العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (11)


عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 13 - 21:31     

ب- التطورات في ثقافة الصين والهند والهنود الحمر:
سيكون من المفيد أيضاً القيام بالرَصْد المختصر للتطورات الحاصلةِ في الصين والهند والهنود الحمر الأمريكيين ضمن إطارِ النُظُمِ الحضارية الخاصة بهم.
ومثلما ذَكَرنا سابقاً، فمع انتهاءِ العصرِ الجليدي الأخير، غَدَت الصينُ المنطقةَ الأهمَّ للمجموعات النازحة من الجنوب الغربي لِسِيبيريا نحو أقصى الجنوب لتستقر فيها اعتباراً من أعوام 000,10 ق.م. فالأراضي الخصبةُ على شواطئِ البحر، والأنهرُ الكبيرة، ووفرةُ النباتات وشتى أنواع الحيوانات؛ مَنَحَتهم فُرَصاً كبرى لظهورِ الثقافة النيوليتية والحضاراتِ المدنية على السواء. ويُلاحَظ تَطَوُّر ثورةٍ نيوليتيةٍ صينية في أعوام 4000 ق.م. القضيةُ الهامة هنا تَكمن في مدى كَونِ هذه الثورةِ الزراعية النيوليتيةِ خاصةً بالصين، ومدى كَونِها ثمرةَ التأثُّر بانتشار الثقافة الآرية. إذ لا يُعتَقَد عدم انتشارِ هذه الثقافة النيوليتية الآرية في الصين، باعتبارها مُنشأةٌ قَبل ثقافتها بستةِ آلافِ عامٍ على الأقل. وتزداد أهميةُ كون الثقافة الآرية مُعَيِّنة هنا. فالتاريخُ يَسرُدُ أمامَنا كيف أنّ الثوراتِ الثقافيةَ العظمى لم تَتَكَوَّن بسهولة، بل تَطَلَّبَت على الدوام تَحَقُّقَ المدةِ الأطول وتَوَفُّرَ الظروف الخاصة بها. وحسبَ تخميني، فبقدرِ ما تَكُون اشتراكيةُ الصين ورأسماليتُها الراهنةُ محليةً وأصليةً خاصةً بها، تَكُون نيوليتيتُها ومدنيتُها أيضاً خاصةً بها ومتسمةً بطابعِها المحلي. أرجو ألا أُفهَمَ خطأً، ولكني لا أشكُّ أبداً في كَونِ أكثرِ الرأسمالياتِ قومويةً إنما هي مُستورَدة. وهذا ما يَسري على الصين أيضاً. ويمكننا القولُ أنّ جميعَ التطوراتِ اللاحقة عبرَ انتشارِ نيوليتيةِ الصين نحو فييتنام وغيرِها من شبهِ جُزُرِ الهند الصينية، وشبهِ الجزرِ اليابانية والأندونيزية، وشبهِ الجزيرة الكورية؛ تشير إلى استحالةِ إرجاعِ تاريخِها إلى ما قبلِ أعوامِ 4000 ق.م.
والتاريخُ المُرتَأى لولادةِ الحضارةِ المدينية العبودية الصينية يُقارِب أعوامَ 1500 ق.م. إذ يمكنني القول أنّ أولَ أعظمِ إمبراطوريةٍ مركزيةٍ قد تَأَسَّسَت في هذه الأزمنة، وكانت مُفعمةً بالعديد من القدسيات، لِتِكُونَ بمثابةِ مدينةِ أوروك بالنسبةِ إلى الصين. أما في أعوام 1000 ق.م، فنلاحظُ انتشارَها وتوسعَها بعدَ مرحلةِ التأسيس، تماماً مثلما حصلَ لدى السومريين والمصريين. وتَشهَدُ هذه المرحلةُ الثانيةُ تأسيسَ عددٍ جمٍّ من الدولِ المدينية، ونشوبَ صراعٍ تنافسيٍّ حادٍّ بين المدائن، أَشْبَهُ بما كانت عليه حال السومريين في عهدِ مدينةِ أور. أما المرحلةُ الثالثةُ (250 ق.م – 250 م.) فتَتَعَزَّزُ مكانةُ السلالاتِ الحاكمة المركزيةِ فيها مرةً أخرى، لِتَترُكَ بصماتِها الواضحةَ على العهدِ الإقطاعي. قد تَكُونُ هذه السلالاتُ محليةً أو دخيلةً في أصولها، ولكنها تَستَمِرُّ بنفوذِها الصارمِ إلى بداياتِ القرن العشرين. وخلالَ هذه المرحلةِ نَشهَدُ انتشارَ الحضارةِ الصينية في أعوام 500 م. ضمن جُزُرِ الهندِ الصينية والجزرِ اليابانية، وبين المغول والأتراكِ الأوائل في آسيا الوسطى.
والغريبُ في شأنِ الثقافةِ الصينية هو غَلَبَةُ تفسيرِ حُكَمائِها للكون، بدلاً من اختراعِهم الآلهةَ على غرارِ الرهبان السومريين. فشروحُهم واصطلاحاتُهم حول الكون والطبيعةِ تَغلُبُ عليها السِّمةُ العلمية، حيث يَتَصَوَّرون الكونَ حياً. كما أنّ تعريفاتِهم للطاقةِ مفيدةٌ للغاية. وبشكلٍ عام، يُطلَق على الروحانيةِ الصينية اسمَ "الطاوية"، والتي يُمكننا تسميتَها بـ"الحِكْمة" أيضاً. هذا ويسعى كونفوشيوس، الذي عاشَ في أعوامِ 500 ق.م، إلى تنظيرِ مبادئِ وأخلاقِ نظامِ المدينةِ الحضارية والدولة. من هنا، فإسنادُ إرادةِ مجتمعِ الدولة إلى الأخلاقِ السليمة، عِوَضاً عن القوانينِ الرسميةِ، يُعزى إلى مذهبِ كونفوشيوس، الذي يَعمَلُ على تطويرِه، فيُؤَثِّرُ في المجتمعِ المديني الذي ينتمي إليه، بقدرِ ما كان عليه شأنُ زرادشت وسقراط اللذَين عاشا في نفسِ الفترة. هؤلاء الحُكَماءُ العظامُ الثلاثةُ يؤكدون بالأغلب على أهميةِ الأخلاق والفضيلةِ الجوهرية. إنهم الحُكَماءُ والمدافعون العظامُ عن الأخلاق.
يُنجِزُ الصينيون تطوراتٍ ملحوظةً هامةً في ميدانِ المدنية المادية، حيث يَسبِقُون الغربَ في الرقي بالتطور الصناعي بمدةٍ طويلة. إنهم مخترعو الورق والبارودِ والمطبعة، ويَتَصَدَّرون الميدانَ التجاريَّ في أقاصي الشرق، في مُبتدأِ طريقِ الحريرِ التاريخي. أما تَماسُّهم المتواصلُ والمُرَكَّزُ مع الحضاراتِ الشرقِ أوسطية، فقد حصلَ في القرونِ الأولى لِما قبلِ الميلاد وبعده، لِيَنفَتِحوا على الرأسماليةِ في أواسطِ القرنِ التاسعِ عشر، ويتفاقمَ تَضَخُّمُهم في راهننا، وكأنهم لوياثانٌ جديدٌ يَرصُدُ الجميعُ بفُضولٍ بارزٍ ما سيفعله، وكيف سيُحَقِّقُ اتساعَه.
أما في الهند، فلا نلاحظُ تطوراً نيوليتياً محلياً لمدةٍ طويلة. ويُخَمَّنُ أنهم عاشوا مرحلةَ الكلانِ البدائية على نحوٍ أَشبَهُ بالبيغما السُّودِ إبَّانَ تماسِّهم الأولِ مع الآريين الذين دَخلوا الهند في أعوام 2000 – 1500 ق.م. وبروزُ الثورةِ النيوليتية إنما مرتبطٌ بهذه التطورات. هذه الثورة، التي تَليها مباشرةً ودون فواصلَ زمنيةٍ بارزةٍ ثورةُ الحضارة المبتدئةُ في أعوام 1000 ق.م، فَرُوَّادُها هم الرهبانُ، مثلما الحال لدى السومريين. والكتبُ المقدسةُ الأساسيةُ لهذه الطبقةِ المُسَمَّاة بِرُهبانِ براهمان الشهيرين هي أسفار "الفيدا" ، والمؤَلَّفةُ في أعوام 1500 ق.م. وهي أَقْرَبُ لأنْ تَكُونَ نسخةً هنديةً مُعدَّلةً من الكتابِ العبراني المقدس، ولكنها أكثرُ طولاً وتعقيداً. وهي تَروي قصصَ نشوءِ طبقةِ الرهبان بركائزَ إلهيةٍ مذهلة، مع عدمِ إهمالِ إضفاءِ الطابعِ الملحمي عليها، لتُشَكِّلَ بذلك الأرضيةَ المنيعةَ لنظامِ الكاست . ويَظهَر أصحابُ طبقةِ "راجا" كقوةٍ سياسيةٍ وعسكرية في أعوامِ 1000 ق.م، ويَخُوضون صراعاتٍ محتدمةً وضاريةً مع البراهمانيين، لِيَغدوا الأصحابَ الجددَ للدولةِ – مثلما يحصل في كل مدنية – ويُشَكِّلوا القوةَ الكاستيةَ الثانية. ومثلما الوضعُ في الصين، ففي الهندِ أيضاً تُساعِدُ شواطئُ البحار والمياهُ العذبةُ على فِلاحةِ الأراضي. وتتزايدُ المدنُ في أعوام 1000 ق.م بالأغلب، لِتَتَمَيَّزَ بمعابدِها وقصورِها الضخمة. أما الزراعةُ، فهي أرقى بكثير، ويُؤَلِّف الفَلاحون وأصحابُ المهنِ الحرةِ طبقةً كاستيةً ثالثة. وفي الطبقةِ الأخيرة السفلى يقبع الباريائيون (المَنبُوذون)، الذين يَزدَرِيهم الجميعُ بما يضاهي ازدراءَهم للحيوان، لدرجةِ اعتبارِهم مجردَ الاحتكاكِ معهم جُرماً لا يُغتفَر.
يَصُوغ الهنود إلهياتٍ ثيولوجيةً متعددةَ الألوان، حيث يُنشِئون عدداً يَجُلُّ حصرُه من الموجودات الإلهية، بقدرِ ما يُولون الأهميةَ لإنشاءِ الآلهة الكبرى. في الحقيقة، إننا نَتَلَمَّسُ التأثيراتِ السومريةَ العميقةَ لديهم. أما زيادةُ جانبِ التعقيد الشائكِ فيها، فتعودُ إلى افتقارِها للكفاءةِ اللازمةِ لتحقيقِ تركيبةٍ جديدة، ولانحدارِها من مَشارِبَ خارجية.
تَشهَدُ الهندُ في أعوامِ 500 ق.م ولادةَ وتَرَعرُعَ المُصلِحِ الدينيِّ العظيمِ بوذا، مثلما يُلاحَظ ذلك في كلِّ الحضاراتِ الهامةِ آنذاك (كونفوشيوس في الصين، سقراط لدى الإغريق، زرادشت لدى الميديين – البرسيين). وبوذا مشهورٌ بتطويرِه إصلاحاً قوامُه الأخلاقُ دون الآلهة، حيث يَنتَبِهُ للآلامِ والمخاضاتِ المتفاقمةِ في الطبيعة والمجتمع، فيسعى لتطويرِ نظريةٍ ميتافيزيقيةٍ تهدفُ لتلافيها. البوذيةُ تعاليمٌ مُعارِضةٌ للحضارة المدينية، ومتميزةٌ بطابعِها الأيكولوجيِّ الوطيد. وتتصاعد في الصين واليابان وأراضي الهند الصينية. إنها تعاليمٌ جديرةٌ بالتركيزِ والتأملِ من جهةِ ميتافيزيقيةِ الأخلاق فيها، ونظامٌ إصلاحيٌّ يَغلُبُ عليه رصدُ النفْس الباطنية، والجوانبُ التطبيقيةُ الراسخة. علاوةً على وجودِ الإصلاحِ الإلهي المُسَمَّى "كريشنا" ، وكأنه أَقرَبُ إلى عبادةِ ديونيسوس منه إلى عبادةِ زيوس (ويَرمُزُ إلى التطوراتِ المَلَكِيَّةِ في مراحلِ البدايةِ بالأغلب). إنه دينٌ قوامُه الحياةُ الجبليةُ والترحال، ومفعمٌ بقصصِ العشقِ الصميمي مع الأَلْوِيَةِ النسائيةِ الحرة، ومُحَمَّلٌ بالبصماتِ القويةِ للثقافةِ النيوليتية. أو بالأحرى، هو مفهومٌ أخلاقيٌّ يُضفِي قِيمةً عليا على رغبةِ الحياة الحرة. وكون الإلهيات الهندية مشحونة بالتيارات المنحازة إلى شكلٍ من الماديِّة المناهِضِة للميتافيزيقيا المفرطةِ، إنما يَدُلُّ بما فيه الكفاية على مدى عُمقِ وضخامة التعقيدِ الاجتماعي والفوارقِ المعيشية في الهند.
