العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (13)


عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 17 - 21:33     

د- إنَّ التساؤلَ عن كَونِ المسيحيةِ والإسلامِ حضارةً مدينية أم قِيمةً (أخلاقيةً) موضوعُ جدال. فتسليطُ الضوءِ على هذه القضية، التي لا تزال تُحافظُ على أهميتِها القصوى، ليس بالأمرِ الهَيِّن كما يُعتَقَد. فاللاهوتيون والمؤمنون المسيحيون والمسلمون هم بالذات من يعاني بالأكثر من تَشَوُّشِ الفكر. حيث يَتَصَدَّرُ قائمةَ الأمورِ التي يَسُودُ العجزُ في تنويرها موضوعُ أين وإلى متى يَكُونون حقاً نظاماً من الإيمانِ والعقيدةِ والأخلاق، وماهيةُ علاقاتِهم مع كلٍّ من المجتمعِ المديني والمجتمعِ المطرودِ المنبوذ، وأيُّ حضارةٍ يُعارِضونها، وبأيِّ معنى يُشَكِّلون تلك المعارَضة.
هذان النظامان العقائديان والأخلاقيان الهامان (تفسيري الخاص) المتشكلان في ظروفِ الإمبراطوريتَين الساسانية والإغريقيةِ – الرومانية، يُعَدَّان حملةً ثقافيةً أيديولوجيةً عظمى تجاهَ الثقافةِ الماديةِ المتضخمة للنظامِ العبودي، وتجاه قِيَمِهِ الأيديولوجيةِ المصابةِ بالرعونةِ والتفسخ البليغ. فلو كانا يَعنِيان إنشاءَ مجتمعٍ مدينيٍّ جديد، لاتَّخَذا من التكويناتِ المدينيةِ والطبقية أساساً، مثلما يُلاحَظ في جميعِ الإنشاءات الكلاسيكية. أجل، لقد كانا يَهدفان إلى المدنِ والطبقات، ولكنهما فَعلا ذلك بمقصدِ إيصالِها إلى قِيَمِهم العقائديةِ والأخلاقية، لا لكي يَكُونا كذاك المجتمعِ المديني بذاتِه. فالجوانبُ الطافحةُ فيهما لم تَتَمَثَّلْ في السعي إلى السلطة، أي في إحكامِ القبضةِ على الثقافةِ المادية، بل – وعلى النقيض – تَطَلَّعا إلى بسطِ نفوذِ ثقافةٍ أيديولوجيةٍ جديدةٍ تَصُونُ البشريةَ وتحافظُ عليها تجاه كياناتِ الثقافةِ المادية المتعاظمة، والمفتقدةِ معانيها، والمتخبطةِ في الحدود القصوى من الاختلال.
بالتالي، فإنّ نَعتَ عصرَي المسيحية والإسلامِ بالنظامَين المدنيَّين إنما يَتَّسِمُ بالنقصان، ويُفضي إلى إدراكاتٍ خاطئة.
من الواجبِ التشديد بعنايةٍ فائقة على كَونِ سقوطِ روما ليس بسقوطِ مدنيةٍ بسيطةٍ أو عادية أيَّما كانت، حيث تَهاوَت – أو بالأصحِّ أُسقِطَت – من خلالِها تقاليدُ المجتمعِ المديني المُعمِّرِ ما لا يَقلُّ عن أربعةِ آلافِ عام. ولِكَوننا لسنا معنيين في موضوعِنا بالإسهابِ في شرحِ الدوافعِ الداخلية والخارجية للسقوط، فسنكتفي بإيجازها. وما نسعى إليه أصلاً هو صِلاتُ ومكانةُ قِيَمِ المجتمعِ المديني مع ذاك السقوطِ عموماً، ومكانتُها فيه. يَسَعنا القول – وبكلِّ راحة – أنّ روما تُمَثِّلُ جميعَ الحضاراتِ المدينية الأولى والكلاسيكية، فيما خلا الصين (وقد كانت بَلَغَتها أيضاً بِدءاً من أعوام 100 ق.م). ولم يَقتَصِر ذلك على مؤسساتِها العبوديةِ فحسب، بل تَعَدَّاه ليشملَ جميعَ ثقافاتِها الماديةِ والمعنوية. هذا وعليَّ التشديد على موضوعٍ هام، ألا وهو أنّ تحليلَ المجتمعاتِ وفق الأوضاعِ الوقائعيةِ من قمعٍ واستغلالٍ واستعمارٍ يومي، هو مِن أهمِّ أسبابِ العجزِ عن تناولِ الحقيقةِ على نطاقٍ واسع. وأفدحُ تحريفاتِ المدرسةِ الوضعيةِ يَكمُنُ في هذا المضمار. ويَبدو أنّ أخطرَ جوانبِ الفكرِ الأوروبي متعلقٌ بهذه الانطلاقةِ الوضعية. لذا، ومِن دون تناولِ المجتمعاتِ ضمن سياقِ العمقِ الثقافيِّ المادي والأيديولوجي، وبجميعِ تناقضاتِها وصراعاتها، وبكافةِ توازناتِها وتنافراتِها؛ فمن المحالِ القيام بتفسيرٍ قَيِّم، وبالتالي، من العسيرِ إنشاءُ براديغمائياتٍ تتطلعُ إلى حياةٍ أكثر حرية.
ووفقَ هذا المنظورِ الاصطلاحي نجد أنّ ما تَرافَقَ مع سقوطِ روما هو سقوطُ ثقافتِها الماديةِ المهيمنةِ والبالغةِ أبعاداً قصوى، إلى جانبِ سقوطِ الثقافةِ الأيديولوجية بِرِمَّتِها، والتي لَم تَعُدْ لها أيةُ أواصر مع الحياةِ الثمينة. وبالأصل، تُمَثِّلُ مدينةُ روما من حيث إنشائها المعماريِّ ذروةَ التقاليدِ المعماريةِ السابقة لها على مَرِّ أربعةِ آلافِ عام، وعلى رأسِها التقاليدُ المصرية. وعلى نفسِ المنوال يُعَدُّ مجمعُ آلهةِ روما آخرَ وأبهى حالاتِ الطابقِ العلوي لزقوراتِ الرهبان السومريين ودواخلِها، والمُنشأَةِ قبل أربعةِ آلافِ عام. وتحديدُ هذه النقاطِ ليس بالأمرِ العصيب، على الأقل بالنسبة إلي. ومن هذه الزاوية نجد أنّ المتهاويَ هو الثقافاتُ الماديةُ والمعنويةُ المُعَمِّرَةُ ما لا يَقُلُّ عن آربعةِ آلاف عام. هذا وبمقدورنا بلوغُ تحليلٍ مشابهٍ إذا ما تَمَعَّنَّنا في انهياراتِها وتَمَحَّصْنا هوياتِ المُسقِطين لها. كما أنّ الهجماتِ الناشبةَ تُكَوِّنُ كُلاً متكاملاً، بِدءاً من أُولى الهجماتِ والمقاوماتِ العموريةِ والهورية، وصولاً إلى آخرِ الهجمات والمقاوماتِ القوطية، والتي لا يَقُلُّ عمرُها عن أربعةِ آلاف عام. كما أنّ المقاوماتِ الداخليةَ التي استَهَلَّها النبيُّ نوح إلى أنْ وَصَلَت النبيَّ محمد لها تاريخٌ طويلٌ ومتعاقبٌ كحلقاتِ السلسلةِ المتواصلة. هذا ولا تَتَّسِمُ فقط بطولِ تاريخِها وآمادِها، بل وتنفردُ بمكانةٍ مفعمةٍ بالمعاني النبيلة. فَكَونُها مشتملةٌ على الأراضي الممتدةِ من الصحراءِ العربيةِ الكبرى إلى حوافِّ سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس، ومن باديةِ آسيا الوسطى إلى أعماقِ الغاباتِ الأوروبية؛ إنما تَرَكَ بصماتِه الواضحةَ على التكويناتِ الثقافيةِ الماديةِ والمعنويةِ بالنسبةِ إلى القبائلِ النازحةِ والمهاجرة. فقصةُ كلِّ نبيٍّ لِوَحدِه تَضَعُ البَنانَ على الأثمانِ الباهظةِ التي كَلَّفَته في تأسيسِ جماعتِه وأتباعِه الملتفين حولَه في خضمِّ العراقيلِ والمصاعب. بَيْدَ أنّ علمَ الاجتماعِ الأوروبيَّ المركزِ لا يَوَدُّ حتى وضعَ هذه المواضيعِ حيزَ النقاش والمداولة. ولذلك، لن نكونَ على خطأٍ كثيراً إذا ما أسميناه بالبنيةِ المعرفيةِ الأوروبيةِ المركز. لن يكونَ بمقدورنا تعريف روما على نحوٍ سليم، ما لم نطرح تفسيراً قَيِّماً لتاريخِ الحضارة المدينية. وكذا، لن يَسَعَنا تعريفُ مصادرِ الثقافةِ المادية والأيديولوجية الأوروبية، ما لم نَقُمْ بإنشاءِ تاريخٍ حقيقي لروما.
يَعتَبِر التاريخُ القرنَين السابقَين لسقوطِ روما أيضاً بأنها سنواتُ الظلامِ والبلبلةِ الإشكالية. بالتالي، فحوادثُ السقوطِ ليست من شئونِ الأزمنةِ الوقائعية السنوية.
