العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (7)
عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 4 - 23:37
عبد الله أوجلان
3- التفسير السليم للحياة النابعة من الهلال الخصيب، وتَطَوُّرُها الاجتماعي:
يتعلق هذا الموضوع – الذي جَهِدتُ لإيضاحه بعنايةٍ فائقةٍ تحت هذا العنوان – بمدى تأثيرِ بُعدٍ زمكانيٍّ اجتماعيٍّ مُعَيَّنٍ على نمطِ حياةٍ مُعَيَّنة. والموضوعُ الذي ركَّزتُ اهتمامي عليه باستفاضةٍ في قضيةِ الأسلوب، كان بشأنِ أنَّ الوقائعَ الاجتماعيةَ "حقائقٌ مُنشَأةٌ" بِيَدِ الإنسان. هذا الأمرُ هامٌّ لدرجةِ أنه، وفي حالِ عدمِ تثبيتِ معانيه السليمة كاملةً، فقد يُحَوِّل الشُّروعُ بأيِّ نشاطٍ تعبئويٍّ "التعلمَ" و"المعانيَ" إلى أرضيةٍ خصبةٍ لانتعاشِ الجهل وعدميةِ المعنى. ما أدَّعيه هو أنَّ الجهلَ السائدَ في الحداثةِ الرأسمالية أفدحُ من جهالةِ "أبي جهل" الذي لَعَنَته ونَبَذَته الأديانُ الكبرى أثناءَ انطلاقاتها. ولربما كانت المدرسةُ الوضعيةُ العلةَ الأساسيةَ في ذلك، كونَها دينٌ منطلقٌ من المادية الأكثر اضمحلالاً وشُحَّاً. فهذا الدين، الذي يمكننا وَصْمُهُ بـ"الظواهرية "، هو – بطبيعة الحال – ميتافيزيقي، نظراً لمزاياه التي هي ثمرةٌ من نتاجِ ذهنيةِ الإنسان.
ولهذا السبب بالذات أَسهَبتُ في فصلِ الأسلوب في التطرقِ إلى كونِ الإنسانِ كائناً ذا طبائعَ ميتافيزيقيةٍ من جهةِ ذهنيته. لكنَّ الوضعيةَ عاجزةٌ – دون وعي – عن رؤيةِ أنَّ هذه الظواهريةَ ليست سوى "وثنيةُ" العهود القديمة بِأَشَحِّ حالاتها وأكثرِها اضمحلالاً. لذا، فإني أُشَدِّدُ على طَرحِ ادعائي بكونِ الظواهرية = الوثنية. فالظواهريةُ ليست شكلاً لتفسيرِ حقيقةٍ ما، وهي ليست فلسفةَ العلوم المعتمِدةِ على الظواهر، مهما زَعَمَت العكس. ذلك أنه من المُحال وجودُ فلسفةٍ كهذه. فكلُّ ما تَقَعُ عليه العينُ، وكلُّ ما تسمعه الأُذُنُ هو ظاهرةٌ بِحَدِّ ذاتها. بل وكلُّ حِسٍّ ظاهرة. فأيُّ متهورٍ أو جاهلٍ يمكنه الزعمُ بأنَّ هذه فقط حقيقةُ الكون؟ فحسبَ رأيِ أفلاطون، لا يمكن اعتبارُ الظاهرةِ مظهراً أو انعكاساً. وهي وفقَ وجهةِ نظرِ نيتشه يمكن أنْ تكونَ إدراكاً بسيطاً، ليس إلا. بالإمكان التركيزُ على الصلةِ بين الظاهرة والإدراك، تماماً مثلما رَكَّزنا على العلاقة فيما بين الذات والموضوع.
كَم هو مؤسفٌ أنَّ الحداثةَ ليست سوى صورةُ حياةٍ مُنشأةٍ على أساسِ الظواهرية. أَستَخدِمُ لفظَ "صورة" عن وعي. ذلك أنَّ الحداثةَ متعلقةٌ بأكثرِ أشكالِ الحياة سطحيةً، لا بجوهرِها. وما مقولةُ أدورنو "الحياةُ الخاطئةُ لا تُعاش بصواب"، والتي ذكرَها وعَجِزَ عن تحليلها؛ سوى محصلةٌ لخيبةِ الأمل والقنوطِ الذي ألَمَّ به تجاه الإبادةِ العِرقية لليهود. في هذه العبارة يكمنُ مِربَضُ الفرس، إلا أنها تفتقرُ للإيضاح. أين هو الخطأ الأوليُّ في الحياة؟ مَنِ المسؤولُ عن الحياةِ الخاطئة؟ كيف أُنشِئت؟ وما صلاتُها بنظامِ المجتمعِ المهيمن؟ ما مِن ردودٍ على مِثلِ هذه التساؤلات، بل اكتفَوا فقط بإرجاعِ جذورِها إلى مرحلةِ التنوير والعقلانية، في حينِ أبقَوا على الموضوع – أي، شكلِ الحياةِ الخاطئة – يكتنفه الغموضُ ويَلُفُّهُ الظلام.
ثَمَّةَ جهودٌ مماثلةٌ لدى ميشيل فوكو أيضاً، حيث يكتفي فقط بالقول "الحداثةُ موتُ الإنسان". فكيف لفيلسوفٍ شهيرٍ لهذه الدرجة أن يَحشُرَ موضوعاً حيوياً كموتِ الإنسان في جملةٍ قصيرة، ويلتفت عنه؟ لا معنى للقول بأنه كان سيُسَلِّطُ عليها الضوء، لكنَّ الموتَ المبكِّرَ لم يدعه. فالحقيقةُ الهامة، والتفسيرُ الجدي يستلزمان التنويرَ والإيضاح، ولو في الأنفاس الأخيرة. فمثلاً، لَمْ يُهمِل كوبرنيكوس ، حتى وهو على فراشِ الموت، التوصيةَ بنشرِ مؤلَّفِه الأخيرِ الذي يقول فيه أن "الأرض تدور حول الشمس". وثمةَ الكثيرون من أمثاله من المفسِّرين للحقائق في الغرب والشرق على السواء. لكن، ولأنَّ نُقَّادَ ما وراءِ الحداثة قد تَلَطَّخوا بالكثيرِ من آثامِ وذنوبِ الحداثة في الحياة، فهم يتطرقون للحقائق بخجل. بمعنى آخر، فالمنغمسون في العبودية والسلطة، والمستقون من شرابِ منهاجها المعرفي، والملوَّثون بها؛ إنما يلجأون إلى نفسِ الأسلوب المشترَك. إنه أسلوبٌ تهكميٌّ ترميزيٌّ Ezop لحدٍّ ما!
أُكَرِّرُ مجدداً أنَّ ما نسعى لإيضاحه هو موضوعُ تصوراتِ الحياة الخاطئة والصائبة. فهل مِنَ الممكن أنْ تكون الحياةُ التي فرَضَتها جميعُ المدنيات القديمة – وليس فقط الحداثةُ (الرأسمالية) – قد تم وضعها بتصوراتٍ صحيحة؟ وبدءاً من الرهبان إلى الآلهة الملوكِ السومريين، ومِن الآلهة الملوكِ المصريين إلى أكاسِرَة إيران، من الإسكندر إلى أباطرةِ روما، ومن سلاطينِ الإسلام إلى مونارشيي أوروبا؛ أَلا يمكن تحميلُ جميعِ هذه الأنظمةِ المؤسِّسةِ رسمياً للحياة مسؤوليةَ إرسائها على دعائمَ خاطئةٍ بقدرِ ما هي عليه الحداثةُ الرأسمالية بأقلِّ تقدير؟ أَوَلَم تتأسَّسِ الحياةُ الخاطئة بِاطِّرادٍ مع مرورِ الزمن عبرَ تطويقِ عُنُقِ التطورِ الاجتماعي بهذه الحلقاتِ الأَشبَهِ بحلقاتِ السلسلة المتوالية؟ إذن، لن يكفينا الاقتصارُ على تحميلِ مسؤوليةِ نمطِ الحياة الخاطئةِ على عاتقِ الحداثة ونظامِها الممنهَجِ في الحرب والإبادةِ العِرقية وحسب، لأنَّ الرَّدَّ على هذه القضيةِ غائرٌ في العُمقِ بقدرِ تَوَغُّلِ جذورِها. ولهذا الغرض سَعَينا للغوصِ في أغوارِ مَشرَبِ ومنبعِ كلِّ هذه القضايا، عندما رَكَّزنا على الثورةِ الثقافية العظمى في الهلال الخصيب، وعلى نمطِ الحياة الناجم عنها.
