في أنّ لهما جانبُهما الأيديولوجي أيضاً. ومثلما سردنا في تقييمنا المختصر هذا، فالقسمُ اللاهوتي هو الغالب على التقاليد الدينية الإبراهيمية التي تَعود جذورُها إلى العصور الأولى، وخاصةً إلى التصورات الميثولوجية والدينيةِ المُنسَّقة والمُنظَّمة في معابدِ رهبانِ سومر ومصر. وهو معنيٌّ بمصطلحِ الإله وطقوسِه وشعائره. وقد بَذَلَت (تلك التقاليد) جهوداً عظيمةً في سبيلِ صياغةِ تفسيرٍ مغايرٍ لآلهةِ سومر وشعائرها (عباداتها). ولطالما صِيغَت "مساهماتُ التفسير" المنسوبةُ للأنبياء المشهورين. وموسى، صاموئيل، داوود، سليمان، حزقيال ، وأشعيا والعديدُ منهم هم من هذا الصنف. ولكننا على علمٍ بالمنزلةِ والوظيفة التحررية الرفيعةِ لتلك الشخصيات في سبيلِ الخلاص من الأنظمة الاستبدادية السائدة في وقتها.
يُعزى ضياعُ أثرِ المانوية إلى عدمِ معايشتها تقاليدَ سليمةً كهذه، لا قَبلاً ولا بَعداً. لكنّ التقاليدَ الإبراهيمية، ومقابلَ رَواجِها ما يقارب 1500 عاماً، كانت أَحرَزَت نجاحاً محدوداً إلى حين عهدِ عيسى المسيح، وعجزت عن التغلب على أيٍّ من المدنيات ذاتِ الأصولِ المصرية والميزوبوتامية. أما مملكةُ القدسِ الصغيرة التي أسستها، فظلت قاصرةً عن إطالةِ عمرها وطبعِ بصماتها المؤثرة بوضوح. ويتجسد نجاحُها الجِدُّ هامٍّ في معرفتِها الدائمة بكيفيةِ كونها صوتَ الأملِ للناس المظلومين والمتطلعين للخلاص. حيث باتت مركزَ الجذب وضميرَ جميعِ المسحوقين والفقراء والمتلهفين للمُثُل العليا تجاه المخاضات المجترةِ من جبروتِ النماردة والفراعنة (كل الإدارات الاستبدادية الطاغية).
بمقدورنا استيعابَ حادثةِ سيدنا عيسى المسيح، إذا ما وضعناها ضمن هذا الإطار. فالإمبراطوريةُ الرومانية قد فَتَحَت مملكةَ القدس وغزتها منذ زمنٍ بعيد. ولدى تَوَحُّدِ المتواطئين (الكهنة) مع الحكام الرومان، باتت الأجواءُ تَمنحُ فرصةً ملائمةً لظهورِ نبيٍّ جديد. فضلاً عن انبثاقِ حشودٍ كبيرةٍ من تجمعاتِ "العبيد العاطلين" والبروليتاريا من أحشاءِ مجتمعاتِ الشرق الأوسط، التي كانت قد فَكَّكَتها وشتتتها العبوديةُ الرومانية؛ فوَلَّدت بذلك الكثيرَ من الطرائقِ والأنبياء. ويُعتَقَد أنّ عيسى المسيح هو أحدُ هؤلاء المصلوبين. في الحقيقة، الكثيرُ منهم قد حُكِم عليهم بالموت المشابه. بالتالي، يغدو لفظُ المسيح (المنقذ) مجردَ اسمٍ رمزي مشترك لحركة الفقراء عموماً. بالمقدور تقييم ذلك كحركةٍ اشتراكيةٍ بدائية. فهي – وبكلِّ تأكيد – حركةُ الفقراءِ والأرقاء الفارِّين في بداياتها. وهي الحركةُ الأخيرة للشخصيةِ المسماةِ عيسى ولمسيرته في فتحِ القدس. إنه يطمح إلى المَلَكيةِ الجديدة: مَلِك الفقراء. وهو أقربُ ما يَكُون إلى سبارتاكوس الروماني، ولكن، بشكله المسالم. وتتجمهر الحركةُ بعد حِراكِ الحواريين الاثنَي عشر، وبالأخص بعد تَشَكُّلِ أولى التجمعاتِ ومخطوطاتِ الإنجيل (الوثائق الأيديولوجية).