تَكتَسِبُ الحضارةُ الهنديةُ بنيةً مركزيةً بعدَ غزوِ الإسكندرِ والبرسيين واستيلائهم عليها. أما أولُ تَمَركُزٍ شائعٍ وطيدٍ ومستقلٍّ بِذاتِه للراجائيين، فيُؤَسِّسُه الإمبراطورُ ماشوكا في أعوامِ 300 ق.م. وعلى غرارِ الصلاتِ الوثيقةِ بين الإصلاحِ الذي نادت به الديانةُ الزرادشتيةُ وتشييدِ الإمبراطوريةِ الميدية – البرسية المركزية، فَقَد تَقَبَّلَ ماشوكا من الصميمِ الإصلاحَ الدينيَّ الذي نادى به بوذا، لِيُحرِزَ النجاحَ في مساعيه تلك. ولكنه يَعجَزُ عن صَونِ نجاحِه لاحقاً حتى ولو بالقدرِ الذي حَقَّقَته الصين، لِيَعُمَّ فسادُ الراجائيين، وتسودَ حياةُ الفوضى والشغَبِ في أنحاءِ الهند، إلى أنْ تغزوها الدولُ الإسلاميةُ في أعوام 1000 م. وفي مُستَهَلِّ أعوام 1500 م. تَستَرِدُّ مركزيتَها مجدداً بإشرافِ وإدارةِ الأباطرةِ المغوليين المسلمين، لِتُنجِزَ تَطَوراً حضارياً ملحوظاً، وتَستَمِرَّ قُدُماً في توسعِها. ومع تَسَرُّبِ العناصرِ المعتمدة على الرأسماليةِ منذ أعوام 1500، والاحتلالِ الإنكليزيِّ لها في أواسطِ القرن التاسع عشر؛ تُشرِعُ بولوجِ مرحلةٍ جديدة. في حين تنالُ استقلالَها كدولة بعدَ الحربِ العالمية الثانية. ورغم خسارتِها باكستان وبنغلادش اللتَين تُشَكِّلان طرفَيها في الشمال الشرقي والشمال الغربي، إلا أنها لا تزالُ محافظةً على غناها الثقافيِّ بكلِّ تعقيداتِه الشائكة – بعدَ تطعيمِه بالمدنيةِ الرأسمالية الراهنة – معتمدةً على مياهها العذبة وشواطئِ بحارها، التي تبدأ من حوافِّ جبال همالايا، لِتَحتَلَّ مساحةً شاسعة تَشمَلُ شبهَ الجزيرةِ سائرةً. وفي خِضَمِّ أجواءٍ متوترةٍ مشحونةٍ بالفوضى والكياناتِ المتناقضة، ومفعمةٍ بالبنى السياسيةِ واللغوية المتباينة والمتنوعة، بدءاً من الدين إلى الفن والأخلاق، ومتعرفةٍ أيضاً على الديمقراطية؛ تَحَوَّلَت الهندُ من وحشٍ متجزئٍ متشرذمٍ للغاية إلى لوياثانٍ قويٍّ يزداد الفضولُ بشأنِ كيفية تأثيرِه في العالم، بما يُماثلُ الصينَ بأقلِّ تقدير.
أما التطورُ الحضاريُّ في البلدانِ الأخرى المتأتي من الثقافةِ الأم ذات المنشأِ الصيني، من قَبِيلِ اليابان، أندونيزيا، فييتنام، وكوريا وغيرِها؛ فهو ذو طابعٍ مماثل، حيث يَحتَذون بالحضارةِ الأمِّ في التطور والتوسع. ولكننا لا نرى حاجةً للبحثِ فيه بالنِسبَة لموضوعنا.
تَنتشرُ الحضارةُ في القارةِ الأمريكية على مرحلتَين. حيث يُجمَع بشأنِ المرحلة الأولى على الرأيِ القائلِ بانتشارِ مجموعاتِ الهنودِ الحمر في أمريكا الشمالية ثم الجنوبية عبر مضيق برينغ خلالَ أعوامِ 7000 ق.م (رغمَ اختلافِ الشروحِ التاريخية، إلا أنّ الأكثرَ معقوليةً هو الانتشارُ عُقبَ العصرِ الجليدي، وهذا ما يتزامنُ مع هذه السنين). ويُخَمَّن تَعَرُّفُهم على الثورةِ النيوليتية في أعوام 3000 ق.م، وتوجُّهُهم نحو التَّحَضُّرِ في أعوام 500 م، حيث يُشيدون صرحَ أُولى الحضاراتِ في الشرق (أمريكا الجنوبية)، بدءاً من المكسيكِ إلى تشيلي باسمِ آزتك ، مايا ، وإنكا . ولكنّ جُذوةَ هذه الحضاراتِ المشابهة لحضارةِ مدينةِ أوروك الأولى لدى السومريين تَنطفئُ وتَخبو قبل أنْ تَتَمَكَّنَ من تأسيسِ مدنٍ أكبر، أو من زيادةِ تعدادها. ويُعزى ذلك بالأرجحِ إلى الظروفِ المناخية والجغرافيةِ على وجهِ التخمين، حيث كانت لا تزال محافظةً على وجودها، ولو خاملاً، لدى مجيءِ الأوروبيين. أما بُناها المدنيةُ القويةُ وبقايا معابدِها، فكانت تَصونُ تأثيرَها حينذاك. ولو أنهم وَجَدوا إمكانياتِ التوسعِ نحو أعماقِ القارة، لربما تَمَكَّنوا عندئذٍ من الرقيِّ لمراحلَ أرقى، وتأسيسِ مراكزَ موحدةٍ أكثرَ عدداً. هذا ويُلاحَظُ أسبقية منزلةِ الرهبان في هذه التجاربِ الحضارية أيضاً، مما يُمكننا تسميتها بحضاراتِ الرهبان. في حين أنّ تقديمَهم الشبانَ اليافعين كقرابين، تَقشَعِرُّ له الأبدان (تَشهَدُ الكثيرُ من الحضاراتِ تقديمَ الإنسان قرباناً للآلهة). وتُعَدُّ بدائيةً، رغمَ ظهورِ إشاراتٍ أَقْرَب للكتابة. في حين أنّ آفاقَهم واسعةٌ فيما يتعلقُ بالتقويمِ السنوي، وزَوَّدوا الحضارةَ العامةَ بالعديد من أنواعِ النباتِ والحيوان. أما أمريكا الشمالية، فلم تَكُن قد تَعَرَّفَت بعدْ على الحضارةِ وقتَذاك.
يتزامنُ بِدءُ الانفجارِ الحضاريِّ المديني الأصليِّ في القارةِ الأمريكية مع القرنِ السادسِ عشر بعدَ الميلادِ، لدى الشروعِ بالاكتشافِ والاحتلال والاستعمارِ والاستيلاء. ومع التطورِ الحضاري المديني الرأسماليِّ الجديدِ ببروزِ البلدان المستقلةِ ظاهرياً بعدَ تقسيمِ الرأسمالية إلى دولٍ قوميةٍ في القرنِ التاسع عشر، وبالتزامنِ مع بناءِ الولايات المتحدة الأمريكية في أمريكا الشمالية؛ تَلحَقُ بموكبِ أنظمةِ الحضارة المدينية العالمية، وتَتكامل معها (ولأنها لم تَتَعَرَّف على أيةِ حضارةٍ سابقة، فإنّ التطورَ الرأسمالي يُحرِزُ تَقَدماً جذرياً عاليَ الوتيرةِ). وبِمَعِيَّةِ الولاياتِ المتحدة الأمريكية يَستَمِرُّ النظامُ في انطلاقتِه كقوةٍ مهيمنةٍ بعدَ الحرب العالمية الثانية. أما أمريكا الجنوبيةُ، فلا تزال تُثابِرُ بكلِّ اندفاعٍ في راهننا على البحثِ عن نموذجٍ حضاريٍّ جديدٍ مقابل المدنيةِ الرأسمالية المنتميةِ في جذورِها إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية (كوبا، فنزويلا، بوليفيا وغيرها).
بالمقابل، فقد كانت مَأْسَسَةُ الثقافةِ النيوليتية من نصيبِ أوروبا، اللوياثان العملاق في راهننا. ولا يخطر على البال اسمُ أيةِ حضارةٍ في أوروبا، فيما خلا بضعةِ حامياتٍ رومانية مشيَّدةٍ في عام 100 ق.م الذي شَهِدَ تَوَسُّعَ الإمبراطوريةِ الرومانية. بل نَشهَدُ تجارةً متواضعةً بالمعادن في أماكنِ تواجدها، مع تَطَوُّرٍ في الزراعة القروية، إضافةً إلى سيادةِ نزوحِ القبائل وهجراتِها وصراعاتها، وسيادةِ ذلك بأسماءٍ عديدةٍ من قَبِيلِ الإسكيت، الهُون، القوط، الكلتيين Keltler، والنورديين Nordikler. نُنَوِّهُ إلى أننا نستثني روما والثقافةَ اليونانية من هذه المرحلة، حيث سنتناول لاحقاً هاتَين الساحتَين المُؤَلِّفَتَين للأطرافِ الغربية من الحضارةِ الشرق أوسطية على شكلِ عنوانٍ منفصل.
لا تزالُ أفريقيا محافظةً على أواصرها مع المسيرةِ الأولى للإنسان، حين كان يَبحثُ عن الكلأِ وأدواتُه في يده، وبثقافتِه الجذريةِ الأصيلةِ الأولى الطويلةِ الأمدِ المُعاشةِ في مناطقِ تَشَكُّلِ الثقافةِ الأفريقية العريقةِ الأمِّ البالغةِ لغةَ الصوتياتِ الرمزيةِ بعدَ لغةِ الإشارات. هذه القارةُ الأمريكية – التي لم يَتَخَطَّ تَعَرُّفُها على الحضارةِ المصرية حدودَ السودان، في حين استَمسَكَت الحبشةُ فقط بجانبٍ من جوانبِ الحضارة المسيحيةِ في العصور الأولى – وبينما شَهِدَ شمالُها ظاهرةَ الأسلَمةِ عُقبَ الغزوِ الإسلامي الكاسحِ على يدِ العربِ الساميِّين لِيَشهَدَ انفجاراً حضاريّاً إسلاميّاً عظيماً حينئذ؛ نراها محاصَرةً بالمدنيةِ الرأسماليةِ الأوروبية من جميعِ أطرافها في القرن التاسعِ عشر. أما أفريقيا، التي تُلاقي صعوبةً كبرى في تَحَمُّلِ وهَضمِ المدنياتِ نَظَراً لبنيتِها الداخلية، فتَشهَدُ فوضىً عارمةً بِكلِّ معنى الكلمة في الوقتِ الراهن، وتشبه الشوربة بسببِ احتوائها خليطاً متمايزاً من الثقافات والمراحلِ المتباينة من المدنية. وهذا ما يَجذِبُ الأنظارَ إليها لِرَصدِ ماهية الحياةِ الحرة أو الحضارة أو الحداثةِ التي ستَندمِجُ وتتكامَل معها، وانتظارِ ذلك بفضولٍ ولهفةٍ وريبةٍ وأمل؛ تماماً مثلما يُلاحَظ ذلك في مثالِ أمريكا الجنوبية، وفي الشرقِ الأوسط أيضاً ولو بدرجةٍ نسبية.

ج- الحضارة الإغريقية – الرومانية وقضايا انتشارها:
يجب عدمَ الاستغرابِ من بَحثِنا في التوسعِ الحضاري ذي الجذورِ السومرية والمصريةِ معاً، ذلك أنَّ كلتَيهما حضارتَان جذريتان أحرزتا التطورَ بالتزامن وبتأثيرٍ متبادلٍ لأولِ مرةٍ في التاريخ البشري. كما أَثَّرَتا في بعضهِما عن كثبٍ أثناءَ التوسعِ أيضاً. أما انحدارهما إلى المشاربِ الشرقِ أوسطية، فهو سببٌ آخرٌ لهذا التكاملِ والتلاحم. ذلك أنّ تداخُلَهما منذ الولادة من المزايا المميزة للمنطقة. كما شَهِدنا إنشاءَهما للعديدِ من البداياتِ الأولى. ولا يُمكِنُ إنكار تَشَكُّلِ الانتشاراتِ والتوسعاتِ اللاحقة باعتمادِ هاتَين الحضارتَين أساساً من حيث المضمونِ والشكلِ على السواء. إذن، لا جدالَ في ترابطِهما من حيث الجذر، وإنْ لم تَكُونا متطابقتَين كلياً. لذا، يبقى احتمالُ التحليلِ أو التفكيكِ الكافي لأيةِ حضارةٍ مدينيةٍ أخرى ضعيفاً دونَ التفكيرِ بمصر وسومر. ومثلما الحالُ في المدنيةِ الرأسمالية تماماً، فالنموذجُ الأولُ للحضارةِ المدينية العبودية يَنتَشِرُ ويتكاثرُ بالاعتمادِ على النموذجِ السومريِّ أولاً ثُم المصري، مع بعضِ التعديلاتِ الطفيفة. إلا أنّ المؤرخين وعلماءَ الاجتماعِ لا يَنفَكُّون يُكَرِّرون شروحَهم المُسَلَّم بها دون تأسيسها على هذه القرابة الحرجة، أياً كانت الأسباب. وما إصرارُنا في التشديد على ذلك سوى بهدفِ تحطيمِ مفاهيمِ هذه المُسَلَّمات.
لقد تَطَرَّقنا للصعوباتِ التي واجهناها في هذا الانتشارِ الأول. فكان أَوَّلُها مستوى التأثيرِ المتبادل بين سومر ومصر، وهو موضوعٌ يتطلب تسليطَ الضوءِ عليه. وثانيها قضيةُ الحضارةِ الميدية – البرسية السبّاقةِ لغيرها في تشكيلِ ذاتها خارجَ نطاقِ مراكزِ ميزوبوتاميا، ومدى اعتبارِها أصلاً حضارياً منفصلاً بِحَدِّ ذاته أم لا. إذ أنه من المعلوم استقاءَها الكثيرَ من تصنيفاتِها الأساسيةِ من السومريين، وكذلك من البابليين والآشوريين والأورارتيين، الذين هم امتدادٌ للسومريين. لكنه من المعلوم أيضاً إنجازُهم إصلاحاتٍ عظمى في التاريخ. فالثورةُ الأخلاقيةُ الزرادشتيةُ (القريبةُ إلى أخلاقِ الحرية)، ونظامُ الولاياتِ المركزية، ونظامُ الجيوش؛ كُلُّها يُعتَبَرُ مِن أُولى ساحاتِهم الجديدة. ولهذا السببِ وَجَدنا أنفسَنا مضطرين لتفسيرِها كحلقةٍ انتقاليةٍ مختلفةٍ ومتمايزةٍ هامة تتوسطُ الحضارةَ الرومانيةَ – الإغريقية والحضارتَين السومرية والمصرية. وهذه الفوارق والتمايزات والأهمية تَلعبُ دورَ المفتاحِ في موضوعِ تحليلِ مراحلِ الحضارة المدينية، انطلاقاً من مفهومٍ تاريخيٍّ سليمٍ وصائب. وفي حالِ العكس، فلن نَقدِرَ على تحليلِ الحضارةِ الإغريقية – الرومانية على نحوٍ سليم، أو أننا سَنُقَدِّمُ شروحاً غيرَ علميةٍ بشأنِها، فَنَعزو إليها مزايا معجزوية استثنائية، ونُقحِمها في تشويشاتٍ أَعقَد.
أما القضيةُ الثالثةُ، فكانت معنيةً بمشاكلِ أصولِ الحضارتَين الصينية والهندية، حيث نَوَّهنا إلى ضرورةِ النظرِ بعينِ الحيطةِ إلى كَونِهما مستقلتَين بخاصياتِهما، مما يساعدنا أكثر على التفسير الصحيح لأوجهِ الشَّبَه والاختلافِ بين الحضارات المدينية.
