إعرف نفسك، تنجو من براثن الرأسمالية (1)
عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 20 - 21:59
مِن أُولى الإجراءات التي عليَّ القيام بها لدى شروعي بطرحِ مرافعتي تجاه النظامِ الرأسمالي، هو الخلاصُ من التصاميمِ والقوالب الذهنية العائدةِ له. فمثلما يَبدأ أيُّ عملٍ في الإسلام بـ"البسملة"، فكذلك للرأسمالية مقدساتها. وما دمنا نَوَدُّ الخلاصَ من هذه الأخيرة، فعلينا أولاً بِنَبذِ أدعيتها البِدئية، وفي مقدمتها "الأسلوب العلمي" المفروض. ما نقصده هنا ليس "أخلاقَ الحرية" وأخلاقياتِها التي لا وجود للمجتمع الإنساني بدونها ما دام موجوداً، والتي تمر دوماً من غربالِ الحياة الاجتماعية. بل المقصودُ هو ذهنيةُ الحياةِ العبودية الأكثر تطوراً، والثقافاتُ الماديةُ والمعنويةُ الباعثةُ لها، والتي تؤدي إلى إفراغِ الأخلاقِ والأخلاقيات من محتواها ومعانيها، وتَتَسَبَّبُ في شرذمتِها ورعونتها وتَبَعثُرِها على أساسِ رفضِها وإنكارها.
وما مِنْ برهانٍ أساسيٍّ إلا ذاتي، لدى السعيِ للخلاص منها. فعندما كان ديكارت يَشُك ضمن فلسفته بكلِّ شيء لِيُهَيِّئَ بذلك الأرضيةَ للرأسمالية، ربما عن غيرِ وعيٍ منه، لم يبقَ أمامه في النهاية سوى ذاته. أفكان عليه إذن أنْ يشك في ذاته أيضاً؟ والأهم من ذلك، كيف وقعَ في وضعٍ كهذا؟ جميعنا نعلم بوجودِ عدةِ أطوارٍ مشابهةٍ لوضعه ذاك في التاريخ. ولعل من أُولى الأمثلة الواجبِ استذكارُها في هذا المضمار إنشاءُ الكَهَنَةِ السومريين لآلهتهم، والشكوكُ العميقة لدى النبي إبراهيم إزاء الآلهةِ الموجودة (ومغامراتُ سيدنا محمد بصدد الإله هي مثالها الأخير)، والريبيةُ الإيونية . فالذهنياتُ المولوج فيها خلال هذه المراحل التاريخية، والمقتضيةُ رفضَ السابقةِ لها ودحضَها، تتميز بخاصياتها في إعادةِ تكوينِ وتشكيلِ المجتمعِ جذرياً، وإجراءِ التغييرات الكلية على أنماطه، بل وتأمينِ البراديغمائيات الأساسية بأقل تقدير. ويُعزى الدافعُ الأولي وراءَ الوقوعِ في الريبة والارتيابِ إلى نقصانِ الذهنية الجديدة الجذرية (يمكن تسميتها بالبنية الأيديولوجية أيضاً)، وعدمِ كفايتها في مواجهةِ نمطِ الحياةِ الجديدة الناشئةِ حديثاً. في حين أنّ إنشاءَ قوالبِ الذهنية اللازمة لأجلِ الحياةِ الجديدة أمرٌ عويصٌ يَتَطَلب نقلةً استثنائيةً وقفزةً خارقةً في الشخصية. وسواء أَسمَيناها بالانبعاثِ النبوي، أو الطَّورِ الفلسفي، أو الاكتشافِ العلمي، فهي تبحث أساساً عن جوابٍ للمتطلباتِ عينها. فكيف سيتم ترتيب وتجهيز القوالبِ الذهنية الجديدة، التي هي ضرورةٌ اضطراريةٌ للحياةِ الاجتماعية الجديدة؟ هنا تتبدى الريبيةُ المروِّعةُ كخاصيةٍ أساسيةٍ لهذا الطَّورِ البَينِيّ.
وما الحياةُ المذهلةُ التي عاشها كلٌّ من ديكارت وسبينوزا وأراسموس في موطنِ مهدِ التنامي الراسخِ للرأسمالية في القرن السادسِ عشر (وهو هولندا اليوم على وجه التقريب)؛ سوى ثمرةٌ ممهورةٌ بآثارِ تلك المرحلةِ التاريخية.
يتماشى تاريخُ حياتي أنا مع الزمانِ المبتدئ بأعوامِ الخمسينيات من القرن العشرين. وهي الأعوام التي بَلَغَ فيها زمانُ الرأسمالية أوجَ حملته في العولمةِ. ومكاني هو حوافُّ الجبالِ الباعثةِ للحضارة من بين أحشائها. إنها الأراضي المعطاءُ من الهلالِ الخصيب الذائعِ الصيت في القسمِ العلوي من ميزوبوتاميا، والتي تَكتَنِفُها وتَرسِمُ إطارَها سلسلةُ جبالِ طوروس – زاغروس، التي شَهِدَت بدايات العصرِ النيوليتي (الثورة الزراعية والقروية) وأُولى الحضاراتِ المدينية، وعاشت كِلا العصرَين بأطولِ آمادهما، حيث لا تنفك تحتفظ ببقايا قوالبهما الذهنية الغائرةِ في جذورها. إنها الأراضي الأساسيةُ التي كُرِّسَت فيها النذورُ العظيمةُ بالانتقالِ إلى العصر النيوليتي (أُولى أمثلتِها بَرَزَت في جوارِ أورفا، حيث الأعمدةُ الضخمةُ المنتصبةُ المحيطة بأماكن العبادة في المعابد، والمُعَمِّرة اثنَي عشر ألفِ عام).
