الحزب الشيوعي الفلسطيني والانتفاضة القومية في فلسطين - الحلقة الرابعة
مروان مشرقي
2009 / 12 / 23 - 00:01
د. مروان مشرقي
الحزب الشيوعي الفلسطيني والانتفاضة القومية في فلسطين
1936-1939
في أواخر عام 1935 وبداية عام 1936 كان الحزب الشيوعي الفلسطيني يمر بمرحلة جديدة نوعيا, من الناحية التنظيمية والفكرية والسياسية, خاصة في الوسط العربي. إذ بإقراره للخط السياسي الجديد بدأ يخرج من إطار السياسة "اليسارية الانعزالية", وبدأ يوجه جل اهتمامه لإرساء قواعده وتركيز نشاطه داخل صفوف الطبقة العاملة الفلسطينية ويؤثر بشكل ملموس على تطور تنظيماتها النقابية.
في هذه الفترة بدأت عملية تعريب الحزب بأتخاذ طابعا عمليا ملموسا بعد أن كانت عبارة عن قرارات بدون تنفيذ, إذ ازداد عدد اعضاء الحزب العرب, خاصة العمال, واستطاع الحزب أن يستقطب العديد من المثقفين العرب مثل مخلص عمرو, رئيف خوري, رجا حوراني ومحمد نمر عودة وغيرهم (1). إلى جانب ذلك ازداد توجه الحزب نحو تعميق علاقاته مع قيادة الحركة القومية الفلسطينية والأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى. وفي هذا الإطار استغل الحزب العلاقات الجديدة مع الجناح الراديكالي في الحركة الوطنية الفلسطينية والذي مثله حزب الاستقلال العربي, ونشط مع المجموعة المتحلقة حول حمدي الحسيني مثل هاشم السبع وإسماعيل طوباسي ومحمد نمر عودة وأكرم زعيتر وعجاج نويهض وعزت دروزة وغيرهم(2). كما وسعى الحزب للقيام بعدة نشاطات مشتركة مع القوى الوطنية الفلسطينية, وذلك ضمن توجهه لإقامة الجبهة الوطنية الموحدة المعادية للامبريالية والصهيونية.
وفي إطار هذه النشاطات خاض الحزب في شهر آب 1935, وبمشاركة القوى الوطنية الأخرى, نضالا كبيرا لدعم إضراب السجناء السياسيين عن الطعام, والذي امتد تسعة عشر يوما. وقد أثار هذا الإضراب تحركا جماهيريا كبيرا في البلاد, شارك فيه العمال العرب والقوى الراديكالية في الحركة الوطنية الفلسطينية. ورأت هذه القوى "بكفاح المضربين عن الطعام جزءا لا يتجزأ من كفاح الشعب العربي المضطهد من أجل تحرره القومي الاجتماعي"(3).
وفي أثناء الإضراب نظم الشيوعيين العرب واليهود, بمشاركة قوى وطنية أخرى, مظاهرات في مدن القدس وتل أبيب وعقدت اجتماعات في يافا وفي بعض الورش العمالية, الأمر الذي رفع من مستوى معركة المضربين عن الطعام إلى كفاح عم جميع أطراف البلاد (4).
بالرغم من عدم تمكن الحزب من تطوير هذا العمل المشترك مع القوى الوطنية العربية إلى عمل ذات طابع منظم, إلا أن هذه التجربة كانت بداية ايجابية وجدية دفعت جميع نشاطات الحزب لاحقا بهذا الاتجاه.
وقد سعى الشيوعيون من خلال ترويج سياستهم الجديدة بواسطة المناشير والاجتماعات الشعبية والمظاهرات إلى إيجاد قاعدة شعبية لهم, خاصة وسط الطبقة العاملة العربية, وإلى تعميق اتصالاتهم مع الشخصيات الوطنية الفلسطينية التقليدية والقوى الوطنية الراديكالية, خاصة المثقفين التقدميين.