فإذا كانت حضاراتُ أمريكا الجنوبية حضاراتٍ مدينيةً خاصةً بذاتها حقاً مثلما يُزعَم، وحتى لو كانت حضارتَا هارابا وموهانجادارو خاصَّتين بذاتَيهما؛ فسيَكُون من المعقول أكثر القبول بأنّ جذوتَها خَمدَت حتى قبلَ تَخَطِّيها لمرحلةِ المدينةِ التأسيسيةِ الأولى (على نمطِ أوروك). علينا التبيان بأنّ كُلاً من أفريقيا وأوروبا (عدا الإغريق – الرومان) وحتى أستراليا شَهِدَت التحضرَ في مراحلِ الانتشار اللاحقةِ بِأَمَدٍ بعيد، وأنها – بما فيها أمريكا – تَحَضَّرَت على أساسِ الرأسمالية، وأنّ المدنيةَ الرأسماليةَ أَدَّت دورَها البارزَ في تَحَضُّرِ هذه المناطق في تلك المراحل وما قبلها. سَنَتَمَكَّنُ من تقديمِ تعريفٍ وتفسيرٍ أصحّ بشأنِ الحضارةِ الإغريقية – الرومانية بعدَ هذا التمهيدِ المختزل.
لا جدالَ في أنّ الحضارةَ الإغريقيةَ الرومانية شَيَّدَت صرحَ حضارةٍ مدينيةٍ تُضارِع المثالَ الميديَّ – البرسي في خاصياتها ورُقِيِّها. أما الزعمُ بانبثاقِ هذه الخاصيةِ في ظلِّ ظروفِ شبهِ الجزيرة، دون الأخذِ بعينِ الحسبانِ التوسعَ المتراميَ الأطرافِ للحضارتَين المصريةِ والسومرية، وللحضاراتِ اللاحقةِ من بابليةٍ، آشورية، ميتانيةٍ، حثية، أورارتيةٍ، وميديةٍ – برسية، وبِغَضِّ النظرِ عن مزاياها وطِباعِها الأصليةِ؛ فلن يَكُونَ سوى عمىً تاريخياً فادحاً، وتحريفاً فظيعاً. فَكُلُّ ما بِحَوزَتِنا من اختراعاتٍ، وتصنيفاتٍ ذهنية، وتطوراتٍ دينيةٍ وأخلاقيةٍ وفلسفيةٍ وفنيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ وعلمية، إنما تَحَقَّقَت في خضمِّ مراحلِ ولادةِ وتَطَوُّرِ ونزاعِ وصراعِ تلك الحضاراتِ الآنفة الذكر، والتي كانت قد وَرِثَتها بنسبةٍ لا يُستهان بها مِن مراحلِ تَمَأسُسِ المجتمعِ النيوليتي. وقد كنا سَعَينا لسردِ قصةِ ذلك سابقاً، ومن دون التغاضي البَتّةَ عن جهودِ الشرائحِ الحاكمةِ في اللجوءِ إلى النهب والسلبِ واللصوصية والتعمية والتسترِ والشرعنةِ على وجهِ التخصيص.
يَلُوح أنّ حركةَ التنويرِ والتقدم العلمي في أوروبا بَقِيَت جاهلةً بهذا الواقعِ أَمَداً طويلاً. وعندما تَأَصَّلَتْ في نهضةِ الثقافةِ اليونانية والرومانية، راحت تُصِرُ بِعِنادٍ على أنّ نسبةً عظمى من المنجزاتِ هي من اختراعِها واكتشافِها هي، لِتَغدُوَ مسئولةً أيضاً عن التعريفِ الخاطئ للحضارةِ الإغريقية – الرومانية.
ولن يَعُزَّ على المرءِ اكتشافُ مَنشأِ أصولِ الثقافةِ اليونانية بنسبةٍ كبرى حتى بِمجردِ مطالعةِ تاريخِ هيرودوت. فجميعُ المستنداتِ التاريخية التي بِحَوزَتنا تُشير إلى تَسَرٌّبِ الثقافةِ واللغة الهندوأوروبية (الآرية) أَوَّلاً إلى شبهِ الجزيرة الإغريقيةِ منذ أعوام 5000 ق.م، ومن ثَمَّ مُعايشتِها للثورةِ النيوليتية. ويَتَّسِمُ عدم غَضِّ الطَّرْفِ عن منبعِ هذه الفترة بأهميةٍ كبرى لقراءةِ سياقِ تاريخِ التطوراتِ بعينٍ سليمة. ومن المعقولِ القول بأنه، وابتداءً من أعوام 1800 ق.م، نَقَلَت الموجاتُ الجديدةُ الاكتشافاتِ الحضاريةَ مع هجراتِها، لِيَعبُروا إلى مرحلةِ تأسيسِ أولِ مدينةٍ مماثلةٍ لنموذجِ أوروك في أعوام 1400 ق.م. وقد حَظِيَت هذه المرحلةُ بالدعمِ والمَعُونةِ والنماذجِ من ثلاثِ جهاتٍ مختلفة، حيث يُلاحَظ رَجَحانُ تأثيرِ الحثيين، الذين يُوَثِّقون هذه المناطق باسم آهيافا Ahiyeva. ومنذ أعوام 3000 ق.م يَبدأ التبادلُ التجاري مع المنطقة عبر طروادة، التي كانت تَحتَلُّ مكانةً مصيريةً بالنسبةِ لشبهِ الجزيرة في هذه المرحلة (3000 – 1200 ق.م)، وبالتالي كانت من أُولى أهدافها. لقد مَدَّهم الحثيون بالوفيرِ من الوسائلِ الأيديولوجية (الآلهة، الآداب، العلم) والماديةِ (بالأخص الأشياء المعدنية والفخاريات والمنتوجاتِ النسيجية للمتاجَرة بها)، ليؤدوا دوراً بارزاً في إحداثِ النقلة إلى الحضارة. أما الفينيقيون، فَيَختَصّون بالمِلاحةِ البحريةِ، ويُعَلِّمونهم الأبجديةَ الفينيقية، ويُشَيِّدون المدنَ التجاريةَ على غرارِ النموذجِ الشرق أوسطي، ليَكُونوا رُوَّادَه بكلِّ تأكيد. هذا ويُؤَثِّرُ فيهم المصريون بشكلٍ بارز، سواءً مباشرة، أو عن طريقِ الحضارةِ الإغريقيةِ المتطورة بالاعتمادِ على مستوطناتِهم (وهي الحضارةُ الخاصةُ الوحيدةُ التي أَثَّرَت فيها مصر). وشتى أنواعِ الاختراعاتِ الحضارية الشرقِ أوسطية تتغذى على الدوام من هذه القنواتِ الأربع (حتى أعوام 2000 – 600 ق.م). وفي المرحلةِ الأخيرة، يَتَجَوَّل كل من صولون، فيثاغورس ، وتالِس في أنظمةِ القصور والمدارس المصريةِ والبابلية والميديةِ – البرسية في القرنَين السابع والسادسِ قبلَ الميلاد، لِيَنتَهِلوا منها دروسَهم وأنظمةَ قواعدِهم، ويَنقلوها معهم إلى شبهِ الجزيرة.
وبعدَ سقوطِ طروادة (أعوام 1200 ق.م) تتعرضُ السواحلُ الغربية لبحرِ إيجة إلى غزوِ القبائلِ الإيونية، الإيولية Aiol، والدورية . ويمكننا البدء بتاريخِ الهجرات من أعوامِ 1000 ق.م على وجهِ التخمين. هذه الهجماتُ الأولى – التي يُسَمِّي المصريون أصحابَها بالأقوامِ الساحلية – على صلةٍ بسقوطِ طروادة، وتَمتَدُّ لِتَشملَ شرقي البحر الأبيض المتوسط ومصر. أما هذه المجموعات، التي اكتظ بها غربي الأناضول وجزر إيجة، فهي بمثابةِ "البرابرة" الهمجيين في نظرِ الحضارتَين الطروادية والحثية. أما ساحاتُها الحضاريةُ فتَكمُنُ في بلادِ الحثيين ومَملكةِ طروادة الصغيرة. وكان لن يستطيعَ البرابرةُ التحضرَ إلا بعدَ الاستقرارِ طويلاً في كنفِ ثقافةِ الحضارة المدينية. وهذا ما حصلَ بطبيعةِ الحال، حيث يشرعون بالتَّمَدُّنِ بعدَ فاصلٍ زمنيٍّ طويلٍ، بدءاً من أعوام 700 ق.م، سواءً في شبهِ الجزيرة ذاتِها، أو في جزرِ إيجة وشواطئِها. ويَقومُ هوميروس بتسطيرِ قصصِ بطولاتِ الحربِ المتبقيةِ من هذه المرحلةِ الطويلة من الاستقرار، والمستجداتِ القائمةِ في أطرافِ طروادة على نحوٍ ملحمي. أما الأوديسا ، فهي قصصُ الاستقرارِ في الجزيرة. وكَونُ مراكزِ التمدن القائمةِ في سواحلِ بحرِ إيجة معبأةً بالأصالةِ لِحَدٍّ ما هو حقيقةٌ واقعة. فميراثُ الثقافاتِ الغنية والمتنوعة لأقصى الحدود، وتربةُ أراضيهم الخصبةُ الصالحةُ لِنُمُوِّ النباتات ورعيِ الحيوانات بشكلٍ استثنائي، ساعَدَهم ومَدَّهم بالقدرةِ الكافية على عكسِ هذه التركيبةِ الجديدة المنقطعةِ النظيرِ على هويةِ هذه المدائنِ الحديثةِ العهد. وهكذا يُبدُون مهاراتِهم البارعةَ في تحويرِ العناصرِ الأيديولوجيةِ والمادية للثقافة الشرقِ أوسطية وإطراءِ التحولاتِ عليها كُلّياً، وفي استخلاصِ التركيباتِ الجديدة منها بإخضاعها لتغييراتٍ جوهرية نسبياً وشكليةٍ بنسبة هامة. وبالمقدورِ القولُ أنهم يُبدُون مساهماتِهم التاريخيةَ الخاصةَ بهم بما يُماثِلُ الاختراعاتِ والاكتشافاتِ الحاصلةَ في العصرِ النيوليتي 6000 – 4000 ق.م، وكذلك بما يُطابِقُ مثيلاتِها في المراحلِ السومرية والمصرية والحثيةِ والأورارتية والميديةِ – البرسية. أي أنهم يُنجِزون الحملةَ الثقافيةَ العظمى الثانيةَ أو الثالثة.
القضيةُ الهامةُ هنا تَتَجَسَّد في موقعِ المركزِ كأحدِ حملاتِ التنوير العظمى. فإذا ما أخذنا بعينِ الحسبانِ أنّ أولَ تكوينٍ مدنيٍّ (في أعوام 1400 ق.م) لَم يُحَقِّق الثباتَ، وأنّ المرحلةَ اللاحقةَ له بَقِيَت في كنفِ الظلام، وأنه لَم يَبقَ منها سوى بضعةُ مستوطناتِ الفينيقيين التجارية؛ سنلاحظ أنّ شبهَ الجزيرةِ الإغريقية لم تَحتَضِن في طواياها أيةَ حضارةٍ مدينيةٍ حتى أعوام 700 ق.م. بل ثمة صراعاتٌ قبليةٌ حينها، وثمة مَن اشتَهَر كالآكائيين Akalar، وخاصةً هجماتُهم المتواصلةُ على المناطقِ الحضارية في الأناضول عن طريقِ بحرِ إيجة. من المؤكدِ أنهم كانوا في المرحلةِ البربرية، وأنّ مَن يَرأسُهم هو زعيمُ القبيلة، أكثرَ مِن أنْ يَكُونَ مَلِكاً (فالمَلِكُ يستلزمُ وجودَ المدينة). وكانت أثينا وقتئذ بعيدةً عن أنْ تَكُونَ مركزاً حضارياً – رغمَ ازدهارِها – في أعوام 600 ق.م. وكُلُّ الاحتمالاتِ تَدُلُّ على أنّ المدائنَ التي أَسَّسَتها القبائلُ التي على سواحلِ بحرِ إيجة أَدَّت دوراً مركزياً أوطد. فالأسماءُ الذائعةُ الصِّيتِ في حملةِ التنوير، وفي مقدمتِها هوميروس، الحكماءُ السبعة، تالِس، هيروقليطس ، بارمنيدس ، ديموقريطس، وفيثاغورس؛ جميعُها تنتمي إلى مدنِ السواحل الغربية لبحرِ إيجة. لقد تَأَسَّسَت سلسلةٌ من المدنِ المتعاقبة في هذه البقعة.
الأمرُ الهامُّ هنا هو انحدارُ أغلبِ قصصِ ولادةِ الآلهةِ الشهيرةِ – وفي صدارتِها أبولو – إلى هذه المناطق وجِوارِها. فالمدنيةُ الماديةُ فيها أكثرُ رُقِيّاً بالنسبةِ إلى شبهِ الجزيرة. فضلاً عن أنّ أكثرَ المعابدِ ومراكزِ التكهنِ شهرةً تقعُ في السواحلِ الغربية لبحرِ إيجة. والكثيرُ مِن الأدلةِ والبراهينِ الأخرى التي يُمكِنُنا سردُها، تَدُلُّ جميعُها على أنّ مدنَ الإيونيين كانت مراكزَ إيجة الحضاريةَ الجديدةَ بعدَ مرحلةِ الحثيين والفريغيين والليديين ، أو على الأقلِّ في زمانِهم. في حين أنّ سكانَ شبهِ الجزيرة ليسوا سوى استمرارٌ لهم. والخاصيةُ الحرجةُ هنا تَتَمَثَّلُ في انتقالِ مركزِ الحضارة المدينية إلى أثينا مع احتلالِ الإمبراطورية الميديةِ – البرسية لهذه الأراضي في 545 ق.م. ولهذا السببِ بالذات بالإمكانِ تسميةُ أعوامِ 500 – 400 ق.م بعصرِ أثينا العظيم، حيث تَنتَقِلُ كافةُ آثارِ الحضارة الأيديولوجيةِ والمادية الموجودةِ في مدنِ سواحلِ إيجة إلى أثينا، ويَلُوذُ القسمُ الأعظمُ من المتنورين إلى هناك، وإلى جنوبي إيطاليا وبعضِ الجزر الأخرى، لِتَنحَطَّ مكانةُ المنطقةِ شيئاً فشيئاً في كنفِ النفوذ البرسي.