سانت باول وبعض الحواريين نشطاءٌ جداً، حيث يتابعون روما والإمبراطوريةَ الساسانية. وينخرط فيها شعبان أو ثلاثةُ شعوبٍ أساسية بشكلٍ جماهيري: الإغريقُ في داخلِ وغربي الأناضول، الآشوريون في الشرق ضمن المقاطعات الساسانية، والأرمن في شمالِ شرقي الأناضول. والمثقفون المتنورون اليهود فعالون للغاية، يتصدرهم سانت باول. حيث يَهُزُّون روما والإمبراطوريةَ الساسانية من ركائزها الاجتماعية، لِيَضحوا بذلك حركةً سياسيةً بكلِّ معنى الكلمة. أما انفصالُ بيزنطة (القسطنطينية) على شكلِ روما الشرقية، فيَعقبُه تصييرُ المسيحيةِ ديناً رسمياً. وهنا يكمن التناقض. فالتعاليمُ والشريعةُ الظاهرةُ للوسط على أساسِ معارضةِ روما، تغدو الدينَ والأيديولوجيةَ الرسميةَ للجزءِ الأعظم من روما. يؤدي هذا الوضع إلى تسارُعِ وتيرةِ تمزقِ الإمبراطورية من جهة، وإطراءِ التحولِ عليها لإطالةِ عمرهما من جهةٍ ثانية.
تاريخُ روما الشرقية والغربية معلوم. ويبدو فيما يبدو أنّ هذه المرحلةَ تَشُقُّ الطريقَ أمام مداولاتٍ وانفصالاتٍ كبرى بين صفوفِ الحكام المسيحيين المتقدمين، وتُولَدُ العديدُ من المذاهب. المداولاتُ كانت لاهوتية (وَحدِيطَبيعية ، ثَنَوِيطبيعية )، ولكنها في مضمونها سياسيةٌ بحتة. وبينما يستتر قسمٌ منهم مختبئاً تحت الأرض مجدداً، يصبح قسم لا يُستهان به الشركاءَ الأعتى لروما الشرقية والغربية سياسياً واقتصادياً. وتتدفق السياسةُ والاقتصاد بغزارةٍ من خلفِ قناعِ الأيديولوجيا، وتَخرج المسيحيةُ من كونها ديناً لِتَصيرَ مدنية. إنّ انتقالَ أوروبا كلياً إلى المدنية لأولِ مرةٍ في تاريخِها بالرداء الديني، هو حصيلة لهذه الممارسة اللاهوتية والسياسية للمسيحية، والتي أوجزناها باختصار.
ومع انتقالها إلى شمالِ وشمالِ شرقي أوروبا في القرن العاشر الميلادي، تُكمِل المسيحيةُ وظيفتَها التاريخيةَ الأولى بشكلٍ حقيقي. وسوف تَلِج حملةً عالميةً جديدةً لاحقاً مع العصر المسمى بـ"التحول الرأسمالي" على وجهِ الخصوص. في حين سوف تَدخل المسيحيةُ في بلادِ الأناضول وميزوبوتاميا (شعوب الإغريق وأرمينيا وآشور) مرحلةَ تمدنٍ يطغى عليها الجانبُ المعنوي على أساسِ المدنية البيزنطية أولاً، والالتفافَ بعدها حول الكنائسِ المستقلة لاحقاً. وكونها "شعوب مسيحية"، سوف يؤثر في مصائرها استراتيجياً بنحوٍ بليغ. ونخص بالذكر استهدافَ الإسلام لهم، والذي سيؤول إلى نتائجَ وخيمةٍ ومأساويةٍ للغاية.