وفي تشرين الأول 1935, وعلى أثر اكتشاف شحنة الأسلحة في مرفأ يافا والتي كانت مرسلة إلى التنظيمات العسكرية الصهيونية في البلاد, أعلن في 16 أكتوبر 1935 عن إضرابا أحتجاجيا عاما للجماهير العربية في البلاد وقد شارك الحزب بأنجاه هذا ألضراب كما شارك في تنظيم الاجتماعات الاحتجاجية في 2 نوفمبر 1935 وفي التحضير للإضراب العام الذي أعلنه عرب فلسطين في 13 نوفمبر 1935 بمناسبة عودة المندوب السامي من لندن إلى فلسطين (5). وقد أصدر الحزب في هذه الأثناء مذكرة خاصة أرسلها إلى جميع زعماء الأحزاب العربية وإلى المفتي الحاج أمين الحسيني مستنكرا النشاطات الصهيونية المسلحة, داعيا إلى تنظيم وتسليح المواطنين العرب لمواجهة الهجرة اليهودية وبيع الأراضي ولمواجهة الانتداب البريطاني(6). ولقد رأى الحزب في كل هذه النشاطات عند الجماهير العربية اتجاها جديا لإقامة جبهة قومية موحدة تضم كل القوى الوطنية, والتي تحضر الأرضية لموجة جديدة من العمل الوطني الثوري(7).
تعميقا منه لتحقيق الخط السياسي الجديد عقد الحزب في 9 ديسمبر 1935 في سينما أبولو في مدينة يافا, اجتماعا شعبيا كبيرا ومشتركا مع حزب الاستقلال وقائده حمدي الحسيني, وذلك بذكرى احتلال الانجليز لمدينة القدس واستشهاد الشيخ عز الدين القسام (8). وقد حضر المؤتمر العديد من الشخصيات الوطنية والتقدمية المعروفة مثل أكرم زعيتر وعجاج نويهض وعزت دروزة وميشيل متري وعيسى الشعري, كما وحضر إحدى جلساته الحاج أمين الحسيني (9). فقد افتتح هذا المؤتمر عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي محمد نمر عوده, الذي طرح مطالبا سياسية تحولت بعد ذلك إلى مطالب الحركة القومية الفلسطينية في الفترة المقبلة. إذ دعا إلى إيقاف الهجرة اليهودية وبيع الأراضي, وإلى إقامة حكومة ديمقراطية في البلاد, كما ودعا قيادة الحركة القومية إلى إعلان العصيان المدني في فلسطين والامتناع عن دفع الضرائب, وطالب باستقالة جميع موظفي الحكومة العرب من أجل الضغط على سلطات الانتداب البريطاني (10).
يعتبر هذا الاجتماع بالنسبة للشيوعيين الفلسطينيين "تجسيد لخط الجبهة الوطنية ومحاولة أولى من قبل الحزب للدخول في صفوف الحركة الوطنية"(11). إن اتجاه الحزب بالانعطاف نحو قيادات الأحزاب القومية العربية, وخاصة المفتي الحاج أمين الحسيني, لا يعبر فقط عن الخط السياسي الجديد والسعي للتعاون مع هذه القيادات, بل يعبر عن اعتراف سياسي بالموقع القيادي لهذه القيادات - وخاصة المفتي - في الحركة القومية الفلسطينية . ونتيجة لضعف تركيبته التنظيمية وضعف قاعدته الجماهيرية أدركت قيادة الحزب أن دورها سيقتصر على ممارسة الضغط على زعامة الحركة القومية من أجل اتخاذ مواقف أكثر جذرية تجاه الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية.
