الذكاء العاطفي والذكاء التحليلي (4)


عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 27 - 22:03     

يتميز النوعُ البشري بأنه وبقدرِ ما يُحَقِّقُ مجتمعيةَ ذكائه الكامن، فهو يبرزه بنفس الدرجة. والأهمُّ من ذلك، أنّ البنيةَ الحيويةَ للإنسان تقتضي المجتمعيةَ بالضرورة. أي أنّ الإنسانَ مرغَمٌ على المجتمعيةِ بما لا نِدَّ له في أيِّ كائنٍ حيٍّ آخر. فمولودُ الإنسانِ لا يمكنه الخروجُ من مرحلةِ الطفولة إلا بعدَ مرورِ خمسةَ عشر عامٍ، وهي فترةٌ زمنيةٌ يستحيل عيشُها من دون المجتمع. فالطفلُ يولَد من رحمِ أمه ضعيفاً لا حولَ له ولا قوة. في حين أنّ مواليدَ جميعِ الحيوانات يمكنها تأمينُ إمكانيةِ الحياةِ لوحدها خلالَ فتراتٍ زمنيةٍ لا تتعدى الأيام. إنّ مجتمعيةَ الإنسان قضيةٌ متشابكةٌ معقدة، وتقتضي إدراكَها بكلِّ أعماقها. فالنوعُ الإنساني المفتقدُ والخاسرُ لمجتمعيته، إما أنْ يُعِيدَ تَحَوُّلَه لِيَصِيرَ نوعاً أقرب إلى القرد، وهذا ما يعني التحولَ نحو الخلف – وهو أمرٌ وارد – أو أنْ يَفنى ويزول. فكلُّ الكائناتُ الحية تحتاج للتجمعاتِ الخاصة بها، سواءً ككلِ نوعٍ بِحَدِّ ذاته، أو كفصيلةٍ تَشمَلُ كلَّ الأنواع. أما المجتمعُ الخاص بالنوعِ البشري، فيتميزُ بماهيةٍ وجوديةٍ تَفُوقُ التجمعَ الاعتيادي بكثير.
أما اصطلاحُ المجتمع بأنه الطبيعةُ الثانية، فهو تقرُّبٌ أعمق بكثير. فالمجتمعيةُ بذاتها تُفيد بخروجِ الذكاء من كونه طاقة كامنة، لِيَبدأَ مرحلةَ الفاعليةِ بكفاءة. فالتجمعُ يستلزمُ الفكرَ على الدوام. وما التطورُ الاجتماعي في أساسه سوى تطور الفكر، وبهِ أصبحَ ممكناً. وتتطور عواملُ التكاثر والتغذية والحماية مع تنامي المجتمعية. أقولها بوضوح أنّ عناصرَ التكاثر والتغذية والحماية الخاصةَ بكافةِ الكائنات الحية، ليست سوى ضربٌ من ضروبِ العقل. إنها النمطُ الفطري الغرائزيُّ الأكثر فظاظةً للمعرفة. وحركاتُ الأحياء هي حركاتُ معرفة. وبشكلٍ أعم، فالتقدمُ والتطورُ الكوني بأجمعه يُذَكِّرُنا بالذكاءِ والمعرفة. من هنا، فالمجتمعُ باعتباره الطبيعة الثانية، هو حالةٌ من حالاتِ انعكاسِ الطبيعة الأولى، ولكن، بمراحلَ أعلى.