إنَّ الحُكْمَ الممنهجَ والدقيقَ للغايةِ، الذي أَطلقَه حُرَّاسُ النظامِ الرأسمالي بالإبقاءِ عليَّ في جزيرةِ إمرالي، يُضارِع الحكمَ الذي أَطلَقه زيوس على بروماتوس بتقييده إلى صخورِ القفقاس العاتية. ولدى قولي بأنّ ذلك يَفرض، بل ويُحَتِّمُ عليَّ تحليلَ مدى تضادّي مع ذاك النظام، فلأنه من غيرِ الممكن الانتباهَ إلى معاني ذلك، دون العودةِ مجدداً إلى هذه الحقائقِ التاريخية، وتحليلها باستمرار. ذلك أنّ تحامُلي المستمر على جمهوريةِ تركيا فحسب، لن يختلف كثيراً عن مُناطَحةِ الثورِ للقماشِ الأحمرِ دون سواه في مصارعةِ الثيران الإسبانية. لا شك في أنّ الجمهوريةَ التركيةَ قد اختُزِلَت في دورِ مُصارِعِ الثيران. هكذا فُصِّل دورها، ويُرادُ لها أن تؤديه دائماً بأنفعِ الأشكال. لكنّ ما يلزمنا، أو بالأحرى ما يلزمني أنا، هو التعريفُ بالأصحابِ الحقيقيين لهذه الألعوبةِ الوحشيةِ المهوِّلة (وهي لعبة المَلِك) بكافةِ حقائقِ حياتهم.
علينا وضع مثالِ كارل ماركس نصبَ العين بعناية، كي لا نقعَ في أخطاءٍ ومخادعاتٍ فادحةٍ فيما يتعلقُ بالمجتمعِ برمته. لا يساورنا أدنى شك في أنّ ماركس شخصيةٌ شهيرةٌ – أو أرادَ أنْ يَكونَ كذلك – في تحليلِ الرأسمالية والخلاصِ منها. لكنّ الرأيَ الآخرَ الذي يُجمَعُ عليه عموماً هو أنّ التغييراتِ الاجتماعيةَ الهائلة المُستَلهَمةَ منه عَجِزَت عن تَخَطِّي مرتبةِ الخدمة المثلى للرأسمالية. لذا، واضحٌ جلياً أني لن أَكُونَ مُريداً ماركسياً أحمقاً.
من الجدير استيعاب رغبتي في الانطلاق من العوامل والمؤثرات الأساسية لدى سعيي لتعريفِ هويتي. فما هي؟ إنها الانتقالُ إلى العصرِ النيوليتي وبقايا الذهنية النيوليتية وعاداتِها وأعرافِ حياتها، والهرمياتِ السلطويةِ المعتمدةِ على الحضارة المدينية وأشكالِ عبادةِ الدولة، وأخيراً حقائقِ لعبةِ الرأسمالية بأبعادها التي لا نظيرَ لها في كافةِ المراحل التاريخية.
هذا ومن المهم الحديث عن طبقةٍ أخرى أدنى: الخصائصُ المميِّزةُ للنوع البشري عن غيره، وما تُقَدِّمه من يُسرٍ أو عُسرٍ في الحياة.
ولدى كتابتي هذه السطور، فأنا مدركٌ تماماً لموقعي ضمن إطارِ حدودِ شرعيةِ الرأسمالية. ولا نيةَ لي في إنكارِ اعتمادِي عليها في معيشتي، أو في تَحَوُّلي إلى بروماتوس آخر. بل أُضاعِفُ من قدرتي على الإدراك بكل ما تحتويه من معاني في جميع الانفتاحاتِ المتركزة في كلِّ ساعةٍ من الزمن.
وإذا ما انطلَقنا من الأمثلةِ المعروفة، فسنجد ماني على أبوابِ السلطة الساسانية، والإمامَ حسين ومنصور الحلاج والسهروردي من جانب، والمئاتِ من القديسين والقديساتِ المتأتين من تقاليدِ عيسى من جانبٍ آخر على أبوابِ السلطة الإسلامية، بالإضافة إلى الضحايا الملتفين حول تقاليد بوذا فراراً من وحشيةِ السلطة، والشباب المحترقين في ألسنةِ نيرانِ محاكمِ التفتيش التابعة للكنيسة، ووحشيةِ الرأسماليةِ البالغةِ حَدَّ الإبادة الجماعية والتطهيرِ العرقي. كل ذلك ليس سوى أمثلة متطرفة أساسية شاذة شَخَّصَتها الثقافة المدوَّنة، والتي تتقاطع في مزايا هامة، ألا وهي إصرارهم على إدراك الحياة، وعنادهم في عدمِ التعلق بالستارِ المُراد نسجه بينهم وبين الحياة الحقيقية. هذا كان جرمهم.
فإذا ما انزلَقَت ثنائيةُ الحياة – الموت في ردبٍ مسدودٍ بإحكام، فأسبابُ ذلك اجتماعيةٌ بالتأكيد. فلا الموتُ المنبسطُ أمامنا موتٌ بمعنى الكلمة، ولا الحياةُ المروَّجُ لها باستمرار على علاقةٍ بالحياة. نحن مرغَمون على إدراكِ أنّ التشابهَ والمحاكاةَ غدا حقيقةً واقعةً في حياتنا (يجب فهمه على أنه التقليدُ الآلي للحياة). من هنا، فأبسطُ تقديرٍ للحياة، ولو بمثقالِ ذرة، يستلزمُ الخلاصَ من حصارِ هذه الدوامة اللعينة.
بلغتُ الآن سِنَّ الستين، ولم أتجاوزْ بعد فضوليَ الأساسيَّ بشأنِ الحياة بتعبيرها العالقِ في ذهني مذ ما قبلَ مرحلةِ الدراسةِ الابتدائية. بل لا أزال عالقاً هناك، عاجزاً عن الترعرعِ في آفاقِ شرعيةِ الرأسمالية. فكأنه لا مفرَّ من العيش بزيفٍ ورياءٍ ضمن حدودها، أو البقاء قزماً بلا شأن ضمنها. أو أنها تعني الكل: التشابهَ، الزيفَ، القزم، الخداعَ، الإجحافَ وانعدام الضمير، القبحَ، والجهل. إلا أنه يجب بقاء الحياة فوق كل هذه القيم، ويجب فهمها كوظيفةٍ أولية. فالفهم يعني الحياة، مثلما هدفُ الحياة هو الفهم. ولا أعتقد بوجودِ تفسيرٍ آخر للكون. وبالرغم من أنّ المعنى المطلقَ صعب التحقيق لدرجةِ الاستحالة، إلا أني مصر على كونه الواقع الذي يجرف الحياة. إذ ما من قوة ٍأقوى من قوةِ المعنى، أو أنها لن تنجوَ من كونها مشاهد زائفة تجاه المعنى.