بالإمكان طرح الشروحِ عينِها بصددِ الإمبراطوريةِ الساسانية، توأمِ أو شبيهِ روما في الشرق. كما إنها القصةُ الشرقيةُ لدولةِ الرهبان السومريين. فالعنصرُ الزرادشتي لوحدِه في بنيتِها قد أبقى على طبائعِها الأخلاقيةِ وطيدةً منيعة، ولو بنطاقٍ محدود. لكن، وكيفما عَجِزَ بوذا عن إعاقةِ إنشاءِ المجتمعِ المديني الذي تَغلُبُ عليه الثقافةُ الماديةُ ذاتُ المعاني الدخيلةِ بامتياز لدى الراجائيين، ومثلما لَم يستطِع سقراط التَّغَلُّبَ على الفسادِ المستفحل في الدعائمِ الأخلاقيةِ لثقافةِ أثينا؛ فكذا لَم يَقدِر زرادشتُ أيضاً على صدِّ تَكابُرِ وأُبَّهَةِ الثقافاتِ المادية البرسيةِ والساسانية. يُصَرِّحُ التاريخُ بتطابقِ المراحلِ الأخيرةِ للإمبراطوريةِ الساسانية الإيرانية مع حالِ روما. فالهجماتُ الطورانيةُ من الشمالِ الشرقي، وتمازُجُ العقائدِ والمذاهبِ في الداخلِ كادَ يَضَعُ الحَدَّ الفاصلَ لها. وبالقضاءِ على الحركةِ المانوية (أعوام 250 م)، التي تُعَدُّ انطلاقةً ثقافيةً أيديولوجيةً راسخة، حُرِمَت من لُقاحِ الفتوةِ اليافعةِ اللازمِ لها. ولو لَم تَندَلِع بضعةُ غزواتٍ جهاديةٍ إسلاميةٍ حينذاك، لَكانَ الرهبانُ النسطوريون على وشكِ إتمامِ فَتحِهِم وغزوِهم الثقافيِّ الأيديولوجيِّ لإيران وعاصمتِها، تماماً مثلما فَعَلَ الرهبانُ الكاثوليكُ في الغرب (الذين غَدَوا أباطرةً باسمِ الثقافةِ المعنوية، طبقاً لما كانت عليه حالُ أباطرةِ الثقافةِ الماديةِ في زمنٍ ما). ولكن الفتحَ الإسلامي حالَ دون ذلك.
وبعدَما قُمنا بتعريفِ معاني سقوطِ الحضارتَين العبوديتَين العظيمتَين على هذا النحو، لنأتِ على بحثِ وتعريفِ ظروفِ انطلاقةِ المسيحيةِ والإسلام، تلك الحركتَين الشهيرتَين اللتَين تُعَرِّفان نفسَيهِما على أنهما البديلُ الأيديولوجي.
لقد أَبرَزَت روما وسَطاً فسيحاً من الشرائحِ الهامشيةِ المُنحَلَّةِ أثناءَ بنائِها لمجتمعِها الرسمي. لَم تَكُن تلك الشرائحُ من مجموعاتِ هجراتِ الأقوامِ التقليدية، ولَم تَكُن تَحمِلُ في مضمونِها مزايا أثنيةً أيَّما كانت. بل كانت مجموعاتٍ جديدةً هشةً، دنيئةً، واطئةً، و"بروليتاريةً" على حَدِّ تعبيرِ الرومان. لذا، لا تَدخُلُ في عِدادِ المجموعاتِ الأيديولوجية، لأنها تَهِيم وتَسبَحُ في بَحرٍ من الفراغِ الكامل. لقد كانت نوعاً مِن العاطلين عن العمل في العبودية، بحيث تُشَكِّل الأرضيةَ لأيةِ أيديولوجيةٍ تمد يدَها إليهم، أياً كانت. وقد كان الوسطُ يغلي ويَعُجُّ بأمثالِ هؤلاءِ في عهدِ روما الإمبراطوري، والذين كَوَّنوا طبقةً اجتماعيةً للمرةِ الأولى في التاريخ. وشيئاً فشيئاً كانت تَتَشَكَّلُ الطرائقُ العقائديةُ المعتمدةُ عليهم، تماماً مثلما حالُ الأسَنِيين إِبَّان ظهورِ عيسى.
لا يَبرَحُ الجدالُ دائراً فيما يَتَعَلَّقُ بالتساؤل: هل عيسى إنسانٌ حقيقيٌّ أم أنه رمزٌ فَرَضَه الوسط. لكنّ هذا الأمرَ لا أهميةَ له بالنسبةِ لموضوعِنا. وقد شَهِدَت روما نقلةً إلى الذروة متمثلةً في شخصيةِ أغسطس، أولِ أباطرتها، بالتزامنِ مع أعوامِ ولادةِ عيسى، سواءً كانت تلك الولادةُ نظريةً أم ملموسة. وحصيلةَ المقاوماتِ السابقةِ لها، فُتِحَت أبوابُ المَلَكِيةِ اليهوديةِ الصغيرة، فكانَت أَشبَهُ بفتحِ شرقي البحرِ الأبيض المتوسط. وكان الوالي العامُّ يَتَدَبَّرُ شؤونَ إدارتِها، بينما الطبقاتُ العليا متمرسةٌ في نزوعِها إلى التواطؤ. ونظراً لِكَونِ التواطؤِ اليهوديِّ اكتَسَبَ تجاربَ وخبرة مُدَّخَرَةً منذ أيامِ النماردةِ والفراعنة، فكان لن يَلقى صعوباتٍ مذكورةً في ظاهرةِ التواطؤِ مع الرومان أيضاً. ومقابلَ ذلك، فقد تَواجَدَ لديهم على الدوامِ نزوعٌ راسخٌ إلى الحريةِ منذ أيامِ إبراهيم وموسى. وكان عيسى استمراراً لهذه التقاليد. لقد كانوا يُصَوِّرون القدسَ دائماً على أنها حسناءٌ متأهبةٌ للتتويج. ونَستَشِفُّ من شروحِهم أنّ عيسى كان تَقَدَّمَ لِطَلَبِ تلك الحسناء، بالمعنى الأيديولوجيِّ بالطبع. وبالمقدورِ تفسيرُ حركتِه الأخيرةِ وانتهاؤها بالصلبِ على أنها نابعةٌ من مَرامٍ كهذا. ففي مُستَهَلِّ حِراكِه لَم يَكُن ثمة أيةُ حركةٍ تنظيميةٍ ملتئمةِ الشملِ متماسكة، ولا دليلُ عملٍ أيديولوجيٍّ ملموس. بل كان يَتبَعُه حفنةٌ قليلةٌ ممن يُشبِهونه في الحال، تَربطُهم روابطُ متراخيةٌ لأبعدِ الحدود. وهم ذاتُهم الرُّوَّادُ الأوائلُ المُسَمَّون بالحواريين، الذين يَعُزُّ على المرءِ القولُ باحتلالِهم مكانةً ملحوظة، سواءً في الهرمياتِ أو الأثنياتِ أو الرسميات. أما الصلبُ، فكانَ نظامَ عقابٍ شائعٍ في المنطقة. وهو إيجادٌ رومانيٌّ مُهَوِّلٌ ومُفزِع، تماماً كالفريسةِ المتروكةِ للأسدِ يُمَزِّقُها إرباً إرباً. والكلُّ يَعلَمُ أنّ تلك المجموعةَ تَشرعُ بالهروبِ على الفور إلى دواخلِ سوريا وأطرافِها خوفاً من ذاك العقاب. وإبراهيمُ أيضاً كان قد تَحَرَّكَ في الاتجاهِ المعاكس، صوبَ المنطقةِ التي شَهِدَت بناءَ القدسِ فيما بعد، خوفاً من ظلمِ نمرود. من الطبيعي بمكان حصولُ العديدِ من وقائعِ الصعودِ والهبوطِ في هذه الأزمان. ولكنّ مشروعَ الإنجيلِ الأولِ لم يَكُن له أنْ يَتَكَّوَنَ إلا بعدَ قرنٍ من الزمن. وعلى سبيلِ المثال، فإنجيلُ ماركيون Marcion المفقودُ في هذه الأيام هو أولُ مشروعٍ للإنجيل.
ويَظهَرُ أوائلُ "القديسين" في القرنَين الثاني والثالث بالحذوِ على خُطى إمبراطوريةِ روما، لِيَكُونَ القرنُ الرابعُ قرنَ المسيحيةِ على وجهِ الكمال. وما أنْ أعلَنَ الإمبراطورُ قسطنطين المسيحيةَ ديناً رسمياً حتى شَهِدَت الأوساطُ انفجاراً كالبركانِ في تعاظُمِ وجودِ "القديسين" وتضاعُفِ تعدادِ المجموعاتِ المؤمنة. ويَبرُزُ أولُ تمايزٍ مذهبيٍّ وقتذاك، ويَدورُ الجدلُ حولَ المسيحيةِ الرسمية (مسيحيةِ الدولة). وكما هو معلوم، تَسُودُ "عقيدةُ الثالوث" في المسيحية، والتي يُمكِنُ تفسيرها على أنها تصويرٌ للأبِ والأمِّ والابنِ الرَّبّ. ولَئِنْ كانَ موضوعُنا غيرَ معنيٍّ بالنقاشِ اللاهوتي، إلا أنه من المعلومِ ارتكازُ دعائمِ هذه العقيدةِ إلى الماضي السحيق. وكان السومريون َأول مجتمعٍ حَمَلَ هذه العقيدةَ إلى الزقورات. حيث كانت الأمُّ الإلهةُ "إينانا، والأبُ الرَّبُّ "أن" والابنُ الرَّبُّ "أنكي" أولَ ثالوثٍ مذكورٍ في مجمعِ الآلهة. بالتالي، من العسيرِ غَضُّ النظرِ عن المقولةِ الشائعةِ القائلةِ بِتَأثُّرِ المسيحيةِ من الوثنية (Paganizm). لكنّ الأغربَ في الأمر انحدارُ عيسى ذاتُه من التقاليدِ العبرانية، أو اعتبارُه كذلك. حيث تتناقضُ التقاليدُ الإبراهيميةُ مع الوثنيةِ بِحِدَّة، في حين نَجِدُ في التيارِ الدينيِّ المقاوِم باسمِ عيسى وكأن التقليدَين في وفاق. والتفسيرُ الأصحُّ هو هذا، حسب رأيي.