وأنا على قناعةٍ بأنه، ومن دونِ تحليلِ المجتمعية باعتبارها الطبيعة الثانية، فإنّ الفكرَ والعملَ اللذَين يٌولِيان الأهميةَ والأولويةَ للطبيعة الأولى يَحتَضِنان في بنيتهما انحرافاً خطيراً. فما دام الإنسانُ ثمرةً من ثمارِ الطبيعة الثانية، إذن، والحالُ هذه، ينبغي إيلاء الأولوية لإدراكِ واستيعابِ تلك الطبيعة كي نستطيعَ فهمَ الإنسان. ولهذا السبب بالذات لَم أقتنع بموضوعيةِ العلم المختصِّ بالطبيعةِ الأولى، وبإمكانيةِ تَحَقُّقِهِ منفصلاً عن الطبيعة الثانية. حيث كنتُ أرى ذلك انحرافاً على الدوام. إني على قناعةٍ بأنّ علومَ الفيزياء والكيمياء، وحتى البيولوجيا لا يمكن أنْ تَكُونَ منفصلةً أو مستقلةً عن العلمِ المعني خصيصاً بالطبيعةِ الثانية والإنسان. أدركُ أني أَطُوفُ في حدودِ الشرائعِ الدينية، لكنّ القضيةَ الأساسيةَ التي تَستَلزِمُ الإنارةَ والتوضيح هي: ما دامَت جميعُ القوانين الخاصةِ بالطبيعة الأولى تتواجد وتتجسد في الإنسان عبر الطبيعة الثانية، فهل ثمة معنى للفصلِ بين الذات والموضوع؟ تُرى، كَم باستطاعتنا التمييزُ والفصلُ بين العالِم والمعلوم، العارِفِ والمعروف؟ والسؤال الأكثر حيوية وحرجاً: أَوَليس تصييرُ العالِمِ والمعلوم على شكلِ ثنائيةِ الذاتِ – الموضوع انحرافاً أساسياً؟ إني أرى وكأنّ مَوضَعَةَ الطبيعتَين الأولى والثانية على شكلِ ذاتٍ وموضوع، إنما هو الدافعُ الأولي وراء كلِّ السياقات الخاطئة الخاصةِ بالإنسان، ووراءَ شتى المراحلِ الاجتماعية التي نَجتَرُّ آلامَها ومخاضاتِها. إنّ هذا النظامَ من المنطق (الإدمان الفكري) يُخضِع المجتمعَ برمته لِنِيرِ الاستغلال والأَسْرِ والذلِّ عن طريقِ النظام الرأسمالي. بل والأنكى من ذلك أنه لا يتوانى أو يَتَردد في نشرِ هذا المنطق من القمعِ والاستغلال على كافةِ عناصرِ الطبيعة الأولى أيضاً.
أما المجتمعيةُ، التي تَدخُلُ حَيِّزَ التنفيذِ كسبيلٍ للحل إزاءَ الوضعِ المأساوي للنوع البشري، ففي مراحلها البارزةِ للوسطِ حصيلةَ الأشواطِ التي قطعَتها من التطور، تتحول إلى مشكلة، سواءً في بنيةِ المجتمع، أو في البيئة الطبيعية. لنعملْ الآن على تفسيرِ التطوراتِ على الصعيدِ الذهني، مع التبيان أننا سنعملُ لاحقاً على تعريفِ تلك القضايا الإشكاليةِ ومؤثراتِها الأساسية، وفي مقدمتها الاقتصاد.
من المهم بمكان الإدراك أنّ القوةَ الذهنيةَ البالغةَ مستوى دماغِ الإنسان عبر التطورِ والارتقاءِ البيولوجي، قد نَشَطَت وتَمَيَّزَت مع الارتقاء الاجتماعي. وكنتُ قد أوضحتُ سابقاً أنّ المجتمعيةَ نفسَها أَشبَهُ ما تَكُون بحالةٍ من الذهنية الناهضة من نَومِها وسُباتها، لِتَكُونَ في حراكٍ ونشاطٍ دائمين. وانطلاقاً من الطبيعةِ التطورية للذهنية، فهي بحالتها النشيطةِ المتواصلةِ تُمَهِّدُ الطريقَ بالمقابل لتطور الدماغ. والحياةُ الاجتماعية النشيطةُ هي المؤثرُ الأساسي المطوِّرُ للذهنية، وإنْ اقتضى ذلك مدةً طويلة. أما إيضاحاتُ الدهاءِ الشخصي، فهي غيرُ مُقنِعةٍ كثيراً، ذلك أنّ الخاصيةَ الاجتماعيةَ تَكمن وراءَ كلِّ وضعٍ أو حالةٍ من الذكاء.