أعود إلى نفسي ثانية. فما أسعى لتبيانه هو أنّ ما يُسمى بعواملِ الحياة عاجزةٌ عن تلبيةِ وإشباعِ فضولي إزاء الحياة، مثلما كانت الدافع الأساسي وراء تَرَسُّخِ الشكوك العميقة لدي. إني لا أشكُّ وحسب، بل وأشمئز أيضاً.
تغدو الوقائعُ السرطانية وضعاً يستحيل صده أو عرقلته، عندما يسود العجز عن صَونِ معاني الحياة، أو عندما تُقدَّم اللامعاني على أنها معاني. وأسبابُ ذلك اجتماعيةٌ لا محال. وكونُ السرطانِ مرضاً اجتماعياً إنما هو من أبسطِ حقائقِ الأنثروبولوجيا. حيث تبدأ السرطنةُ عندما يحيط اللامعنى – أو أكوامُ المادة العمياء – بالخلية ويتفشى فيها.
إن الإيضاح رداً على بعضِ الأسئلة المطروحة عليَّ هو من باب الاحترام. كما أن استيعابي بعمقٍ أكبر لمعاني وماهية زماني ومكاني أثناءَ شروعي بكتابةِ هذه الأسطر هو من بابِ التجربة، حيث يتزامن مع التصريحِ المشترك للهيئة التنفيذية العليا للجمهورية التركية والهيئة التنفيذية الأمريكية التي هي قمة النظام الرأسمالي، والقائل: "نعلن PKK عدواً مشتركاً للحكومات الأمريكية والتركية والعراقية".
أود الوصولَ إلى القولِ بأنّ نمطَ الحياة الرأسمالية لا يلائمني. لا أدَّعي عدمَ ميولي إليه بين الفينة والأخرى، ولكني مدركٌ تماماً لعدمِ قدرتي على النجاح فيه البتة. كما أني مدركٌ يقيناً لعجزي عن أنْ أَكُونَ ذاك "الرجلَ الزوج" بالشكلِ اللائق والمحبَّذِ، سواءً قَبلَهم أو معهم. قد يقال أني في وضعٍ مضحكٍ من وجهةِ نظرِ النظام القائم. ولكني أرى هذا النظامَ رهيباً في دمويته وقمعه واستغلاله. وكونُ الحياةِ في وجوديةِ هذه الظواهرِ مصدرَ قبحٍ واشمئزازٍ تام، إنما يُشَكِّلُ المجالَ المضاد أو البراديغما المضادةَ لحياتي الفلسفية. أنا واثق من أني لن أبالغ في شأنِ ذاتي، ولكنّ الدفاعَ عن نفسي كإنسان هو من معالمِ الحياةِ الأساسية من جهة، ووظيفتي الأخلاقية الأولية تجاه العازمين على الحياة داخل الفضاء المجتمعي من جهة ثانية. وإذا كنا سنتحدث عن المواطَنة، التي لا أنضم لمعانيها المرسومة على يدِ أصحابِ السلطة، ولكني آخذها على محملِ الجد من حيث معانيها القَيِّمة؛ فمن متطلبات تلك الأخلاق معرفة العيش بتَحَمُّلِ الوظائف والمهامِ. فالمشكلةُ ليست أنْ تعيشَ أو لا تعيش، بل أن تعرف العيش بشكلٍ صائب. وحتى لو كنا لا ننجحُ كثيراً في الحياة الصائبة، لكن الأهمَّ هو عدم التخلي عن البحث عنها، والسير على دربها.
لم يقتصر النظامُ الرأسمالي على الفصلِ بين القول والعمل، بل والأنكى هو ترسيخه خيانة مُطَوَّرة بينهما بدرجةٍ لم تحصل في التاريخ قطعياً. فكأنّ الأقوالَ خُلِقَت لتغليطِ الأعمال وتَخطِئَتِها. وكأن العمل أُقحِمَ في أداء دورِ آلةٍ ميكانيكيةٍ تخدم النظام المهيمن بلا مثيل.
ونستخلص من العديد من الأمثلة التاريخية أنه، وبدونِ تحليلِ طبيعةِ الرأسمالية في مرحلتها الإمبراطورية العالمية، فستَكُون كلُّ البرامجِ والصياغات والمناهج بشأنِ الحياةِ الحرةِ عُرضةً لشتى أنواعِ التحريف. وبالتالي، كلُّ قولٍ يُقال، وكلِّ عملٍ يُنَفَّذ، وبمعنى آخر كل نشاط نظري أو عملي؛ لا يمكن أن يوجِد لنفسه دوراً في ملعبِ غريمه. ولا يمكن الخلاص من حالةِ نقلِ الماء إلى طاحونةِ النظام الرأسمالي بكل غباء، ما لم تُطَوَّر المواقفُ البوذوية والنبوية وسلوكياتُ الأولياء المقتدرين تجاه مصطلحاتِ وممارساتِ الحداثةِ ذات الطابع الرأسمالي والمتحولة إلى شرائعَ وتقاليدَ راسخةٍ، والمعبودةِ أكثر من الأديان التعصبية، والسائدةِ كنفوذٍ مهيمنٍ منذ ما لا يقل عن أربعةِ قرون. لطالما دار الجدل حول مناهِضي الرأسمالية، ولكن، على هؤلاء الاعتراف بجرأةٍ وشهامة بعجزِ غالبيتهم الساحقةِ عن النفاذِ من التحول إلى حمقى يَنقُلون المياهَ إلى طاحونةِ الرأسمالية في المرحلة الراهنة.