لا ريبَ في استحالةِ تفسيرِ المجتمع كلياً عبرَ الثقافةِ وحدها، بل يتطلب إضافةَ العديد من العوامل إليها. إلا أنه نادراً ما يتم تفنيدُ أو رفضُ كونِ الثقافةِ هي الأساس. لِنُوَضِّح المعنى الذي نضفيه على مصطلحِ "الثقافة" ما دُمنا نَمُرُّ عليه. مقصدنا منه: مكان أو بقعة جغرافية تتسم بمزايا لا مفرَّ منها لأجل حياةِ التاريخ والمجتمعِ ضمن "فترة طويلة" من التاريخ، مُترَعَةٌ بالمعاني. أي أننا لا نبدأ العَدَّ من الصفر لدى إضفاءِ المعاني على المجتمع في هذه الحقبة التاريخية والجغرافيا. إنما نَوَدُّ الإشارةَ إلى دورِهما الرئيسيِّ في كيفيةِ تشييدِ الحياة الاجتماعية المُنشأةِ بأشكالٍ لا عَدَّ لها ولا حَصر. أما القولُ بأنَّ المجتمعاتِ تتكون من حلقاتِ الحياة المُسَجَّلةِ عبر الزمان والمكان، وأنَّ كلَّ حلقةٍ متصلةٌ بالأخرى بقدرِ ما لها مَيِّزاتُها ومزاياها الخاصةُ بها؛ فنَعتَبِره مِن ضروراتِ إيضاحِ هذا الأمر.
فاختلافُ أنماطِ حياةِ المجتمعات الساميّةِ والصينية المستندةِ إلى ركائزِ ما قبلِ عشرةِ آلافِ سنة، إنما يحدِّد معاني حياتِهِم الراهنة بنسبةٍ ملحوظة. وبالإمكان قولُ الأمرِ عينِه بشأنِ ثقافةِ الحياة الآرية أيضاً. من جانبٍ آخر، ومن خلال "علم المعاني"، باستطاعتنا استنباط كيفيةِ إضفاءِ الشرعية الرسمية على مقوماتِ ثقافةِ الحياة تلك في ظلِّ الهرميةِ والدولة، وتحتَ حُكمِ الملوك المُقَنَّعين أو غير المُقَنَّعين، المتسترين أو العُراة؛ ليُحَرِّفوا معانيها ويُشَوِّهوها بدرجةٍ مروِّعة، ويجعلوها قابلةً ومنفتحةً لشتى أنواعِ القُبحِ والشناعة والحروبِ والإبادات العِرقية. وبقدرِ ما تتواجدُ أنماطُ الحياة الرسمية وغيرِ الرسمية شاقولياً، يكون ثمةَ أنماطُ حياةٍ على نحوِ حلقاتٍ متباينة أفقياً. علاوةً على أنَّ جوهرَ الحياة الاجتماعية في المنبعِ الأم هو الذي يحدِّد أنماطَها وأشكالَها في جميعِ هذه الحلقات.
لِنَتَوَسَّع قليلاً في سَردِ مضمونِ مصطلحِ الثقافة. لا جدالَ في أنَّ مجتمعَ الكلان أيضاً له ثقافتُه، وبالتالي نمطُ حياتِه. فمعاني الحياةِ متشابهةٌ ضمن مجتمعِ الكلان المتسم بخاصية الكونية خلال مسيرةِ المجتمع البشري، حيث تَكُونُ البنيةُ اللغويةُ والفكريةُ فيها دارجةً عبر الإشارات، نظراً لكونها لم تقطع مسافاتٍ شاسعةً بعدْ على طريقِ الانقطاع عن الثدييات البدائية، وبالتالي عن الحيوانات. وتحويلُ حياةِ كلانٍ ما إلى قصة هو أَشْبَهُ بقصةِ حياةِ جميعِ الكلانات. فالحاجاتُ الضرورية، الأمنُ، والتكاثرُ ثالوثٌ يسري على جميعِ الكائنات الحية على وجهِ التقريب. وقد كنا شرَحنا روابطَ ذلك مع الآفاقِ الذهنية المحدودة. أما بروزُ الاختلاف والتباينِ في الحياة، فيعني تَطَوُّرَ المرونة الذهنية، والانتقالَ إلى التفاهمِ بلغةِ الرموز، وبلوغَ البنى الماديةِ الممكنِ تشييدُها حصيلة ذلك.
إذن، والحالُ هذه، فالتطورُ الثقافي تعبيرٌ عن مجموعِ الموضوعاتِ Nesne المادية المتزايدة مع المرونةِ الذهنية وتَطَوُّرِ اللغةِ الرمزية. فبينما تُعَبِّرُ الثقافةُ بإطارها الضيقِ عن ذهنيةِ مجتمعٍ ما، وقوالبِهِ الفكرية، ولغتِهِ؛ فإنَّ إطارَها الواسعَ يُعَبِّرُ عن إضافةِ التراكماتِ الماديةِ إلى ذلك (مجموعِ كلِّ الأدواتِ والوسائل التي تلبي الحاجات، إنتاجِ القوتِ وأنماطِ ادخاره وتحويله، المواصلاتِ، الحمايةِ، العبادةِ، ووسائلِ الجمال). أيْ أنَّ الثقافةَ تُحَدِّدُ الذهنية، ومستوى الاختلافِ والشَّبَهِ في وسائلها وأدواتها، وتُعَيِّن مستوى التمييز واللامساواةِ بين الفقر والغِنى، وتَخُطُّ مسارَ مستوياتِ الحياةِ المتباينةِ والمتقاربة.
علينا التنويه مجدداً إلى أنَّ التراكماتِ والمُدَّخَراتِ الذهنيةَ والماديةَ أُنشِئت بِمهارةِ الإنسان نفسه، وباتت تُعَبِّرُ عن ذاتها بتحولها إلى واقعٍ اجتماعي. وفي هذا الوضع، فإنَّ الإشارةَ إلى تَشابُهِ حياةِ مجتمعِ الكلان المُعَمِّرةِ ملايين السنين على مَرِّ العصرِ الحجري القديم، وافتقارِها إلى أوجهِ الخلافِ والتباين الجوهرية؛ لن يؤدي إلى فقدانٍ جديٍّ للمعاني. ولهذا السبب بالذات أَولَينا أهميةً فائقة لظهورِ الأجيالِ الثقافية العظمى إلى الوسط. ذلك أنَّ كلَّ جيلٍ ثقافيٍّ عظيمٍ يعني تَطَوُّرَ حياةٍ عظيمةٍ ومختلفة. ومن هذا المنطلق، بمقدورنا المطابقةُ بين التطور الاجتماعي والتطور الثقافي. وبصياغةٍ أخرى؛ بقدرِ المرونة والحريةِ الذهنية تَكُونُ اللغةُ الرمزية مشحونةً بالمعاني والغنى الفكري. وانطلاقاً من ذلك، بقدرِ امتلاكِ وسائلَ ثقافيةٍ ماديةٍ أكثر، تَكُون الحياةُ الاجتماعيةُ أرقى.