نَستنبط من المعطياتِ الأنثروبولوجية الموجودةِ بحوزتنا أنّ القِسمَ الأعظمَ من الحياةِ الاجتماعية للإنسان قد مَرَّ بِممارسةِ القطفِ والقنص، وأنه تَواصَلَ مع غيره من الأنواعِ القريبة منه عبرَ لغةِ الإشارات. ولا يمكننا الحديثُ عن أيةِ مشكلةٍ جديةٍ ذاتِ منبعٍ اجتماعيٍّ بَرَزَت في تلك المرحلة، حيث لا يزال التطورُ الطبيعي سارياً وقادراً على الحفاظ على توازنه. أما مستوى الذكاءِ فعاطفي. أو بالأحرى، يَسُود الطابعُ العاطفي للذكاء، والذي مِن أهمِّ مميزاته العملُ بردودِ الفعل. الفطرةُ أيضاً ذكاءٌ عاطفي، لكنها أقدمُ أنواعِ الذكاء (يمكن إرجاعُها إلى أولِ خليةٍ بسيطةٍ حية). ذلك أنّ نمطَ عملها وحراكِها يتمثل في إبداءِ ردودِ الفعل الآنية إزاء المنبهات، وكأنّ نظاماً تلقائياً أوتوماتيكياً من العمل هو الساري. وهذا النمط يلبي وظيفة الحماية بأفضلِ أشكالها. ويمكننا ملاحظته بكلِّ سهولة حتى في النبات، في حين يَبلغ أرقى مستوياتِه في النوع البشري. فالحواسُّ الخمس وتناسقها فيما بينها يُعَبِّرُ عن بلوغِ الذكاء مستوى راقياً في الإنسان بما لا مثيل له في أيِّ موجودٍ آخر. لا شك في أنّ بعضَ الحواس متطورةٌ لدى بعضِ الكائنات أكثر من الإنسان، من قَبِيل السمعِ والرؤيةِ والذوق، إلا أنّ النوعَ البشري يتصدر الكائنات من حيث بلوغِه حالةً تَكُونُ فيها الحواسُّ الخمسُ شاملةً متناسقة.
أهمُّ ميزةٍ في الذكاءِ العاطفي روابطُه مع الحياة. فحمايةُ الحياة من أهمِّ وظائفه، لأنه تطوَّرَ كثيراً في هذا المجال. ولا يمكن البتة الاستخفاف بجانبه هذا، حيث ينشط بشكلٍ معصومٍ عن الخطأ. أَعني بذلك القدرةَ على إبداءِ ردِّ الفعلِ في آنِه. والافتقارُ إلى هذا النوع من الذكاء معناه انفتاحُ الحياةِ على المخاطر مِن أوسعِ الأبواب. فاحترامُ الحياة وتقديرها، على عُرىً وثيقةٍ بمستوى تطورِ الذكاء العاطفي. إنه يَحذو حذوَ الطبيعة في توازنها. وبمقدورنا تسميته بالذكاء الذي يَجعل الحياةَ ممكنة. ونحن مَدِينون كلياً لهذا النوعِ من الذكاء في عالَمِنا الحسي.
إنّ التطورَ الشامل للذكاءِ العاطفي في النوع البشري يُزيد من فرصةِ عقدِ الروابط بين العواطفِ والمشاعر، وعلى رأسها حواسُّ السمعِ والبصرِ والذوق، بحيث تُؤَسِّس التذاكر فيما بينها لِتُطَوِّرَ الحركات الذكية. ومع تَطَوُّرِ الظروفِ الفيزيولوجية للكلام، بَلَغَت الجماعاتُ البشرية مستوى لغةِ "الرموز"، بعد بقائها حقبةً زمنيةً طويلةً تَستَعمِلُ لغةَ الإشارة. وأساسُ اللغةِ الرمزيةِ هو الانتقالُ بوساطةِ الكلمات إلى التفكيرِ المجرد. فالتفاهمُ عبر الاصطلاحاتِ بدلاً من الإشارات إنما هو ثورةٌ عظيمةٌ في تاريخِ البشرية. وما تَبَقَّى عملُه هو تسميةُ الأشياءِ والحوادثِ والوقائع التي تلبي حاجياته الأكثر ضرورة. والتسميةُ مرحلةٌ عظيمةٌ يتماشى معها تَطَوُّرُ الاصطلاحاتِ اللازمة لعقدِ الروابط فيما بين مختلفِ الأسماء. وسواءً الأسماء التي تمثل خصائصَ الشيء Nesne، أو الوظائف فيما بينها، فهي تُفضي إلى ظهورِ الأفعال وحروفِ العطف الرابطة بينها. ومع الانتقالِ إلى تركيبِ الجملة، تَكُونُ الثورةُ اللغويةُ قد حَقَّقَت انتصارَها.