والحضارةُ البرسيةُ – دون أدنى شك – هي الأعظمُ والأبهى في تلك المرحلة. فهي لا تَكتَفي بالاستقاءِ من المناطقِ الإغريقية، بل وتُقَدِّمُ لها مساهماتٍ عديدةً. لكن، ومع خُسرانِ إيجة لاستقلالها، تَخسَرُ معها المنطقةُ أولَ فرصةٍ لها – وربما آخرُها أيضاً – في تشييدِ صرحِ حضارةٍ عظمى. وأستطيعُ القول أنه لو لَم يَحصلْ ذلك، لَربما أَسَّسُوا حضارةً تُنازِعُ وتضاهي في عَظَمَتِها وزُهُوِّها وانتشارِها في سائرِ بلادِ الأناضول جميعَ الحضاراتِ الأخرى من سومريةٍ ومصريةٍ وهندية وصينيةٍ وحثية وبرسية. وربما بَقِيَت شبهُ الجزيرتَين الإغريقيةِ والإيطاليةِ في مستوى ولايتَين خاضعتَين لها. إنهم يَخسَرون فرصةَ بناءِ إمبراطوريةٍ تَفُوقُ بيزنطة بمضامينِها وأبعادِها أضعافاً مضاعفة. فوجودُ البرسيين في إيجة قضى عليهم من جهة، وأعاقَ انتفاعَ أهالي إيجة من حَقِّهم في ريادةِ نظامٍ حضاريٍّ عظيمٍ من جهة أخرى. فَلنَتَذَمَّرْ ولنَسخطْ ولنَتَأَلَّمْ من ذلك قدرَ ما شئنا عن وجهِ حق. لقد جَرَّبَ المقدونيون حظَّهم في ذلك أولاً متمثلاً في الإسكندر، لكنّ ما تَمَخَّضَ عن ذلك كان ثقافةً متجزئةً للغاية، مفتقرةً لمركزٍ تَصُبُّ فيه. ومهما سُمِّيَت تلك الثقافةُ بعالَمِ الثقافةِ "الهيلينية"، إلا أنها كانت متعددةَ المراكز، ولم تَذهَبْ أبعدَ منْ أنْ تَكُونَ تركيبةً جديدةً شرقيةً – غربية توفيقيةً متمفصلةً Eklektik بعيدةً عن الإبداعِ الأصيل الحقيقي. أما الابتكارُ الإمبراطوريُّ الروماني اللاحق، فلم يَمنَح إيجة أيةَ فرصةٍ أكثرَ من أنْ تَكُونَ ولايةً مركزُها بارغاما Bergama خصيصاً. بمعنى آخر، فما فَعَلَه البرسيون بهم في الشرق، كَرَّرَهُ الرومان في الغرب.
من الصحيح على سبيلِ الاصطلاح النظر إلى الحضارةِ المتمركزةِ في أثينا على أنها حضارةٌ مدينيةٌ حقيقيةٌ مِن جهةِ تَعاظُمِ مُدُنِها وتكاثرِها كَمّاً. فقد تَرَكَت بصماتِها على عصرِها في ميدانِ الحضارة المادية والأيديولوجية. ولدى تقييمنا أثينا، علينا قراءتها على أنها أَشبَهُ بخليطٍ جديدٍ ناجمٍ عن صهرِ كافةِ الحضاراتِ المذكورةِ سابقاً في بوتقةٍ واحدة. فهي تُنجِزُ ثورتَها الحضاريةَ العظمى بتجديدِ تاريخِ الحضارة برمته، بقدرِ تجديدها لتاريخِ الثقافةِ النيوليتية خصوصاً، وبالاستفادةِ مجدداً من جميعِ منجزاتِها واختراعاتها وابتكاراتِها الأيديولوجيةِ والمادية، لتُوَحِّدَها مع تأثيراتِها المحليةِ بقدرِ توحيدِها مع متطلباتِ عصرِها الجديد.
الخاصيةُ العظمى الأولى فيها تَتَجَسَّدُ في هَضمِها وتَبَنّيها للفلسفةِ أيديولوجياً من حيث هي فكرٌ وشكلٌ عقائدي، أكثرَ من نزوعِها للأديانِ الوثنية. ذلك أنّ الفلسفةَ تُسفِرُ عن انفجارٍ عظيمٍ في المعاني. وهكذا نُثِرَت وَرُشَّت بذورُ كلِّ الميولِ الفلسفيةِ للعيان في هذه المرحلة، لِتَجِدَ جميعُ الأنماطِ الفكرية فُرصتَها في الولادةِ والتداول، بدءاً من المثاليةِ المحتوى إلى المادية، من الميتافيزيقيةِ المضمون إلى الجَدَلية. وبينما كانت الأسبقيةُ لـ"الفلسفةِ الطبيعية" قَبلَ سقراط، رَجَحَت كَفَّةُ "فلسفةِ المجتمع" في عهدِه وما بعد. ويَلعَبُ تفاقمُ "القضايا الاجتماعية" (القمعُ والاستغلالُ والاستعمار) دورَه في بروزِ هذه المستجدات. لِنُشَدِّدْ مرةً أخرى على أنّ "القضايا الاجتماعية" تعني تأسيسَ سلسلةِ المدينة، التجارةِ، الدولةِ، والإداري الحاكم. فضلاً عن أنّ المدينةَ – باعتبارِها مركزَ المدنية المادية – تُؤَثِّرُ في جعلِ الفكرِ الفلسفي ضرورةً اضطرارية. فالمدينةُ بِحَدِّ ذاتِها تعني الانقطاعَ عن المجتمعِ العضوي. بالتالي، من السهل بمكان تَشَكُّلُ ذهنيةٍ منقطعةٍ عن الطبيعةِ في أجواءِ المدينة. بمعنى آخر، فالرَّحِمُ الأمُّ لكلِّ ضروبِ الأفكارِ الميتافيزيقيةِ والماديةِ المُجَرَّدَةِ والفظة هو المدنيةُ المؤسَّسةُ على دعامةِ خيانةِ البيئةِ والطعنِ بها.
إذن، وبينما تَكُونُ الفلسفةُ انطلاقةً في الفكر، فهي من الجانبِ الآخر شكلٌ آخرُ مِن أنماطِ الفكرِ المغتربِ عن البيئة. والصوفيون الذين يَعمَلون على نشرِ الحِكَم والمعارف الفلسفيةِ أَشْبَهُ بِمُتَنَوِّري تلك المرحلة (مثقفو أوروبا في القرن الثامنِ عشر). حيث يُدَرِّسون أولادَ العوائلِ الميسورةِ مقابلَ ما يَتَقاضَونَه من مال. ويُؤَسِّسُ الفلاسفةُ مدارسَهم، تماماً مثلما اخترعَ الرهبانُ الدينَ، ومثلما شَكَّلوا الأناسَ التابعين للمعبد. إنهم يَبنُون ما يُشبِهُ الكنائسَ (المجالس). ويَتَكَوَّنُ زخمٌ من المدارسِ الفلسفيةِ على غرارِ ما في الأديانِ التعددية. يمكننا النظرُ إلى كلِّ مدرسةٍ منها كَدِينٍ أو مذهبٍ مستقلٍّ بذاته. ونظراً لأنّ الأديانَ نمطٌ فكريٌّ في نهايةِ مطافها، فيُمكِنُ اعتبارها فلسفةً تقليديةً متمأسسةً وواضحةَ المعالمِ العقائدية. أي، من المهم عدمَ النظرِ إلى الفوارقِ بينهما على أنها تَضَادّ. فبينما يَكُونُ الدينُ قُوتاً للشعبِ المرؤوسِ والموجَّه بالأغلب، تَكُونُ الفلسفةُ غذاءَ المتنورين والشبانِ المنتمين للطبقات المتقدمة. من هنا، فأفلاطون وأرسطو يَتَطَلَّعان لِتَحَمُّلِ مسئولياتٍ ومهامّ أَقْرَبَ إلى أنْ تَكُونَ سعياً للنجاح في تأسيسِ مدينةِ الرهبان والحفاظِ عليها وإنقاذِها، ولكنْ، بمنظورٍ فلسفي. أي أنّ العملَ الأساسيَّ الذي يَنكَبُّ عليه الفلاسفةُ هو كيفيةُ تحديدِ الإدارةِ المثلى، والصَّونُ الأمثلُ لمجتمعِ المدينة ودولتِها، بل وقبلَ كلِّ شيء، تحديدُ مقوماتِ تأسيسِها المثلى.
أما الخاصيةُ الهامةُ الثانيةُ لحضارةِ أثينا، فتَكمُنُ في كَونِها السَّبَّاقةُ (الأولى) في تركيزِها بعنايةٍ فائقةٍ على الديمقراطية (الجمهورية) على الصعيدَين النظريِّ والعملي. إنها مرحلةٌ جِدُّ هامةٍ في عمومِ تاريخِ الحضارة، ولكنها ديمقراطيةٌ معنيةٌ بالشريحةِ الأرستقراطية فحسب. فإذا ما وضعنا نُصبَ العينِ تَعريفَها المحدودَ للغاية لمواطني المدينة، نرى أنها لا تَشتَمِلُ حتى على عُشْرِ المجتمع. ومع ذلك، فهو تجديدٌ هامٌّ حقاً، حيث يؤدي دوراً عظيماً في تكوين وتَطويرِ الفلسفةِ وفنِّ السياسة. فالديمقراطيةُ كمصطلح تعني اهتمامَ الشعبِ نفسِه بالسياسة، أي الانشغالَ بالذات بشؤونِ الإدارة والحكم. والسياسةُ الديمقراطيةُ قَوامُها التفكيرُ في جميعِ القضايا الاجتماعية الحيوية، وتداولُها، واتخاذُ القراراتِ بصددها. بالتالي، فخاصيةُ السياسةِ الديمقراطيةِ – والتي تعني المجتمعَ المنفتحَ أيضاً – تُقَدِّمُ مساهماتٍ ليست بالهَيِّنةِ في حضارةِ أثينا.
ويَبرُزُ مجمَّعُ الآلهةِ في هيئةٍ معماريةٍ جديدةٍ كلياً، حيث تُبهِرُ الأنظارَ بأعمدتِها المستطيلةِ الواسعةِ التي تَحُفُّها، وأسوارِها الخارجيةِ التي تستوعبها وتَلُفُّها. فكأنّ معابدَ أبولو وأرتميس وأثينا تتنافسُ فيما بينها لإبرازِ عَظَمَتِها في جميعِ المدنِ الشهيرة. وفي مجتمعِ أثينا يَغْلُبُ إدراكُ مدى كَونِ الآلهةِ تصوراً خيالياً، ليس إلا. بالتالي، تَنحَطُّ مكانةُ العقائدِ الدينية شيئاً فشيئاً، وكأنّ مؤسِّسي آلهةِ المدائنِ السومرية يعيشون مراحلَهم الأخيرةَ في حضارةِ أثينا وروما. ومع الأخذِ بعينِ الحسبانِ أنها مدينةٌ تأسيسية، فقد سُمِّيَت مدينةُ أثينا بهذا الاسمِ نِسبَةً للإلهةِ أثينا، مؤسِّستها وحاميتها، والتي تُذَكِّرُنا بِإينانا، إلهةِ أوروك. وهذا المثالُ بِحَدِّ ذاتِه يَضَعُ البَنانَ على أوجُهِ الشَّبَه بين الحضارات، وحَذْوِها حذوَ بعضِها البعضِ كتقليدٍ ضاربٍ للأنظار. أما الأقسامُ الأخرى من المدن، فَغَلَبَ عليها الطابعُ المؤسساتيُّ عبرَ العديدِ من الكيانات، من قَبِيل الآغورا (السوقِ التجارية)، الكنيسةِ (مكانِ المجلس)، المسرحيةِ، الأروقةِ (شوارعِ التَّنَزُّه المُظَلَّلة)، وأماكنِ الرياضةِ البَدَنِيّة (الملاعبِ المُدَرَّجة) وغيرِها؛ وأَنجَزَت مستوىً راقياً من البنى، بِحَيث تَخلو بعضُها من الأسوار، وتحتوي عدداً ضَخمَاً من القصورِ الفخمة. إنها بُنى شبيهةٌ بِقَريناتِها لدى الحثيين، ولكنها تُفوقُها رُقِيّاً، كما تَزيد عليها من حيث تعدادِها السكاني.
هذا وشَهِدَت تَطَوُّرَ الآدابِ المكتوبة. بل وربما أننا أمامَ ثقافةٍ أدبيةٍ هي الأعظمُ على الإطلاق من جهةِ توثيقها ضمن المستَنَداتِ المدوَّنة طيلةَ مسارِ التاريخ. فالمسرحُ عاشَ أمجَد مراحلِه الثورية، وكَثُرَت النتاجاتُ الملحميةُ والمأساوية، وكُتِبَت المُؤَلَّفاتُ التاريخية. كما كانت ملحمةُ هوميروس تُقرَأ وكأنها كتابٌ مدرسي، وصِيغَت الكثيرُ من الوقائعِ والأحداث بِلُغةٍ مسرحيةٍ بارعة، وكأنها تُبَشِّرُ بولادةِ السينما. وتَطَوَّرَت المِلاحةُ البحريةُ والتجارةُ لدرجةِ أنها غَدَت الحضارةَ الثانيةَ بعدَ الفينيقيين في صناعةِ السفن المتطورة. كما بَرَزَت التجارةُ في مجتمعِ أثينا – ولو بنطاقٍ ضيق، وليس كمهنةٍ لامعةٍ أو مُفَضَّلة – لِتَزرَعَ فيها أولى بذورِ الرأسمالية، حيث تَبدو وكأنها ستَنتَقِلُ إلى النظامِ الرأسمالي فيما لو قامَت بحملةٍ أخرى إلى حَدٍّ ما. هذا وتَطَوَّرَ فنُّ المعمار فيها أيضاً، إذ تُبَرهِن بنى المدينةِ ذلك بما فيه الكفاية. وأَحرَزَ فنُّ النحت مستوياتٍ أَقرَبَ إلى المثالية. بالإضافةِ إلى مشاهدِ تضخيمِ الأمور، والتي تَجذِبُ الأنظارَ وهي تُحيي الميثولوجيا على خشبةِ المسرح. هذا ونُنَوِّهُ على الفورِ أنها تَمَيَّزَت بأدبياتٍ ميثولوجيةٍ متماسكةٍ وقويةٍ للغاية، ومؤلَّفةٍ من جَمِيعةٍ sentez تتضمن كافةَ ميثولوجياتِ الحضارات السابقة لها (الاعتقاداتِ غيرِ الدينية، الأنماطِ الفكرية). فالميثولوجيا هي فنُّ سردِ قصصِ الوقائعِ التي يَعُزُّ على المجتمعِ تفكيكُها وإدراكُها، وكانت شائعةً في العصور الأولى.