تبدأ قصةُ ولادةِ الحضارة الإسلامية أيضاً استناداً إلى تقاليدَ مشابهة. فمدينةُ مكة تُشَكِّل بالأساس نقطةَ تقاطعِ الطرقِ التجارية الرئيسية بين البحر الأحمر – الخليج، اليمن، والحبشة – الشام. والإدارةُ الهرميةُ الأرستقراطية لقبيلةِ قريش العربية قد تَشَكَّلت وتوطدت. وقبيلةُ قريش قبيلةٌ وثنية وتجاريةٌ كلياً. كان قد تَكَوَّن الرأسمالُ التجاري لحدٍّ ما. وإلى جانبِ اليهودية والزرادشتية والمسيحية، ثمة العديدُ من العقائد التي تَجُول وتَصُول في الأوساط. يتم إنشاء كوخٍ حول بئرِ زمزم، المكان الذي هاجر إليه إسماعيل، ابن سيدنا إبراهيم من زوجته هاجر (المنقطعون من القبيلة العبرانية الأم). هذا هو المعبدُ الأول. ولكنّ الأصنامَ تُوضع في داخله فيما بعد. كان ثمة ثلاثةُ أصنامٍ هامةٍّ في عهدِ سيدنا محمد: اللات والمناة والعزى . يُحكى في كتابِ "الآيات الشيطانية": يُولَد سيدُنا محمد في عائلةٍ فقيرةٍ من عوائلِ قبيلةٍ قريشيةٍ فقيرة.
تتجنب البلدانُ المعتنقةُ للإسلام إخضاعَ الديانةِ الإسلامية عموماً وحياةِ سيدنا محمد خصوصاً للبحث السوسيولوجي، وكأنه ثمة شيءٌ تخافه وتهابه. إنْ لم يُخضَع الدينُ أيضاً للبحثِ والتمحيص السوسيولوجي، باعتباره فكراً وشكلَ حياةٍ اجتماعية، لا يمكن أنْ يتطور تنويرٌ حقيقي. وإنْ لم يحصل ذلك، فلن تتخلص منطقةُ الشرق الأوسط حينئذ من كونها حقلَ تجاربٍ للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. فضلاً عن أنّ السبيلَ الأمثل لفهمِ سيدنا محمد يَمُرُّ من البحث السوسيولوجي. ولن يَخسَرَ المجتمعُ من هذا السلوك شيئاً. فقد عاشت أوروبا التنويرَ لأنها اتخذت هذا الموقف أساساً. بالتالي، لن يَقدِرَ الشرقُ الأوسط على إنجازِ ثورته الفكرية، ما لَم يُنجِز حركتَه التنويريةَ الذاتية. وقد يَكُون تحليلُ شخصيةِ سيدنا محمد أحدَ أُولى الخطوات على دربِ الثورة الفكرية. فعصرُه، وشخصيته، وأفعاله ملائمةٌ لذلك (هو من قبيلةِ عبد المناف هاشمي، وأبوه عبد الله). إنه يُرَتِّب أمرَ السفر إلى دمشق مقابلَ نيلِ حصةٍ في قافلةِ خديجة التاجرة، ويتأثر بالرهبان السريانيين. في حين يؤدي اليهودُ دوراً طاغياً في التجارة. وكانت التناقضاتُ سائدةً في البداية.
إنّ الزواجَ بخديجة يتمخض عن وضعٍ جديد، حيث تَرُوجُ في الأوساطِ مقولةُ "آخر الأنبياء". كان أتباعه كثراً، بل وظهرَ من بينهم النساء أيضاً. وحسب تخميني، فسيدنا محمد يتعلم الكثيرَ من خديجة. فكونُها تاجرةً وغنيةً يقتضي المقدرةَ والكفاءة. ويَغلُبُ الاحتمالُ بأنها أولُ مَن هَمَسَ له بمقولةِ النبوة. أما الاتحادُ فيما بينهما، فهو – وبكلِّ تأكيد – تَطَلُّعٌ نواتيٌّ إلى السلطة. كانت أرستقراطيةُ قريش عاجزةً عن التدولِ بسببِ تقاليدها الرجعية (أوثانها). كما كان اليهودُ والمسيحيون منبوذين وبلا شأن، علاوةً على وجودِ التناقض المادي. إنّ قصةَ هاجر – إسماعيل قصةٌ عربيةٌ توحي بالإلهام. فقد كان (سيدنا محمد) يَعرِف أمرَ العقائدِ والطرائق السائدة آنذاك، ويدرك أنّ أياً منها لن تَقدِرَ على تحقيق أهدافه في تأسيسِ الاتحاد السياسي في البلاد العربية. ويغدو هو مرشحاً لأداءِ هذا الدور بتحفيزٍ وتشجيعٍ من خديجة. وبالأصل، يتواجد بالقرب منه الفرعُ العربي المنحدرُ من إبراهيم كتقاليدَ أيديولوجية. وما تَبَقّى هو التعلمُ من الرهبان السريانيين الأكِفّاء. وهذا أمرٌ ليس بالعسير.