إن تطور نشاط الحزب في الوسط العربي وانفتاحه على العمال والمثقفين العرب وتوسيع صفوفه في أواخر عام 1935 وأوائل عام 1936- أي عشية الإضراب السياسي العام للشعب الفلسطيني – رافقه بالوقت نفسه اهتزاز مواقع الحزب في الوسط اليهودي حيث تتركز قوته الأساسية هناك. فقد شنت السلطات البريطانية حملة اعتقالات كبيرة في صفوف الشيوعيين اليهود وطردت من البلاد العديد من كوادره القيادية. إذ في شهر تموز- يوليو 1935 وجهت ضربة كبيرة جدا وقاسية للمنظمة الحزبية في القدس, حيث اعتقلت أغلبية أعضاء الحزب وقيادته هناك, ولم يتمكن الحزب من إعادة تنظيم الفرع في القدس كالسابق حتى بداية اندلاع الانتفاضة. وعلى أثر هذه الضربة تم طرد قسم كبير من الشيوعيين خارج البلاد. وفي بداية 1936 جرت عملية اعتقالات أخرى كبيرة في فرع تل أبيب. إذ في 10 آذار 1936 تم اعتقال 32 شيوعيا, واستكملت حملة الاعتقالات والطرد من البلاد في 16 ابريل من ذات السنة. وفي هذه الحملة لم تقتصر الاعتقالات على الأعضاء اليهود فقط بل أيضا على أعضاء الحزب العرب, الأمر الذي اضعف إلى حد كبير من قوة الحزب وأثر على مجمل نشاطاته وإمكانياته الكافية (12). لقد عكست هذه الحملة على الحزب الشيوعي الفلسطيني تحسس الاحتلال البريطاني لمدى تنامي تأثير الشيوعيين في الساحة السياسية وتخوفه من توطيد مواقعهم وتناميها.
في هذه الفترة بدأت تنضج في فلسطين عوامل الوضع الثوري, والذي رأى الشيوعيون بوادره في أواسط سنة 1935, ودعوا القوى الوطنية للتحضر من أجل أن يكونوا على مستوى هذا الوضع المتفجر. فمن جهة أخذت حكومة الانتداب بتشديد سياستها الكولونيالية والاضطهادية ضد الشعب الفلسطيني, إذ شددت من قمعها بأقسى الأشكال لكل الحركات الوطنية وخاصة بعد استشهاد الشيخ القسام. إلى جانب ذلك أخذت تشدد من استعمال وسائل الضغط الاقتصادي على أفراد الشعب العربي الفلسطيني. وقد أدت السياسة الاقتصادية الكولونيالية إلى إعاقة تطور البرجوازية الفلسطينية المحلية, وحرمانها من حق استثمار القاعدة الاقتصادية والمشاركة الصناعية والتجارية, وإعطاء كل الامتيازات للرأسمال اليهودي.
إلى جانب ذلك عملت الحكومة البريطانية على تعميق سياسة الاستيطان الصهيونية, الأمر الذي عمق من حدة التناقضات بين الشعب الفلسطيني والتجمع الاستيطاني الصهيوني. ومما ساعد على ذلك ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين, وخاصة بعد صعود هتلر للحكم. وقد نمت هذه الهجرة على حساب الفلاحين العرب, حيث تم الاستيلاء على أراضيهم وطردهم من قراهم. وقد شكلت الهجرة اليهودية خطرا كبيرا على الوضع الديمغرافي في البلاد, حيث وصل عدد السكان اليهود في فلسطين عام 1935 إلى 350000 نسمة, الأمر الذي كان يعني ازدياد عددهم بأربعة أضعاف مما كانوا عليه في نهاية الحرب العالمية الأولى (13). إن الهجرة اليهودية لم تؤد فقط إلى ازدياد الصدامات القومية العرقية بين اليهود والعرب, بل أدت أيضا إلى تعمق المشاكل الاجتماعية في البلاد. إن أكثر الفئات الاجتماعية تضررا من الهجرة كانت الطبقة العاملة والفلاحين العرب, إذ تدهور الوضع الاقتصادي للعمال وزادت البطالة وانخفضت أجرة العمل. ولقد وصلت البطالة في عام 1935 بين العمال العرب إلى 25000 عاطل عن العمل, وبين العمال اليهود إلى 9000 عاطل عن العمل (14). لقد أدى هذا الوضع إلى ازدياد حدة الصراع الطبقي وانتشار حركة الإضرابات حيث نظم في عامي 1934 ,1935 98 إضرابا شارك فيه 5699 مضربا (15).
إن ازدياد تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد والذي كان انعكاسا لتعمق الأزمة الاقتصادية العالمية أثر تأثيرا كبيرا ليس فقط على الجماهير العمالية, بل أيضا على المنتجين الصغار وعلى التجار, الأمر الذي عمق من حدة التناقضات الطبقية, وإلى توسع القاعدة الاجتماعية للحركة المعادية للانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني. وقد احتوت هذه القاعدة على كل الشرائح الاجتماعية للشعب الفلسطيني.