كما أَحرَزَت الموسيقا تَطَوُّراً ملحوظاً، سواءً في عددِ الآلات الموسيقية، أو في تَنَوُّعِها (الإلهيةِ منها وغيرِ الإلهية، المهتمةِ بالعشق والملاحم). واستَمَرَّ النثرُ الشعريُّ في وجودِه، وإنْ لم يَكُن بقدرِ ما كان عليه في عصرِ البطولات (إبّانَ بناءِ مجتمعِ المدينة، وهو مرحلةٌ بربريةٌ عليا).
تأتي إسبارطة في المرتبةِ الثانيةِ بعدَ أثينا، حيث تَتَمَيَّزُ بِسَيرورةِ التقاليدِ المَلَكِيَّة القديمةِ فيها بأكثرِ درجاتِها صلابةً وصرامة. وقد كانت النزاعاتُ والحروبُ مستمرةً فيما بينهما. كما تَرَكَ هذان النموذجان – أثينا وإسبارطة – بصماتِهما في جميعِ أنحاءِ شبهِ الجزيرة، حيث شَهِدت تطوراً سريعاً في التوسعِ المديني، فَعَجَّتْ شبهُ الجزيرةِ والسواحلُ المقابلةُ لها أولاً بالنموذجِ عينِه من المدن، ثم تَلَتها سواحلُ البحر الأسود وبحرِ مرمرة في الانتقالِ إلى تأسيسِ المدن. فالتعدادُ السكانيُّ الهائلُ والتجارةُ حَفَّزا على بدءِ عصرِ استيطانٍ جديدٍ متطورٍ جداً، لدرجةِ أنّ جميعَ سواحلِ وجزرِ البحر الأبيض المتوسط على وجهِ التقريب اكتَظَّت بالمدنِ الاستيطانية. بل وشَهِدَت مصرُ أيضاً بناءَ محلاتٍ أو مدنٍ متفرعةٍ من النموذجِ الإغريقي. هذا وانطلقوا نحو مرسيليا جنوبي فرنسا ونحو حدودِ إسبانيا المُطِلَّة على شواطئِ البحر الأبيض المتوسط، لِيُؤَسِّسوا فيها ما هو أَشبَهُ بِغُرَفِ التجارة ، التي صُيِّرَت مدناً فيما بعد. إلى جانبِ بروزِ المستوطنات في جنوبِ إيطاليا أيضاً بنسبةٍ هامة، لِتَلُوحَ وكأنها تتولى دورَ الفينيقيين في ذلك. لكن، ورغمَ كلِّ هذه التطوراتِ العظيمة، ورغمَ تأسيسِ وحداتِ المدن في شبهِ الجزيرة؛ إلا أنها لَم تبلغْ مستوى قوةٍ إمبراطوريةٍ كتلك التي تَمَتَّعَت بها الإمبراطوريةُ البرسيةُ أو الرومانية، بل ودَخَلَت تحت حُكمِ ونفوذِ إمبراطورياتٍ كانت هي الأخرى عاجزةً عن أنْ تَصِير إمبراطوريةً كما تتطلب روح العصر. أما حضارةُ شبهِ الجزيرة التي رادَتها أثينا في 330 ق.م، فتُواجِهُ خطرَ المقدونيين المتعالي شأنُهم كمَلَكِيَّةٍ حديثةِ العهد في شمالها. وهكذا، فالحضارةُ الإغريقيةُ القاصرةُ عن تصييرِ قوتِها وكفاءاتِها الأيديولوجيةِ والماديةِ العظمى نظاماً سياسياً مركزياً يتخطى آفاقَ المدن، قد فَقَدَت استقلالَها – الذي لن تستردَّه أبداً – منذ عام 330 ق.م بعدَ إبدائها مقاوماتٍ عدةً في الحروبِ التي خاضتها، لِتَقتَصِرَ على الاستمرارِ في تحقيقِ ديمومتها لأمدٍ طويلٍ كمركزٍ ثقافيٍّ جديدٍ وحسب، تماماً مثلما كانت حالُ بابل.
أما الضربةُ القاضيةُ التي لَحِقَت بديمقراطيةِ أثينا (وقد كانت تَلَقَّت ضرباتٍ كاسحةً فيما قبل في حروبها المريرة التي خاضتها طيلةَ ثلاثين عاماً مع مَلَكِيَّة إسبارطة)، فقد أَتَتها من الاتحاداتِ المقدونية، التي كانت قد سَطَعَت شمسُ مَلَكِيَّتِها لِتَوِّها. ذلك أنّ فيليب وابنَه الإسكندر – الساعِيَين لتوطيدِ التماسكِ بين صفوفِ القبائل التي تحت إشرافِهم، والمنحدرَةِ من الثقافةِ اليونانية، والمستعمِلَة لغةً مختلفة، والمشَكِّلَةِ أنساباً وأصولاً مغايرةً، ليُصَيِّراها اتحاداً ملتئمَ الشمل – يَظفران بِنَيلِ الاعتراف بنفوذهِما في جميعِ أرجاءِ شبهِ الجزيرة عام 359 ق.م. هذا الإسكندرُ الابنُ، الذي مَرَّ بحياةٍ غريبةِ الأطوار ومثيرة، بَقِيَ مدةً طويلةً تلميذاً لأرسطو، الذي كان وُلِد في مدينةٍ قريبةٍ من منطقةِ المقدونيين. ويبدو – فيما يبدو – أنّ العلاقةَ فيما بينهما تَعَدَّت حدودَ التلميذِ والمعلِّمِ لتغدوَ حميمةً للغاية. وما فِرارُ أرسطو من أثينا بُعَيْدَ موتِ الإسكندرِ سوى دليلٌ صارخٌ على ذلك. فقد كان أرسطو لَقَّنَ الدروسَ للإسكندر في المدينة القائِمةِ على شواطئ إيجة، وقام بِتَعبِئَتِه وشحنِ دماغِه بالذخرِ الوافرِ من القيم الثقافيةِ اليونانية وآلهتِها الميثولوجيةِ في وقتٍ كان نفوذُ البرسيين في آخر محطاته. ولم يَكُنْ ثمةَ سياسيٌّ يونانيٌّ يَجهَلُ غنى الإمبراطوريةِ البرسية الذي يَفتَحُ الشهيةَ ويَشرَحُ الصدور، لدرجةِ أنّ القضاءَ على البرسيين قبلَ آنٍ قد غدا مسألةَ ولعٍ وهيامٍ أَقْرَبَ إلى تَلَوِّي الإسلامِ وتَحَسُّرِه للقضاءِ على البيزنطيين. وقد سادَ هذا الشعورُ في أفئدةِ جميعِ العساكر المتأهبين للهجوم والانقضاض. أي أنّ جيشَ الإسكندر لم يَكُ جيشاً عبودياً تقليدياً.
من المهمِّ الإدراك جيداً أنّ الإسكندرَ قد وَضعَ عينه على ثقافةٍ أَثبَتَت نجاحَها وجدارتَها، وتَطَلَّعَ إلى غنى الشرقِ الزاخر، فتَحَرَّكَ بِرِفقةِ الاتحاداتِ الطوعية الجديدةِ المسماةِ بـ الكتائب (فالانج Falanj) بقيادةِ زعماءِ العشائر الجاهدةِ للخروجِ حديثاً من المرحلةِ البربرية. وهكذا غزا الأراضيَ التي كان يَطَأُها لِيَصِلَ في نهايةِ المآلِ إلى سواحل نهر السند في بلادِ الهند، وذلك بالاشتباكِ والاصطدامِ المتواصلِ على التوالي معَ كلِّ مَن يواجهه، وخوضِ حروبٍ ومعارك كثيرة أَشهَرُها معاركُ غرانيكوس وجقوروفا في بلادِ الأناضول، وإيسوس في شرقي البحر الأبيضِ المتوسط، وآربيلا في شمالي العراق. ولدى مسيرِه مجدداً في أراضي جنوبي إيران البَلِيَّةِ اللعينة، وهو لا يزالُ في ربيعِهِ الثالثِ والثلاثين، تُوافِيه المنيةُ في بابل – التي كانت مركزَ العالَم في وقتها – لأسبابٍ لا يزال الغموضُ يَلُفُّها؛ لِيُخَلِّفَ وراءَه أراضيَ مفتوحةً تُضارِعُ الإمبراطوريةَ البرسيةَ في سِعَتِها، وتَغدو منفتحةً كلياً للثقافةِ اليونانية.
كانت هذه المنطقةُ قد تَحَضَّرَت سابقاً، إلا أنّ قَوامَ عناصرِها الأيديولوجيةِ والماديةِ كانت تمتد إلى عبوديةِ الجيلِ الأول. في حين أنّ الثقافةَ اليونانيةَ كانت تَخَطَّت هذه الثقافةَ الحضاريةَ منذ أمَدٍ بعيد، ويافعةً تَعِدُ بمستقبلٍ مشرق. وبالتالي، فهي قابلةٌ للتطعيم أيضاً. فكيفما قامَ الرهبان السومريون بتطعيمِ الثقافة النيوليتية ليُنشئوا منها أولَ ثقافةٍ طبقيةٍ مدينيةٍ ودولتية، فكذا كان أمرُ الثقافةِ اليونانية في نَضارتِها وقدرتِها على تطعيمِ هذه الساحات الحضاريةِ القديمة، وإنْ ليس بالعمقِ ذاته. هكذا تَأَسَّسَت العديدُ من المَلَكِيَّات في هذه المرحلة المُسَمّاة بالعهد "الهيليني"، والتي دامت فيما يبدو بين سنوات 330 ق.م و250 م. وأبرزُ هذه المَلَكِيَّاتِ البارزةِ حديثاً مَلَكِيَّةُ بتولاما Ptoleme في مصر، وباركانيوس Berganios في الأناضول، والسلفكوسيين Selevkoslar في سوريا وميزوبوتاميا. وبعدَ هزيمةِ السلالةِ الأخمينية، انكبَّت سلالةُ البارثيين الحديثةُ العهد على ترميمِ الإمبراطوريةِ الإيرانية، لِيَمتَدَّ نفوذُها في نفسِ المرحلة ويدومَ حتى أعوام 250 ق.م – 220 م، دون أن يُجَسِّدَ تجديداً يُذكَر. هذا العهدُ "الهيليني"، الذي دامَ حوالي خمسمائةَ سنة، يُجَسِّد تركيبةً جديدةً فائقةَ الأهمية، خاصةً من جهةِ إنشاءِ المدن الجديدة، ومجمعِ آلهتها الذي يُمَثِّلُ ثقافةً شائكةً ومتعددةَ المشارب، وعلى رأسِها الآلهةُ اليونانيةُ والإيرانية، وكذلك باعتبارِ كَونِ اللغةِ والثقافةِ اليونانية قد سادتا رسمياً في جميعِ هذه الأراضي الفسيحة. بل إنّ حياةَ الإسكندرِ نفسِها كانت تُعَبِّر عن جَميعةٍ شرقيةٍ – غربيةٍ. ورغم أنها كانت تُمَثِّل تركيبةً جديدةً من مجموعِ الثقافاتِ التي كانت مهيمنةً في تلك الأزمنة، إلا أن ذلك لم يَكُ لِيُفقِدَها أهميتَها، لدرجةِ أنّ التاريخَ لَم يَشهَد بعدَها جميعةً ثقافيةً بهذه العظمةِ والبهاء، بما في ذلك راهنُنا أيضاً. وأكبرُ برهانٍ على ذلك، أنقاضُ قبرِ آنتيوشوس Antiochus، مَلِك كوماگين Komagene، على سُفوحِ جبلِ نمرود، والذي كان يَرأَسُ أعتى مَلَكِيةٍ اتَّخَذَت من مدينةِ أديامان Adıyaman مركزاً لها (كانت عاصمتُها حينئذ مدينةَ ساموسات Samosat التي طَمَرتها مياهُ نهرِ الفرات لاحقاً). فَلِكَونِها إحدى عجائبِ الدنيا المعدودة، غدت بذلك رمزَ الجميعةِ (التركيبة) الشرقية – الغربية، أكثر من كونِها مجردَ دليلٍ على هذه الحقيقةِ وحسب.
ما يَكتَسِبُ الأهميةَ هنا بالنسبة لموضوعنا ليس تَوَسُّعَ الحضارة المدينية العبودية في الأراضي الخاويةِ أو تحويلَها والثقافاتِ النيوليتيةَ والبربريةَ إلى مدنياتٍ ذاتِ شأن، بل المهمُ هو مساعي حضارةٍ مدينيةٍ عبوديةٍ حديثةِ العهد – الحضارةِ اليونانية الهيلينية، التي أَنجَزَت مرحلةً أعلى من التقدم – في بَسطِ هيمنةِ ثقافتِها الجديدةِ على كافةِ المناطق، بدءاً من الهند إلى روما، ومن السواحلِ الشماليةِ للبحرِ الأسود إلى البحرِ الأحمرِ وُصولاً إلى الخليجِ الفارسي، وإعادةِ تصييرِها حضاراتٍ في ظِلِّها. فالممثلُ اليافعُ المِقدامُ لهذه الثقافةِ الجديدةِ الصاعدةِ في مدينةِ روما، قامَ بِتَطويرِ النهجِ نفسِه والسيرِ عليه، ليُشَيِّدَ صرحَ حضارةٍ هي الأعظمُ في التاريخِ نِسبةً لعهدها.
يَتَحَلَّى تعريفُ الثقافةِ الرومانيةِ بأهميةٍ قد تُعادِلُ ثقافةَ أثينا على الأقل. تَعُودُ العلةُ الأولى في أهميتِها إلى كَونِها ذروةَ الحضارةِ المدينية العبودية وكأنها قمةُ جبالِ أفرست، حيث يَليها التهاوي السريع لهذه الحضارة. وتَتَجَسَّدُ العلةُ الثانيةُ في كَونِها الممثلَ الأعظمَ لثقافةِ الإمبراطوريةِ بأبعادِها وأعماقها. حيث لَم تَبلُغ أيةُ إمبراطوريةٍ في التاريخ البهاءَ والعظمةَ التي حَقَّقَتها روما. ثالثاً؛ كونها آخرَ أقوى وأعتى ممثلي الآلهةِ – الملوك المُقَنَّعين. حيث لا يُعثَر في التاريخِ على أيِّ أحدٍ صاحبِ إرادةٍ أو قُدرةٍ تُماثِلُ ما كان عليه أباطرةُ روما باعتبارِ أنفسِهم في عِدادِ الآلهةِ والبشرِ معاً، وانتهالِهم قوتَهم من إراداتِهم وكفاءاتهم في الأمرِ والعمل، ولا يَأبَهون بمحاسبةِ أحدٍ لهم (لا تُحاسِبُهم أيةُ قوةٍ ماديةٍ أو معنوية)، ولكنهم مُقتَدِرون على محاسبةِ كلِّ الناسِ وكلِّ الأشياءِ في العالم، وتأمينِ الإذعانِ والامتثالِ لأوامرهم. رابعاً؛ كونها الدولةُ التي تَنشرُ الحقوقَ والمواطَنةَ وتُعَرِّفُهما لأوسعِ قطاعاتِ الجماعاتِ البشرية. خامساً؛ هي الإمبراطوريةُ السَّبَّاقةُ في فتحِ الآفاقِ أمامَ المواطَنةِ العالمية، والكوزموبوليتية، وبالتالي أمامَ الدينِ العالمي (الكاثوليكي والبطريركي). سادساً؛ كونُها فجر المدنيةِ الأوروبيةِ الكبرى، ومُبتَدَأ جِسرِها. سابعاً؛ بقاؤها كجمهوريةٍ مدةً طويلة.