إنَّ المجتمعيةَ كواقعٍ مُنشأ – وهي فرضيةٌ أوليةٌ في هذا الفصل – تعني أساساً خَلْقَ الإنسان وتكوينَه. لا شكَّ في أننا لا نتغاضى عن مقدارِ المادة ومدى التطور البيولوجي لديه، ونعي تماماً أنه تم البحثُ فيها كحقائقَ فيزيائيةٍ وكيميائيةٍ وبيولوجية. بالإضافةِ إلى أنَّ العلومَ الأنثروبولوجيةَ والنفسيةَ الباحثةَ والمدقِّقَةَ في الإنسان كذهنٍ ونوع تُنتِجُ المعانيَ اللازمةَ بشأنه في مجالها. وثمةَ ما تَعَلَّمناه من العلومِ بحالتها المشتَّتَةِ والمُجَزَّأة، رغمَ انتقاداتنا لها. وتشديدُنا على كَونِ الواقعِ الاجتماعيِّ يعني مستوىً مختلفاً من الإدراكِ، هو بدافعِ استيعابِ الفوارق فيما بينه وبين العلومِ الأخرى بشكل أفضل. ذلك أنه، وبدون الإمساكِ بهذه الفوارقِ ووضْعِ اليد عليها، سوف نقع في نفسِ الخطأ الفادحِ الذي سَقَطَ فيه الوضعيون، ولن ننجوَ بالتالي من مَرَضِ "العلموية". أما حصيلةُ ذلك، فهي الإبادةُ العِرقية التي آلت إليها الحداثةُ الرأسمالية. أما الإبادةُ العِرقية – أُكَرِّرُها ثانيةً – فهي الجُرمُ الشنيعُ والإثمُ الفادحُ الذي أَذهَلَ أدورنو لدرجةِ قولِهِ بأنَّ كلَّ السلوكياتِ الإلهيةِ والبشريةِ تَعجَزُ عن إيضاحِ بواعثه، وفَكَّرَ بضرورةِ رميِ كافةِ الكتب في النارِ لتلتهمها، وآلَ إلى نتيجةٍ مفادُها أنَّ الحياةَ تأسست على منوالٍ خاطئ. هذا ومن المهم تثبيت استحالةِ استذكارِ مغدوري الإبادةِ والتطهيرِ العرقي خارجَ نطاقِ هذه المعاني. لكنَّ الحياةَ العصرية، والمدرسةَ الوضعية تعاندان في رفضِ هذه الحقيقة، بل وتعتقدان بإمكانيةِ العيش في هذه الحياة الاجتماعية، رغمَ كلِّ هذه الإباداتِ العِرقية. أو أنهما تَجرؤان على القول بإمكانيةِ العيش مع هذه التحريفات والتشويهاتِ الذهنية وقيمِ المدنية الماديةِ المؤدية إلى هذه الجريمة، دون القضاءِ على الجريمة بكافةِ ركائزها الأولية. وبسببِ هذه الجرأة، التي يجب ألا تتواجدَ في أيِّ كتاب، وبالتالي في أيِّ ذهنيةٍ أو عقل، يَرتَعِد أدورنو، وينعكفُ على الانزواء، ويموت.
ما أسعى لعمله هنا، هو تحويلُ منابعِ هذه "الجرأة" وأشكالِ تجاوزها المحتمَلَةِ إلى قضيةٍ إشكالية، وإبداءُ كفاءاتنا ومهاراتنا في الرد عليها وإيصالِها إلى المعاني والممارسةِ. ذلك أنه لا مجالَ أمامنا لِغَضِّ النظر عن الحداثة المستمرة في وجودها، والمؤديةِ إلى بروزِ بؤرِ الإبادة والتطهير العرقي المتمأسسةِ طردياً مع الزمن. فحقيقةُ عراقِ اليوم الباديةُ للعيان، وماهيةُ كافةِ أنظمةِ الشرق الأوسط في الإبادة العرقية – سواءً علناً أو استتاراً – ومشاركتُها جميعاً في الجرائم والآثام؛ واضحةٌ جلياً ورهيبة بِهَولِها، بحيث أنَّ راصديها يشعرون بها، فما بالك بالمحترقين بألسنةِ لهيبها والمنصهرين في بوتقتها. ورغم ذلك، ثمة بالمقابل نزوعٌ وميولٌ عظمى متطلعةٌ للحياة الحرة. ولكن، مِن المحالِ البتةَ العيشُ بشكلٍ مشترك ومتداخلٍ في نطاقِ ثنائيةِ: إما الحياةُ الحرة أو الإبادةُ الجماعية. إذ لا يمكننا العيشُ هكذا والمشاركةُ في جريمةٍ كهذه. فكيف حصلَ ووصلَت هذه الأراضي بتاريخها إلى هذه الحالة، بعدما كانت منبعَ أسمى معاني الحياة؟ ففي الطرفِ الأولِ تنشبُ حروبُ الأثنيات التي كانت مَهَّدَت الطريقَ لبروزِ أُولى معاني الحياة، وفي الطرفِ المقابل ثمةَ الحروب التي يقودها الإله الأخِير للحداثةُ! ما دام كذلك، فلا خيارَ لنا من التحامل على الموضوع تكراراً ومِراراً، والرَّدِّ على قضاياه، وإنجازِ العمليات اللازمة.
عليَّ سرد نكهةِ الحياةِ في الهلال الخصيب بلغةٍ أدبيةٍ نوعاً ما. وسأبدأ بحديثي عنها بملاحظةٍ كان قد رَصَدَها برادواي، الذي ابتدأ حفرياتِ جايونو في ديار بكر Diyarbakır؛ حيث يقول: "لا يمكن للحياة أن تَكُون ذات معنى في أيةِ بقعةٍ من العالم مثلما هي عليه في حوافِّ قوسِ سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس". تُرى، ما الشعورُ الذي أضفَتهُ هذه العبارةُ على هذا الإنسانِ المترعرع في أحضانِ ثقافةٍ بعيدةٍ جداً؟ وكعالمِ آثارٍ ومُؤَرِّخٍ مدركٍ تماماً للحضارة، لماذا يَرَى الحياةَ الأغنى والأرقى بمعانيها في هذه الساحة الثقافية؟ علماً بأنَّ القاطنين اليوم على هذه الأراضي يَوَدون الهربَ منها كالهربِ من الطاعون، ويَستَمِيتون ويَتَلَوّون للوصول إلى أوروبا مَقَابِلَ أَجرٍ بخسٍ جداً، وينظرون للهجرةِ إليها كالقدرِ المحتوم، لأنهم خَسِروا كلَّ مقدَّساتهم وقيمهم الجمالية، وكأنها لن تُستَعاد ثانية.