بألاضافة الى ذلك ساهم تراكم العديد من المعارك السياسية والكفاحية للشعب الفلسطيني خلال الست سنوات الأخيرة, على احتداد وتعمق الأزمة الثورية في فلسطين كما وساعد على توطيد حركة المقاومة للانتداب وإغناء تجربتها التنظيمية والسياسية والكفاحية وتجنيد الجماهير الفلاحية والعمالية الواسعة في هذا الإطار. لقد ساهمت الأحداث الثورية في فلسطين عام 1929 وعام 1933, وظهور حركة القسام المسلحة في أواخر عام 1935, إلى جانب تبلور الأحزاب السياسية والنوادي والتنظيمات الشبابية والاجتماعية, كل هذا ساهم وساعد على إعادة تنظيم نضال الجماهير الشعبية ورفع مستواه إلى حد الإعلان عن الإضراب السياسي العام, والقيام بالانتفاضة المسلحة في عام 1936.
وهكذا نجد أن الظروف الموضوعية والذاتية بدأت تنضج, الأمر الذي أوجد الأرضية السياسية والتنطيمية للانتفاضة القومية الفلسطينية, والتي امتدت من 20 نيسان 1936 واستمرت حتى عام 1939 (16).
في 20 نيسان 1936 وعلى أثر إعلان سلطات الانتداب منع التجول في يافا وتل أبيب عقد اجتماعا في مدينة نابلس ضم ممثلي الأحزاب السياسية في فلسطين والشخصيات الهامة للتباحث والتشاور حول هذه الأحداث. وفي هذا الاجتماع تم تشكيل قيادة للحركة الوطنية في نابلس على أساس قومي لا حزبي, سميت"باللجنة القومية". وأعلنت هذه اللجنة عن سلسلة من الإجراءات النضالية التي أهمها إعلان الإضراب السياسي العام (17). وعلى الفور بدأت هذه اللجنة بالاتصال مع جميع ممثلي الحركة القومية الفلسطينية في جميع المدن والقرى الفلسطينية وطالبتهم بالانضمام إلى الإضراب العام ليعم كل فلسطين ولتشكيل اللجان القومية. وفي خلال عدة أيام كان الإضراب العام قد شمل كل أطراف البلاد وتم تأليف اللجان القومية في أغلبية المدن العربية, مثل حيفا ويافا والناصرة والقدس وغزة, وأعلنت جميع الأحزاب السياسية تأييدها للإضراب. وفي 24 نيسان 1936 اجتمع ممثلو اللجان القومية في القدس حيث تم تشكيل جهازا خاصا للإشراف على الإضراب ولجانا لرعاية شؤون المحتاجين ولجمع التبرعات. وفي اليوم ذاته انضم عمال ميناء يافا وحيفا وسائقي السيارات إلى الإضراب العام(18). وفي 25 نيسان تم الإعلان عن قيام "اللجنة العربية العليا" بقيادة الحاج أمين الحسيني, والتي بدأت تنظم عملية استمرار الإضراب.
إن وقوف القيادة الرسمية التقليدية للحركة القومية الفلسطينية على رأس الانتفاضة القومية, بالرغم من أنها لم تعلن من قبل هذه القيادة يعبر عن توازن القوى الاجتماعي والسياسي آنذاك في فلسطين. حيث أن ضعف أحزاب البرجوازية الفلسطينية الناشئة وعدم شموليتها في كل فلسطين واقتصارها على فئات المدينة المتنورة, فسح المجال أمام القوى التي تعبر عن مصالح ملاكي الأراضي وأشباه الإقطاعيين من القفز إلى دفة قيادة الانتفاضة. وقد ساعد على ذلك وجود المفتي, التي كانت تعتبر شخصيته الشخصية الأولى في البلاد والمؤهلة عمليا لتوحيد كل القوى السياسية والوقوف فوق كل الخلافات الجانبية. وقد استمد المفتي صلاحياته بالأساس من الموقع الديني الرفيع الذي كان يتسنمه (19). بالرغم من كل ذلك إلا أن قيام اللجنة العربية العليا كانت خطوة ضرورية من أجل تنظيم الإضراب واستمراره وتطويره.