هذا ما معناه بروز شكلٍ فكريٍّ جديد. فترسيخُ الكلمات والمفرداتِ في الذهن يُمَكِّن من التفكيرِ بشأنِ الأشياء والأحداث، وإنْ لم تَكُنْ موجودة. إننا على عتبةِ الذكاءِ التصوري أو النظري. إنه تطورٌ رائعٌ مدهش. وإنْ لم أَكُنْ مخطئاً، فالفَصُّ الأماميُّ من القِسمِ الأيسرِ من الدماغِ متخصِّصٌ كلياً بهذا النوعِ من الذكاء. نحن وجهاً لوجه أمام نوعٍ من الذكاء الذي قد يؤدي إلى الأوضاعِ المُضِرَّة والخطيرةِ الفتاكة، بقدرِ ما هو نافعٌ ناجع. وميزتُه الأساسية هي نشاطُه منفصلاً عن العواطف. ويمكننا تعريفُه بالذكاءِ التصوري، أو المُفضي إلى بروزِ الفكر التحليلي. ومن أهمِّ مزايا الذكاء التحليلي، أو العقل، قدرتُه على التفكير بشأنِ كلِّ الكون عند اللزوم، دون إرهاقِ نفسه كثيراً، ومقدرتُه على صياغةِ التَّخَيُّلات والأوهامِ اللامحدودة. أي أنّ الذكاءَ التحليلي يُكَوِّنُ عالَماً مذهلاً من التصورات والخيالات. لقد تَطَوَّرَت كفاءةُ صياغةِ المخططات، ونَصبِ الأفخاخِ والمصائد، وحَبكِ المؤامرات والدسائس. بل ويُمكِنُ تقليدُ الطبيعة ومحاكاتُها لتطويرِ كلِّ المخترَعات. وتَغدو مقدرةُ بلوغِ الهدفِ بالمصائدِ المدروسة وبشتى أنواعِ المكائد والحِيَل السببَ الرئيسيَّ وراء بروزِ واستفحالِ المشاكلِ داخل المجتمع وخارجه.
إنّ اكتسابَ الذكاء بُعدَيه التحليليّ والعاطفي بشكلٍ متداخل فضيلةٌ عظمى خاصةٌ بالإنسان كي يُحَقِّق كَينونَتَه. لكنّ المهمَّ هنا هو: لأيِّ غرضٍ يُستخدَم. لقد انتبهَ المجتمعُ لهذه القرينةِ منذ المراحلِ البدائية، فكان رَدُّهُ العملَ أساساً بـ الأخلاق كمبدأٍ أولي للتنظيم. حيث لا يمكن ضبطُ الذكاءِ التحليلي أو التحكمُ به من دون الأخلاقِ الاجتماعية. وعلى سبيلِ المثال، فالشخص المشحون بمشاعرِ السخط والغضبِ يمكنه إبادة كلِّ كائنٍ حي أو جماعةٍ بشرية تقف في وجهه، إنْ هو لم يَستَسِغها أو يَرغَبها، بمجردِ إعمالِ ذكائه التحليلي وتشغيله قليلاً. ومقابلَ هذا الخطر، ارتقى المجتمعُ بالأخلاق، وجعلها مبدأً اجتماعياً اضطرارياً لا بد منه، كي يَقدِرَ على صَدِّه. وجَعَلَت كلُّ جماعةٍ من تعليمِ وتنشئةِ أعضائها وفق منظورٍ أخلاقيٍّ حساسٍ ودقيق وظيفةً أولية. وثنائيةُ "الفضيلة والرذيلة" الأساسيةُ في الأخلاق إنما معنيةٌ بوظيفةِ الذكاء التحليلي. فإنْ عَمِلَ على نحوٍ فاضل، يُكَرَّم على يدِ أخلاقِ الفضيلة. وإنْ سعى لِيَكُونَ مُضِرَّاً، يُحكَم عليه بكونه أخلاقُ الرذيلة. أو بالأحرى، يُنظَر إلى الرذيلةِ على أنها الشيءُ الواجبُ عدم تواجده في كلِّ أخلاق، فتُقمَع وتُعاقَب باستمرار، إلى أنْ تَحتَلَّ أخلاقُ الفضيلة مكانةَ الصدارة.