هذا الموضوعُ المُشَوِّشُ للعقولِ قد مَهَّدَ الطريقَ فيما بعد للمداولاتِ المذهبيةِ الحادة، والانشقاقاتِ الكبرى، والصراعاتِ الضارية. ويَتَخَفّى وراءَ تلك الصراعاتِ موضوعُ اعتبارِ عيسى ذا طبيعةٍ إلهيَّةٍ أم بشرية. ولدى تفسيرِ هذا التمييز، نلاحظ أنّ القائلين بكونِه من الجوهرِ الإلهي غالبيتُهم من المُلتَفِّين حولَ المسيحية الرسمية. و"قسطنطين" بذاتِه من المُعتَرِفين بهذا التفسير، أي القائلين بِأُلوهيةِ عيسى. والجميعُ على علمٍ بأنّ ألوهيةَ الدولةِ هي الألوهيةُ الرسمية، التي أرسى قواعدَها الرهبانُ السومريون. وانقسامُ الأديان إلى شطرَين اجتماعيَّين يَبدأُ لأولِ مرةٍ مع السومريين. في حين أنّ ألوهيةَ الإنسانِ من بقايا ثقافةِ المجتمع النيوليتي، أو أنها تَحتَضِنُ في ثناياها بقايا هامةً من تلك الثقافة. ولِلوَثَنِيَّةِ أيضاً جوانبُ مشابهة. أما الطرفُ المقابل، أي القائلون بطبيعةِ عيسى البشرية، فهو تفسيرُ المجموعاتِ الأخرى غيرِ المتدولة، أو هو النزوعُ الديني. إنه تماماً كالتمييزِ في الديانةِ الإسلامية فيما بين المذهبِ السُّنِّيِّ (دينِ الدولة) والمذهبِ العلوي (دينِ المجتمعِ خارج الدولة).
تَشهَدُ المسيحيةُ تَحَوُّلَين عظيمَين في القرنِ الرابع: أولهما؛ تَحَوُّلُها إلى دينِ الدولة، وهو في الآنِ نفسِه شكلُها الذي اتَّخَذَته بِكَونِها دِينَ المدنية. وبه أُريدَ النفاذُ من الأزمةِ المعنويةِ الخانقةِ للثقافةِ المادية في روما، أي أزمةِ إضفاءِ الصِّبغةِ الشرعية. والتَّحَوُّلُ الثاني هو تَجَمهُرُها. حيث خَرَجَت من كَونِها عقيدةُ مجموعاتِ القديسين الضيقة، لِتَغدُوَ الدِّينَ الرسميَّ أو غيرَ الرسمي لِسَوَادِ المجموعاتِ الشعبية. والأرمنُ، الآشوريون، الهيلينيون، واللاتينيون هُم أولُ الشعوب المعتنقةِ للمسيحية التي تَخطُرُ على البالِ.
وهكذا يَبدَأُ وُلوجُ "فترةِ" الحقبةِ الذائعةِ الصِّيتِ المُسَمّاةِ بالعصورِ الوسطى. أي: ثمةَ روما الأصليةُ المنهارةُ في طرف، وتَحُلُّ مَحَلَّها روما قسطنطين المعتمدةُ على الشرعيةِ المسيحية، وفي الطرف المقابلِ ثمة التعاظمُ المتسارعُ كالسيلِ الجارف للديانةِ اللمسيحية، باعتبارِها حملةً ثقافيةً أيديولوجيةً عظمى. من هنا، فالمدةُ المُسَمّاةُ بِعَصرِ الظلماتِ تَبسُطُ لنا ضرورةَ هذَين العامِلَين في عقيدةِ "الثالوث" التي تَحتَويها المسيحية: الدينُ الإلهيُّ الرسمي، ودينُ الآلهةِ غيرُ الرسمية. ويَستَمِرُّ الانقسامُ التاريخي في العصورِ الوسطى أيضاً، ولكن، مُتَحَوِّراً ومُتَحِّولاً. وتَمُرُّ الاشتباكاتُ فيما بين القسمَين بدمويةٍ مُهَوِّلة. وهكذا انزَلَقَت الاشتباكاتُ السابقةُ فيما بين الوثنيين لِتَغدُوَ فيما بين عيسى الإلهيِّ وعيسى البشري. وما هي بتفسيرِها الأخيرِ سوى امتدادٌ لتقاليدِ الكفاحِ القديمةِ فيما بين القوى الحضاريةِ والقوى الطبقيةِ والأثنية، ولكنْ، بأقنعةٍ جديدةٍ تتواءمُ والظروفَ المستجدة.
والتفسيرُ الأكثرُ شفافيةً بشأنِ الانقسامِ الحاصلِ في هذه الحملةِ الثقافيةِ الأيديولوجية الجديدةِ ذاتِ الرواسي التاريخيةِ الغائرةِ هو: تَحَضُّرُ شريحةٍ منها، ووفاقُها مع الثقافةِ المادية، وبالتالي تَمَيُّعُها وبَلادتُها؛ وتَهَرُّبُ الشريحةِ الأخرى من ذاك الوفاق، واستمرارُها بِلَهَثٍ ولهفة وراءَ بَسْطِ النفوذِ الثقافيِّ الأيديولوجي.
أما المرحلةُ التي أَعقَبَت سقوطَ روما، والمستمرةُ قُرابةَ ألفِ عام، أي فيما بين سنوات 500 – 1500 م، فتَقييمُها بأنها مرحلةُ مَدٍّ وجَزرٍ في النزاعِ والصراعِ والوفاقِ فيما بين التيارِ الساعي لتأمينِ سيرورةِ تَفَوُّقِ الثقافةِ المادية، وبين التيارِ النابذِ للتَّخَلِّي عن تَفَوُّقِ الثقافةِ الأيديولوجية؛ إنما يَتَمَيَّزُ بالقدرةِ على إعطاءِ الجوابِ الأكثرِ اقتداراً وكفاءةً للواقعِ التاريخي. في حين أنّ تَعابيرَ "عصرِ الظلمات" أو "العصرِ الإقطاعي" قد تَكُونُ أجوبةً نِسبيةً للواقع.
والماهيةُ الأساسيةُ لهذه الأعوامِ الألف يُحَدِّدُها سقوطُ الثقافةِ المادية لروما. أما التساؤلُ عما إذا كانت المسيحيةُ، أو الثقافةُ الأيديولوجيةُ المغايرة، قد مَلأَت الفراغاتِ المتولدةَ في عناصرِ الثقافةِ الماديةِ المنهارةِ أَمْ لا؛ فالأجوبةُ التي ستُقَدَّمُ قد تُتِيحُ إمكانيةَ تقييماتٍ أكفأ وأمهر.
أما عواملُ الثقافةِ المادية، فهي الحملاتُ البيزنطيةُ في الشرق، وحملاتُ إنشاءِ المدنِ الصغيرةِ الجديدةِ في الغرب، أو بالأحرى في عمومِ أوروبا. وبالفعل، بإمكانِنا إرجاعُ تاريخِ الثقافةِ الماديةِ في أوروبا إلى حركاتِ التمدنِ فيها. فإذا اعتَبَرْنا جذورَ مدينةٍ مثل باريس، والتي يَعُودُ أقدمُها إلى القرنِ الرابعِ الميلادي، بِأنها مماثلةٌ لاستيطانِ روما، فلن يَكُونَ بِوِسعِنا الحديثُ حينها عن سيطرةِ ثقافةٍ ماديةٍ مع وصولِنا أعوامَ 1500 م. إذن، وكما لا يمكننا مقارنةَ المدنِ البارزةِ للوسطِ مع مدينةِ روما؛ فهي لا تَتَخَطّى كثيراً بُنى المدنِ الناشئةِ في ميزوبوتاميا أعوامَ 3000 – 2000 ق.م، أو تلك الناشئةِ على شَطَّي بحرِ إيجة أعوامَ 600 – 300 ق.م. أما القصورُ المنيعةُ المُنشَأَة، فهي بعيدةٌ عن تَجاوُزِ تلك القصورِ والقلاعِ المُشَيَّدةِ على حوافِّ سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس أعوامَ 2000 – 1500 ق.م. باختصار، ومثلما تَفتَقِرُ مدنيةُ أوروبا في مرحلةِ 500 – 1500 للكفاءةِ التي تُخَوِّلها لِتَخَطّي "عصرِ الظلمات"، فبِمُستَطاعِنا القولُ أيضاً أنّ الثقافةَ المعنويةَ الجديدة، أي السيادةَ الثقافيةَ الأيديولوجيةَ للمسيحية، هي الأكثرُ بروزاً وقتَذاك. أما أنْ يَكُونَ التَّفَوُّقُ لِصالحِ المسيحية، فلا شَكَّ في الأهميةِ القصوى لذلك بالنسبةِ إلى التاريخِ الأوروبي. من هنا، فتَقييمُ المؤرخين لهذه المرحلةِ بِكَونِها فَتْحُ أوروبا عن طريقِ الثقافةِ المعنوية، أي عبرَ القِيَمِ المعنويةِ والعقائديةِ المسيحية، أكثرُ صواباً من النظرِ إليها على أنها فَتحٌ على يدِ الثقافةِ المادية.
لَكنّ القضيةَ الهامةَ أصلاً هي: لماذا بَقِيَت روما مُتَسَمِّرَةً في مستوى الثقافةِ الماديةِ العائدةِ لِما قَبلَ ألفَي عام؟ بل والأهمُّ من ذلك هو أنّ نظاماً عقائدياً معنوياً قاصراً لِحَدٍّ بعيدٍ عن إشباعِ نَهَمِه واحتياجاتِه الثقافيةِ الأيديولوجيةِ القائمةِ كالنظامِ المسيحي، لماذا أبدى قدرتَه على النجاحِ في فَتْحِ أوروبا؟ أَحَدُ الأسبابِ الهامةِ في ذلك هو عذريةُ النيوليتيةِ في أوروبا، حيث تَحصُدُ ما تَزرَع. وبالأصل، فقد أَثبَتَ تاريخُ الألفِ عامٍ هذه الحقيقةَ كفاية. في حين قد يَكُونُ السببُ الثاني خارجياً: تهديداتُ الأتراكِ كَمسلمين وكوثنيين، وتهديداتُ العربِ بِغَزوِهم من الجنوب عن طريقِ صقلية وإسبانيا. وبِالتِحامِ هذَين المؤثرَين سيكونُ بالمستطاعِ استيعابُ العصورِ الوسطى لأوروبا، أي مُدَّتِها الطويلةِ من "الظلمات"، على نحوٍ أفضل. لقد كانت بحاجةٍ للمسيحية، لأنّ الوثنيةَ كانت تَهاوَت مع روما. وكانت المسيحيةُ قد وَضَعَت البَنانَ منذ زمنٍ بعيدٍ على نقصانِ وقصورِ المعاني العقائديةِ والمعنويةِ للوثنيةِ الأوروبية السابقةِ لها. هكذا، كانت الظروفُ ملائمةً لِتَبسُطَ المسيحيةُ سيادتَها كعنصرٍ ثقافيٍّ أيديولوجي، في حين ظَلَّت ثقافتُها الماديةُ خامدةً خابيةً مقابلَ ثقافةِ روما المتألقة، ولا يُمكِنُ حتى مقارنتها بالثقافةِ الماديةِ في الشرق. أي أنه كان يستحيلُ ظهورُ أمثالِ باريس الباهرة بالمجموعاتِ الخارجةِ من العصرِ النيوليتي. وحسبَ رأيي، فهذان المؤثِّران في النُّقصان، أي البُعدُ الشاسعُ للمسيحيةِ مِن أنْ تَكُونَ نظاماً يُشبِع الخواء القائمَ للثقافةِ الأيديولوجية، وتَحَجُّرُ البنى المدينيةِ في مستوى ما قبلِ ألفِ عام؛ قد مَهَّدَ الطريقَ لـ"الحملةِ الماديةِ الكبرى لأوروبا في القرنِ السادسِ عشر".