لقد أعلنت اللجنة العربية العليا في أول بياناتها عن مطالب الشعب الفلسطيني السياسية وهي:
1. منع الهجرة اليهودية منعا باتا.
2. منع انتقال الأراضي العربية لليهود.
3. إنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي (20).
إن إعلان المطالب السياسية للشعب الفلسطيني نقل كفاح هذا الشعب وإضرابه إلى مرحلة أعلى في الكفاح ضد الانتداب وساعد إلى حد كبير على توطيد القوى الوطنية الفلسطينية.
منذ اليوم الأول للإضراب العام وبالرغم من وجود الكثير من كوادره العربية واليهودية في المعتقلات والمنافي, إلا أن الحزب الشيوعي الفلسطيني بدأ بالمشاركة النشطة في الإضراب. فقد أعلن عن وقوفه التام إلى جانب الشعب المنتفض, حيث وزع المناشير وشارك بدور جيد في إنجاح الإضراب, خاصة في مدينتي يافا وحيفا. وفي بيان وزعه في بداية الإضراب أشار إلى أن هذا الإضراب يعتبر انفجارا طبيعيا على السياسة الاستعمارية للصهيونية التي زرعتها الامبريالية "لتقيم سدا في وجه الحركة الوطنية التحررية العربية المتصاعدة والدفاع عن مواقعها الإستراتيجية... المتعارضة تعارضا عميقا مع المصالح الحيوية للجماهير الشعبية العربية"(21).
لقد أتخذ الشيوعيون موقفا سياسيا صحيحا من طبيعة الأحداث الجارية وأسبابها العميقة, حيث أكد الحزب في كل بياناته على العلاقة العضوية بين الصهيونية والامبريالية البريطانية وإلى الدور السياسي الملقى على عاتق الحركة الصهيونية والذي يهدف إلى "حماية المركز الاستراتيجي لفلسطين... والذي تحصل فيه الحركة الصهيونية مقابل هذه الحماية على حماية المدافع البريطانية, وعلى حق الاستيطان في فلسطين, وإحلال (العامل اليهودي) مكان العامل العربي, وإحلال (المستوطن اليهودي) مكان الفلاح في حقله...". ويذكر البيان أيضا بأن "الصهيونية لا يمكن أن يسمح لها بالتوغل في فلسطين إلا إذا شكلت سدا في وجه الحركة العربية الهادفة إلى نيل الاستقلال والحقوق والحريات الديمقراطية"(22).
منذ بداية الانتفاضة دعا الحزب الشيوعي كل القوى السياسية المختلفة لإقامة جبهة مناضلة واحدة ضد العدو المشترك, تضم جميع فئات السكان المحليين وجميع الأحزاب والديانات. في ذات الوقت أكد على أن اللجان القومية هي الأداة القيادية الميدانية للإضراب والتي يجب أن تعزز من قوتها. كما واعترف الحزب أيضا بقيادة اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني للحركة القومية الفلسطينية, ودعا إلى توطيد وحدتها. وفي هذا السياق تبنى الحزب المطالب السياسية التي رفعتها قيادة الأحزاب, ورأى بها أساسا لتوحيد كافة أفراد الشعب العربي لأنها "تتعارض مع السيطرة الامبريالية ومع الصهيونية التوسعية".
وبالرغم من إمكانياتهم المحدودة, ومن خلال علاقاتهم مع حزب الاستقلال العربي والمثقفين العرب, ساهم الشيوعيون الفلسطينيون في تطوير المواقف والمطالب السياسية لإنتفاضة الشعب الفلسطيني, وبتطوير أساليب الكفاح. حيث أكدوا على عدم الاكتفاء بإعلان الإضراب العام, بل يجب الانتقال إلى مستوى أعلى من الكفاح وذلك بإعلان العصيان المدني والإمتناع عن دفع الضرائب للحكومة البريطانية. لقد رفع الشيوعيون هذه المطالب قبل ذلك في اجتماع سينما أبولو عام 1935(23), وأكدوا عليه بعد ذلك في مناشيرهم وفي العرائض التي شاركوا في التوقيع عليها. ففي بداية شهر أيار صدر بيان دعي فيه بالامتناع عن دفع الضرائب وإعلان العصيان المدني وعدم التعاون مع سلطات الانتداب. وقد وقع عليه ستة أشخاص وطنيين عرفوا بتعاونهم مع الشيوعيين وهم حمدي الحسيني ود. خليل البديري وعجاج نويهض وحنا خلف وشكري قطينة إلى جانب الشيوعي البارز عبد الله البندك (24). وبعد ذلك أرسلت عريضة أخرى إلى اللجنة العربية العليا وقع عليها مائة وخمسون شخصية وطنية وتقدمية وشيوعية من القدس طالبوا فيها بالامتناع عن دفع الضرائب ورفعوا شعار "لا ضرائب بدون تمثيل" (25).