لا أرى الرأسماليةَ القابعةَ في قمةِ العولمة قويةً على الإطلاق، بل ربما هي في أَوهَنِ أطوارها، وهَشَّةً قابلةً للانكسار في كل وقت. وما لم يتحقق هو حمايةُ المجتمعِ تجاهها بشكل صحيح وكفوء. بمقدورنا تعريف الهيمنةِ الرأسمالية بأنها مرضُ السرطان الاجتماعي، لا من باب التشبيه وحسب، بل وانطلاقاً من حقيقتها وواقعها. بالتالي، لا يمكن اعتبارها قدراً محتوماً كسائر الأقدار. ينبغي تقييم الرأسمالية كأضعفِ نظامٍ سلطويٍّ مهيمن. ما يلزم هنا هو عيشُ المجتمعية بشكلٍ قديرٍ وصحيح، حتى ولو بَقِيَت في شخصٍ واحدٍ فقط. فما اعتِيدَ عملهُ على مَرِّ التاريخ هو استخدامُ الأسلحة عينها في مواجهةِ "الرجل القوي" أو "المهيمن". لكنّ العينيةَ والمثليةَ في المفهوم والعملِ ستُوَلِّدُ المُشابِه. وهذا ما يحصل حقاً، حيث وُلِدت نماذجٌ عديدة من روما لدى محاربة روما. بل إنّ مدينةَ أوروك الأقدمَ والأكثر أصالةً لا تفتأ تُوَلِّد ذاتها حتى اليوم في هيئة "العراق الجديد". فالتغييرُ ضئيلٌ جداً، والتكرارُ كثيرٌ جداً.
من المهم عدم تضخيمِ الهيمنة أيضاً. فبقدر ما لم تَستَسِغ المجتمعاتُ السلطةَ والاستغلالَ والقمع، ولم تَقبَلها طوعاً، فهي لم تُصبح في المرحلة التي لا تطيق العيشَ بدونها. هذا ومن المهم الخلاص من مفاهيم من قَبِيل "المجتمعِ الحديث العهد"، و"أشكالِ المجتمع" المتعاقبة والمتباينة؛ ذلك أنها مصطلحاتٌ جوفاء. فالمجتمعاتُ تتطور، باعتبارها نمط وجودِ النوع البشري، ولكن على منوالٍ متشابهٍ ومتقارب. فإذا كانت عينُ العشق عمياء، فقد يؤدي إلى أكثرِ الحالات سفالةً، وإلى أحطِّ درجاتِ الجهل. وهو كذلك سواءً في عشقِ السلطة، أو عشقِ الجنس. أما إذا كان مفعماً بالمعاني النبيلة، فهو قَيِّمٌ كـ"النيرفانا" ، ويعني الفناءَ في سبيل الله، والانصهارَ في الحقيقةِ والاندماجَ بها. إنه يعني الوصولَ إلى وضعيةِ أنا الحق، وسيادةِ المجتمع العادل الحر. أي أنه حالةُ الديمقراطيةِ التامة.
إني واثقٌ من صوابِ حِراكي بعدمِ الاستسلام لمجتمعِ القرية، لكنّ الخطأَ يكمن في الاعتقاد بأنّ الحداثةَ ذات الطابع الرأسمالي نورٌ مشع. ولدى التأخرِ في التحليل، فإنّ الانقطاعَ الراديكاليَّ الجذري كان خطأ فادحاً، حتى ولو كان عن مجتمع القرية، وإنْ لم يتدمقرط بعد، ولاسيما إذا بقي على مسافةٍ بعيدةٍ من مراحلِ التصنيفات الأساسية من قبيل الدولة القومية والصناعة. وهنا يكمن مصدرُ أحزاني وأسفي الشديد. فأبي الذي لم أستذكره كثيراً، كان عاقلاً قادراً على الانتباه إلى طاقةِ الحياةِ لدي، بقدرِ ما كان حكيماً – مثلما هي أمي بأقل تقدير – عندما كان يواجهني بحقائق مُرَّةٍ كالعلقم. ولا أزال أتذكَّر قولَه الحكيم "لن تَذرفَ دمعةً واحدة عندما أموت". لقد كان من المؤمنين بالعالَم القديم، وينحدر من عالَم الكدح، وديمقراطياً من حيث الجوهر. ولا أبرح أبحثُ وأنبش في دوافعِ انجذابي اللعين المخادع لهذه الدرجة إلى الألوهيةِ الرأسمالية.
لقد سعى كارل ماركس لتحليلِ الرأسمالية بمواقف وضعيةٍ بالأغلب، ولكنه لم يُكمِلها. حيث لم يتناول حتى السلطةَ والدولة. ولطالما عجزتُ عن الغوصِ في أعماقِ هذا الموقف. إني أدركُ ظاهرةَ الاستعمار والاستغلال لديه، ولكني طالما كنت أراها كنتيجة. وهكذا، فالابتداء من النتيجة يُعتَبَرُ موقفاً ناقصاً للغاية، وهو يُعَبِّرُ عن حالةٍ تامةٍ من اللادفاع على الصعيد السياسي. في الحقيقة، كانت مرحلةُ ثورةِ 1848 مندلعةً في القرب منه. وكان يتابع باهتمامٍ فائقٍ مسيرةَ البورجوازية نحوَ السلطة، بقدر اعتنائه بتلاشي الأسيادِ النبلاء، والتغيراتِ الطارئةَ عليهم. كان بالغَ الاهتمام بالاقتصاد والسياسة والفلسفة والاشتراكية. إلا أنه، دعكَ من استيعابه لظاهرةِ السلطة – التي كانت تُعيدُ تنظيمَ ذاتها، وتَلُفُّ المحيطَ وتتفشى فيه كالأخطبوط لتُقَيِّدَ سوادَ المجتمعاتِ من الكادحين والفقراء – بل ولم يَقدِر على عرقلةِ تَحَوُّلِ نظامه أيضاً إلى آلةٍ بيدها في نهايةِ المطاف. ولم ينتبه إلى أنّ النموذجَ النظريَّ والعملي الذي اقترحَه وطرحَه قد غذّى نفوذَ الرأسمالية وعزَّزَ هيمنتها. ومثاله الأخير في الممارسة العملية الصينية، التي سقطت في وضعٍ غدت فيه أمتنَ سَندٍ للرأسماليةِ الأمريكية المهيمنة، على علاقةٍ وثيقةٍ بعدمِ الإدراكِ ذاك.