ثمة صلاتٌ وثيقةٌ بين النقلةِ الكبرى للثقافةِ المادية وبين سيادةِ المسيحيةِ كثقافةٍ أيديولوجية. وما النزاعاتُ الكبرى المحتدمةُ بين الأديانِ الكبرى والمذاهبِ سوى تأكيدٌ على صحةِ هذه الحقيقة. والرأسماليةُ الأوروبيةُ قد أَحرَزَت نجاحاً باهراً كحملةٍ ثقافيةٍ ماديةٍ مذهلةٍ في الاستفادةِ بمهارة من نقاطِ ضعفِ المسيحيةِ المفتقرةِ للعناصرِ الأيديولوجية المنيعة، وفي بناءِ عصرٍ جديدٍ بِالتَّجَرُّؤِ على ما لَم تَجرُؤْ عليه أيةُ حضارةٍ سابقةٍ في إيصالِ التَّبَضُّعِ (اكتسابِ قيمةِ المقايضة) و"طرائقيةِ" التجارةِ والربحِ إلى قوةِ الحضارةِ المدينية الرسمية، بعدَ أنْ كانا مُتَسَتِّرَين على الدوام، ومستفيدَين من الثغراتِ الموجودةِ في تَشَقُّقاتِ وتَصَدُّعاتِ المجتمعاتِ للحفاظِ على وجودِهما الخَفِيّ. وهذا ما معناه أنّ روما استطاعت الانتقالَ من المرحلةِ الوسطى للثقافةِ الماديةِ إلى مرحلتِها الأخيرة. أما فيما يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ إلى هذا العصرِ المُسَمّى بالحداثةِ الرأسماليةِ على أنه أزمةُ المدنية، أَمْ شكلُها السرطاني، أم آخرُ أطوارِ الشيخوخة؛ فسوف نَستَفِيضُ في تناولِه وتقييمِه في الفصلِ اللاحق.
أما قصةُ الإسلام، فهي موضوعٌ أكثرُ تعقيداً وإشكالية. فسواءً تَحَضُّرُه السريعُ، أو تَصارُعُه مع اليهوديةِ والمسيحيةِ منذ أولى أيامِ ظهورِه، أو تَخَبُّطُه في التناقضاتِ والشِّقاقاتِ المذهبيةِ حتى الأعماق؛ كلُّها أدلةٌ كافيةٌ للإشارةِ إلى تعقيدِ القضيةِ وعُسرها.
ومثلما تَطَرَّقنا سابقاً، بالإمكانِ اعتبار القرنَين السابقَين لمحمد كأزمةِ المراحلِ الأخيرةِ للحضارةِ المدينية العبودية. وكانت المسيحيةُ استَمَدَّت قُوَّتَها من هذه الأزمة، ونَجَحَت في أنْ تَكُونَ أولَ تنظيمٍ شاملٍ للشرائحِ الاجتماعيةِ الفقيرة. وبالفعل، فقد اكتَظَّت تلك القرونُ بالأديرة، بل ونَجَحَت في جَذبِ اهتمامِ الشعوبِ الفقيرة، لِتَكُونَ بالتالي قُوَّةً بديلةً في الأوساط. ولَئِنْ كانت لها إشكالياتُها المختلفة، إلا أني مضطرٌّ لإتمامِ هذا الفصلِ بتناولِ قضايا المسيحيةِ والإسلامِ سويةً، نظراً لانحدارِهما من الأصولِ عينِها، للنظرِ في مدى وجودِ بدائلَ مغايرة، وكذلك شرحِ انطلاقةِ الإسلام.
إنّ شرحَ انطلاقةِ الإسلام يستلزمُ التِماسَ العديدِ من العناصر. أولُها؛ كونُ الإسلامِ الدينَ الأخيرَ للتقاليدِ الإبراهيمية، ويَبني نفسَه تأسيساً عليها. بالتالي، تَتنامى ركائزُه بانطلاقةٍ على طرازِ إبراهيم السابقِ له بما لا يَقُلُّ عن ألفَي عام. ما نَستَنبِطُه من هنا أنّ الصراعَ العربيَّ – اليهودي صراعٌ بين مذهبَي دينٍ واحد، ليس إلا. ثانيها؛ يُسَمِّي الذهنيةَ السائدةَ في مَكّةَ التي خَرَجَ منها بِعَصرِ الجاهلية، مما يعني أنه شكلٌ من الانتقادِ الصارمِ لوثنيةِ مكة. ثالثُها؛ إنّ تَحَاوُر محمد بذاتِ نفسِه مع الرهبانِ النسطوريين، يُمكِنُ إقامة روابطِه مع المسيحية. رابعُها؛ يُصَرِّح عن صِلاتِه مع التجارة، كناشطٍ لدى خديجة ، ومن ثَمّ كزوج لها. خامسُها؛ يَتَأَثَّرُ بِحِدَّةٍ وشِدَّة مِن الوسطِ القبائليِّ العائدِ في دعائمِه إلى آلافِ السنين، والحيويِّ دائماً في الأوساطِ العربية. سادسُها؛ مَرَّ بِآخرِ عصورِ الإمبراطوريتَين البيزنطيةِ والساسانيةِ البهيةِ الفخمة.
وبالمستطاعِ تدوين مجلداتٍ كثيرةً بشأنِ تأثيرِ هذه العناصرِ الأساسيةِ – إلى جانبِ العديدِ من الثانويةِ منها – في خروجِ الإسلامِ وظهورِه. ما نَوَدُّ إيضاحه هنا هو كَونُ الإسلامِ ثمرةَ الظروفِ الماديةِ والتاريخيةِ الوطيدة، ولم يَتَطَوَّر كـ"معجزةٍ في الصحراء". وبِقدرِ ما تَرتَبِطُ قُوَّتُه بهذه الظروف، فكذا نقاطُ ضعفِه أيضاً. وهو ليس جَميعةً حضاريةً جديدة على غرارِ الحضارةِ السومرية الأولى أو الرومانيةِ الأخيرة، بل يَطفَحُ جانبُه كحركةٍ عقائديةٍ وأخلاقية. فمحمد نفسُه ليس شخصيةً مجهولةً مثلما إبراهيمُ وموسى وعيسى. والكثيرُ من خصائصِه معلومة. ورسالتُه المتجسدةُ في "القرآن" لا تُخاطِبُ قوماً أو قبيلةً أو طبقةً معينة، بل تَستَهدِفُ البشريةَ جمعاء. ومصطلحُ "الله"، الذي تَرجحُ كَفَّتُه في القرآن، هو في حقيقة الأمر الموضوعُ الرئيسيُّ للنشاطاتِ اللاهوتية. ومحمد قابعٌ في أعماقِ تأثيراتِ هذا الاصطلاح، ويَعتَبِرُه "ربَّ"، أي سَيِّدَ العالَمين. فهذه الكلمةُ مذكورةٌ بكثرة في الكتابِ المقدس. وكلمةُ الله ذاتُ الاصطلاحِ المجيدِ بهذا القدر، إنما تُوَحِّدُ في محتواها على الصعيدِ السوسيولوجي بين ألوهيةِ الطبيعةِ والألوهيةِ الاجتماعية. فالصفاتُ الحسنى التسعةُ والتسعون التي يَشمَلُها ويتميز بها، ليست سوى تعبيرٌ عن التأثيرِ المشترَكِ للقوى الطبيعيةِ والاجتماعية. في حين أنّ "الأوامرَ والشرائعَ الأبدية" التي يَتَطَلَّعُ منسوبوه إلى فهمِها، فَتَحُفُّها هالةٌ من الغموض إلى أقصى الحدود. وبقدرِ كونِ الأوصافِ ذاتِ المنشأِ الاجتماعي مَرحَلِيَّةً وعابرة، فكذا لا يُعَدّ كلُّ مظهرٍ طبيعيٍّ قانوناً. بَيْدَ أنّ القَانونيةَ والتشريعاتِ ذاتَها محصلةُ الإفراطِ في ضوابطِ وقواعدِ القبائليةِ اليهودية. إذ يُمكِنُ الحديثُ عن "النزعاتِ" والميولِ التي طالما يَغلُبُ طابعُها في المجتمع. وسيؤدي هذا المفهومُ التشريعيُّ فيما بعد إلى التعصبِ الشديدِ في المجتمع الإسلامي. ربما أفادت الشرائعُ الصارمةُ في تجاوزِ الفوضويةِ القَبَليةِ وتحقيقِ التطورِ الاجتماعي. لكن، إذا ما وَضَعنا نصبَ العينِ تَسارُعَ التطورِ الاجتماعي، فسندرك تلقائياً مخاطرَ مفهومِ الأمة هذا.
إنّ مدى رسوخِ إيمانِ محمد بالله يُعَيِّن قُوَّتَه الميتافيزيقية. وعلى الأقل، فاعترافُه بقوةٍ تَفُوقُه وتَعلُوه، يجعله لا يُصابُ بِمَرَضِ التَّأَلُّهِ الذي شاهدناه سائداً من أيامِ سومر إلى عهدِ روما. وإذا ما قارَنّاه بالصراعِ الضاري الدائرِ حولَ ألوهيةِ عيسى، يَتَبَدّى لنا موقفُ محمد أكثرَ تقدمية. إلا أنّ عجزَه عن تَخَطّي الصرامةِ الموسوية يُشَكِّل جانبَه السلبي، الذي تُدفَعُ فاتورتُه الباهظة في الصراعِ العربيِّ الإسرائيلي.