إلا أنّ هذه الحالةَ من الحل الذي ارتآه المجتمعُ تَظَلُّ قاصرةً عن التحول إلى قوةٍ رادعةٍ كلياً. وسوف يَظَلُّ الماكرون والمتهافتون على حَبكِ الدسائسِ ونَصبِ الأفخاخ قابعين في التشققاتِ الاجتماعية على الدوام. وبطبيعةِ الحال، فثقافةُ الصيدِ الغائرةُ في القِدَمِ لها النصيبُ الأوفرُ في حصول ذلك. فمبدأُ ثقافةِ الصيد هو الأفخاخُ والمكائدُ تجاه الكائناتِ الحية الأخرى. إنها ثقافةٌ لها عروقُها المتجذرةُ في عالَمِ الحيوان، بل وعالَمِ النبات أيضاً. وهذه العروق هي في الوقت نفسه العروقُ البيولوجيةُ للذكاء التحليلي. فعندما تَتَّحِدُ ثقافةُ الصيدِ المختلفةُ بالطبع في المجتمع البشري مع تَقَدُّمِ الذكاءِ التحليلي، ولدى تركيبِ جميعةٍ جديدةٍ منها، يؤدي هذا إلى اكتسابها المبكرِ كفاءةَ أو مقدرةَ تشكيلِ طبقةٍ وهرميةٍ بحالها في البنية الاجتماعية وفي أيكولوجيا البيئة. وهكذا تبدأ الكارثة. ويتكاتف الفصل بين الجنة وجهنم مع قوةِ الذكاء التحليلي في تأسيسِ الهرمية الاجتماعية، لِيُحرِزا التقدمَ قُدُماً وعلى التوازي. وبينما تُمَهِّدُ الهرميةُ السبيلَ لِمُخَيِّلَةِ الحياةِ في جنانِ عدن بتأسيسِ زمرةٍ من "الرجالِ الذكور الأقوياء" متعاليةٍ على المجتمع، فهي تَفتَحُ الطريقَ بالمقابل لجهنم الذي لن تُدرَك أسبابُه ولا مَخارِجُه، والذي يزداد استعاراً مع الزمن داخلَ المجتمع السفلي.
كانت المرأةُ أولَ ضحيةٍ طالَتها يدُ الرجلِ القوي. فمتانةُ أواصرِها مع الحياة جَعَلَ الذكاءَ العاطفي لدى المرأة أرقى. إنها المسؤولةُ الأوليةُ عن تكوينِ الحياةِ الاجتماعية عبرَ كدحِها المجبولِ بالآلامِ والمخاضات كونها أُمُّ الأطفال. وبقدرِ ما تُدرِكُ معنى الحياة، فهي تَعلَمُ جيداً كيف تُحَقِّقُ سيرورتَها. كما أنها جامعةُ الشمل. وخاصيتُها هذه محصلةُ ذكائها العاطفي من جهة، وضرورةٌ تَعَلَّمَتها من الطبيعةِ من جهة أخرى. ويتبين من المعطياتِ الأنثروبولوجية أنّ الزخمَ الاجتماعي قد تَحَقَّقَ وتَرَاكَمَ حولَ المرأةِ – الأم طيلةَ حقبةٍ طويلةٍ من التاريخ، وأنّ المرأةَ – الأم لعبَت دوراً أقرب ما يَكُون إلى نواةِ الغنى والقِيَم النبيلة. ويمكن الجزم بكونها أمّ فائض القِيمَةِ أيضاً. من هنا، فَجَشَعُ الرجلِ الذكرِ القوي – الذي حُدِّدَ دورُه الأساسيُّ بالصيد – بهذا الزخم المتراكم، وطمعُه فيه أمرٌ مفهوم. ولدى بسطِ حاكميته، تَغدو الفرصُ السانحةُ في قبضته. ويتم الانتقالُ إلى مرحلةٍ تصبحُ فيها المرأةُ موضوعاً جنسياً، ويغدو الرجلُ أبَ الأطفال، بل والسيدَ الحاكم، ويمتلك حقَّ التصرفِ بالمدخراتِ الثقافيةِ المادية والمعنوية واستملاكها. إنه أمرٌ مثيرٌ للمطامع حقاً. فقوةُ التنظيم التي اكتسبها مع الصيد منحَته فرصةَ بسطِ نفوذه، وتأسيسِ أولِ هرميةٍ اجتماعية. ومن خلالِ مثلِ هذه الظواهر والمستجدات الوقائعية، يمكننا استشفافُ كيفيةِ استخدامِ الذكاء التحليلي لأغراضٍ مشينة لأولِ مرة وبشكلٍ ممنهجٍ داخلَ البنيةِ الاجتماعية.