في عام 610 م. يأتيه أولُ وحيٍ يُنبئه بكونه نبياً. إنه عهدُ احتدامِ الصراع البيزنطي – الساساني حتى أوجِهِ. وهذا الوضعُ بمثابةِ فرصةٍ سانحةٍ لشبهِ الجزيرة العربية. كان العائقان اللذان يعترضانه هما قريش والمستوطنات اليهودية. والنبوةُ منذ بداياتها تعني القيادةَ السياسية، وما مِن خَيارٍ آخر أصلاً. من هنا، فكلُّ برقياته مخصوصةٌ برجالات الدولة. إنها انطلاقةُ الإمبراطوريةِ المتنامية حديثاً في الشرق الأوسط. حيث يتم التغلب على المأزق بتحديث الأيديولوجيةِ اليهودية لأبعدِ الحدود بقيادةِ العرب، لتغدو منفتحةً على الشعوب سائرةً. ويتم تصوير وترميز معالمِ نمطِ الحياة الجديدة بالعبادات، لتَعُمَّ الجهاتِ الأربعَ من المعمورة باستراتيجيةٍ وتكتيكٍ قويمَين. هذا وبالمستطاع نعت الإسلام بأنه أولُ حركةٍ أممية شاملة. وباختصار، سوف يتقدم قُدُماً تاركاً بصماتِه على صفحاتِ التاريخ كحركةٍ حضاريةٍ سياسيةٍ مُثلى من حيث أيديولوجيتها ومنهاجها السياسي وقيادتها واستراتيجيتها وتكتيكاتها.
إن كَونَ اسمِ الإسلام يعني السلامَ أمرٌ مثير. ربما أنه أدرجَ السلامَ في الأولوية، لأنه تنبأ بحلولِ مرحلةٍ ضاريةٍ من الصراع. عليه مواجهةَ ثلاثةِ أهدافٍ أساسية: الإمبراطوريتان البيزنطية والساسانية وأرستقراطية قريش. ينتهي التحاملُ على الهدف الأول في مكة بالهجرة (622 م.). وتُجَهَّزُ أولُ معاهدةٍ اجتماعية في المدينة المنورة، لتتوافقَ ومصالحَ السوادِ الأعظم من القبائل، عدا ثلةٍ قليلةٍ من أرستقراطيي العشائر والقبائل. فالجنةُ الموعودة في حوزةِ البيزنطيين والساسانيين. بينما جهنمُ السعير هو طرازُ الحياة القديمة. وبالأصل، فالحياةُ في الصحراء غالباً ما تُذَكِّر بجهنم. تتجلى النتيجةُ بعدَ صدِّ أولِ اعتداءاتِ القريشيين ورَدِّهم على أعقابهم (معارك بدر ، أُحُد ، والخندق ). باتت ولادةُ أولِ جمهوريةٍ (ديمقراطية) عربية مسألةً لحظية. وتتكاثف المداولاتُ والاجتماعات (الجامع يذكرنا بالتجمعات). وعلى عكس ما يُعتَقَد، فالجوامعُ الأولى لم تَكُن أماكن للعبادة، بل للاجتماع والمداولات.