والتساؤلُ فيما إذا كان المجتمعُ الذي تَطَلَّعَ محمدٌ إلى بنائِه تَغْلُبُ عليه الثقافةُ المادية، أم يَرجحُ فيه الجانبُ الأيديولوجي؛ إنما يَستَحِقُّ النقاش. فحسب رأيي، وبينما يَبرُزُ العنصرُ الأخلاقيُّ في المسيحية، نَجِدُ وجودَ توازنٍ دقيقٍ بينهما في الإسلام. ولَئِنْ كان يَحتوي العديدَ من النواقصِ ويتكاثرُ الجدلُ فيه، إلا إنّ تَعادُلَ الثقافتَين الماديةِ والمعنويةِ في الإسلام – ربما – يُشَكِّلُ جانبَه المتين. وبطبيعةِ الحال، فالحديثُ النبويُّ القائل "اعملْ لآخرتِكَ وكأنك تموتُ غداً، واعملْ ليومِك وكأنك تعيشُ أبداً" إنما يَكشِفُ عن هذه البنيةِ المتكافئةِ كفايةً. والكلُّ على علمٍ بِرَفضِه ونَبذِه للأنظمةِ الرومانيةِ والبيزنطية والساسانيةِ وحتى الفرعونيةِ والنمروديةِ الكلاسيكية، بل وانتقادِه إياها بصرامة. وهو بجانبِه هذا ناقِدٌ قديرٌ للمدنية. إلا أنّ الشروطَ الماديةَ لعصرِه، وآفاقَه الأيديولوجية لا تَكفِيه للإعلانِ عن مفهومِه في "المدينة". وهو بذلك شبيهٌ بِعَجزِ اشتراكيي زمانِنا عن تطويرِ البديلِ اللازم. لكنّ مناداتَه الحثيثةَ إلى التشبثِ بالأخلاق تُشيرُ لِمدى إدراكِه الكليِّ لأمراضِ المجتمعِ المديني. وهو بجانبِه هذا إصلاحيٌّ عتيد، بل وثوريٌّ لا يَعتَرِفُ بالمجتمعِ الذي لا تَسُودُه الأخلاق. والقواعدُ التي سَنّها لِسَدِّ الطريقِ أمامَ الرِّبا في رأسِ المال، قد أعاقَت التوجهَ نحو الوضعِ المَرَضِيّ للمجتمعِ الرأسمالي. وانطلاقاً من هذه المزايا البنيويةِ لدى محمد، يمكننا مباشرةً استشفافُ كَونِه أكثرَ تقدميةً من المسيحية واليهودية. فجُنوحُه لِنَبذِ العبوديةِ أمرٌ معروف. وهو رحيمٌ عطوف، ومَيّالٌ للتحريرِ لأبعدِ الحدود. ورغمَ بُعدِ مواقفِه عن الحريةِ والمساواةِ فيما يَخُصُّ المرأة، إلا أنه يَستاءُ ويَمْقُتُ العبوديةَ الغائرةَ للمرأة. وفيما يَتَعَلَّقُ بالخلاصةِ التي يمكننا استِنباطُها من وجودِ جواريه ومن زواجِه بالعديد من النساء، فهي تَحمِلُ في طواياها هاتَين النزعتَين. لقد كان يَعتَرِفُ بالمُلكِيةِ والفوارقِ الطبقيّةِ في المجتمع، ولكنه – كشخصٍ ديمقراطيٍّ اجتماعي تماماً – كان يسعى لِسَدِّ الطريقِ أمامَ الاحتكارِ وبَسطِ النفوذِ الاجتماعي، وذلك عن طريقِ الإفراطِ في جَبيِ الضرائب والإتاوات.
ومن خلالِ هذا الإيجازِ نَستَشِفُّ – وبكلِّ سهولة – أنّ محمد كَوَّنَ توازناً حاذقاً في الإسلام، فَلَم يَجنَح إلى الثقافةِ الماديةِ المُخْتَلَّة، ولَم يَرغبْ في الاقتصارِ على الثقافةِ الأيديولوجيةِ المحضة. هذا الوضعُ يوضحُ كفايةً دوافعَ تَعَزُّزِه ورسوخِه، سواءً إزاءَ قوى الحضارة المدينية، أو إزاءَ الكياناتِ الأيديولوجيةِ والثقافية الأخرى. ولَربما لَم تستطِع أيةُ حركةٍ اجتماعية – فيما خَلا رهبانِ سومر ومصر – من إبداءِ المهارةِ والحذقِ في تأمينِ سيرورةِ التحامِ الثقافتَين الماديةِ والأيديولوجيةِ بقدرِ ما كانتا عليه في الإسلام. وإنْ كنا اليوم نَتَكَلَّمُ عن دوامِ قوةِ الإسلامِ الراديكاليِّ والسياسيِّ على السواء، فَعَلينا بالضرورةِ إدراكُ خاصيتِه البنيويةِ هذه أفضلَ إدراك.
مِن المفيدِ إعادةُ تفسيرِ التطوراتِ والتحولاتِ الجاريةِ في الثقافتَين الماديةِ والأيديولوجية بعدَ سقوطِ الإمبراطوريتَين الرومانيةِ والساسانية.
يَتَبَيَّنُ طبيعياً من سقوطِ روما أنّ النظامَ العبوديَّ المُعَمِّرَ أربعةَ آلافِ عام قد أَلَحَقَ تخريباتٍ غائرةً في ضميرِ البشرية، أي في أخلاقِها، وفَتَحَ بالتالي ثغراتٍ فسيحة فيها، بينما الإجراءاتُ والترتيباتُ الحقوقيةُ الأخيرةُ التي قامَت بها روما كانت قاصرةً عن ملءِ تلك الثغرات. كما تَتَّضِحُ جلياً تلك الهُوَّاتُ الشاسعةُ المتولدة في دنيا العقائد. حيث انكَشَفَ بسطوعٍ أيضاً أنّ تلك الآلهةَ، التي سَعَوا لإقناعِ الناسِ بها طيلةَ أربعةِ آلافِ عام، لم تَكُ مثلما كانوا يَعتَقِدون البَتّة. وكانت الوثنيةُ أضاعَت قدسيتَها القديمة. بل ويُزعَم أنه كان أتَى يومٌ لَم تَعُد فيه أروعُ هياكلِ جوبيتر تُساوي قُرشاً. فالبُنى الماديةُ الضخمةُ لم تُخَلِّفْ وراءَها سوى إنسانيةً مُنهَكةً مُنهارة.
أما الحروبُ التي لا تَعرِفُ الخمودَ والانقطاع، فكانت جَعَلَت من السِّلمِ طوباويةً خيالية. ويَسَعُنا القولُ أنها كانت مرحلةَ أزمةٍ وفوضى عارمة. فبينما كانت قيمةُ أنماطِ الحياةِ والقواعدِ القديمةِ تَهوي وتَتَراجع، لم يَكُ ثمة بدائلُ تُذكَر. وراحَ الجميعُ يَنتَظِرون رسالةَ الخلاص، ويَستَشعِرون مصطلحَي الجنةِ والجحيم في الأوساط. كانت أكوامُ العاطلين عن العمل، والأرقاءِ المنعتِقين الهائمين على وجوهِهم تَستَفحِلُ في الأوساطِ المركزية، في حين تتضاعفُ حركاتُ النزوحِ لدى الأقوامِ القاطنين في الأطراف. وكانت الأوساطُ في حالةٍ مثلى لِتَلَقِّي صدى رسالةِ المُنقِذ التاريخي. إنه وقتُ بزوغِ فجرِ الحركاتِ الكبرى. فالحاجةُ الماسةُ في ظِلِّ تلك الظروفِ كانت تَتَجَسَّدُ فيما نُسَمِّيه اليوم باليوتوبياتِ والمناهجِ الجديدة. والحركاتُ الكبرى قد تَكُونُ محصلةً لليوتوبياتِ والمناهجِ العظيمة. وقد سادَت مثلُ هذه الحاجةِ الماسةِ ليوتوبياتِ الخلاصِ والمناهجِ المُنقِذَةِ على مَرِّ السياقِ الحضاري بِرِمَّتِه. وبالأصل، فالحركاتُ المُعاشةُ في الداخلِ والخارجِ كانت تَتَمَيَّزُ بيوتوبياتها ووَصفاتِها التحريريةِ العمليةِ على الدوام. إلا أنّ الأزمةَ البنيويةَ والوظيفيةَ للعبوديةِ كنظامٍ قائم كانت غائرةَ الأعماقِ هذه المرة، ولم تَعُد المرحلةُ بأوضاعِها وظروفِها تُطِيقُ إدارتَها بأنظمةٍ عبوديةٍ جديدة.
وفي ظِلِّ ظروفٍ كهذه تَعُومُ ذهنيةُ البشريةِ وضميرُها في بحرٍ من الظمأ. ولدى بلوغِ البُنى الماديةِ الأخيرةِ حالةً تَعجَزُ فيها عن الاستمرارِ لتأمينِ بقاءِ النظام، فهذا ما معناه اكتمالُ نضوجِ الظروفِ للأديان العالمية (رسائلُ الخلاصِ والتحررِ التي تَتَسَرَّبُ إلى ذهنيةِ وضميرِ سائرِ البشريةِ وتُنعِشُهما). لكن، وما دامَ العصرُ الجديدُ المُرتَقَبُ والمقتَرِبُ لن يَكُونَ عصراً عبودياً جديداً، فماذا، وكيف عساه يَكُون؟ هذا ما يَشغل البالَ حقاً.