عليَّ الإقرار بأني – أنا أيضاً – أُصِبتُ في وقتٍ من الأوقات بِمَرَضِ الحداثة، وأردتُ الفرارَ من كلِّ شيءٍ في هذه الأراضي، حتى من الأم والأب. ولطالما أَعتَرِفُ في قرارةِ نفسي بأنَّ تلك كانت أفظعَ ضلالٍ لي في الحياة. ولكني أدركُ أيضاً أني لم أنقطع كلياً عما لاحظه برادواي. فباعتباري ابنُ تلك الجبال وسفوحها، فقد كنتُ أنظرُ إلى ذراها الشاهقةِ على أنها عرشُ الآلهة والإلهات، وإلى حَوافِّها كلَبَنات أساسية للجنة الوفيرة التي خلقوها، فأتشوقُ للتجوال فيها على الدوام. وقد اشتُهِرتُ منذ نعومةِ أظافري بلقبِ "مجنون الجبال"، لأعلَمَ لاحقاً أنَّ هذه الحياةَ عائدةٌ بالأرجح إلى الإلهِ ديونيسوس ، الذي يُقال أنه كان يتجول فيها برفقةِ مجموعةِ الفنانات الحرات المُسَمَّيات بـ الباخوسيات ، والمحيطات به أماماً وخلْفاً، ليَطرَبوا ويلهوا، ويأكلوا ويشربوا سَوِيَّةً. وكنتُ قد أحببتُ هذه الحياةَ الإلهية. والفيلسوفُ نيتشه أيضاً كان قد فضَّل هذا الإله على زيوس ، بل وكان يُذَيِّل العديد من أقواله المأثورة بتوقيعِ "الغلامُ الغِرُّ لديونيسوس". عندما كنتُ في القرية، كنتُ مهووساً باللعِبِ المشترَكِ مع الفتيات، عوضاً عن لُعبةِ العروس والغمّيضة؛ وإنْ كان ذلك لا يتناغم والواجباتِ الدينيةَ كثيراً. وكنتُ مقتنعاً بأنْ يَكُون الأمرُ هكذا بطبيعةِ الحال. هذا ولَمْ أستسِغْ أو أُبْدِ أيَّ تسامحٍ البتة تجاه الثقافةِ المهيمنةِ بِسَترِ المرأة وحَجْبِها في البيت، ولم آبَه بالقانون الذي سَمَّوهُ الشرف (الناموس). ولا أَبرَحُ بِالرَّدِّ بـ نعم إزاءَ النقاشِ الحر اللامحدودِ مع المرأة، واللعبِ معها، ومشاطرتِها كلَّ المقدساتِ الأخرى في الحياة. وبالمقابل، فإنَّ جوابي هو لا وألفُ لا إزاءَ العلاقات والتبعياتِ العبوديةِ المتبادَلةِ الفائحةِ برائحةِ المُلكِيَّة، والمرتكزةِ إلى القوة، أياً كان اسمُها، وأياً كانت ذريعتُها.
لقد حَيَّيتُ دوماً مجموعاتِ النساءِ الحرة على ذرى تلك الجبال بإلهامِ الإلهة الأنثى، لإضفاءِ "المعاني النفيسةِ" عليها. ولطالما يَخطُرُ ببالي كم كان غيظي كبيراً، كلما تَرامى لِسَمعي نبأٌ يقول بأنَّ "حادثاً وَقَعَ لشاحنةٍ (أو جَرَّارٍ) مكتظَّةٍ بمجموعةٍ نسائيةٍ في المنطقةِ الفلانية من جنوبِ شرقي البلاد ، فَلَقَينَ حَتفَهُنَّ وهنَّ ذاهباتٌ إلى العملِ بالأُجرة في الحقول". وأتذكر جيداً أني لَمْ أشعر بكل هذا المقت تجاهَ أيِّ حَدَثٍ بقدرِ ما أبديتُه إزاءَ الرجلِ والعائلةِ والهرمية والدولةِ، الذين يزعمون أنهم أصحابُ المرأة ومالكوها. فكيف حصلَ ولَم يتبقَّ من نسلِ الإلهة الأنثى إلا هذا الانحطاطُ المروِّع؟ لَم يقبلْ عقلي وروحي بهذا الانحطاطِ إطلاقاً، تماماً مثلما لم تَستَسِغه ذهنيتي. فبالنسبة لي؛ إما أنْ تَكُونَ المرأةُ داخلَ قُدسِيَّةِ الإلهة، أو ألا تَكُونَ أبداً. ولطالما أُفَكِّرُ بِصِحَّةِ المقولة القائلةِ بأنَّ "مستوى حياةِ النساء في مجتمعٍ ما معيارٌ أوليٌّ في معرفةِ ذاك المجتمع". كنتُ قد استخدمتُ عبارةَ "مِن بقايا ثقافةِ الإلهةِ الأم" النيوليتيةِ في وَصفِ أمي، حيث كانت بَدينةً مثلهن. إلا أنَّ إنشاءَ الحداثةِ لنمطِ الأم الاصطناعيةِ المزيَّفةِ أَعاقَ رؤيتي للقُدسِيَّةِ الموجودةِ في أمي. ورغمَ معاناتي آلاماً ومخاضاتٍ كبرى في حياتي، لَم أبكِ جدياً على أيِّ حادث. إلا أنه، وبعدما حَطَّمتُ قوالبَ الحداثة وكَسَرتُها، لطالما أستذكرُ أمي، وبالتالي جميعَ أمهاتِ المنطقة (الشرقِ الأوسط)، بِقَلبٍ مُتَلَوٍّ وبِغَصَّةٍ، فتُدمِع عيناي وأنا مُستغرِقٌ في التأمل. ولطالما أتأملُ معنى وطعمَ الماء الذي كنتُ أَتَجَرَّعُه من دَّلْوِ البئر الثقيلِ بعدما أعتَرِضُ طريقَ أمي وهي في منتصفِ الدرب تَئِنُّ تحت وطأةِ ثِقَلِهِ، ويَخطُرُ ببالي كذكرى مُميَّزَةٍ تَعتَصِر قلبي ألماً. أُوصي الجميعَ بإعادةِ النظرِ في نمطِ علاقاتهم مع الوالدين، بعدَ أنْ يدكوا دعائمَ كافةِ القوالبِ الذهنية للحداثة، وأتمنى أن يعكسوا وجهةَ النظر هذه على شتى "علاقاتِ القرية" المتبقيةِ مِن العهد النيوليتي. إذ – ودون أيِّ شك – يَكمن الظفرُ الأعظمُ للحداثة في نجاحها بهدمِ وجهةِ نظرنا الثقافيةِ المُنشأةِ طيلةَ خمسةَ عشر ألفِ عامٍ، وإسقاطِها إلى مستوى العدم. ومن المستوعَب تماماً استحالةُ انبعاثِ التشبثِ بنظرةٍ أصيلةٍ حرة، والهَوَسِ بمقاومةٍ باسلة، والوَلَعِ بحياةٍ مشرِّفةٍ من أحشاءِ أفرادٍ ومجتمعاتٍ مُبَعثَرةٍ ومهدومةٍ ومعدومة لهذه الدرجة.
كلُّ نباتٍ ينمو، وكُلُّ حيوانٍ يرعى في حوافِّ القوسِ الجبلي هو موضوع Nesne باعث على الهيام بالنسبة لي، إذ أنظرُ إليهم وكأنهم مشحونون بمعانيَ مقدَّسة. فقد كنا أصدقاء، وكأنهم خُلِقُوا لأجلي، وأنا لأجلِهِم. لقد ركضتُ خلفهم كثيراً، وبكلِّ ولعٍ وعشق. هكذا هو عشقي لحدٍّ ما. وما لَمْ أغفِرهُ لنفسي في هذا المضمار حتى الآن، هو قَطعِي رؤوسَ العصافير التي كنتُ أصطادها، دون أنْ يختلجَني شعورٌ بأيِّ رحمةٍ أو شفقة. ما مِن سردٍ أثَّرَ في أعماقي وَحَثَّني على استكشافِ المهالكِ العميقةِ المستترةِ وراءَ مفهومِ التمييز بين الذات والموضوع، بقدرِ ما فَعَلَته بي هذه الوقائع. وتَرجيحي لمفهومِ الأيكولوجيا على صلةٍ وثيقةٍ بهذا الولعِ الطفولي، وباعترافي بهذا الجُرم. وما كانَ لي التغلبُ على هذه المخاطرِ الروحية العظمى، والمتبقيةِ من ثقافةِ الصيد، إلا بعدَ نَزعِ القناع عن السلطة وحروبِها، باعتبارها فنُّ "الرجلِ القوي المستغِل والآمرِ الناهي" (الآلهةِ المُقَنَّعة وغيرِ المُقَنَّعة، والملوكِ المتسترين والعُراة)، الذي هو صيدٌ، ليس إلا. وما كان لنا أن نَعِيَ ذاتنا، أو نَقدِرَ على تَبَنِّي المجتمعِ الأيكولوجي، ما لَم نفهمْ لغةَ النباتاتِ والحيوانات. هكذا كنتُ سأضفي المعانيَ على ذكرياتي مع نباتاتي وحيواناتي، التي لا تنفكُّ تُراودني بلا انقطاع.