إلا أنّ الأرستقراطيةَ (ورئيسها معاوية) التي خسرت السلطةَ لمدةٍ قصيرة، كانت ستستولي عليها مجدداً وخطوةً بخطوة، بعد وفاةِ سيدنا محمد (632) بمراوغاتٍ جديدة (من الطبيعي أنها متمرسة في ذلك). وقَتلُ سيدِنا علي، الإنسان المبدئي المؤمن، سوف يفسح الطريقَ أمام سلطنةِ (مَلَكية) معاوية وسلالته. وكانت سلالةُ النبي ستَفقد منزلتَها وأهميتها السياسيةَ مع قتلِ سيدنا حسين في الكربلاء بنحوٍ مأساوي. إلا أنّ زمرةً جديدةً من التجار العربِ سوف لن تَقتَصِرَ على المطالبةِ بحقها في أملاكِ شبهِ الجزيرة فحسب، بل وفي جميعِ أملاكِ البيزنطيين والساسانيين أيضاً. وتُحرز حركةُ الفتحِ الكبرى الانتصاراتِ تلو الأخرى، لِيَكُون اليهودُ والمسيحيون في شبهِ الجزيرة أولَ المغلوبين الخاسرين. ومع حلولِ أعوام 650، كانت قد فُتِحَت بلادُ الساسانيين برمتها، والقسمُ الأكبر من بيزنطة، وشمال أفريقيا؛ ليصلوا مشارفَ القسطنطينية.
بإمكاننا تشبيه نمطِ الفتح السريع هذا بفتوحاتِ الصاعقة التي حققها الإسكندر بتوحيده روحَ القبيلة المقدونية مع الفلسفةِ اليونانية، وبالنتائج الثقافيةِ المادية والمعنوية المتمخضة عنها. فبتوحيدِ بسالةِ القبائل العربية مع روحِ الإيمان الديني الجديد المعتمد على ميراثٍ جذريٍّ عريقٍ ضمن تركيبةٍ جديدة، يتحقق الانتصارُ بقوةِ الفتح المنيعة في حروبِ الفتح على النحو الإسكندري. والمرحلةُ الثانية تُشَكِّلُ الفرعَ الأهم على الإطلاق للحضارة، ويُحرز الشرقُ الظفرَ في حملته الحضاريةِ الثقافية الكبرى الأخيرة.
الجانبُ الغريب والمثير في قصةِ الإسلام، هو تداخله مع السلطة، وولادتُه كسلطةٍ منذ بدءِ إعلانه ونشرِه؛ وليس بعدَ ثلاثمائة عامٍ كما في المسيحية. هكذا كان المسحوقون والفقراء والكادحون الحقيقيون سيُبعَدون بسرعةٍ عن السلطة، وكان سيبدأ أصحابُ الروحِ المتمردةِ الثائرة والنضرة المتعطشة القَبَلِيّة بتشييدِ صرحِ الحضارةِ حول القصور والجوامع الأشبه بالجنان، وحولَ دولةٍ قديرةٍ مقتدرة. إنّ تحليلَ تَحَوُّلِ مدينةٍ صغيرةٍ مِن مرحلةِ كلاناتِ التجار إلى تأسيسِ إمبراطوريةٍ ضخمةٍ خلال فترةٍ زمنيةٍ جِدِّ وجيزةٍ (640 – 650 م)، سيكون مفيداً لأبعدِ الحدود ضمن إطارِ معانيها السياسية، سواءً على الصعيد الديني، أو على الصعيد العلمي – السوسيولوجي.
وحسب تفسيري الشخصي، يمكن إيضاح قصةِ السلطة السريعة والمبكرة هذه من خلال: فراغِ السلطة في أعماقِ الجزيرةِ العربية مدةً طويلةً من الزمن، الفوضى الاجتماعية (صراع القبائل)، اتسامِ الإمبراطوريتَين البيزنطية والساسانية بطغيانِ خصائصِ المرحلةِ الأولى، والمزايا الشخصيةِ لسيدنا محمد. فمثلما فَتَحَ مناطقَ الحضارةِ الكلاسيكية في الشرق الأوسط برمتها، فقد تَوَسَّعَ لِيَطَأَ نصفَ بلاد الهند، آسيا الوسطى، أعماقَ قفقاسيا، الأقاصي الجنوبيةَ الشرقية من آسيا (أندونيزيا، وماليزيا)، وتَجَاوَزَ شبهَ الجزيرتَين الأهمّ في الجنوب الغربي والجنوب الشرقي من أوروبا، أي إيبيريا والبلقان.