الانتقالُ من عبادةِ المرأة المقدسة إلى عبادةِ الأب، يُؤَمِّنُ تسليحَ الذكاءِ التصوري بِدِرعِ القداسة. يمكن طرحُ مزاعمِ تَجَذُّرِ النظامِ الأبوي البطرياركي على هذه الشاكلةِ كفرضيةٍ قويةِ الاحتمال. بل ويمكننا على الصعيد التاريخي، وعبرَ البراهين القوية، إثباتُ انبثاقِ الذهنيةِ الذكورية الأبوية بكلِّ أُبَّهَتِها وعَظَمَتِها في حوضِ دجلة والفرات. حيث نلاحظ أنها انطلقَت من ميزوبوتاميا السفلى حوالي أعوام 5500 – 4000 ق.م، لتنتشرَ في جميعِ أرجاءِ ميزوبوتاميا، وترتقي إلى مصافِّ الثقافةِ الاجتماعية الأولية. وبالمقدور من خلال كافةِ السجلات والوثائق الأثرية على وجهِ الخصوص، استخلاص نتيجةٍ مفادُها أنه، وقبل الانتقالِ إلى هذه الثقافة، كان كان ثمة مجتمعٌ أموميٌّ سائدٌ في جميعِ الأطوار والحُقَبِ الميزوليتية والنيوليتية ما قبل الميلاد، بالاعتماد على إخصابِ الإنتاج على تخومِ السهول والجبالِ في ميزوبوتاميا العليا بالأغلب. ونَتَلَمَّسُ الكثيرَ من المعطيات والبوادر في الثقافة المكتوبة، بحيث تَدُلنا على ذلك، وتشير إلى مدى رقي العناصرِ الدينية واللغوية المعتمدةِ على المرأة آنذاك.
كما بالمستطاع القول أنه، ولأولِ مرة، تَبرُزُ القضايا الاجتماعيةُ بأبعادٍ جديةٍ في الجماعاتِ الأبوية المعبودة باطرادٍ تصاعدي بالتمحورِ حول الرجلِ الذكر القوي. لكنّ هذه البدايةَ في عبوديةِ المرأة تُهَيِّئُ الأرضيةَ لعبوديةِ الأطفال بدايةً، ومن ثَمّ لعبوديةِ الرجل. هكذا، وبقدرِ ما يَكتَسِبُ الرجلُ والمرأةُ العبدَان تجاربَ ادخارِ القِيَم، وعلى رأسها فائض الإنتاج، فهما يَندرجان بنفسِ القدر تحت نِير التحكم والتسلط. وتزداد أهميةُ السلطة والحاكمية طردياً. ويُشَكِّلُ تحالفُ الشريحةِ المتميزة المؤلَّفة من الرجلِ القوي + العجوزِ العالِمِ الخبير + الشامان بؤرةً سلطويةً يَعُزُّ الوقوفُ في وجهها. ويُطَوِّر الذكاءُ التصوري في هذه البؤرة سرداً ميثولوجياً خارقاً بغرضِ بسطِ الحاكمية الذهنية. هذا العالَمُ الميثولوجي الذي تَعَرَّفنا عليه تاريخياً في المجتمع السومري، يتم السموُّ به من تأليهِ الرجلِ إلى اعتبارِه خالِقِ السمواتِ والأرض. وبينما يُحَطُّ من مكانةِ قدسيةِ المرأةِ وألوهيتها، ويُعمَل على محوِها بأفظعِ الأشكال، يُنقَشُ في الأذهان بالمقابل أنّ الرجلَ الحاكمَ هو صاحبُ القوةِ المطلقة. ويتحول كلُّ شيءٍ إلى علاقاتِ الحاكم – المحكوم، الخالق – المخلوق، وذلك عن طريقِ شبكةِ الأساطيرِ الميثولوجية المُبهِرة. هذا العالَمُ الميثولوجيُّ المنقوشُ في مخيلةِ المجتمع، والمستساغُ بشكلٍ كاسح، يَكتَسِبُ قيمةً أولية في السرودِ والنصوص، كي يتحولَ شيئاً فشيئاً إلى دين. لقد أضحينا الآن وجهاً لوجه أمام شكلٍ من أشكالِ الذهنية التصورية المتمأسسةِ التي لا تَعرِفُ الحدود.