ولا أَبرَحُ ألاقي الصعوبة في ضبطِ عواطفي الجياشة – التي لا يمكن أن تُزَوِّدَني بها أيةُ رواية – كلما خطرَت ببالي فِلاحةُ أبي في أحضانِ السهول المُلاصِقة لحوافِّ الجبال، فيقومُ بإعدادها وزراعتها منذ بدءِ الربيع إلى أن يُغمِضَ الخريفُ عينيه ويغفو، لِيَحصدَ الغِلالَ، ويَدرُسَ الحبوبَ ويُكَدِّسَها. واأسفاه! لماذا لَم أفهمْ تماماً أولئك السائرين على دربِ الإله، وعَجِزنا عن أنْ نكون أصدقاء؟ ورغمَ أنَّ كلَّ علاقاتي تدورُ على محورِ الصداقة، إلا أني غيرُ قادرٍ على مسامحةِ نفسي لعدمِ الالتزام بالحِداد عندما تُوُفِّيَ أبي، وذلك بسببِ علاقاتِ الحداثة المروِّعة الرهيبة. ربما كان أبي خائرَ القوى أكثرَ من كلِّ الآباء، ولكنه كان أَحَدَ عِبادِ الله النزيهين المستقيمين. رغمَ كلِّ شيء، فالآباءُ الفلاحون هم الأكثرُ قيمةً وقدراً بالنسبة لي.
كانت جميعُ علاقاتِ القريةِ تَتَبَدَّى لي وكأنهُ أَكَلَ عليها الدهرُ وشَرِب، وكأنها محاولاتُ مرحلةٍ مجهولة تحتضر. هذا وأَعتَبِرُ اللجوءَ إلى المدينةِ هرباً من القرية جُرماً بِحَدِّ ذاته، ولا يُساوِرُني أدنى شكٌّ في أنَّ الحياةَ المثلى للإنسانِ تَتَحَقَّقُ في القرى الأيكولوجية، لا في بنى المدنِ السرطانيةِ للحداثة (للمدنية بِرِمَّتِها). ولا يمكن السماح للمدينةِ أنْ تَغدُوَ مكاناً صالحاً للسكن، إلا إذا تناغمَت وانسجمَت كلياً مع القرى الأيكولوجية.
إني أُقَيِّم الشعوبَ الآهلةَ القاطنةَ منذُ القِدَم إلى اليوم تحت كَنَفِ هذه السلاسلِ الجبليةِ الممتدةِ من أمانوس إلى زاغروس بأنهم العابرون المقدَّسون على دربِ الآلهة والإلهات المتربِّعةِ على عُرُوشِها في قِمَمِ تلك الجبالِ الشاهقة. لقد أصبحْتُ مقتنعاً يقيناً أنَّ تهمة الرجعية وفقَ وجهةِ نظرِ الحداثة، إنما عكسُها هو الصحيح. وباعتبارِ أنَّ الرجعية – التقدمية ليست سوى أحكاماً أيديولوجية، وأن تحليلَ ذهنيةِ الحداثةِ الرأسمالية يعني الغوصَ في الأعماق الإنسانية الحقة، لأنها ليست رجعية فحسب، بل وهي العدوُّ اللدود للبشرية؛ فَكُلِّي إيمانٌ بأني حَقَّقتُ العودةَ العظمى إلى الحرية. وبالنجاةِ مِن سعيرِ الحداثة المؤلَّفة مِن جشعِ الربح، والصناعةِ، والدولتيةِ القومية، غدا كلُّ شيءٍ مفهوماً أكثر، وَيَنُمُّ عن غِنى معاني الحياة. والاهتمامُ والهيامُ اللذان أُولِيهِما لِجَثْوَةٍ (كَومَةٍ) ترابيةٍ متبقيةٍ مِن العهدِ النيوليتي، لا أُبَدِّلهما حتى بنيويورك Newyork. فهذه المدينةُ الجوفاءُ الخاليةُ مِن المعاني، والفاتحةُ أبوابَها على مصاريعها أمامَ المزيدِ مِن "الحياةِ المُربِحَةِ"، ومِن مُحاصَرةِ الإنسانِ ضمن "قفصٍ حديدي"، وأمامَ "وحوشِ الصناعة"؛ لا معنى لها سوى كَونها إحدى النسخ المعدومة المعاني لمدينةِ "بابل ذاتِ اللغاتِ الاثنتين والسبعين" التي لا يفهم أحد فيها شيئاً من الآخر. ولا يُراودُني أدنى شكٌّ من أنَّ خلاصَ البشريةِ يَمُرُّ مِن هدمِ البنية السرطانية للمدنية.
لقد قَصَصتُ هذه القصةَ القصيرةَ بهدفِ التشبيه والتذكير بماهيةِ ثقافةِ الحياة التي ننحدرُ منها. ذلك أننا لن ننجوَ من لَعِبِ دورِ "حمقى الحداثة"، ما لَم نُدرِكْ باقتدارٍ وكفاءةٍ نمطَ هذه الحياة، التي هي ثمرةٌ من ثمارِ الواقع الاجتماعي المشيَّد. ومن دون الانعتاق من نمطِ حياةِ الحداثةِ السرطانية، التي تَأسِرُ الجميعَ لِتَطالَ حتى الراعيَ على ذرى الجبال، وتعني في جوهرها نهاية الحياة، والتي سَعَينا لإيضاحها عبر العبارات التي نَطَقَ بها أكثرُ الفلاسفةِ تمرساً ومهارةً، والتي لَم يكن شكي في كونها كذلك أقل درجة من شكوك الآخرين؛ فمن غيرِ الممكن لنا العيشُ ضمنَ الحياة الحرة التي مهَّدنا لها بذهنيتنا وإرادتنا (الفكر، التنظيم، الفعل)، وضمن كلِّ غناها الذي تتميزُ به هي ومصادرها. وسوف نَعِي – عاجلاً أم آجلاً – أنه "من المحالِ العيشُ بصوابٍ في أنماطِ حياتنا الراسيةِ على تصوراتٍ وسيناريوهات خاطئة".
لِنَبسُطْ قِصَّتَنا ونَسْرُدها قليلاً باللغة العلمية. إنَّ الوقائعَ الاجتماعيةَ المشيَّدةَ في الهلال الخصيب تستمرُّ بوجودها في ديمومةِ الحياة الراهنة، ولو بخطوطها العريضة. فالعواملُ الذهنيةُ والعناصرُ الثقافيةُ المادية على حدٍّ سواء متشابهةٌ في المضمون، رغمَ بعضِ التغيُّراتِ الكميةِ والنوعية الطارئةِ عليها. واللغةُ مشتركةٌ في بنيتها الأساسية. وأشكالُ الفكرِ تستمر بوجودها على نحوٍ منفصلٍ في الميادين العلمية والدينية والفنية. وحروبُ الدفاعِ والهجوم مستمرةٌ اليومَ مثلما كانت في الأمس. كما لا تزال العائلةُ تحافظ على واقعها كمؤسسةٍ أولية.