إنّ كلمةً دينيةً على غرارِ "الإسلام" لا تُسَلَّطُ عليه الضوءَ، ولا تُفَسِّره كثيراً، رغم كونِه حركةً عسكريةً وسياسيةً عظمى لهذا الحد. بل إنها تؤدي دورَ تغطيةِ الحقيقة وتدثيرها. الإسلامُ اسمٌ رمزي. واصطلاحا الله والنبي قد صِيغا على يدِ العبريين منذ زمنٍ سحيق. أعتقد أنّ النقدَ الذي وَجَّهَه يهودُ المدينة المنورة بقولهم "إنك تسرق ديننا، وتُشهِره في وجهنا" قد أثارَ حنقةَ سيدنا محمد وغضبه الجامح. وعلى الصعيد السوسيولوجي، يمكن إرجاع أصولِ ظاهرةِ السمو بالمَلِك وأعوانه إلى الميثولوجيا السومرية والمصرية. إلا أنّ المضمونَ الذي أضفاه سيدُنا محمد على مصطلحِ الله انفردَ باختلافه البارز. فالله شيءٌ أَشبَه بضربٍ من ضروب ِطاقةِ الكون. إنه مفهومٌ متقدم. ولكن، لم يَجْرِ أيُّ تفسيرٍ سوسيولوجيٍّ البتة في هذا السياق على يدِ علماءِ الإسلام. شروطُ الإيمان أقرَب ما تَكُون إلى المبادئِ النظرية. والعباداتُ تهدف للإبقاءِ على أواصرها حيةً مع الواقع العملي، والقسمُ الغالب منها سُنَّ بهدفِ تلبيةِ الحاجات الأخلاقية والحقوقية لذاك العصر. كما شُرِّعَت الشؤونُ الحقوقية (الفقه) فيما يخص مواردَ التجارة والزراعة. وتم التدخلُ الصارم في نمطِ الحياة الأيديولوجية المتبقية من المرحلة العبودية الأولى. فـ"الكافر" هو "آَخَرٌ" ينبغي القضاء عليه. أما التعدديةُ الأيديولوجية، فلا يُعتَرَف بها كحقٍّ إلا للتقاليد الإبراهيمية.
الإسلام نسبةً إلى المسيحية منفتح للعلمانية بدرجةٍ أكبر. إنه كذلك موضوعياً. لكنّ الحربَ الجذريةَ المعلنةَ تجاه نمطِ الحياة القديمة، قد أسفرت عن نتائجَ سلبيةٍ وخيمة. وبذريعةِ العقائد القديمة، إما قُضِي على الثقافاتِ التاريخية للشعوب (بما فيها المسيحية)، أو صُهِرَت، مثلما هي حالُ الزرادشتية والمانوية. واضحٌ أنّ الحياةَ الجديدةَ التي جلبتها معها قد شَقَّت الطريقَ للأرستقراطية الإقطاعية. فقد حَلَّت ثنائيةُ السلطان – ظل الله مَحَلَّ المَلِك – الإله، لتغدوَ السلطناتُ الاستبدادية أمراً لا مفر منه في نهايةِ المآل. يفتقر الإسلامُ (كدين) لمهارةِ سَدِّ الطريقِ أمام الاستبداد. بل ويمكننا قول المزيد في هذا الشأن بصددِ المسيحية. فبقدرِ انفتاحها للمونارشية، فقد جَعَلت من الكَهانة شريكاً أرقى للسلطة. وقد أبدت كلتا الديانتَين (كنظام دولة) أهميةً خاصةً للإبقاءِ على الشرائح الخارجة عن نطاقِ المدنية كأقنانٍ عبيد، ولكنْ، بحيث يكون وضعُهم أخفُّ وطأةً نسبةً للعبودية الكلاسيكية (بينما هي أكثر سلبية منها ببعض جوانبها). أي أنّ كلتا الديانتَين ليستا ضد العبودية بشكلٍ كلي. فهما تتميزان بخاصيةِ حمايةِ الهرمية وسلطةِ الدولة بشكلٍ أقوى. كما أنهما تتسمان بماهيةٍ محفزةٍ على التطور القومي.