إنّ هذا الترتيبَ والاتساقَ الهرمي البارزَ في العلاقات هو أولُ نظامٍ قمعيٍّ استغلاليٍّ مؤسساتي نَجَحَ فيه الذكاءُ الميثولوجي ذو الجذورِ الأبوية البطرياركية، وما تَمَخَّضَ عنه من قوالب ذهنية، بعد إضفاءِ مسحةٍ كاملةٍ من الشرعية عليه. ونَشهَدُ تَطَوُّرَه في العديدِ من الجماعات في مراحل مختلفة، وإنْ كان يَتَباينُ في درجةِ كثافته أو ملامحِ شكله. لا يمكن للذكاءِ المؤدي إلى القمع والاستغلال أنْ يَكُونَ عاطفياً. كما من المحال التفكيرُ بذهنيةٍ تسفر عن المشاكل والقضايا الاجتماعية، ما لَم تبلغْ المستوى التحليلي، وما لَم تَتَّحِد مع ألاعيبِ نَصبِ المصائد المتأتيةِ من ثقافةِ الصيد. ولكي تُخفِيَ هذه الذهنيةُ وظيفتَها الأساسيةَ، فهي مضطرةٌ لابتكارِ الأساطيرِ الزائفة.
لا ريب في إمكانيةِ القولِ أيضاً بأنّ الذكاءَ التصوري والذكاءَ العاطفي قد أديا معاً، وبشكلٍ متداخل، إلى اختراعِ التقاليدِ الفكرية والمؤسساتيةِ الإيجابية للغاية. حيث ليس من الصوابِ إرجاع كلِّ العالَمِ الذهني إلى السلطاتِ الهرمية. ولهذا السبب بالذات، نستطيعُ تَلَمُّسَ الحروبِ العنيفة في هذه الأفكار، بقدرِ ما نستطيع مصادفةَ القوالبِ الذهنيةِ الصارمة والصراعاتِ الفكرية المحتدمة. وبهذا المنوال يمكننا بلوغ جذور ما نسميه بالصراع الأيديولوجي، والظواهرِ والوقائع البارزة أمامنا بأشكالٍ مختلفة، دينيةٍ كانت أو فلسفية أو أخلاقية أو فنية. فالنزاعاتُ والصراعات التي طالما نصادفها بكثافةٍ في الميثولوجيات والأديان، ليست في جوهرها سوى صراعاتٌ اقتصاديةٌ وسياسية. حيث انعكسَ الصراعُ على السلطة الاقتصاديةِ والسياسية في هيئةِ مَشاهِدَ تَلتَحِفُ الرداءَ الميثولوجيَّ والديني، إلى حين ظهورِ الذهنية الرأسمالية. وما الدولةُ سوى تجسيدٌ للتمأسسِ الراسخ للبنى الهرمية. أما تَحَوُّلُ التمثيلِ الفردي للبنى السلطوية إلى تمثيلٍ مؤسساتي في سياقِ التاريخ، فعلى علاقةٍ وثيقةٍ بالمجتمع الطبقي المتنامي مع التمدنِ الذي أسميناه بالمدنية.