أما الفوارقُ الموجودةُ فيما بينها، فتُعزى إلى استنادها على تَضَخُّمِ مؤسسةِ الدولة. فكلما زادت الدولةُ المُتَّسِعَةُ دوماً على حسابِ المجتمع من إدراجِ الذهنيةِ الاجتماعيةِ والزخمِ الثقافيِّ الماديِّ ضمن مُلكِيَّتِها، أَطرَأَت عليهما تغييراتٍ كميةٍ ونوعية وفقاً لحاجاتها ومنافعها. أما التطوراتُ الاجتماعية، فقد استمرَّت بوجودها رغمَ أنفِ الدولة، على عكسِ ما يُعتَقَد. سوف نجهدُ لإضفاءِ المعاني السليمةِ على الإجراءاتِ الأساسية لثقافةِ المدينة – المسماةِ بالحضارة – والمحصلاتِ الاجتماعية المتمخضةِ عن كياناتِ الدول، بدءاً من دولةِ الرهبان السومريين إلى الدولة القومية للحداثةِ الرأسمالية. وسنجد على وجهِ التخصيص كيف أنَّ الدولةَ هي التي نَشَرَت الطبقيةَ بالأغلب على نحوِ فروعٍ معقودةٍ متشعبة، وليس العكس.
إني على قناعةٍ بأنَّ مصطلحَ "الفترة" الذي طَرَحَهُ فرناند بروديل لم يُستوعَبْ كفايةً من جهةِ دورِهِ في التطورِ الاجتماعي. ونَخُصُّ بالذكر أنَّ أنماطَ مصطلحاتِ الفترة – الثقافة، الفترة – الحضارة، والفترة – المجتمع تستلزم الإيضاحَ والشرحَ، لِتَكُونَ مساهَمةً منيعةً في التاريخ. لكنها لا تُطبَّقُ بمهارة في علمِ التاريخ. لذا، سأعملُ على شرحِ هذا المصطلح واستخدامِهِ بكلِّ جسارة في تحليلاتي هذه:
آ- "الفترة الأطول"؛ فَبَعدَ تَراجُعِ العهدِ الجليديِّ الرابع، كان على مجتمعِ الهلال الخصيب المُشَكِّلِ للنهرِ الأم في الثورةِ النيوليتية أنْ يستمرَّ بِسَرَيانه، إلى أنْ يأتيَ عليه عصرٌ جليديٌّ جديدٌ مشابه، أو تَحُلَّ عليه كارثةٌ نووية، ويستشري في جسدِهِ وباءٌ لا يمكن صَدُّهُ أو دَرءُهُ، أو لأسبابٍ أخرى مشابِهةٍ يَبلُغُ بها حالةً لا يمكنه فيها الاستمرارُ طبيعياً. تَحتَلُّ الثقافتان ذات المنشأِ الصينيِّ والساميّ مكانَهما في هذا المجتمع ذي "الفترة الأطول" على شكلِ فرعَين. أما الفروعُ الثقافيةُ الصغيرةُ الأخرى، فهي كالسَّواقِي بالنسبةِ إلى النهرِ الأم. مِن الضروريِّ إدراكُ البنيةِ الداخلية لهذه الأطروحة بشكلٍ حَسَن. فالمجتمعُ المُشَيَّدُ، بكافةِ عناصره وعواملهِ الذهنيةِ والثقافية المادية، منيعٌ ووطيدٌ لدرجةٍ لا يمكن لأيِّ سببٍ اجتماعيٍّ داخليٍّ أنْ يَهدِمَهُ خلالَ هذه الفترة. يمكننا استخدامُ مصطلحِ "المجتمعِ الثقافيِّ الأولي" مقابلَ هذه الفترة. يعودُ سببُ طرحِيَ المتكررُ لقوالبِهِ ومضامينِهِ وتراكماتِهِ إلى مَرامِي في بلوغِ تعريفٍ لـ"المجتمع الثقافي الأولي" المُعادِلِ والمكافئِ لاصطلاحِ "الفترة الأطول". ذلك أنَّ مصطلحَي الفترة والمجتمعِ مُخَوَّلان لتقديمِ مساهَماتٍ نفيسةٍ لعلمِ الاجتماع بمعانيهما الجديدةِ هذه. يسعى علماءُ الاجتماعِ الليبراليون منذ الآن إلى الاعتقادِ بِسَيرورة إدراكاتهم الاجتماعية إلى الأبد بميتافيزيقيةٍ مزيَّفةٍ عبرَ مصطلحِ "نهايةِ التاريخ". فقد كان الماركسيون وأصحابُ المواقفِ "المحشريةِ" الأخرى يَعِدُون بـ"عصرِ سعادةٍ أبدية" مبتورةٍ من الأبعاد الزَّمَكانية. في حينِ أنَّ المتشائمين السوداويين يُرَجِّحون استذكارَ مفهومِ "العصرِ الذهبي" الغابر، والحديثَ الببغائيَّ عن عدميةِ المعاني في "العصرِ الصفيحي" الراهن.
يُعتبَرُ مصطلحُ الفترة الأطول أكثرَ علميةً بالنسبة لكافةِ هذه النظريات الاجتماعية، حيث يَمُدُّنا بِحِجَجٍ واضحةٍ بصددِ الظروف الملموسةِ وبدايةِ النظام الاجتماعي ونهايته. هذا ولا يَخنُقُ التاريخَ في إطارِ أكوامٍ من الأحداثِ المتكدسة، ولا يُسقِطه إلى مستوى أشكالِ المجتمع الضيقةِ والمرحليةِ البسيطة. فلا الأحداثُ الآنية، ولا أشكالُ المجتمع تتميز بالكفاءة والقدرةِ على تفسيرِ معاني الحياة بشكلٍ شامل. ولا تنجح سوى في إعطاءِ شروحٍ نسبيةٍ في هذا المضمار.
ثمة مساحةٌ شاسعةٌ لكافةِ المؤسسات الأولية من قَبِيلِ الدين، الدولةِ، الفنِّ، الحقوقِ، الاقتصادِ، والسياسةِ داخلَ المجتمعِ الثقافي الأساسي ضمن إطارِ الفترة الأطول. هذا ويطرأ التغييرُ المستمر على المؤسساتِ كماً ونوعاً. فبينما يَتَقَوَّضُ بعضُها، تتضخمُ بالمقابل تلك المضادةُ لها. وبينما تزولُ القِلَّة منها، فإنِّ إجراءاتِها وفاعلياتِها تستمر بمعانيها، إما في مؤسساتٍ مغايرةٍ أو في أخرى جديدة. وعلى نطاقٍ عام، يمكننا القول أنه ثمةَ علاقاتٌ جدليةٌ بَنّاءةٌ فيما بين جميعِ المؤسسات والمصطلحات. كما أنَّ أُحَادِيَّةَ المجتمع الثقافي الأساسي لا تُجَرِّدُهُ مِن شركائه الأقوياءِ أو مِن بناءِ تكويناتٍ جديدةٍ داخلَية.