وإذا كانت الهيمنةُ الرأسمالية وطيدةً لهذه الدرجة، فالسببُ الرئيسي وراء ذلك يكمن في التسابقِ نحو العبودية الطوعية الناجمة عنها. فهل من عاملٍ واحدٍ فقط يمكنه اليوم معارضةَ ارتفاعِ الأجور؟ الوضع محزنٌ ومؤلم حقاً.
كلما تعمقتُ في الكفاحِ ضد الرأسمالية، تَخطُرُ ببالي دائماً علاقةُ الزوج – الزوجة. فكما يكونُ من العسير جَرّ الزوجةِ إلى الكفاحِ ضد زوجها في حالِ كان هيأَ لها حياةً عادية تتوافق مع الوسط المحيط، فكذلك من العسير أيضاً جرّ العامل إلى الكفاح ضد سيده الرأسمالي، إذا كان الأخير يمده بأجرٍ مرتفع. ودعك من التحرر، بل إنّ العاملَ المستميتَ تجاه سيده الرأسمالي في سبيل الحظي بأجرٍ زهيد، قد غدا خادماً في حلقةِ نظامِ سيده ضد التعدديات الاجتماعية. بل وعندما يتعاظم جيشُ العاطلين عن العمل ككرةِ الثلج، فإنّ أيَّ عاملٍ ضامنٍ لنفسه يشعر أنه في أمان بقدرِ موظف الدولة، بل وربما أكثر.
وبطبيعةِ الحال، بقدرِ ما يتحولُ بيروقراطيو الدولة إلى بروليتاريا، يَسودُ التحولُ إلى البيروقراطية بين صفوفِ البروليتاريا بنفس القدر أيضاً. أي، يتشكل ضربٌ من ضروبِ أشرافِ العمال والموظفين في الطبقة السفلى، بما يشابه خليطَ الأشراف البرجوازيين والإقطاعيين في الطبقة العليا.
إنّ مجتمعَ المدينة بحالته المحلَّلة والمفكَّكةِ – والذي جذبني إليه كالمغناطيس ليُبعِدَني عن المجتمع الريفي – هو بالنسبة لي المكانُ الأساسيُّ للقضايا الاجتماعية. فالمذنبُ الأول في التفسخ الداخلي للمجتمع بقدرِ اغترابه وانقطاعه عن المحيط، إنما هو المدينةُ والمجتمعية المتمخضة عنها. أو بالأحرى، هو مجتمعُ مدينةِ الحضارة الدولتية الطبقية. فأكثرُ مجتمعاتِ الكلان بدائيةً ليس بجاهلٍ تجاه الحياة بقدرِ ما هي عليه حضارةُ المدينة. بل وعلى النقيض، فإذا كان مجتمعُ المدينة المتحضر قد تَحَوَّلَ في مرحلته الرأسمالية إلى قاتلٍ مدمرٍ للبيئة بكل معنى الكلمة، فذلك نابع – وبكل تأكيد – من الجهالة المنهجية المتفشية في بنيته.
وما العقلُ المنفصلُ عن الذكاءِ العاطفي، والجنسانيةُ المفتقدة لمعناها منذ أَمَدٍ بعيد؛ سوى مؤشراتٌ وأعراضٌ أولية لواقعِ سرطانيةِ الرأسمالية. فبدءاً من الاعتماد على الوحشية النووية المروعة لأجل السلطة، وصولاً إلى التضخم السكاني الذي لا يَسَعُهُ العالمُ في سبيل تكوينِ جيشٍ من اليدِ العاملة الرخيصة؛ كلها مواضيع متعلقة بجوهرِ النظام، وبالأخص بتكويناتِ السلطة فيه. أما الحروبُ العالمية، وحروبُ الاستعمار والاستغلال، ومنازعاتُ السلطة المؤثرة في المجتمع برمته وعلى جميع الأصعدة، والمتسربة حتى أوردته الشعرية الدقيقة؛ فجميعها لا معنى لها عدا كونها دليلٌ فاضحٌ على إفلاسِ النظام القائم.
ولطالما يتم إبراز الليبراليةِ والفردية كمحورٍ أيديولوجيٍّ أساسي في الرأسمالية. ولكني أستطيع التأكيد على أنه ما من نظامٍ بلغَ قوة الهيمنة الأيديولوجية للرأسمالية في أسْرِ الفرد واستعباده.
لربما يُقال لي: لا تزال اللغةُ التي تستخدمها غيرَ بعيدةٍ عن شرعيةِ النظام من حيث المضمون، وأنتَ أيضاً لستَ سوى ثمرةٌ من ثمارِ هذا النظام. إلا أنّ المكانَ الذي أنا فيه جديرٌ بمناهضةِ النظام ومعارضته. وأدركُ من أعماقِ الصميم أنّ مناهِضاً جيداً للرأسماليةِ يُحاكَم ويحاكِم في شخصي. والمحاكمةُ بطبيعةِ الحال تتجاوز الحقوقَ أضعافاً مضاعفة. فقد أُبِيدَ عددٌ لا حصرَ له من ثقافاتِ الشعوب في طواحينِ الصهرِ للهيمنة الرأسمالية على مرِّ أربعةِ قرونٍ بحالها. وكأنّ المكانَ الذي نشأتُ وترعرعتُ فيه هو مقبرةُ الثقافاتِ القديمة، فأينما تَحفر ستنبثق ثقافةٌ منه. وكأنّ الكردَ – الذين ينبغي أن أُعتَبَرَ منتمياً إليهم، والذين لم يتمكنوا من جعل أنفسهم مصطلحاً بعد – شهودٌ قابعون في صمتِ قبورِ هذه الثقافات جميعها. وكمْ مؤلمٌ حقاً أنْ تكونَ حتى مقابرُ وأطلالُ الثقافاتِ الخالقة لكلِّ البداياتِ التاريخية تقريباً وجهاً لوجهٍ أمامَ الفناء والزوال. من هنا، فكأنّ الوحشيةَ البارزةَ في العراق اليوم انتقامٌ لتلك الثقافات بمعنى من معانيه.