لقد استجابت قيادة الإضراب لهذا المطلب وذلك بالموافقة عليه في الاجتماع العام للجان القومية الذي عقد في القدس في 7/5/1936 بدعوة من اللجنة العربية العليا. لقد حضر هذا الاجتماع ممثلو 25 لجنة قومية مثلوا أغلبية المدن والقرى في فلسطين (26), وقد كانت المهمة الأساسية أمام هذا الاجتماع هي إعادة صياغة المطالب السياسية للشعب الفلسطيني وإقرار استمرار الإضراب وتنظيمه. إلى جانب ذلك أقر الاجتماع الإعلان عن العصيان المدني منذ تاريخ 15/5/1936, إذ لم تغير الحكومة البريطانية سياستها تغييرا أساسيا وذلك بإيقاف الهجرة اليهودية(27).
إن الإعلان عن العصيان المدني لم يقتصر فقط على الامتناع عن دفع الضرائب, بل دعا إلى تنظيم مقاطعة كاملة للبضائع الأجنبية, الأمر الذي يعتبر قفزة نوعية في كفاح الشعب العربي.
......... يتبع
المصادر:
(1) د. بديري موسى- عشر سنوات على وفاة الشيوعي رضوان الحلو. مجلة الكاتب عدد 64, تموز 1985 القدس ص27- مقابلة شخصية معه.
(2) نفس المصدر ص26.
(3) "بيان عام للجماهير الكادحة بخصوص إضراب السجناء الشيوعيين عن الطعام"- اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني آب 1935 لغة عبرية.
ملاحظة- برز من بين السجناء السياسيين القائد الشيوعي محمود الأطرش الذي طرد بعد ذلك من البلاد. وفي فترة مكوثه في السجن انتخب محمود الأطرش عضوا في اللجنة التنفيذية للكومنترن. وقد كان العضو العربي الوحيد فيها حتى انحلال الأممية الشيوعية.(نشر البيان في "مجموعة شهادات ب.ك.ب. سنوات 1935-1939_ تل أبيب, ابريل 1950 ص11.
(4) المصدر السابق ص12.
(5) "الى جماهير العمال اليهود"- منشور اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني- نوفمبر 1935.
(6) د.بديري موسى- الحزب الشيوعي الفلسطيني 1919-1948. مصدر سابق ص88-95.
(7) "إلى جماهير العمال اليهود"- منشور اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني- نوفمبر 1935 .
(8) لقد كان الحزب الشيوعي الفلسطيني على علاقة واتصال دائم بحركة القسام منذ انطلاقها, وذلك عن طريق شقيق محمود الأشقر- مندوب الحزب في المؤتمر السابع للكومنترن. وقد قيَم الشيوعيون هذه الحركة كظاهرة ايجابية ذات محتوى وطني ثوري, بالرغم من طابعها الديني. إذ أن الطابع الثوري لهذه الحركة ينبع من موقفها الصحيح من الاستعمار البريطاني وتقييمها له كعدو رئيسي ( مجلة الكاتب- تموز 1985- موسى البديري, مصدر سابق ص26).
(9) زعيتر أكرم- وثائق الحركة القومية الفلسطينية 1918-1939 ص402- مصدر سابق.
(10) نفس المصدر السابق.
(11) مجلة الكاتب- مصدر سابق ص26.