لا شكَّ البتةَ في أنّ مدينةَ روما لم تَستَحوِذ على هذه التطوراتِ المجيدةِ عبرَ المعجزات، بل حَظِيَت بهذه القدرةِ الكامنةِ والقوةِ الفعالة بفضلِ كونها الممثلُ المبدعُ والأخيرُ للثقافاتِ الأربعِ العظمى السابقةِ لها. فالثقافةُ الأولى هي الثقافةُ النيوليتيةُ الأقدمُ على الإطلاق. فمثلما هي الحالُ في أوروبا سائرةً، فقد أَثَّرَت هذه الثقافةُ على شبهِ الجزيرة الإيطاليةِ أيضاً في أعوام 4000 ق.م، وأحكَمَت قبضتَها عليها، لِتَكُونَ قبائلُ لاتينو الإيطاليةُ آخِرَ ممثلٍ لها. لذا، فالقولُ بأنّ هذه القبائلَ قد شَرَعَت بإضفاءِ الهويةِ على ما يُعرَف اليوم بإيطاليا، وتحديدِها معالِمَ هويتِها الأثنيةِ في أعوام 1000 ق.م، إنما هو احتمالٌ أقربُ إلى الصواب. حيث تَعَرَّفَت عبرَ هذه الهويةِ على شتى المؤسساتِ النيوليتية وذهنياتِها. ويُعتَقَد أنها من أصولٍ أوروبية. وحامِلو الهويةِ الثقافيةِ الثانية من المحتمل أنْ يكونوا مجموعاتِ أتروسك Etrüsk، التي كانت شِبهَ نيوليتيةٍ – شِبهَ عبودية، والتي نَقَلَت معها اللغةَ والثقافةَ الآرية ذاتَ المنشأِ الميزوبوتامي عبر بلادِ الأناضول في أعوام 1000 ق.م، والتي يُخَمَّن أنها استَقَرَّت في شمالي إيطاليا في أعوام 800 ق.م، لِتَنشُرَ تلك الثقافةَ فيها، وتنالَ شرفَ أولِ شعبٍ نثَرَ بذورَ أولِ حضارةٍ في إيطاليا ومدينةِ روما. والثالثةُ هي الثقافةُ الإغريقيةُ، التي اتَّخَذَت أثينا مركزاً لها، وكانت في مَجدِها، والتي ما لَبِثَت أنْ تكوَّنت حتى انطلقَ جَناحٌ منها صوبَ جنوبي إيطاليا، لِيَستَقِرَّ كأولِ مستوطنةٍ فيها (فيثاغورس ومجموعتُه، وذلك في أواخرِ أعوام 500 ق.م). ورابعُها ثقافةُ شرقي البحرِ الأبيض المتوسط ذاتُ الجذورِ المصرية والساميّة، والتي نَقَلَها إلى شبهِ الجزيرة الإيطالية في أعوام 800 ق.م الفينيقيون، مؤسِّسو قرطاجة والمستوطناتِ الفينيقيةِ الأخرى.
وبالمقدور القول أنّ هذه الثقافاتِ الأربعَ تُشَكِّلُ الذريعةَ الأوليةَ والعلةَ الركنَ في قصةِ روما بانسلالها إلى شبهِ الجزيرة كالعسلِ المُرشَّحِ المُقَطَّرِ من جميعِ الثقافات، فيما خلا الصين. إنها الماءُ الجوهر المتكونُ في رحمِ الأم. من هنا، فالقولُ بأنّ هذه الجَميعة، التي تَفُوقُ وتُضاهي الجميعةَ الثقافيةَ لأثينا وغربي إيجة، تَنبعُ من تَجَمُّعِ والتئامِ هذه الثقافاتِ الأربعِ كقوةٍ كامنةٍ ودفاقة، إنما هو القولُ الأدنى إلى الحقيقة. وثمةَ قولٌ شعبيٌّ شائعٌ يقول بإنشاءِ روما على يدِ الأَخَوَين رومولوس وروموس المَولودَين مِن أنثى الذئب، مثلما نَجِدُ أقوالاً كهذه عن جميعِ البنى المشابهة. إنها مقولةٌ غريبةٌ في إشارتِها لِكَونِ المنشأِ دخيلاً (خارجياً) ومُنَقّى (صهر الثقافات في بوتقة واحدة)!
تَتَمَثَّلُ الفائدةُ الكبرى في القصةِ الميثولوجيةِ التي تَروي إنشاءَ المدنيةِ الرومانية بعدَ سقوطِ طروادة على يدِ إينياس ، صديقِ باريس في الحروبِ الناشبة؛ في عكسِها الصريحِ للطابعِ الأناضولي فيها. إنها التعبيرُ الملحميُّ عن مقاربتنا وسلوكنا نحن.
فقصةُ الإنشاءِ على يدِ الملوكِ الرهبان حوالي أعوام 700 ق.م إنما تَنطَبِقُ على نزعاتِ تشييدِ وإنشاءِ مدنِ جميعِ الحضاراتِ المدينية الأولية المشابهة. في حين أنّ القصصَ التي تَروي النزاعاتِ المتواليةَ المندلعةَ بين أنسابِ العشائرِ في أطرافِ المدن تُسَلِّطُ الضوءَ كفايةً على العلاقةِ الكائنة بين بناءِ المدينة والتمايزِ الطبقي والتَّدَوُّل. فالنِّزاعاتُ والمشادّاتُ الحاصلةُ بين قبائلِ الأتروسك واللاتينو، وكذا العديدُ من الصراعاتِ والمشاحناتِ التي نُصادفها في الكثيرِ من أمثلةِ البناءِ والتشييد، إنما تَعُودُ إلى النزاعِ بين الثقافةِ النيوليتيةِ الأهلية المحلية، وبين ثقافاتِ التمدنِ المعتَبَرةِ دخيلةً عليها.
يَكمُنُ حُسنُ طالعِ روما أثناءَ بناءِ المدينةِ وازدهارِها في منزلةِ شِبهِ الجزيرةِ آنذاك، واحتلالِها مكانَها في أقاصي الغربِ من الحضارات، وعدمِ وجودِ حضارةٍ أقوى وأَمتَنَ منها في شماليها تَكُون القارةُ الأوروبية منشأَها. ذلك أنّ الخطرَ كان سيَأتيها من جانبَين حينئذ: من حضارةِ شِبهِ الجزيرةِ الإغريقية التي مركزُها أثينا، ومن قرطاجةِ التي كانت غَدَت حضارةً مدينيةً مستقلةً رغمَ كَونِها المستوطَنة الفينيقية الأقوى في شمالي أفريقيا. فعجزُ الحضارةِ اليونانية عن تَخَطِّي حدودِ عصرِ المستوطنات، وتَعَرُّضُها المتواصلُ للهجماتِ البرسيةِ من الشرق، وعدمُ قدرتِها على التحولِ إلى مَلَكيةٍ موحَّدةٍ أو إنشاءِ إمبراطوريةٍ متجانسةٍ بسببِ التنافسِ المستشري بين المدائن، وسقوطُها خلالَ مدةٍ قصيرةٍ تحت قبضةِ الهيمنةِ المَلَكِيَّةِ المقدونية؛ كلُّ ذلك مؤشراتٌ على قُصورِها عن أنْ تَكُونَ مصدرَ تهديدٍ جديٍّ على روما. بينما كان بمقدورِ قرطاجة أنْ تَكُونَ نِدَّاً لها بِشَكلٍ جديّ، ذلك أنّ قُربَهما مِن بعضِهما لدرجةٍ كبيرة، واستعدادَهما للتوسعِ في المناطقِ نفسها، وهرعَهما الدائم وراءَ الهيمنة نظراً لطبائعِ المدنيات؛ كلٌّ ذلك كان سيُشعِلُ فتيلَ الحربِ بينهما عاجلاً أم آجلاً. وهكذا كانت الصراعاتُ الضاريةُ المحتدمةُ بينهما طيلةَ ما يناهزُ عصراً بأكملِه (أكثر من قرن) ستنتهي بانتصارِ روما الكاسح، لتُزيلَ مِن دربِها العائقَ الأساسيَّ المُقلِق. فتحديدُ الإسكندرِ لروما كهدفٍ له قُبَيل وفاتِه كان سيَكُونُ التهديدَ الأخطرَ عليها (شبهُ الجزيرةِ اليونانية كانت تَعتَرِفُ أصلاً بنفوذِهِ كإلهٍ مَلِك). من هنا، فإنّ حُسنَ الطالعِ الأكبر الآخر لروما يَكمُنُ في قضاءِ الإسكندرِ حَتفَهُ مبكراً، حيث كان من السهلِ جداً أنْ تَحُلَّ الإمبراطوريةُ الإسكندرانيةُ مكانَ الإمبراطوريةِ الرومانية كأعتى قوةٍ صَعَدَت مسرحَ التاريخ حتى وقتذاك. وكان الإسكندرُ قديراً على ذلك. وبعدَها (حوالي أعوام 150 ق.م بُعَيدَ حربِ قرطاجة) كان عالَمُ كلِّ الحضاراتِ القديمةِ والثقافةِ النيوليتيةِ منبسطاً أمامَ مطامعِ روما وفتوحاتِها، فيما عدا البارثيين في أقاصي الشرق، ومن بَعدِهم الإمبراطوريةُ الإيرانيةُ بزعامةِ السلالةِ الساسانية.
أما انتقالُ روما إلى الجمهوريةِ في 508 ق.م، فهو استمرارٌ مؤسساتيٌّ لديمقراطيةِ أثينا. وبقدرِ ما أَثَّرَ الأساسُ الثقافيُّ الجديدُ في هذه النقلة، فللنفوذِ الذي تَتَمَتَّعُ به الأرستقراطيةُ أيضاً نصيبُه الوافرُ في ذلك. وقد يَكُون عدم تأديةِ إسبارطة دوراً تطويريّاً ملحوظاً تجاهَ أثينا في تجاوزِ التجربةِ المَلَكِيَّةِ السابقة سبباً آخر. فالمَلَكِيَّاتُ عادةً ما تَكُونُ تَعَصُّبيةً، ولا تَسمَحُ بِانتعاشِ الأرستقراطيةِ وتَضَخُّمِها.
لقد عَبَّأَت الجمهوريةُ شعبَ مدينةِ روما بأقصى الدرجات، وسَلَّحَته بالإرادةِ فيما يَخُصُّ شؤونَ مصالحِه. فبُنيَتُها المشتملةُ على مجلسَين (مجلسٌ للأرستقراطيين، وآخرٌ للمواطنين مِن سَوادِ الشعب)، والقنصليةُ، وتَطَوُّرُ القضاءِ كمؤسسةٍ منفصلةٍ بذاتها، وتَمَأسُسُ قوى حماية المدينةِ على غرارٍ مماثل؛ كلُّ ذلك يُشيرُ بأدلةٍ صارخةٍ على احترافِ ورسوخِ الجمهوريةِ الرومانية بما يُضاهي ديمقراطيةَ أثينا الغِرّة. هذا وتُشَكِّلُ إدارةُ الجمهوريةِ وحُكمُها أَحَدَ المناهلِ الأساسيةِ في تطويرِ فنِّ السياسة. وكما أنّ هذا الوضعَ يَدُلُّ على وثوقِ العُرى بين الحقوقِ والسياسة، فهو في الآن عينِه مثلٌ تاريخيٌّ أصيلٌ يَبسُطُ للعيان تَمَأسُسَ الحقوقِ، وبالتالي، مدى كَونِه أرضيةٌ للوفاقِ السياسي. والكلُّ على علمٍ بأنّ روما عاشَت مَجدَها الثقافيَّ داخلياً، وقامَت بغزواتٍ عظمى خارجياً في ظلِّ الجمهورية. وتُعتَبَرُ الحضارةُ الرومانيةُ قد وَصلَت حدودَها الطبيعيةَ مع عهدِ الجمهورية. في حين أنّ قصةَ الانتقالِ من الجمهوريةِ إلى الإمبراطوريةِ ليست سوى اعترافاتٌ بالصراعاتِ المتفاقمةِ وأخطارِها المتعاظمةِ داخلياً وخارجياً. إذ يُمكنُ القولُ – وبِكُلِّ سهولة – أنّ الصراعَ بين يوليوس قيصر وأندادِه قد انعكسَ على شكلِ نزاعاتٍ بين مركزِ روما وأطرافِه وبين الأرستقراطيةِ وعامةِ الشعب. ذلك أنّ تَحَجُّجَ روما بالخيانةِ التي تَلَقّاها بروتوس بِقَولِها أنّ الشرفَ الأعظمَ ضُحِّيَ به فداءً للغرباء، والتَّحَصُّنَ وراءَ ذلك كذريعةٍ لحمايةِ ذاتِها، وكونَ عامةِ الشعب مَيّالين أكثرَ إلى قيصر، وكونَ صفوةِ أرستقراطيي المدينةِ لهم ضِلعٌ في المؤامرةِ المُحاكة، والتفافَ أغلبيةِ المحافظاتِ حول قيصر؛ كلُّ ذلك يُؤكِّدُ صحةَ هذا الحُكم.