كما أنّ كِلا الدينَين (والدين اليهودي أيضاً)، ورغمَ انضمامِهما إلى النهر الأم للمدنية كمرحلةٍ ثانية، لم يستطيعا من حيث الزمان والمكان إيجادَ الحلول، سواءً للمشاكل القائمة بين الزمر الاحتكارية الحاكمة، أو لقضايا الحرية والعدالة التي تتطلع إليها قوى المجتمع الديمقراطي المنبوذة من قِبَل المدنية. بل، وعلى النقيض، فالمرحلةُ الثانية قد زادت من وطأةِ قضايا الحرب الحرية والعدالة.
أ- لقد أُضِيفَت بؤرٌ جديدةٌ إلى بؤرِ السلطة الاحتكارية. وبالمقابل، لم تُحرز الحِرَفُ اليدوية والإنتاجُ الزراعي تطوراً نوعياً ملحوظاً. وتكاثرت الأطرافُ المتصارعة على فائضِ الإنتاج، لتصبحَ الإمارات (الأمراء) عناصرَ احتكارية بقدرِ السلاطين (الخلفاء المونارشيون). وتضاعفت السلالاتُ، وازدادَ الطامعون بالحصص بنسبةٍ بليغة نظراً للمرحلةِ السابقة. وعندما لم يستحوذوا على الحصةِ الكافية، على غرارِ الطبقة الوسطى، أضرموا نارَ الحرب على الدوام. وقد جرت الحروبُ الإقطاعية في أوروبا وروسيا بكثافةٍ عالية. كما ضاعَفَ المونارشيون من نسبةِ البيروقراطية، لِيُزيدوا من ثقلِ وطأةِ مشاكلِ الدخل والواردات.
ب- عندما عجز المعتنقون لِكلا الدينَين عن تحقيقِ (أو العثور على) آمالهم في الحرية والعدالة ضمنهما، أبدَوا المقاومةَ الدائمةَ على شكلِ مذاهب مختلفة.
ج- وعوضاً عن تطويرِ الثقافة المعنوية، قُضِيَ على الثقافةِ القديمة باسمِ "ظلمات العصور الوسطى"، فساد العجزُ عن تقديمِ البديل الجديد، وحَلَّت محله المداولاتُ والنقاشات اللاهوتيةُ والمذهبية التي لا تنضب ولا تنتهي، لتؤديَ إلى الانقطاع الذهني عن العالَم والتاريخ (حيث كان اختُزِلَ التاريخ إلى أقاصيص دينية)، وباتت الإرادةُ وكأنها غائبةً معدومة، فتَحَوَّلَ الفردُ إلى الإنسانِ الظِّل. وأُقحِم الناسُ الأسرى لتصوراتِ الجنة وجهنم في حالٍ لا يبالون فيها بالحياة الدنيا، بل ويرونها لا تستحق العيش. ولم تتَوانَ الزمرُ الاحتكارية عن تشييدِ القلاع والقصور الأشبه بالجنان. وغدت ثقافةُ المدينة والفلسفة أكثر تخلفاً مما كانت عليه في الماضي.
د- والأنكى من كلِّ ذلك، أنّ حروبَها في نشرِ كافةِ سلطاتهم على وجهِ البسيطة تحت شعار "إلهٌ واحدٌ في السماء، وخليفةٌ واحدٌ على الأرض" وكأنها "فتح العالَم"؛ قد خَلَّفَت حتى العصورَ الأولى وراءها بِحِدَّتِها. حيث كان الجهادُ في سبيلِ الرب أكثرَ دماراً من حروبِ الآلهة نفسها. وتصاعَدَ التوسعُ والاستعمار والاستيطان بما يضاهي المراحلَ الأولى أضعافاً مضاعفة. واكتسبت حروبُ الأمة درجةً أعلى من الاستمرارية والمنهجية والاتساق مقارَنةً بالعصور الأولى. أما الصراعاتُ المذهبية، فغدت في حالٍ مسدودةٍ لا نفاذ منها.