(12) لقد سجلت الصحافة العربية والعبرية في فلسطين عشية الإضراب الكثير من حوادث الاعتقالات ضد الكوادر الشيوعية العربية واليهودية. وتذكر جريدة فلسطين أسماء العديد منهم مثل حسين احمد البياري وإبراهيم عبد الله عبود وأبو السعود عبود وغيرهم. (جريدة فلسطين 11 آذار 1936 ص6 و 17,18 نيسان 1939- القدس)
(13) لبسكي حاجيت- نمو اليشوف اليهودي في أرض إسرائيل في فترة الانتداب- الجامعة العبرية القدس ص5 (لغة عبرية).
(14) جانا, توفيق- الشهادات السياسية أمام اللجنة الملكية في فلسطين- دمشق 1937- مداخلة السيد جورج منصور- سكرتير "جمعية العمال العربية" في يافا أمام اللجنة الملكية في 16/1/1937 ص294.
(15) حكومة فلسطين- خلاصة الإحصائيات في فلسطين- السنة الثانية عدد 2 1936 ص28 –أرشيف المكتبة القومية, القدس.
(16) لقد انفجرت الانتفاضة القومية على أثر هجوم قام به بعض الشبان العرب على قافلة سيارات يهودية وعربية على طريق نابلس- طولكرم في 15 نيسان 1936. وقد أطلق هؤلاء الشبان النار على الركاب اليهود, فقتلوا شخصا واحدا وجرحوا آخرين. وفي اليوم الثاني 16 نيسان قام بعض المستوطنين اليهود بقتل عربيين قرب مستوطنة ملبس, الأمر الذي أثار حالة اضطراب كبيرة في البلاد. ومما أثار من حدة الأوضاع هو الهجوم الذي قام به مشيعو القتيل اليهودي في 17 نيسان على مدينة يافا, حيث حطموا المتاجر والمخازن العربية, جرى على أثرها صدام كبير بين السكان العرب واليهود. وفي 19 نيسان أعاد بعض السكان اليهود من تل أبيب الهجوم مرة أخرى على يافا, الأمر الذي أدى إلى تدخل قوات الانتداب البريطانية وفرضت منع التجول على مدينة يافا وتل أبيب. وعلى أثر انتشار أخبار حوادث يافا في البلاد تم تشكيل لجان قومية والإعلان عن الإضراب العام في جميع أنحاء فلسطين. وهكذا بدأ الإضراب السياسي العام والذي امتد حوالي ستة أشهر (فلسطين تاريخا ونضالا- نجيب الأحمد- دار الجليل للنشر, عمان, الطبعة الأولى آذار 1985- ص225).
(17) الحركة الوطنية الفلسطينية 1935-1939 - يوميات أكرم زعيتر- مؤسسة الدراسات الفلسطينية- الطبعة الأولى, بيروت 1980 ص61.
(18) فلسطين- تاريخا ونضالا- مصدر سابق ص225.
(19) أقر أكرم زعيتر بهذا الوضع حيث أعلن في يومياته بأن الإعلان عن اللجنة العربية العليا أدى إلى "اندماج الجميع في الحركة الوطنية... وقد أنقذ الحاج أمين مكانته بنزوله إلى الميدان.." وأعلن أنه "علينا أن نلتف حول هذه اللجنة ورئيسها ما دامت لا تهاود في الحقوق الوطنية وما دامت تمثل روح الثورة الناشئة في البلاد"- الحركة الوطنية الفلسطينية 1935-1939- يوميات أكرم زعيتر- مؤسسة الدراسات الفلسطينية, الطبعة الأولى –بيروت 1980 ص76.
(20) المصدر السابق ص76,77.
(21) د. شريف ماهر- الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919-1948 –مركز الأبحاث- منظمة التحرير الفلسطينية_ بيروت, الطبعة الأولى- أكتوبر 1981 ص90.
(22) "الانتفاضة في فلسطين" (نداء من الحزب الشيوعي الفلسطيني- تل أبيب 10 يوني (1936)- المراسلات الصحافية الأممية عدد 30 27/6/1936 ص805 لغة انجليزية.
(23) أنظر ملاحظة رقم 9,10 من هذه الحلقة.
(24) د. بديري موسى- عشر سنوات....مجلة الكاتب.. مصدر سابق ص26.
(25) الحركة الوطنية الفلسطينية... أكرم زعيتر- مصدر سابق ص82,83.
(26) نفس المصدر ص89,90.
(27) نفس المصدر ص88-95.