لقد قِيلَ الكثيرُ عن المجتمعِ الإقطاعي. ويُقالُ أنه العصرُ اللاحقُ للنظامِ العبوديِّ القديم، ولكنْ، يُمكِنُ إعادة مثيلاتِ الإماراتِ والإقطاعيات التي قامَ عليها إلى أعوام 4000 ق.م من حيث النمطِ والهيئةِ. في حين يمكننا التذكيرُ – بِسُهولة – أنّ القُصورَ الأكثرَ تماسكاً ومتانةً قد بُنِيَت في أعوامِ 2000 ق.م. أما مجموعاتُ القرويين والخَدَمِ والحَشَمِ المحيطةُ بأغلبِهم، فكانت تَشَكَّلَت في كلِّ مكانٍ منذ القديمِ السحيق. وكان يَحُقُّ للمجموعاتِ الأثنيةِ – أَيَّما كانت – أنْ تُقِيمَ إمارَتِها من ضمنِ الهرمياتِ الداخليةِ لديها، أو في أزمانِ تَشَتُّتِ الإمبراطوريات وتَبَعثُرِها. ولم يَكُ ثمة فوارقُ بارزةٌ بين الدويلاتِ ذاتِ البنى الصغيرةِ المتأسسةِ بعدَ العهدَين الرومانيِّ والساساني وأمثالِهما من المراحلِ السابقة. ولم تَكُ الإمبراطورياتُ سوى اتحاداً من مجموعِ هذه الدويلات، قليلةً كانت أم كثيرة، فيدراليةً كانت أم كونفدرالية. ولم تَكُن القرى بذهنياتِها مختلفةً كثيراً عما كانت عليه أثناءَ تَمَأسُسِها النيوليتيِّ في أعوامِ 6000 ق.م بأقلِّ تقدير. هذا ولَم يَطرَأْ أيُّ تغييرٍ على العلاقاتِ بين الجنسَين، ولَم تَكُن العلاقاتُ بين الأقنانِ والأسيادِ منذ غابرِ الزمان مختلفةً عن تلك التي بين الأغواتِ وأتْباعِهم من الخدمِ والعبيد. أما المُلكيةُ، فكانت عينَها. ولم تَشهَد وسائلُ الإنتاجِ أيَّ تَطَوُّرٍِ ثوري. ولطالما تَطرَّقنا إلى البنى الحاكمةِ وآلهتِها. إذن، والحالُ هذه، من العسيرِ اعتبار الأنظمةِ والترتيباتِ الماديةِ المتكونة فيما بعدَ القرنَين الخامسِ والسادسِ الميلاديَّين حضارةً جديدة. وبطبيعةِ الحال، فالبنى المدينيةُ في أوروبا غيرُ مُؤهَّلةٍ إطلاقاً لِتَكوينِ حضارةٍ جديدة. وهكذا شأنُ الإمبراطورياتِ المُشَيَّدة، حيث لم تَكُن كما قِيلَ فيها من َِمدحٍ وثناء، بل لَم تَكُن تَعني شيئاً غيرَ تلك الأطلالِ القديمةِ المتبقيةِ من روما.
يمكن ُقول الشيءِ نفسِه لأجلِ الشرقيين أيضاً. فتسميةُ هؤلاء ببقايا النظامِ السابقِ للرأسماليةِ أراها أكثرَ معنى. والبقايا شيءٌ أَشبَهُ بالبيوتِ أو الأحياءِ الصغيرة المتبقيةِ من الأطلالِ والخرائب، أو لا تَذهبُ في أقصاها أبعدَ من كَونِها تعديلاً للقديم. ويجب – إلى جانب ذلك – عدم إنكارِ البنى الماديةِ السابقةِ للرأسمالية. قد تَكُونُ بنى مرحلةِ الانتقالِ إلى الرأسماليةِ مغايرة، فتَمَدُّنُ أوروبا فيما بعدَ القرنِ العاشرِ الميلادي على وجهِ الخصوص، كانت وكأنها تُبَشِّرُ بِقُدومِ الرأسمالية. إذن، وما دامَ الأمرُ كذلك، فقد يَكُونُ من الناجعِ عدمَ الوقوفِ كثيراً عند مصطلحَي "الإقطاعيةِ" و"عصر الظلمات". أما التفسيرُ الأقربُ إلى الصحة، فهو انحلالُ نظامِ آلهةٍ مُقَنَّعَةٍ ومجتمعٍ مُستَعبَدٍ استَمَرَّ طيلةَ أربعةِ آلافِ عام، وانهيارُه ضمن إطارِ "الفترةِ الطويلة". فانهياراتُ النظامِ النيوليتي لا تَفتَأُ مستمرةً في راهننا. مَرامِي من ذلك هو أنّ الأنظمةَ ذاتَ الفتراتِ الطويلةِ قد يَطُولُ انهيارُها عِدَّةَ قرون، وقد تَتَجَدَّدُ بلا انقطاع. وإذا ما ضَيَّقنا الخِناقَ أكثر، فيمكننا تسميةُ النظمِ اللاحقةِ للقرنَين الخامسِ والسادسِ الميلاديَّين بالأنظمةِ المتأخرة.
ما الذي تَعنِيه كلُّ هذه الأمورِ بالنسبةِ إلى الإسلامِ والمسيحية؟ إذ لا غِنى في يوتوبياتِهما عن الوعدِ الجنة. بل وتَتَحَدَّثُ عن أنظمةِ السعادةِ الممتدةِ لألفِ عام. وهو الجزءُ الذي تَنُصُّ عليه كلُّ يوتوبيا. لَطالما يُذَكِّرني "وعدُ الجنة" بِحَنينِ الإنسانِ إلى "الواحةِ" وهو يَسيرُ في سَعيرِ الصحراءِ اللاذع. وبالأصل، فالمُقابلُ لذاك الوعدِ أصلاً هو الحياةُ المُتَصَحِّرَة. قد يَعِدُ الأنبياءُ أيضاً جماعاتِهم بالمستقبلِ الرغيد والأيامِ المفعَمةِ بالأمل. ما يَتُمُّ عَمَلُه من خلالِ يوتوبيا المستقبلِ الرغيدِ كالجِنان، هو البحثُ عن حياةٍ أخرى مغايرة، ليس إلا. وقد تَكُونُ ملاذاً اضطرارياً لإنسانٍ متشائمٍ ضَاقَت به الدنيا وهو يَنتَظِرُ تنفيذَ حُكمِ الإعدامِ فيه، أو ملجأً لِمَن ليس بحوزتِهم ولو بَصيصُ أمل. من هنا، فالصِّلَةُ بين صَدَّام إِبّان الإعدام، وبين نسخةِ القرآنِ التي في كَفَّيه، إنما تُعَلِّمُنا الكثير. فالقرآنُ قوةٌ ذهنيةٌ إنشائيةٌ قصوى لِمراحلِ الحياةِ التي على حافةِ الإعدام. إنها حالةٌ من الأملِ في الإنشاءِ بعدَما انسَدَّت جميعُ طرقِ الحل. وكذا الأمر، فمِن العصيبِ القيامُ بتفسيرٍ سليمٍ للرسائلِ التي تُوَجِّهُها الكتبُ المقدسة، ما لَم نستوعبْ أو نُدركْ شروطَ العبوديةِ بأكملِها. وإذا لَم نَتَغاضَ عن الطبائعِ الميتافيزيقيةِ للإنسان، سنَتَلَمَّسُ أنه لا تزالُ ثمةَ ضرورةٌ لإنشاءِ عددٍ غيرِ محصورٍ من اليوتوبيات، بما فيها تلك القائلةُ بالجنةِ والجحيم. فالواقعُ الإنساني يَستلزم ذلك. وإلا، فمثلما لن يُطاقَ العيشُ في الحياةِ بسهولة، فلن يُفتَحَ البابُ كذلك أمامَ أنماطِ حياةٍ أجمل وأحسن وأفضل.
عليَّ إضافة أمرٍ آخر، ألا وهو كَونُ الخوفِ من الموتِ بِحَدِّ ذاتِه ظاهرةٌ اجتماعيةٌ أُنشِئَت أو فُرِضَ إنشاؤها. بالتالي، بالمستطاعِ القضاءُ على فَزَعِ الخوفِ المُنشَأِ عبرَ الإنشاءاتِ الاجتماعيةِ الجديدة. بل وقد يُستَنبَط ويُستَخرَج من الموتِ آنئِذٍ أروعُ وأفضلُ حالاتِ الحياة. فالمِيتاتُ في الطبيعةِ لا تُشبِهُ المِيتاتِ الاجتماعيةَ في المجتمعِ البشري في أيِّ وقتٍ من الأوقات. فالآلامُ العميقة، والأحزانُ السحيقة للمِيتاتِ الاجتماعيةِ تَنبعُ من تَضادِّها مع حقيقةِ الموتِ الطبيعي. وإلا، فلَم يَكُ لِيَبقى شيءٌ اسمُه الحياة، إنْ لَم يتواجد الموت. ولهذا السببِ بالذات، فالحياةُ الأسمى معنى هي تلك المُتَسَلِّحَةُ بوعيِ الموت. وهي تعني اللاموتَ والخلود.
كانت يوتوبيَتا الإسلامِ والمسيحية جاذبَتَين للأنظارِ لأجلِ الخروجِ من العبودية، ولكنّ النتيجةَ التي ستُسفِرُ عنهما كانت محفوفةً بالمجهول. وكأنّ القولَ بحياةٍ كالجنة كافٍ لتجاوزِ تلك البلبلة. ولَربما إيرادُ الأمثلةِ على جماعاتِ الأديرةِ والمدارسِ يُعِينُنا في فهمِ معالِمِ المجتمعِ الجديدِ المزمعِ بناؤه.