وفي هذه النقطة بالذات يمكننا استيعاب دوافعِ النزاعِ بين "التطوريين" و"الخَلْقِيين ". فـ"الخَلْقِيون" مدركون ومنتبهون لمصطلحِ "الفترة الأطول"، ويستمدون منه قوتَهُمُ الأساسية. بالمقدورِ سَردُ الآياتِ الإلهيةِ التي تنص على فترة خَلْقِ الكون ونهايته بمفهومٍ ثقافي. ولدى تفسيرنا لهم من زاويةٍ سوسيولوجية، نجد أنَّ الرأيَ الخَلْقِي واعٍ للخصائصِ المقدَّسةِ والساميةِ والعظيمةِ للمجتمع المشيَّد. وبالأصل، ما الكتبُ المقدَّسةُ الثلاثة (التوراة، الإنجيل، والقرآن) سوى تفاسيرُ تعمل على سردِ الحياة المقدَّسةِ والساحرةِ في الهلال الخصيب. وما اعتناقُ الغالبيةِ الساحقة من البشرية لهذه الأديانِ الثلاثةِ الكبرى سوى بسببِ ماهيةِ تفاسيرها تلك. فالزعمُ بأنَّ هذه الحياةَ الثقافيةَ الجديدةَ المتحققةَ كمعجزةٍ خارقة (هذا المصطلح مفهومٌ لأجل تلك الحقبة الإنسانية) ستستمر إلى أبد الآبدين، وجَعْلِ ذلك عقيدةً أولية؛ إنما يشير إلى مدى قوةِ تأثيرِ هذه الثقافة. لِنَتَصَوَّرْ معاً كيف أنَّ المجموعاتِ البشريةَ التي لَم تنعتقْ من كونها كلاناتٍ وضرباً من ضروبِ الثدييات البدائية على مَرِّ ملايين السنين تصبح وجهاً لوجهٍ أمامَ ثورةٍ استثنائيةٍ خارقةٍ في الهلال الخصيب، وأمام إنشاءٍ اجتماعيٍّ لا يمكن تعريفُه إلا بمفردةِ المعجزة. فهل سيتوانَون أو يتخَلَّفُون عن مواجهتها كأمرٍ مقدَّسٍ وسامٍ وإلهيٍّ وكأنه عيد؟
لِنَلفُتِ الأنظار فوراً إلى أنَّ السوسيولوجيين مِن أمثالِ دوركايم والعلمويين الآخرين لَم يذهبوا أبعدَ مِن النظرِ إلى المجتمعِ على أنه مجموعاتٌ بشريةٌ مؤلَّفةٌ من مجموعِ الأحداث والمؤسسات، ليس إلا. ولذلك، لا تتجاوزُ التفسيراتُ المتعددةُ على صعيد الطبقية والدولة والاقتصادِ والحقوق والسياسةِ والفلسفة والدين مَنطِقَ الأحداثِ والمؤسسات. ومع ذلك، فهي لا تَوَدُّ البتة إدراكَ أسبابِ عدم رواج هذه المواقف بما يعادل حتى قيمةَ كتابٍ مقدَّس واحد. نقطةُ الضعف الأهمُّ في سرودهم تكمن في عدمِ استيعابهم أهميةَ مجتمعِ الفترة الأطول. عليَّ التشديدُ مجدَّداً على أنَّ البشريةِ تمتلكُ الذاكرة الغائرةَ الأعماق لقصتها، ولن تتخلى عنها بسهولة. والمجتمعاتُ – على عكس ما يُعتَقَد – ليست متشبثةً بالكتب الدينية المقدسة بسببِ الرب وبعضِ الرموز والتراتيل المجردة التي تؤلفها. بل إنها تُجِلُّها وتُبَجِّلُها لإحساسها وشعورها بمعاني وآثارِ قِصَصِ حياتها فيها. ولأنها تؤدي دوراً مماثلاً لذاكرةِ المجتمع الذي يحيا بشكلٍ ما، فهي مندرجةٌ بين الضرورات التي لا غنى عنها. أما مدى صحةِ أو خطأِ الأحداث والمصطلحات التي تنص عليها، فهي تفاصيلٌ من المرتبة الثانية. مِن هنا، وعندما قال فرناند بروديل عن وجهِ حقٍّ بوجوبِ "سَسْلَجَةِ التاريخ وتَأْرِيخِ السوسيولوجيا"، إنما يَلفُتُ الأنظارَ إلى الخطأِ الأساسيِّ في الأسلوبِ والعلم. فبدون تبيانِ علاقاتِ الفترة – المجتمع ضمن مسارِ التاريخ بمعانيها القيِّمة، لن تنجوَ الشروحُ التاريخيةُ والسوسيولوجيةُ المنفصلة مِن إحداثِ جروحٍ عميقة في جَسَدِ الواقع الاجتماعي، وإفقادِهِ كلَّ معانيه. كَدِّسوا الوقائعَ المعتمدةَ على الوثائق قدرَ ما تشاءون، واحفظوا المؤسساتِ والقواعدَ الاجتماعيةَ قدر ما ترغبون، ووضِّحوها بالوثائق كيفما تَوَدُّون؛ لكنْ، لن تذهب مساهَماتُكم في علمِ المعنى التاريخيِّ والسوسيولوجي أبعدَ من كونها لوازمُ وأدواتٌ فظة، ما لم تُجِيبوا عن الأسئلة: ما الذي يقوله الأحياء، بأي معنى، أين، ومتى؟
رغمَ أنَّ التطوريين يقومون بتثبيتِ الوقائعِ والظواهر على نحوٍ أفضل، إلا أنهم لن يَخلُصوا من الانتقاداتِ لافتقارِهِم لمعاني مصطلحِ الفترة الاجتماعية. ذلك أنَّ الذاكرةَ الاجتماعيةَ أهمُّ مِن التطورِ التطوريِّ والطبيعي للوقائعِ والظواهر. كما أنَّ عِلمَ المعنى بالنسبةِ إلى الإنسان يتميزُ بالأسبقيةِ على تسجيلِ الظواهر، لأنَّ أنماطَ حياتهم تسيلُ فيه كالنهر الجاري. أما عدمُ تَخَلِّيهِم عن الرب، فيُعزى إلى قوةِ الذاكرةِ الاجتماعية. فالمجتمعُ – مثلما سنستفيض في شرحِ ذلك لاحقاً – يكافئ بين ذاكرتِهِ ومصطلحِ الرب. مِن هنا، فلن تنجوَ الظواهريةُ – التي هي داءُ الحداثة – من سِهامِ النقدِ اللاذع، ما دامَت مُعارِضةً في أساسها لذاكرةِ المجتمع، وبالتالي لميتافيزيقيته. فكيفما أنَّ الإنسانَ العديمَ الذاكرةِ يلاقي مصاعبَ جمةٍ ويتحولُ إلى طفلٍ في الحياة، كذلك فالمجتمعاتُ التي تَفقُدُ ذاكرتَها تَكُونُ وجهاً لوجه أمامَ مخاطرِ نسيان ذاتها والضياع. بالتالي، فالمجتمعاتُ المفتقِدةُ لذاكرتِها لن تنجوَ مِن التعرضِ بكلِّ سهولةٍ للاستعمارِ والاستغلال والغزو والانصهار.
رغمَ ادعاءِ الوضعيين الظواهريين بتعريفِهِم العلميِّ للمجتمع، إلا أنَّ المدرسةَ الفكريةَ الأقلَّ معرفةً بالمجرى الحقيقيِّ للمجتمع هي المدرسةُ الوضعيةُ الظواهرية. فَبِتَفسِيرها للمجتمعِ على أنه أكوامٌ ماديةٌ بحتة مبتورةٌ عن التاريخ، وبتعريفِها إياه على منوالٍ هو الأكثرُ انحرافاً وتَشَوُّهاً ونُقصاناً؛ إنما تَفتَحُ الطريقَ أمام أكثرِ العمليات الاجتماعية خطورة. مِن هنا كان اصطلاحُ الهندسةِ الاجتماعية على علاقةٍ وثيقةٍ بالمدرسةِ الوضعية، التي تَعتَقِدُ بإمكانيةِ رسمِ الملامحِ المرغوبة للمجتمع بالتدخلِ الخارجي. هذه المواقفُ، التي هي في الآنِ عينِهِ مفاهيمُ رسميةٌ للحداثة، تُشَكِّلُ الذرائعَ الشرعيةَ لحروبِ السلطة والاستغلال والسلبِ الناشبةِ داخلَ المجتمع وخارجَه.
ب- يمكننا تكييف مصطلحِ الفترة البنيوية مع التحولاتِ المؤسساتية الأساسية في التطورِ الاجتماعي. فقد يساهم تعريفُ فترات إنشاءِ البنى الأساسية وانهيارِها في إضفاءِ المعاني على الواقع الاجتماعي. وباتخاذِ وضع القمع والاستغلال لدى الإنسان مقياساً، سيكون بالإمكان جعلُ التقسيم السائد للمجتمعات إلى عبوديةٍ، إقطاعية، رأسماليةٍ، واشتراكية موضوعاً لشروحٍ ثمينة. فربطُ الفترات البنيوية بأشكالِ المجتمعات تلك قد نَمَّ عن بروزِ أدبياتٍ هامة. لكنْ، وبسببِ عدمِ قدرتها على عَقدِ صلاتٍ قَيِّمةٍ مع مصطلحَي الفترة الأطولِ والفترة القصيرة، فهي تبقى عاجزةً عن العطاء، ومتخبطةً في تكرارِ قوالب المعاني المحفوظة والمُسَلَّمِ بها.