يجب الدفاع عن ثقافةِ الشرق الأوسط تجاه الرأسمالية. ولا شك في استحالةِ نجاحِ هذه الوظيفة، دون تخطي استشراقيةِ الغرب والتغلب عليها. أما الإسلامويةُ المحدثة، فهي، من قمةِ رأسها حتى أخمصِ قدميها، مشتقة من الاستشراق الأجوف. ولدى تخطي التفسيرات والشروح اليمينية واليسارية للاستشراق والإسلاموية، يخطر على البال سؤال: وماذا تَبَقَّى لدينا؟ وانطلاقاً من هذه النقطة بالذات يتوجب علي تقديمُ وطرحُ مرافعتي الأصلية، وإلا، ففي حالِ العكس، لن أقدرَ أنا أيضاً على النجاةِ من التحولِ إلى ناطقٍ باسمِ النظام، الذي غدا تَفَرُّثاً وقَيئاً نَتِنَاً منذ أَمَدٍ بعيد. وحينها لن يَكونَ ثمة مرافعة، بقدر ما سيكون تكراراً ببغائياً.
لقد كان موطنُ انتصارِ الرأسمالية على التخومِ الساحلية لشمالِ غربي أوروبا، وجزيرةِ إنكلترا. ولا تزال تستمرُّ الرأسمالية في مسيرةِ النصرِ منذ أربعةِ قرون على مستوى النظام العالمي. أما الأماكن التي تَتَعَثَّرُ وتَكْبُو فيها، فهي مراكزُ الثقافاتِ القديمة في الشرق الأوسط. وبالأصل، فالرأسماليةُ هي الولدُ الأخيرُ العاق والناكرُ لمعروفِ هذه الثقافات وفضلها عليه. والصراعُ فيما بينهما أعمقُ بكثير مما يُعتَقَد. وما يحصل الآن هو حربُ الأغرارِ الهُواة الذين أَشْبَهُ ما يكونون نسخةً من الإسكندر وداريوس الثالث. فبقدر ما يكون جورج بوش إسكندراً، فإن أحمدي نجاد هو داريوس. والتناقضُ الجدلي غائرٌ في الأعماق، ويَجري تحت غطاءِ الشكليات الكثيرة. حيث لم يَعُدْ التناقضُ والصراعُ مقتصراً على ما بين الثُّلَلِ والزُّمَرِ المهيمنة، بل قد بدأت معارضةُ المجتمعِ للسلطة أيضاً، وعلى نطاقٍ شامل.
ما يأتي على الذكر في شخصيتي، أو ما أسعى لذكره عن طريقها، هو الأشكالُ الشاملةُ لمعارضةِ السلطة. وما تسريبُ الرأسماليةِ للربحِ سوى واحدٌ من تلك الأشكال. ومعارضته لوحده لا تكفي ليكون المرءُ اشتراكياً. بل، وبطبيعةِ الحال، من غيرِ الممكن أن يكونَ ذلك لوحده واعداً بالنجاحِ المظفر. فإنْ لم تُجْرَ أو تُسَيَّر المقاوماتُ وصياغاتُ الحياة الحرةِ بشكلٍ متداخلٍ متشابكٍ ومتناغم كأسلوبِ الأوركسترا الموحَّد، فلن تذهبَ حينها أبعدَ من واقعِ إما "اللعنةُ على آكاد "، أو "مرثياتُ نيبور ".
ما عشتُه ينعتُه أصدقائي ورفاقي بالمأساةِ الثقيلة الوطأة. لكن، ليكونوا واثقين من أنه لولا هذه المأساة، لما كنا سنتعرف على الحياة الحرة أبداً. فكيف سننظر في عيونِ بعضنا، في الحين الذي لا يساوي فيه كلُّ شيءٍ قرشاً واحداً! وعن أيِّ كرامةٍ في الحياة كنا سنتحدث، وأنا في وضعِ الولدِ الذي لم يذرف دمعةً واحدةً على موتِ أبيه؟ لا تفهموني خطأً. ففي عامِ وفاته كنت قد بدأتُ بأولِ مسيرةٍ لي في كردستان على سفوحِ جبالِ آغري وكلي إيمانٌ بالهويةِ الحرة. وقد سمعتُ أنّ أهالي سرهد الكرد لا يزالون يستذكرون كلَّ خطوةٍ لي بقدسية. لكن واقعَنا لا يفتأ قابعاً في مكانه بكلِّ وطأته. إنها خمس وثلاثون سنةً بأكملها، وذاك الخروج – الذي يمكنني تسميته بسباقِ الماراتون أكثر من أنْ يكون مسيرةَ الحرية – لا يزال يُعَبِّرُ عن ذاته في هذه الأسطر القليلة. فكيف سينتهي هذا السباق الذي هو أَشبَهُ ما يكون بملحمةٍ أسطوريةٍ في كلِّ نَفَسٍ وكل مكانٍ وكل شخصية فيه؟
وحتى لو كنتُ أحرزتُ النصر وراء الآخر بجيشي الإسكندراني، لما كان لتلك الانتصاراتِ أنْ تكونَ انتصاراتِ الحرية إطلاقاً. وبطبيعةِ الحال، فالانتصاراتُ العسكريةُ تجلب العبوديةَ، لا الحرية. ولا قيمةَ لها إلا في حالةِ الدفاع عن الذات والأصدقاء والرفاق. وبالعكس، فإني أرى الدفاعَ عن ذاتي تجاه نصرِ السلطة أمراً ضرورياً بقدرِ ضرورةِ الدفاع عنها تجاه السلطة ذاتها بأقل تقدير. وحتى لو حصل ذاك الانتصار، لكنتُ سوف أَعتَبِرُ الدفاع عن الذات تجاه انتصاراتِ جيوشي أكبر جهاد وأعظمه.