وكيفما استَمَرَّت التمرداتُ في الخارج، فقد كان الإيرانيون بَلغوا شواطئَ نهرِ الفرات. أما أسفارُ قيصر في بلاد غالة وبريطانيا وجرمانيا ، والتمرداتُ المندلعةُ في بلادِ الأناضول، وبَتْرُ إيران رأسَ الرجلِ الثالثِ كراسيوس بعدَ هزيمتِه في ساحةِ الوغى، وانتفاضاتُ اليهودِ في شرقي البحرِ الأبيضِ المتوسط، والحروبُ التي لا تَعرِفُ هدوءاً أو سكينةً بين شبهِ الجزيرةِ اليونانيةِ والبلقان ، وانطلاقُ شرارةِ الهجومِ بين القوط والإسكيت والهُون المنحدِرين من الشمالِ الشرقي، والذين يَصُمُّون آذانَهم عَمّا حولَهم، وغزواتُ القبائلِ العربيةِ التي لا يَهدَأُ لها بالٌ في أقاصي الجنوبِ طَمَعاً في اغتنامِ الغنائم، وبقايا المَلَكيةِ المصريةِ التي لا تَنفَكُّ موجودةً وقتئذ؛ كلُّ ذلك إنما يَضَعُ البَنانَ على مدى فداحةِ المخاطرِ ووطأتِها. يَتَّضِحُ جلياً أنّ نقاشاتِ مجلسِ الأعيانِ التي لا تَنقَطِع، المشاجراتِ والمشادّاتِ بين الأحزابِ المتنافسةِ لأجلِ مفوَّضيها في القنصل (المجلس الاستشاري)، ووضْعَ الشعبِ المعتادِ على الغنائمِ الخارجيةِ والمُسَيَّسِ بموجبِها؛ كلُّ ذلك كان يُزيدُ العراقيلَ على دربِ النظامِ الجمهوري أثناءَ مقاومتِه المهالكَ الخارجية، وفي اتخاذِ القراراتِ المصيريةِ التاريخيةِ التي تَقتَضي الإقرارَ باللازمِ في وقتِه المناسِب.
كلُّ هذه العواملِ والظروفِ التي رتَّبناها آنفاً تَكمُنُ خلفَ سياساتِ الحفيدِ أغسطس ، الاسمُ الرمزيُّ للانتقالِ من الجمهوريةِ إلى الإمبراطورية، والذي تزامَنَ مع بداياتِ الميلاد. وما كانت تَقتَضِيه هذه الظروفُ هو سياساتُ الاستقرارِ الداخليِّ والأمنِ الخارجيّ. وما عصرُ سلامِ روما Pax Romana المجيدُ المُعَمِّرُ حتى 250م. على وجهِ التقريبِ سوى ثمرةٌ من ثمارِ هذه السياسات. والكلُّ على عِلمٍ بأنّ كافةَ الترتيباتِ والإجراءاتِ حَصَلَت بموجبِ ذلك، بِدءاً من إسقاطِ مجلسِ الأعيانِ الخائرِ القوى والهشِّ إلى مستوى مجلسِ شورى، وتعزيزِ المؤسساتِ وإدارتِها بالتعيينِ بدلاً من الانتخاب، مروراً بإلهاءِ الشعبِ وإمتاعِه بأيامٍ تَعُجُّ باللَّهوِ والتسليةِ والتّلاعُبِ والمُماطلة، وصولاً إلى تشكيلِ المعسكراتِ والحامياتِ الأمنيةِ في الخارج، والقيامِ بالتعزيزاتِ اللازمةِ ببناءِ الأسوار، والانتقالِ مِن ثَمَّ إلى الحروبِ الدفاعية. ورغمَ الشروعِ بِكُلِّ الأسفارِ الهجوميةِ المُتَّجِهَةِ صوبَ الجهاتِ المذكورةِ آنفاً، إلا أنّ جميعَها لَم تَكُن في حقيقتِها سوى أسفارٌ بهدفِ الدفاع. وفيما بعد، تقعُ بين أيدينا قائمةٌ طويلةٌ من الأباطرةِ الذائعي الصِّيت. إنها القوائمُ الأخيرةُ من أسماءِ أشباهِ الإلهِ – أشباهِ الإنسان! والغريبُ في الأمرِ أنّ أباطرةَ روما أيضاً كانوا يَزدادون انتباهاً مع مرورِ الأيامِ إلى عدمِ جدوى أو معنى مجمعِ الآلهةِ الكلاسيكي. أي أنهم أَدرَكوا يقيناً استحالةَ تأمينِ مشروعيتِهم اللازمةِ عبرَ قناعِ الآلهةِ ذاك.
في حين تَبَدَّت معالمُ التشتتِ والانهيارِ بعدَ 250 ق.م من خلالِ البلبلةِ والفوضى المستفحلةِ وتطبيق نموذج الإمبراطورية المتعددة الإدارات. فحتى زنوبيا ، ملكةُ تدمر (بالميرا) الشهيرة، كانت مُنجَرَّةً وراءَ مطامعِها في بناءِ إمبراطوريةٍ تحتضنُ في ثناياها مصرَ وسوريا وبلادَ الأناضول والعراقَ (هذه التعابيرُ لم تَكُن موجودةً في تلك الأزمنة كما هي اليوم، ولكننا نَذكُرُها لتيسيرِ التعريفِ بالجغرافيا المقصودة). ولكنّ قصتَها المُحزنةَ تعبيرٌ صارخٌ عن آدابِ روما الكلاسيكية. ذلك أنّ أرده شير الأول ، مؤسِّسَ السلالةِ الساسانيةِ الحديثةِ العهدِ في الشرق، وشاهبور الأول ، الإمبراطورَ الذي يُضارِعُ أغسطس في عَظَمَتِه، قد ألحقا الهزائمَ النكراءَ بالجيوشِ الرومانيةِ على التوالي. ومن المعلوم أنّ الساسانيين بَلَغوا شرقي البحرِ الأبيض المتوسط وجبالَ طوروس. وأُنَوِّهُ هنا على الفورِ أنّ مدينةَ زوغما Zeugma الشهيرة القريبةَ من الفراتِ وبيراجيك Birecik، والتي كانت حاميةً في تلك الأيام، قد خُرِّبَت وطُمِسَت تحت الثرى في 256م. فلم تَرَ النورَ ثانيةً. فَقد تَحَوَّلَت ميزوبوتاميا العليا على وجهِ التخصيصِ إلى ساحةِ وغى شَهِدَت عراكاتٍ ضاريةً بين الإمبراطوريةِ الرومانية وكلٍّ من الإمبراطوريتَين البارثيةِ والإيرانيةِ الساسانية؛ مثلما كانت شاهدَ عَيانٍ على انتقالِ السلطانِ والنفوذِ بينهم. وكأنّ المنطقَ الجدليَّ لهذه الأراضي المقدسةِ، مُولِّدةِ الثورةِ النيوليتيةِ وبانيةِ أُولى الحضاراتِ، قد انتَقَلَ لِقُطبِهِ المعاكِس، لِتَدُورَ عليها الدائرة، وتَتَحَوَّلَ مِن باعثٍ للحضاراتِ إلى ساحةٍ لِعِراكِ المدنيات وصراعِها المُستَمِيت. فَعَجزُ هذه الأراضي عن تَحقيقِ كيانٍ مركزيٍّ بعدَ عهدِ الأورارتيين، وتَعَرُّضُها منذ ذاك الحين إلى راهننا لاستيلاءِ واستعمارِ وانتدابِ واحتلالِ قوى الحضارةِ المدينية الأخرى؛ إنما هو أَحَدُ التطوراتِ الأكثرِ مأساويةً في التاريخ. تماماً مثلما المرأةُ الأمُّ التي غَدَت كائناً أكثرَ انسحاقاً واندهاساً، بَعدَما كانت مُبدِعةَ الثورةِ الثقافيةِ العظمى.
لكنّ الجيوشَ الرومانيةَ كانت تَرُدُّ على الهجماتِ لِتَتَقَدَّمَ حتى شواطئِ نهرِ دجلة. إلا أنّ الموتَ المبكرَ الذي انقضَّ على حياةِ الإمبراطورِ الشهيرِ يوليان عامَ 365 م. على نحوٍ مأساويٍّ للغاية في آخرِ مُعتَرَكٍ له على سواحلِ دجلة – وكأنه يُحاكي الإسكندرَ بذلك ويُقَلِّده – كان بدايةً لِخُسرانِ روما عصرَ الأباطرةِ العظامِ إلى غيرِ رجعة. لقد كانت روما تُقفِلُ على ذاتِها بابَ عصرِ الأباطرةِ المَجِيد. وبالأصل، فالحروبُ المُستَعِرَةُ في الشرقِ والقارةِ الأوروبية على وجهِ الخصوص كانت تشيرُ إلى استحالةِ إدارةِ إمبراطوريةٍ من روما بعدئذ، أَيَّما كانت. فعندما قَضى الإمبرطورُ الشهيرُ دياكليتيانوس حتفَه في عام 306م. كان قد اعتلى العرشَ في الوقتِ نفسِه سِتَّةُ أباطرةٍ معاً. ومَن نَجا مِن بينهم كان قسطنطين ، الذي انهَمَكَ في تغييرِ دينِ الإمبراطوريةِ عامَ 312م، وتبديلِ عاصمتِها عامَ 325م. لكن، وبعدَ انقضاءِ عهدِ يوليان، آخرِ إمبراطورٍ من سلالةِ قسطنطين، عانَت السلالةُ من التشتتِ والتفككِ والشِّقاقِ رسمياً عامَ 395. وهكذا تَحَوَّلَ أباطرةُ روما الغربيةِ إلى دُمى متحركةٍ بأيدي زعماءِ القوط الغائرين عليهم. فحتى زعيمُ الهُون آتيلا كان بمقدورِه إحكام القبضةِ على روما في عام 451 لو كان شاءَ ذلك. وبينما طُوِيَ عهدُ الإمبراطوريةِ الرومانيةِ الأولى في صفحاتِ التاريخ على يدِ أودواكر ، مَلِكِ القوط عامَ 476، فقد بَقِيَت ثقافتُها المطمورةُ تَنتَظِرُ الانبثاقَ من تحت الثرى مدةً طويلة، ولكنها لَم تَمُتْ.
أما قصةُ روما الثانية، أي بيزنطة، فقد استَمَرَّت في بقائِها مدةً طويلةً ضمن بنى مهمَّشةٍ ومُقَلِّدة (إمبراطوريةٌ عقيمةٌ تُقَلِّدُ الشرقَ والغربَ على السواء، وقاصرةٌ عن ابتكارِ تركيبةٍ جديدة). ولَئِنْ كانت مساعي جوستنيان (527 – 565 م) العظمى في سبيلِ إحكامِ القبضةِ على مساحاتِ الإمبراطوريةِ القديمةِ تَتَمَيَّزُ بِتَأثيرِها الملحوظ، إلا أنّ الولاياتِ كانت تَفلِتُ من زمامِ مبادرتِهم شيئاً فشيئاً.
تُعَرِّفُ بيزنطةُ نفسَها على أنها روما الثانية، إلا أنّ مطامعَ القسطنطينية في أنْ تَكُونَ روما الثانيةِ مغالى فيها، ذلك أنه مِن العسيرِ إضفاءُ معنى عليها غيرَ كونِها تكراراً عقيماً في أحضانِ الأراضي القديمةِ لروما. أما ماهيتُها المسيحية، فهي موضوعٌ مختلف، وتَقتَضي تدقيقاً مُغايراً. ومِن بعدِهم أتى العثمانيون والروسُ السلافيون (مركزُهم موسكو) الذين يُحَبِّذون تسميةَ عهدِهم بـ روما الثالثة. إلا أنّ مزاعمَهم تلك، والتي هي على صلةٍ مع المسيحيةِ والإسلامِ كثقافةٍ أيديولوجية، فهي ليست مجردَ مبالغةٍ ومغالاة، بل إنها تَعني الخلطَ بين مراحلَ مختلفةٍ وثقافاتٍ متباينة، لِتُسفِرَ عن تشويشٍ فظيعٍ في المعاني. سنَعمَلُ في القسمِ التالي على تناولِ الاصطلاحاتِ الإشكاليةِ مِن قَبِيلِ "الحضاراتِ المسيحيةِ والإسلاميةِ والموسوية".
اشتُقَّت العديدُ من الإمبراطورياتِ الجديدةِ من روما استذكاراً لها، بِدءاً من إنكلترا إلى البحرِ الأسود. فبعدَ انهيارِ الوثنيةِ المجاريةِ لسقوطِ روما، كان قد تَكَوَّن فراغٌ فسيحٌ يَحمِلُ بين أحشائِه مخاضاتِ ثورةٍ دينيةٍ جديدة. لكنّ الوثينةَ والميثولوجيا الأوروبيةَ تَبقَيان قَزماً إزاءَ نموذجِ روما. في حينِ كان جلياً تماماً استحالةُ تَصييرِ الوثنيةِ المنهارةِ كدينٍ رسميٍّ في روما قُوتاً أيديولوجياً لأوروبا الغَضّة. فالعصرُ كان يَقتَضي ثورةً معنويةً ودينيةً بقدرِ حاجتِه للثوراتِ على الصُّعُدِ الأخرى الماديةِ منها والسياسيةِ والاقتصادية.
لِنَعملْ على تقديمِ مقارنةٍ إحصائيةٍ لِروما على الصعيدَين الثقافيِّ والمادي، ولو بالخطوطِ العريضة، قبلَ الخوضِ في انطلاقاتِ ومعاني الثورةِ المسيحيةِ والثورةِ الإسلاميةِ اللاحقةِ لها.