فالمدارسُ، الأديرةُ، الطرائقُ، والمذاهبُ إنما هي برامج ومحاولاتٌ لإنشاءِ المجتمعِ الجديد، والتي جرَّبها كلا الدِّينَين، ولا يزالان، بلا كَلَلٍ أو سَأم. لذا، يجب ألا تَمتَلِكَنا الحيرةُ والدهشةُ من استمرارِ هذه الميولِ والنزعاتِ في كِلَيهِما منذُ ألفي، وألفٍ وخمسمائةِ عام. ومن جانبٍ آخر، فزعماءُ الكنائسِ المسيحية، وقادةُ الفتوحاتِ الإسلامية قد ابتَدَعوا بكلِّ سهولة نظاماً عبودياً مُعَدَّلاً ومتأخراً. فحالما نُدَقِّقُ النظر، سنجد أنّ هذه الأنظمةَ العبوديةَ المتأخرةَ عبارة عن استرخاء وهدوءِ الفتوحات، وليست أنظمةً حياتيةً دائمةً تشملُ المجتمعَ برمته. أما تَسميتُها بالمدنية الإسلامية والمسيحية، فكأنه إرغامٌ إلى حدٍّ ما، ذلك أنّ اليوتوبياتِ لا هَمَّ لها في إنشاءِ الحضارة المدينية، بقدرِ ما تَهدِفُ إلى إنقاذِ الحياةِ وإضفاءِ لَمَساتِ الجمالِ عليها. إذن، فالنظامُ العقائديّ والأخلاقيّ لِكِلتا الشريعتَين خالٍ من الجوابِ المبدئيِّ الراسخ على سؤال الحضارة المدينية. فقد كان لهما الدورُ البارزُ في تَخَطّي الأنظمةِ القائمةِ طيلةَ أربعةِ آلافِ عام، وأُقيمَت باسمِهما بعضُ الأنظمةِ العبودية المعَدَّلَةِ على طرازِ الإماراتِ والمدن والإمبراطوريات. إلا أنه من الصعب اعتبار ذلك مدنيةً إسلاميةً ومسيحية، أو يمكن اعتبارُه – في أحسنِ الفروضِ والحالات – مدنيةً منحرفةً في جانبِها الأيديولوجي. فلا القِسُّ مستعدٌّ للخروجِ من الكنيسةِ للمكوثِ في قصورِ الإمبراطورية، ولا الإمامُ مستعدٌّ للخروجِ من الجامعِ للتَّرَبُّعِ على عرشِ الدولة. وبالأصل، فالمُتَدَوِّلون منهم انحَرَفوا دوماً، ولم يَتَرَدَّد الآخرون منهم في تَسمِيَتِهم بالضَّالِّين. في حين أنهم ناشَدوا ونبَّهوا رؤساءَ الدولِ بالامتثالِ للواجباتِ الدينية. ولأنهم كذلك، فقد استطاعوا الحفاظَ على وجودِهم وسيرورتِهم إلى الآن، وإنْ كانوا خامِلي التأثير، وخائبِي الأمل.
يقول ماكس فيبر في المدنيةِ الرأسماليةِ أنها الحضارةُ المنتهي سحرُها. وبالطبع، لا حياةً ساحرةً وجذابةً في نظامِ الثقافةِ الماديةِ الأكثرِ تقدماً. فالحياةُ الساحرةُ الخلابةُ لا يمكن أنْ تَكُونَ إلا في دنيا الثقافةِ الأيديولوجية. لكنّ الإسلامَ والمسيحيةَ وأشباهَهما من الثقافاتِ لا تَمتَلِكُ المهاراتِ في إضفاءِ السحرِ والروعةِ على الحياةِ الرأسمالية. ولا يمكن لغيرِ سوسيولوجيا الحريةِ المرتكزةِ إلى الإرثِ الغنيِّ الزاخرِ للثقافةِ الأيديولوجية أنْ يَقدِرَ على تأمينِ هذه المهارةِ والتَّحَلِّي بهذه الكفاءة. سنَجهَدُ للتركيزِ في هذا الموضوعِ ضمن الفصلِ المعني، وسنُثبِت أنّ الحياةَ ذاتَها هي القيمةُ الأكثرُ جاذبيةً وروعة. من هنا، فشعارُنا الجديدُ لن يَكُونَ "إما الرأسماليةُ أو الاشتراكية"، بل سيَكُونُ "إما الرأسماليةُ أو الحياةُ الحرة".
بناء على ذلك، بالمستطاعِ إعطاءُ الردِّ بِيُسرٍ أكبر على التساؤل: لماذا المدنيةُ الرأسمالية؟ فَبِقضاءِ المسيحيةِ والإسلامِ على الإمبراطورياتِ العملاقةِ المترامية الأطراف، التي كانت عائقاً أمامَ ظهورِ الرأسمالية، وبِعَدَمِ توجهِهما نحوَ التمدن (بنيةً وهدفاً)؛ إنما يكونان بذلك قد مَهَّدا الأجواءَ للرأسمالية، سواءً أكان بوعيٍ أو بدونه. فعندما يقول والرشتاين أنّ الإمبراطورياتِ متناقضةٌ وعلى الضدِّ من الرأسمالية، إنما يَطرَحُ وجهةَ نظرٍ ثاقبةٍ حقاً. وماكس فيبر يَشرَحُ الرأسماليةَ باستفاضةٍ أكثر، ويُسهِبُ في كيفيةِ قيامِ الروحِ البروتستانتيةِ بالتمهيدِ للرأسمالية.
ولكن، أَلَمْ يَكُن ممكناً الحلُّ بلا مدنية؟ إنّ الردَّ على هذا التساؤلِ يَكادُ يُشبِهُ العودةَ القَهقَرى إلى العصرِ النيوليتي. فما دامَ من المستحيل إزالة المدائن من الوسط، فلن يَكُونَ بالمقدورِ سَدّ الطريقِ أمامَ التجارة، أو التَّخَلّي عن المجتمعِ الذكوريِّ التسلطي. كما لم يَكُ بالمستطاعِ القضاء على الدولة في تلك الظروف، مهما يَكُن ذلك موضوعَ انتقاد. وبالأصل، فالحياةُ المعتمدةُ على الأديرة، المدارس، الطرائقِ الدينية والصوفية، جميعُها ليست سوى ثمرةُ العقمِ والانسداد. ورغم أنهم كانوا يَرَون بِأُمِّ أعينِهم التأثيراتِ المُفسِدةَ والرعونةَ النابعةَ من تلك التصنيفات، وكانوا يَجهَدون للخلاصِ منها؛ إلا أنّ الحلولَ التي ارتَأَوها لَم تَذهَبْ أبعدَ من البقاءِ مُهمَّشين منزوين. ولهذا السببِ بالذات كان الوسطُ مُهَيَّأً تماماً لظهورِ حضارةٍ جديدة.
وفي هذه النقطة سيكون من الناجعِ إعادةُ النظرِ في قصةِ القبيلةِ العبرانية. حيث كان اليهودُ ماهرين في شؤونِ التجارةِ والمال، إلى جانبِ براعتِهم في الكتابة. وكانوا انتَشَروا في كافةِ أرجاءِ المعمورة في العهدِ الروماني والبرسي الساساني. كانوا مُتَمَرِّسِين في الانسلالِ والتسربِ داخلَ المالِ والتجارة، وكأنهم روحُ المدنية المادية، أو بالأصح، قُوَّتُها المُصَفَّاة. وكان الكُتَّابُ أقربَ إلى الأنبياء الذين يَتَحَدَّثون عن الماضي، ويُبَشِّرُون بالمستقبل، ويتصدرون الظروفَ الممهِّدةَ لِظهورِ نظامٍ مدينيٍّ جديدٍ، أي الرأسمالية. ولم يَنسَوا تَركَ بصماتِهم على اليوتوبياتِ أيضاً، بينما كانت الأديانُ والآلهةُ حقولَهم التي يَحتَرِفونها ويَتَمَرَّسونها.
كانت المسيحيةُ في عصرِها الثقافيِّ الأيديولوجي قد فَتَحَت أوروبا سائرة، ووَلَجَت آسيا لِحَدٍّ ما، في حين لَم تتوانَ عن تَركِ بصماتِها على الحضارةِ الإفريقية. كما كان قد زَحَفَ الفتحُ الإسلامي على جميعِ أصقاع العالَمِ العربي لِيَتَعَدّاه إلى شمالي أفريقيا وآسيا الوسطى. وكيفما فُتِحَت كافةُ مواطنِ النظمِ الحضاريةِ القديمة أمامَهم، فقد انخَرَطَت المناطقُ الجديدةُ أيضاً في صفوفِ الإمبراطوريات الثقافيةِ الأيديولوجية الجديدة. إلا أنّ ما تَحَقَّقَ لَم يَكُن تَوَسُّعَ آفاقِ الحضارة، بل بِمقدورِنا نَعته بِتَطَوُّرِ العالَمِ المعنوي. وما قولُ المسيحيةِ في وصفِ ذاتِها بـ"دولةِ إلهِ الألفِ عام" سوى إشارةٌ لهذه الحقيقة.
إنّ الدعاماتِ العلميةَ لليوتوبيتَين الإسلاميةِ والمسيحية هَشَّةٌ للغاية، بينما جوانبُهما الأخلاقيةُ متطورة. وقد تَأَثَّرَتا بالفلسفةِ اليونانيةِ الكلاسيكية، ولَعِبَتا دوراً ملحوظاً في إعادةِ انتعاشِها. أما لاهوتياتُهما، فهي أقربُ لأنْ تَكُونَ تَستَقي من أرسطو وأفلاطون، وتَنتَهِلُ قِسمَها الآخرَ من لاهوتياتِ مصر وسومر. كما أنهما في مكانةٍ متخلفةٍ بالنسبةِ إلى يوتوبياتِ الحرية. ولنُذَكِّرْ مرةً أخرى أنّ الأساسَ بالنسبة للأديان هو الأخلاق، وأنّ اللاهوتياتِ لا تَتَصَدَّرُها كما يُعتَقَد. ولأنّ الأخلاقَ بالذات لم تَفقُد أهميتَها، فقد استطاعَت المسيحيةُ والإسلامية وغيرُهما من الشرائعِ المشابهة الحفاظَ على مكانتِها البارزة. سنَتَطَرَّقُ لهذه الأمورِ في الأماكنِ المعنية ضمن فصلِ سوسيولوجيا الحرية.
ليست اليوتوبياتُ كاملةً مُكَمَّلَةً على الدوام، ولطالما قَدَّمَت غالبيتُها خدماتِها بخِلافِ أهدافها. فاليوتوبيتان الإسلاميةُ والمسيحية على سبيلِ المثال قد خَدَمَتا تَطَوُّرَ الرأسماليةِ بنسبةٍ ملحوظة، وبخلافِ أهدافِهما نوعاً ما؛ رغمَ أنّ الواقعَ شاهدٌ أكيدٌ على صراعِهما تجاهها. سنَنظُرُ في هذا الموضوعِ ثانيةً في فصلِ الرأسمالية.