إنّ الحياة تزحف واطئةً على الأرض في حقيقةِ واقعنا، حيث فقدَت معانيها كلياً. نحن في أجواءٍ تعجُّ بالكذبِ والرياء، خداعِ الذات، القبحِ المتسرب إلى كلِّ مكان، والألسنةِ التي لا تستطيع النعيبَ حتى بقدر البُوم. وإذا كنتُ لا أزال أحتمل منذ تسعةِ أعوامٍ في هذه الحجرةِ الانفرادية، فهذا على صلةٍ – لِحَدٍّ ما – بِكَونِ العالَمِ الخارجي أسوأ حالاً منها بكثير.
وبينما أُقَدِّمُ مرافعتي كنهرٍ رئيسيٍّ تجاه مرحلة المدنية بشكلٍ عام، فهي ستكون أكثرَ عمقاً تجاه الهيمنةِ الرأسمالية. فَبِقَدر وجودِ الإشاراتِ الجمةِ الدالة على اقترابِ النظامِ القائم من نهايته، فالشخصياتُ الحكيمةُ حقاً تُجمِع على هذه القناعة أيضاً. والمعضلةُ تكمن في ماهيةِ الانطلاقاتِ السليمة الحرة والديمقراطية والعادلة المنادية بالمساواة، والتي ستُحَقِّقُ مجتمعيتَها للنفاذ من هذه الفوضى.
إذا كان النظامُ الرأسمالي بنفسه يحاولُ الخلاصَ من نفسه، فإنّ هذا الأمرَ كافٍ للإشارة لمدى الحساسية الواجبِ تَوَخِّيها في إنشاءِ المجتمعية. وإذا كانت اشتراكياتُنا المعَمِّرةُ قرنَين من الزمن قد انصهرَت في بوتقةِ الرأسمال، فبطبيعةِ الحال، واستذكاراً لهؤلاء المقاتلين المحاربين في سبيل تلك المُثُلِ والأهداف الإنسانية العظيمة؛ من المحال أنْ نَكُونَ من طائفةِ الملعونين الذين يَجلبون عاقبةً وخيمةً مشابهة. بل وأكثر من ذلك، لا يمكننا اعتبارَ سقراط وبوذا وزرادشت قد صَمَتوا وقالوا كلمتَهم الفصل. فإذا لم نُحييهم وكأنّ أفكارَهم حديثةُ العهد أو قِيلَت لنا يومَ أمس، فهذا يعني أننا لم نفهمْ شيئاً البتة من فلسفةِ الحرية. بل وعن أيِّ حياةٍ سنتحدث، إنْ لم نُلَبِّ متطلباتِ البشرية المتأوهة، ولم نقفْ في وجهِ دمارِ الطبيعة واستغلالها، ولم نعطِ الجوابَ تجاه العشقِ المعرَّض للخيانة؟
أما بشأنِ علميةِ مرافعتي، فأول ما سأقوله هو التساؤل: أيُّ علمية؟
فإذا كان العلمُ يعني أساساً "معرفةَ الذات"، فالمدرسةُ الوضعية – التي طالما استساغَها وقَبِلَها النظامُ الرسمي أيديولوجيةً له – تلعبُ دوراً مُبعِداً عن هذه الحقيقة الواقعة. بل إنّ الأطوارَ الدينية والميتافيزيقيةَ التي طالما انتقدَتها المدرسةُ الوضعيةُ بشدةٍ ربما كانت أقربَ منها إلى العلم، وفي مقدمتها – بالطبع – العلومُ الإنسانية. علماً أنه إذا ما تَمَحَّصنا أغوارَ الضوابطِ والقواعد المسماة بالعلومِ الطبيعية، فيمكننا اعتبارها من بين تصنيفاتِ العلوم الإنسانية في التحليلِ الأخير لها. ولربما كانت المدرسةُ الوضعية بذاتها الدينَ والميتافيزيقيا الأكثرَ سطحيةً وسُقماً. إذ، لم تتحرر الإنسانيةُ من ضوابطها بهذه الوحشية والهمجية، مثلما لم يتم إخضاعها وتضييق الخناق عليها بهذا القدر في أيةِ مرحلةٍ من مراحلِ التاريخ. كما لم يَسْرِ نفوذُ السلطة على الطبيعة والمجتمع بهذه الدرجة، إلا في الدينِ والميتافيزيقيا الوضعيَّين.
إنْ لم تَحصلْ معرفةُ الذات، فأيةُ محاولاتٍ أو جهودٍ علميةٍ مبذولةٍ لن تنجوَ من الانتهاءِ بالأديان والفلسفات الدوغمائية الأفدحِ خطراً. لا أقصد بمعرفةِ الذات الأفكارَ الإنسانيةَ المركز، بل أودُّ التبيانَ أنه لا يمكننا فهمَ واستيعابَ الكون والفوضى إلا بالاستبطانِ الداخلي وبحدسياتنا التي لا تَدحَضُ التجاربَ العميقة. وسأُظهِر في مكانِه المناسبِ كيف يَكُونُ العلمُ المعتمدُ على التمييزِ والفصل بين الذات والموضوع أساساً لشرعنةِ العبودية. وسأُبَرهِنُ كيف تَصُبُّ الذاتانيةُ والمغالاةُ في شأنِ الذات أو استصغارها في نفسِ المصب. وسأسردُ على نفسِ المنوال كيف تنحازُ الموضوعيةُ العلميةُ إلى أرذل وأشنع أشكال الرأسماليةِ والهيمنة. ذلك أنّ فلسفتي تَعي الحياةَ وتدركها ككلٍّ متكامل، بدءاً من الشعور والإحساس بمعاني نظرةٍ من عينِ حصان، وصولاً إلى تحليلِ المعاني في تغريدةِ عصفور. وهي فلسفةٌ مفعمةٌ بالمعاني الثمينة، بدءاً من التقديرِ والاحترام الكبير تجاه حكيمٍ عجوز، وصولاً إلى الردِّ على الطموحات المخفيةِ في عَينَي فتاةٍ يافعةٍ جافلةٍ مرتعدةٍ كغزالٍ خائف. بل إنها – وبطبيعةِ الحال – تعملُ أساساً بالعلمِ الذي يسعى لتحليلِ دوافع الجهلِ الفظيع في إنجابِ الأطفال حصيلةَ مفهومِ الجنسوية الأخطر من الإبادة الجماعية، وأسبابِهِ الكامنة في الإنسان والنُّظُمِ السلطوية المهيمنة، وتحليلِ كافةِ حلقاتِ التطور الطبيعي للحياة في ذاتها.