لقد كانت حِرَفُ الإنتاجِ الزراعيِّ والتعدينِ والمِهَنِ الحرةِ والتجارة الظاهرة في مناطقِ الحضارة المدينية الأعظمِ في العالم؛ قد تعاظمَت واتَّسَعَت آفاقُها في ظلِّ الإمبراطورية. ومقولةُ "كلُّ الطرقِ تؤدي إلى روما" إنما تُحَدِّد وِجهةَ سَيَلانِ هذه المواردِ الاقتصادية، حيث كان العالَمُ بِرِمَّتِه يُغَذّي روما. وبهذه المكاسِبِ السمسارية الكبرى كانت أُنشِئَت المدنُ الفخمة، وأَوَّلُها روما. كما أنّ العهدَ الهيلينيَّ صانَ هذه المدائنَ كما هي، وَطَوَّرَها أكثر. فمِن بعدِ روما تأتي أنطاكيا Antakya، الإسكندرية İskenderiye، بارغاما، تدمر، ساموسات، أديسا ، آمِد Amid، أرضروم Erzeni Rum، نِيو قَيصَر Neo Kayser، قَيصَرية Kayseria، تارسوس Tarsus، ترابَزوس Trapezus، وغيرُها من المدنِ الهيلينيةِ الجمةِ التي كانت كالنجومِ المتلألئةِ في سماءِ الشرق. في حينِ أننا نَشهَدُ رَصفَ اللَبَناتِ الأولى لِدُنيا المدائنِ الجديدة في أوروبا، أي ولادةَ أمثالِ أوروك، وفي مقدمتِها باريس؛ والتي تَمَيَّزَ عمارُها بِتَطابُقِه مع معمارِ المدنِ اليونانية، ولكنْ، مع مَسحَةٍ من العظمةِ والاتساع. علاوةً على أنّ أقنيةَ الريِّ وسواقيها وعجلاتِها كانت حَقَّقَت تَطَوُّراً ملحوظاً آنذاك. أما شبكةُ الطرقات، فلا نظيرَ لها. والأمنُ كان مستتباً لدرجةِ أنه كان ثمةَ سلامُ روما (Pax Romana) حقاً. وكذا كانت صناعةُ التعدينِ والوسائلُ المعماريةُ متطورة. أما المناجمُ الحجرية، وَصَقْلُ الأحجارِ ونحتُها، فلا يُمكنُ مقارنتُه إلا بعهدِ مصر القديم. بالإضافة إلى أنّ تغليفَ الدروعِ المعدنيةِ والأسلحة كان – بطبيعةِ الحال – من شؤونِ الحِرَفِ الأكثر تطوراً، في حين كانت التجارةُ قد أَنجَزَت تَمَأسُسَها الكامل، وراجَت فاستَرَدَّت اعتبارَها نِسبةً للثقافةِ اليونانية، وتَكاثَرَ التجارُ المشهورون، لِيَسُودَ عهدٌ مُزهرٌ في انطلاقتِه التجارية.
ولَربما كانت الحقوقُ تَقطَعُ كلَّ هذه المسافةِ من التقدمِ والتمأسسِ لأولِ مرةٍ في تاريخها. فالدساتيرُ والتشريعاتُ الحقوقيةُ جديرةٌ بأخذِها مثالاً يُحتذى به حتى في يومِنا الحاضر. ومؤسسةُ المواطَنةِ القوية الراسخة كانت النتيجةَ الطبيعيةَ للحقوق. أما مواطَنةُ روما، فكانت امتيازاً عظيماً، حيث كانت كلُّ الأوساطِ الأرستقراطيةِ والتجاريةِ في العالمِ تَعتَبِر العيشَ على غرارِ سكانِ روما امتيازاً بِحَدِّ ذاته. لقد غدا نمطُ الحياةِ على منوالِ روما مَرَضاً مُستشرياً آنذاك، مثلما الحالُ اليوم بالنسبةِ لنمطِ حياةِ الحداثةِ الرأسمالية. وقد يَكُونُ تأثيرُ الموضةِ الإيطاليةِ على الصعيدِ العالميِّ يتأتى من هذه التقاليد.
لقد كانت المبارزاتُ الرياضيةُ وحشيةً ومُرَوِّعة. فمُصارَعةُ المُجالِدين ، ومُصارَعةُ الأُسٌود، أو تَركُ المُجالِدين لُقمَةً سائغةً في فَمِ الأُسُودِ الجائعةِ ضمن الحَلَبة، كانت تَقشَعِرُّ لها الأبدان. وكانوا يُلَقِّنون الشعبَ تسلياتٍ كهذه لِتَنحَطَّ أخلاقُه. وتَراجَعَت منزلةُ مُجَمَّعاتِ الآلهةِ والمعابدِ المُشيَّدَةِ باسمِ الآلهةِ بنسبةٍ كبيرةٍ في المراحلِ الأخيرة. فعِلمُ اللاهوتِ الرومانيّ اكتفى بِتَغييرِ أسماءِ آلهة اليونان لِيَهضِمَها ويَتَقَبَّلَها. فعلى سبيلِ المثال، كان فرجيليوس قد كَتَبَ ملحمتَه إينياس عن بناءِ روما باقتصارِهِ على الحذوِ حذوَ هوميروس في كتابةِ ملحمةِ طروادة. أي أنّ جميعَ العناصرِ الثقافية، بما فيها الأدبياتُ اليونانيةُ والكتاباتُ المسرحيةُ والتاريخيةُ والفلسفية، كانت هُضِمَت واستُسِيغَت بتحويلِها إلى اللاتينيةِ فحسب. وبالرغمِ من ذلك، فقد قَدَّموا نتاجاتٍ هامةً، فقد كانت الخطابةُ فناً راسخاً، وكانت اللغةُ الرومانيةُ بِحَدِّ ذاتِها أسلوباً في المحادثةِ أيضاً. كما أُضفِيَت صِبغةٌ ومَسحَةٌ خاصةٌ بشكلٍ بارزٍ على الملابس والهيئات، رغمَ احتوائِها تأثيراتِ الشرقِ العميقة. وقد كانت اللاتينيةُ حَلَّت مَحَلَّ اللغةِ الإغريقيةِ رويداً رويداً، لِتَغدوَ اللغةَ الرسميةَ في المعاييرِ الديبلوماسيةِ والعالمية. وللترجماتِ إلى اللاتينية نصيبُها الوافرُ أيضاً في الحفاظِ على الكلاسيكياتِ اليونانية، إلى جانبِ تَصييرِ السياسةِ فناً مستقلاً بذاتِه.
ولدى قيامِنا بعقدِ مقارنةٍ بين ثقافتَي روما وأثينا، سنجدُ – وبكلِّ سهولة – أنّ الجانبَ الأيديولوجيَّ يَطغى على ثقافةِ أثينا، في حين أنّ الجانبَ الماديَّ السياسيَّ هو الذي يَترُكُ بصماتِه على ثقافةِ روما. لكن، من المهم بمكان الانتباهُ إلى كَونِ كلتا الثقافتَين تُشكِّلان كُلاً متكاملاً، وكأنّ الإسكندرَ ومَن أَعقَبَه من مَلَكِّيات، ومن ثَم الرومان أنفسهم قد جَنَوا ثمارَ الأرضيةِ الثقافيةِ لأثينا. وكأنه من المحالِ تَصَوُّرُ روما، أو حتى نقلتِها نحوَ إمبراطوريةٍ عالمية، دونَ التفكيرِ بثقافةِ أثينا.
لكنّ الأهمَّ من هذا وذاك هو كَونُ كلتا الثقافتَين تُعَدَّان آخرَ أطوارِ تَطَوُّرِ الثقافةِ الشرقية. بمعنى آخر، وعلى النقيضِ مما يُعتَقَد، فإنّ أثينا وروما لم تُبدِعا ثقافةً وإمبراطوريةً أصليتَين. بل كلتاهما ثمرةُ التَّغَذّي على الظروفِ المحليةِ للمناهلِ الثقافيةِ الشرقية، والتَّمَخُّضِ بالتالي عن تركيبةٍ جديدةٍ أرقى وأعلى. فحتى أوروبا نَجَحَت في إنجازِ ثورتِها الثقافيةِ الكبرى بِمزجِها هذه المشاربَ الثقافيةَ مع تركيبةِ روما وأثينا مرةً أخرى. أي أنه من المحالِ تَصَوُّرُ أوروبا خارجَ نطاقِ ميزوبوتاميا ومصر اللتَين تُشَكِّلان مهدَ حضاراتِ الشرق.
كما إنّ التطوراتِ التاريخيةَ في التخطيطِ الماديِّ أيضاً متكاملةٌ فيما بينها. فبناءُ وتكاثُرُ المدنِ المبتدئةِ بأوروك، إنما يُشَكِّلُ حلقاتِ سلسلةٍ متعاقبةٍ مترابطة. وقد لاحظنا كيف كان لِكُلِّ حضارةٍ "أوروكـ"ها. وهذا الأمر ليس محضَ صدفة، بل هو جدليةُ المدينة. وقد ظهرَت الجدلية نفسُها أمامنا في سياقِ ولادةِ وانتشارِ الثقافةِ النيوليتية أيضاً. يستحيل علينا إضفاء المعاني على التطورات الاجتماعية في حال بترنا إياها من أرضياتها التاريخية والمكانية. وهذا ما نَشهَده من خلال هذا الإعداد والسرد المقتضب بشأن انتشارِ وتوسعِ الحضارة المدينية.
مِن الراجحِ أنّ فَتَْحَ العالَمِ على يدِ أنظمةِ الحضارة المدينية قد استَكمَلَ دورتَه مع الحضارةِ الرومانية، بل وكان أَقحَمَ نفسَه حينئذٍ في دوامةٍ عقيمةٍ بإعادةِ فتحِه المناطقَ المفتوحةَ سابقاً. والفتوحاتُ بين المدنيات يَغلُبَ عليها عادةً طابَعُ النهبِ والسلبِ والاستغلالِ. ذلك أنّ طبائعَ المدنياتِ متشابهة، فجَميعُها لا هَمَّ لها ولا غَمّ سوى اللَّهَثُ وراءَ مطامعِها في نهبِ وسلبِ الثروةِ السمسارية الزاخرة المتراكمة، وإحكام قبضتها الاستملاكية عليها (أَقصُدُ باصطلاحِ السمسرة: وارداتِ المُلْك، سواءً تَحَوَّلَت إلى مُلكٍ خاصٍّ أو مُلكِ الدولة. فجميعُ القِيَمِ المستولى عليها بعدَ إشباعِ بُطُونِ العاملين في الأراضي، إنما تَعتَمِدُ على ذريعةِ المُلكِية، وتُعتَبَر سمسرة). بالتالي، فالتَّوَسُّعاتُ المرتكزةُ إلى تصارُعِ المدنياتِ وتنازُعِها وانتقالِ زمامِ الإدارةِ من واحدةٍ إلى أخرى، إنما قَوامُها تدميرُ القِيَمِ أكثرَ مِن إبداعِ الجديدةِ منها.
ولدى الالتفاتِ إلى الوراء، سنرى بنظرةٍ خاطفةٍ أنّ المرحلةَ المبتدئةَ مع الآشوريين تَفَرَّدَت عن مثيلاتِها المنصرمةِ بنهبِها للقيمِ الحضارية. فالأباطرةُ الآشوريون المُستَفرِدون بذهنيةِ التباهي بالاستيلاءِ الشَّهوانيِّ على الحضاراتِ الحثيةِ والهورية والفينيقيةِ والمصرية، والاعتدادِ فخراً ببناءِ القلاعِ والأسوارِ من الجثث، فكأنَّهم بذلك يُقِرُّون ويَعتَرِفون بهذه الحقيقةِ بجلاءٍ لا تَشُوبُه شائبة. إنها حقيقةُ كَونِ حروبِ المدنياتِ وصراعاتِها وحشيةٌ ومروِّعة، ليس إلا. وكان هيغل قد وَصَمَ المَنطِقَ عينَه بـ"مذابح التاريخ". وعندما تَكُونُ دوافعُها قائمةً على تَغَيُّرِ أصحابِ المُلْكِ والثروة السمسارية، فمن المحالِ احتمالُ تَحَقُّقِها بطريقةٍ أخرى. ففي الطرفِ الأولِ ثمة مجتمعٌ متعلقةٌ حياتُه على الثقافةِ الحضاريةِ بِرِمَّتِها، وفي الطرفِ المقابلِ ثمة مجتمعٌ مدينيٌّ طامعٌ في نهبِها وسلبِها. وبما أنّ نَيْل المُرادِ مرتبطٌ باقتطاعِ أَحَدِهما لِكُلِّ القِيَمِ الماديةِ والمعنويةِ، وبَتْرِ أواصرِ الآخرِ عنها، فلا يَبقى بالتالي أمامَ هذا الآخرِ مِن خيارٍ سوى الزوالُ والفناء. فحتى لو استَسلَم (حينها سوف يَسري قانونُ الاستيلاءِ على الأطفالِ والنساء، وتَقتِيلِ الشبانِ اليافعين)، فَلَن تَنتَظِرَ الشريحةُ المقتدرةُ مِن الآهِلين سوى الهلاكَ الذريع. وهنا تَكمُنُ المأساة.
لقد فَكَّكَ وحلَّلَ المتنورون اليونان هذا الوضعَ جيداً، وكَتَبوا أكثرَ القصصِ مأساويةً عن العصرِ الكلاسيكي. والملاحمُ السومريةُ أيضاً قصصٌ مأساويةٌ مماثلة. فَكَأَنّ مَرثِيّاتِ نيبور Nippur ولعناتِ آكاد تُخْبِرنا بحالِ بغداد اليوم. والإمبراطوريةُ البرسيةُ أيضاً تَتَمَيَّزُ بِشُهرَةٍ مشابهة، ونَخُصُّ بالذكرِ إعاقةَ شواطئِ إيجة من التطورِ المستقل، والذي يُعَدُّ أَحَدَ أكثرِ خسائرِ التاريخ مأساويةً. وقد لجأَ الإسكندرُ فيما بعد إلى المنطقِ نفسِه، وكأنه مِدحَلَةٌ أسطوانيةٌ silindir تَدهَسُ وتُبِيدُ النملَ بِوَطأتِها الثقيلة. مِن هنا، غَدَت المَلَكِيَّةُ الإلهيةُ عنواناً يَتَحَقَّقُ على الدوام بِسَحقِ البشرِ ودَهسِهِم كالنمل. يبدو – فيما يبدو – أنّ مثلَ هذه التطوراتِ تَتَسَرَّبُ إلى الـ"أنا" لدى بعضِ الناس. وما فَعَلَتهُ روما ربما ليس سوى الوصولُ بهذا المنطقِ لذروةِ التَّفَنُّنِ به. أما هذه الدوامةُ العقيمةُ عينُها، وتَغَيُّرُ المتسلطين، والقضاءُ على الأصحابِ القدامى مع أتباعهم بالطبع، أو تَصييرُهم أسرىً ذوي فائدة؛ فإذا لَم يَكُ كُلُّ ذلك عملاً لِتَجفيفِ ضميرِ الإنسانيةِ وإماتَتِه، فماذا عساه يكون؟
لدى البحثِ في الأديانِ التوحيدية، سَنَجِدُ أنّ مناهضتَها لأنظمةِ الحضارة المدينية النظيرةِ للأديانِ التعدديةِ والتوثينية، ومعارَضتَها إياها بذهنيةٍ جديدةٍ وممارسةٍ عمليةٍ جديدة؛ إنما يُعتَبَر أحدَ التطوراتِ التاريخيةِ الأكثر معنى. ولَئِنْ كانت بعضُ التوسعاتِ الحضاريةِ قد استَمَرَّت استناداً لهذه الأديان، إلا أنه من الساطع – دون ريب – أننا وجهاً لوجه أمامَ تَطَوُّرٍ مغاير. لِنَقُمْ بِتَفسيرِ هذه الانطلاقاتِ ضمنَ بَندٍ منفصل.