الأمرُ الآخرُ الممكنُ إضافته بالنسبةِ إلى الإسلام، هو تَمهيدُه الطريقَ أمامَ أرستقراطيّي القبائلِ الحاكمةِ والبرابرة لِيَعُوثُوا في مناطقِ وثقافاتِ الحَولِ نهباً وسلباً لا يَعرِفُ حدوداً ولا يَأبَهُ بِحُقوق. وكثيراً ما يُقال أنه فرضَ التراجع على المسيحيين. وهذه الأمورُ تَسري على جميعِ الأديان بلا استثناء. في حين أنّ عَكسَ صراعِ الإسلامِ المُتَدَوِّلِ مع المسيحيةِ المُتَدَوِّلةِ على أنه صراعٌ بين الإسلامِ والمسيحية، إنما لا يَبسُطُ الحقيقةَ كاملة. فجميعُنا نَعرِفُ أنّ مثلَ هذه الصراعاتِ والصداماتِ ذاتُ جذورٍ حضارية، وأنها تَستَخدِمُ الأديانَ غِطاءً لمآربها.
خلاصة؛ وبشكلٍ عام، فمواضيعُ الثقافةِ الأيديولوجية والثقافةِ المادية مواضيعٌ شائكة. ولكنها في الآنِ عينِه وقائعٌ قائمةٌ تقتضي البحثَ والتدقيق. في حين أنّ دورَ الصراعاتِ بين العبيدِ والأسياد، وبين الأقنانِ والأشراف محدودٌ وغيرُ مباشر في تحريكِ عجلةِ التاريخ التي تَدُورُ على منوالٍ مختلف. وهانحنُ ذا نَبحَثُ في ذلك، وإنْ بخطوطٍ عريضةٍ وبشكلٍ هاوٍ غِرٍّ. إلا أنها بحوثٌ ضروريةٌ لاستيعابِ التاريخِ وفهمِه، وللردِّ على قضايا يومِنا الراهنِ على السواء.
ولن نَكُونَ تناوَلْنا الموضوعَ بتكاملٍ متماسك، ما لَم نُقَيِّمْ – ولو باختصارٍ شديد – الأقوامَ المهاجرةَ التي تُشَكِّلُ الجناحَ الآخرَ من المقاوَمةِ. فقد كان القوط والهُون من شمالي أوروبا، والعربُ عن طريقِ شبهِ الجزيرةِ العربية يقومون بحملاتِ الهجومِ وتكتيكاتِ الإغارةِ الواحدةَ تِلوَ الأخرى ضِدَّ الحضارة المدينية العبودية وهي في مراحلِها الأخيرة. فهذه الموجاتُ من الهجرة، أو بالأحرى حملاتُ الهجومِ والإغارةِ والمقاوَمة لتلك الأقوامِ – التي تَطَوَّرَت لديها الهرميةُ القبَلِية، والتي تَعيشُ ضمن المجتمعِ الأبويِّ الذي يسبق الحضارةَ المدينية التي نُسَمِّيها بالمجتمعِ البربري – إنما هي ضربٌ من ضروبِ حركاتِ الثقافةِ الأيديولوجية. وكانت تتميز بالحماسِ والاندفاع، مِقدامةً جسورة، وتَحمِلُ معها الدماءَ الطازجة. وبينما كانت يوتوبياتُهم تحتضن في ثناياها – ولو جزئياً – عناصرَ المساواةِ والعواملَ المتبقيةَ من العصرِ النيوليتي، إلا أنهم بالأرجح كانوا متلهفين ومتطلعين إلى الحضارة المدينية. كما لَم يُطَوِّروا ميتافيزيقيةً بارزةً بقدرِ ما للأديان. بالتالي، فأغلبُهم غَدَوا دماً طازجاً وجنوداً مرتزقةً للإمبراطوريات. ورغم ذلك، فَهُم أَحَدُ أهمِّ القوى المُحَرِّكةِ لعجلاتِ التاريخ.
ولو لَم تَكُ غزواتُ الجرمان، الأتراكِ، المغول، العربِ، ومن قَبلِهم الهوريين، والعموريين، والإسكيت؛ فأغلبُ الظنِّ أنّ جريانَ التاريخِ كان سيكون مختلفاً. فبينما أطاحَ الجرمانُ والعربُ بالإمبراطوريتَين الرومانيتَين، فللأتراكِ والمغولِ نصيبُهم الوافرُ في دَكِّ دعائمِ الإمبراطوريتَين الإيرانيةِ والبيزنطية. إلا أنّ ما قامَ به زعماءُ قبائلهم لَم يَكُن أكثرَ من وضعِ تاجِ الإمبراطوريةِ الجديدة على رؤوسِهم، أو احتلالِهم أماكنَهم في صفوفِ جيشها وبيروقراطيتها. أما الباقون منهم، فإما أنهم كَوَّنوا القبائلَ مجدداً، أو أنهم تَخَبَّطوا في قاعِ المجتمعِ كعناصرَ مهمَّشةٍ لا شأنَ لها. في حين أنّ دورَ هاتَين القوتَين الداخليةِ والخارجيةِ في انهيارِ النظامِ العبودي لا يَقبلُ الجدلَ والنقاش، رغم عجزِهما عن طرحِ البديل وإنشاءِ الجديد بنفسِ النسبة. أي أنهما تَهدِمان وتنهبان وتُدَمِّران، ولكنهما تعجزان عن البناءِ وصَونِ الجديد.
في الحقيقة، لقد سَعَينا إلى الآن سَبرِ أسسِ الحداثةِ الرأسمالية عبر هذا العمل، الذي يمكننا تسميتُه بالبحث. وعَمِلنا على كشفِ التطوراتِ التاريخيةِ التي تَمَخَّضَت عنها الحداثةُ الرأسمالية. ذلك أنّ إحدى أهمِّ مزايا البنيةِ العلمية – السلطويةِ الرأسمالية هي تقديمُ ذاتِها بلا تاريخ. فاللاتاريخُ، واللامكانُ مُهِمّان للادعاءِ بِأنِها النظامُ الثابتُ الراسخُ والأخير. وعليه يَقومون بالتحليلاتِ الدقيقةِ للغاية والمذهلةِ للغاية في غيابِ الزَّمَكانية، لِيُدَوِّنوا ما يَجُلُّ حَصرُه من المؤلفاتِ المعنيةِ بالتاريخ الأصغَر Mikro والمستجداتِ الوقائعيةِ اليومية. فضلاً عن أنهم يَجنَحُون للتظاهرِ بالقضاءِ على تأثيرِ الزَّمَكان، وكأنهم أضاقوا الخِناقَ عليه. بالتالي، أَظهَرنا بِدَورِنا عن طريقِ هذا العمل أنه ثمةَ جريانٌ وتدفقٌ اجتماعيٌّ مغايرٌ لما تَسعَى تلك الجهود لتقديمِه وعرضِه، وأنه في حالةِ دورانٍ دائمٍ بوساطةِ جهودِ الإنسانِ الدؤوبةِ المذهلة. وبهذه المناسبة أَوضَحنا بجلاء استحالةَ التَّنَصُّلِ من التاريخ، وأنه مهما اعتَبَرت الرأسماليةُ ذاتَها آخرَ التاريخ، فثمة الكثيرُ من قوى الحضارة المدينية، التي طَرَحَت مثل تلك المزاعمِ بالنسبةِ لعصرِها. والآن، نحن على أَهُبَّةِ الاستعدادِ للوُلوجِ في تحليلِ الرأسمالية. حيث سنُواصِلُ إيضاحاتِنا – ولو تكراراً – بشأنِ تعريفِها وظروفِ خروجِها كمدنية. وسنُبَيِّنُ بعنايةٍ فائقة ما استَلَمَته من الحضاراتِ والمدنيات السابقة، وما أضافَته هي.
بالإمكان إيضاح هذا الفصلِ من مرافعتي كطَرحٍ أوليٍّ على النحوِ التالي: إنّ النظامَ المدينيَّ الدولتيَّ البارزَ اعتماداً على التكوين المتداخلِ للطبقةِ والمدينةِ والدولة، والذي يُطَوِّر نفسَه بالتكاثرِ المتواصلِ دون انقطاعٍ حتى وصل الرأسماليةَ وعصرَها الأخير المتمثل في الرأسمال المالي؛ إنّما يَعتَمِدُ بالأرجح إلى استعمارِ واستغلالِ وقمعِ المجتمعِ الزراعيِّ والريفي. هذا ويَضُمُّ طبقةَ كادحي المدنِ المتسعةَ مع الزمن إلى نظامِه الاستغلاليِّ القمعي أيضاً. والهيمنةُ الأيديولوجيّةُ هي المصدرُ الأساسي الذي تنهل المدنيةُ الدولتيةُ المُعَمِّرةُ خمسةَ آلافِ عام قدرتَها الأساسية في الحفاظِ على سيرورتِها إلى اليومِ الراهن بِالتَّضادِّ مع الحضارةِ الديمقراطية، التي تَرتَكِزُ إلى ظروفٍ زَمَكانيةٍ ربما هي أطولُ عمراً، ولكنها لم تَستطِعْ بِأيِّ شكلٍ من الأشكال النفاذَ من التشتتِ والتبعثرِ أيديولوجياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً. فالنظمُ القمعيةُ والعنفية الطاغيةُ لَم تَنجح في الرسوخِ إلا ببسطِ نفوذِها الأيديولوجي، فلم يَكُن التناقضُ الأساسيُّ بذلك طبقياً فحسب، بل هو على مستوى الحضارة. فالنضالُ التاريخي، الذي نَتَعَقَّبُه خلالَ خمسةِ آلافِ عامٍ على الأقل من التاريخِ المدوَّن، إنما هو بَينَ المدنيةِ الدولتية (المعتمدةِ أساساً على المدينةِ الطبقيةِ والدولةِ الطبقية) وبَينَ الحضارةِ الديمقراطيةِ غيرِ المتدولة، والتي يتألفُ هيكلُها الأساسي من المجتمعِ الزراعي والريفي، وكَوَّن كادحو المدن مضمونَها شيئاً فشيئاً مع مرورِ الأيام. وجميعُ العلاقاتِ والتناقضات والصراعاتِ والنضالات الأيديولوجيةِ والعسكرية والسياسية والاقتصاديةِ في المجتمع، إنما تَجري في حقيقتِها في ظل هذَين النظامَين الرئيسيَّين.
سأُقَدِّم الفصولَ اللاحقةَ من مرافعتي ضمن إطارِ تحليلِ هذه الأطروحةِ الرئيسية بإسقاطِها على الواقعِ الملموسِ للشرقِ الأوسطِ وكردستان.