لم تُطَوِّر الرأسماليةُ العلمَ، بل استثمرَته. ولا يقتصر ذلك على تَمَخُّضِها عن أشنع الأوضاعِ أخلاقياً، بل يُعَمِّمُ ظواهرَ هيروشيما ، ويَقضي على الحياةِ القَيِّمة. فهل الحياةُ الإعلاميةُ والتشابهُ والتقليدُ انتصارٌ للعلم؟ أم أنها انتهاءُ المعاني في الحياة؟ لا أتحدثُ هنا عن التكنولوجيا والاكتشافاتِ والاختراعات العلمية، بل أسعى لتبيانِ عدمِ كونِ المدرسةِ الوضعية علماً، باعتبارها دينٌ علموي.
من هنا، وبدون الخلاصِ من هيمنةِ وسيادةِ العلمية الوضعية، لا يمكن النجاةَ من نفوذِ وتسلطِ أيةِ سلطة، وفي مقدمتها الدولة القومية. فالمدرسةُ الوضعية هي الدينُ الوثني الحقيقي لعصرنا.
خلاصةً، لطالما نخَرَ مرضُ التشكيكِ والريبية الديكارتية ذهني، فوقعتُ في وضعٍ لا أعترفُ فيه بأيةِ قيمةٍ أؤمن أو أرتبطُ بها. كان هذا نابعاً من التهشمِ والانهيار المأساوي للثقافة القديمةِ لديَّ، بقدرِ الخوفِ من استحالةِ الوصول إلى الحداثةِ الرأسمالية المتنامية مثل لوياثانٍ عملاقٍ أمامي. وبالكاد كنتُ أثق بنفسي. أو بالأحرى، كنت أسعى جاهداً للصمود واقفاً على قدمَيَّ. لا شك في أنه وضعٌ غريبُ الأطوار، فالمجتمعاتُ في مثل هذه الحالات تَعرِفُ كيف تَجِدُ سبيلاً لربطِ وتقييدِ عقولِ وأفئدةِ أعضائها بها. الأمرُ الآخر الغريبُ أني لم أَكُنْ أُصَدِّق أنّ لي مجتمعاً، حيث أَضَعتُ إيماني بالعائلةِ والقرية في هذه الظروف. أما تحصيلي الدراسيُّ حتى المرحلةِ الجامعية، وثوريتي، وقَبلَها تشبثي بالدين، كلها لم تَكُ سوى مظاهر بمثابةِ رؤيةِ الأصدقاءِ لي وأنا أتعامل معهم. كما لم أكن نهليستياً متشدداً. لم أكن أَعِي أيَّ شيءٍ من الصميم لأُلَبِّيَ واجباتِه ومتطلباتِه من الجذور. والمثير في كلِّ ذلك أنّ الوسطَ المحيط بي، وفي المقدمة أساتذتي، كانوا يرونني ذكياً وصاحبَ إيمانٍ قوي. كنتُ واثقاً من أني أَشْبَهُ ما أَكُونُ بِنِصفِ مجنون، بل وليس النصف حتى. ولكني عندما ألقي نظرةً خاطفةً اليوم إلى الوراء، أدرك أنّ تلك المرحلةَ الطويلة لم تكن عديمةَ النفع أو بلا جدوى. بل وتحتضن بين طياتها معانيَ من قَبِيل الانقطاعِ والارتباط، وفتحِ صفحةٍ بيضاء في الهرعِ نحو الحقيقة، وتطهيرِ الأرضية من الشوائب.
لقد ساعدَتني شخصيتي بمزاياها هذه على التعرف بنحوٍ أفضل على الأزمة البنيويةِ للنظام المهيمن، وكنتُ قد اكتسبتُ كفاءةَ تفسيرِ التاريخ أيضاً، وسَلَّحَتني بالعزمِ على إضفاءِ المعاني على الأوساطِ التي تسودها الفوضى العارمة، وإيجادِ مخرجٍ للنفاذ منها، بدلاً من الخوفِ والارتباك إزاءها. أما الانتباهُ إلى أنّ العقائدَ الدوغمائيةَ الوثوقية، التطورَ على خطٍّ مستقيم، الجزمَ العلمي القطعي بالأمور، والقوننةَ الصارمةَ تنبع من الذهنيةِ السائدة عينها؛ فقد جَلَبَ معه أقصى درجاتِ الارتياح والانشراحِ لدي. في حين أنّ إدراكي الحسي بسهولة للأبعادِ التي اكتسَبَها نمط عملِ الطبيعة في الإنسان، قد فسح المجال لانفجارٍ علميٍّ لديَّ بكل معنى الكلمة. وكلما تغلبتُ على الاغتراب عن ذاتي، والمتسترِ وراءَ الخوفِ والشكوك، كانت قوةُ الإدراك القصوى، وكفاءةُ التفسير السليم تُزَوِّدانني بالجرأة والوعي اللازمَين لأجل كل شرطٍ إنساني.
لقد كنتُ قادراً بآفاقي تلك على تقييمِ الرأسماليةِ كنظامِ أزمةٍ جدية، حتى دون الشعور بالحاجةِ للبحوث العميقة بشأنها، أو دون إسنادها إلى فتراتِ الأجواءِ السياسية. من هنا، دعك من أنْ تَكُونَ المرحلةُ الرأسمالية من المدنيةِ المعتمدة على ركائزِ المدينة والطبقة والدولة آخرَ مراحلِ العقل البشري، بل كانت تعني بالنسبة لي فناءَ العقلِ التقليدي المرتكزة إليه، وبروزَ عقلِ الحرية بكل أبهته وغناه الوافر. ومن هذه الزاوية، بالمقدورِ تقييم الحداثةِ الرأسمالية على أنها عصرُ الأمل.