بالمقدور تفسيرُ المجتمع النيوليتي عبرَ فترات المجتمعَين البنيويِّ والثقافيِّ الأولي بشكلٍ متداخل. فمثلما يمكنُ إيضاحُ البنى المؤسساتية وتراكماتِ الذهنيةِ والحياةِ المادية الخاصةِ به عبرَ "الفترة البنيوية"، كذلك بمستطاعنا إيضاحُهُ عبرَ مصطلحِ "الفترة الأطول" نظراً لسيرورةِ تأثيراتِهِ الثقافية – التي لا تزال قائمةً – إلى حينِ انهيارِهِ أو تَعَرُّضِهِ للإبادةِ الجسدية. يتألفُ موضوعُ فترات المجتمع الثقافيِّ الأولي أساساً من العلم، الفن، الدينِ، اللغةِ، العائلة، الأثنيةِ، والقوم وما شابهها. فهي تؤلف أشكال الذهنية والمجموعاتِ البشرية الواسعةِ النطاق كاحتمالٍ راجح، لأنها تبقى محافظة على وجودها إلى حينِ انقضاءِ الفترة، حتى ولو طرأت عليها التَّغَيُّرات المختلفة. وارتباطاً بنتائجِ كافةِ الفروع العلمية، تُعَدُّ الأيكولوجيا في هذه المرحلة من إحدى المواضيعِ التي تُشَكِّلُ حجرَ الزاوية كَعِلمٍ مَعنِيٍّ بالتمأسسِ الاقتصادي. والسياسةُ الديمقراطية أيضاً من المواضيع الواجبِ العمل بها دائماً، سواءً كعِلم، أو كمؤسسة.
وبالإضافة إلى أنَّ تأسيسَ الدولةِ وأنماطِ حياتها يُشَكِّلُ المؤسسةَ الأولى والأهمَّ في الفترات البنيوية، فمِن مواضيعها الهامةِ الأخرى إلى جانبِ الدولة يأتي كلٌّ مِن الهرميةِ، الطبقاتِ، المُلْكِ والأرض والوطنِ التي تُعَيِّن حدودَ الدولة، وأشكالِ الدولةِ المتمثلة في دولةِ الرهبان ودولةِ السلالات والدولةِ الجمهورية والدولةِ القومية. كما تُعَدُّ الأشكالُ الدينيةُ موضوعاً هاماً فيها. وكذلك فالمواضيعُ التي تُقَسِّمُ المجتمعاتِ وفقاً لأنماطِ الإنتاج (نيوليتية، عبودية، إقطاعية، رأسمالية، اشتراكية) تَندَرِجُ ضمن مواضيعِ الفترة البنيوية، إلى جانب تَضَمُّنِها موضوعَ انهيارِ المؤسسات أيضاً.
قد يكون من المناسب تسميةُ الفروعِ المتشعبة من عِلمِ الاجتماع الباحثِ في المواضيعِ البنيوية بـ"السوسيولوجيا البنيوية". كما أنَّ تسميةَ مواضيعِ البحثِ في الفترة الأطول بـ"سوسيولوجيا الثقافة الأولية" ستكون في مَحَلِّها من جهةِ تَكامُلِ الإطار وتحقيقِ الانسجامِ فيه.
ج- تَشتَمِلُ مواضيعُ الفترات الوسطى والقصيرةِ على موضوعِ الوقائع والظواهر المتعددةِ كماً وكيفاً. كما تَتَضَمَّنُ كلَّ أحداثِ التَّغَيُّرِ والتحولِ الثقافي والبنيوي كمواضيعَ أساسية. في حينِ أنَّ مواضيعَ المرحلةِ المتوسطة تهتمُّ بالتغييرات الأطولِ عمراً والبارزةِ للوسط ضمن المؤسساتِ البنيوية عينِها. على سبيلِ المثال، يمكن التفكيرُ بإدراجِ الأزماتِ الاقتصادية، تَغَيُّراتِ النظمِ السياسية، وشتى أنواعِ المؤسسات التنظيمية، الاقتصاديةِ منها، والاجتماعيةِ والسياسيةِ والعملياتية ضمن هذا الإطار. هذا وتُعتبَر كلُّ النشاطاتِ الاجتماعية والمجتمعيةِ للفرد من المواضيعِ الرئيسية للفترة القصيرة. إضافةً إلى أنَّ الوسائلَ الإعلاميةَ أيضاً تَتَّخِذُ مِن الوقائعِ والظواهرِ القصيرةِ الأمدِ أساساً لها بالأرجح. هذا وتَحتَلُّ الأحداثُ اليوميةُ الجارية في كلِّ مؤسسةٍ بنيويةٍ مكانةَ الصدارة في الفترة القصيرة أيضاً.
وباعتبارِ أنَّ عِلمَ الاجتماع هذا معنيٌّ أساساً بالوقائعِ المندرجة ضمن الفترة القصيرة، فقد يكون نَعتُهُ بـ سوسيولوجيا أوغست كومت تسميةً صائبة. بمعنى آخر، سيكون من الأنسب تسميتُه بـ"السوسيولوجيا الوضعية" (مع عدمِ التغاضي عن انتقاداتِها الأساسية). وبالفعل، يجب أنْ يكون للسوسيولوجيا فرعٌ معنيُّ بالبحث في الوقائع. ونَخُصُّ بالذكر أنَّ الوقائعَ تكون مُعَيِّنةً ولها وزنُها في مراحلِ الفوضى الحَرِجة. وسيَتَحَقَّقُ التكامُلُ في حالِ لَحمِ علمِ الاجتماع بالسوسيولوجيا الثقافيةِ الأولية والبنيوية، والسوسيولوجيا الوضعية، التي هي عبارة عن سردٍ وقائعي.
وفيما عدا ذلك، فَكُلُّ الوقائعِ والكياناتِ الكونية، بما فيها الأحداثُ الاجتماعية، تحتاج الوسطَ الذي نسميه بالكوانتوم والفوضى. ذلك أنَّ أوساطَ الكوانتوم والفوضى أوساطُ خَلقٍ وتكوين. ووجودُها مؤكَّدٌ، رغم عدمِ الغوصِ والتدقيق في أغوارها بعد. لذا، فمِن بين المواضيعِ الهامة التي جَذَبَت اهتمامَ العلوم مؤخراً هو كَونُ كلِّ الكيانات والتكوينات ذاتِ الفترات الطويلة والمتوسطة والقصيرةِ تبقى محافِظةً على وجودها بفضلِ "الوقائع الجارية" في "كلِّ لحظة" وفي "الفواصلِ القصيرة" على حَدٍّ سواء. هذا النوعُ من "لحظةِ الخَلْق"، والذي يمكننا تسميتُه بـ"لحظةِ الكوانتوم" و"فاصلِ الفوضى"، لا يَحتَمِل الإهمالَ بتاتاً. واحتمالُ الحرية في الكون إنما يَتَحَقَّقُ في هذه "اللحظة". والحريةُ ذاتُها متعلقةٌ بـ"لحظةِ الخَلْقِ" تلك. ذلك أنَّ كلَّ البنى الموجودةِ في الطبيعة والمجتمع بحاجة إلى "لحظاتِ الخَلْق"، رغم اختلاف نوعيتها من حيث التكوين، ومِن حيثُ فترات الحياةِ والحفاظِ على الوجود.
إذن، والحالُ هذه، سيكون من المناسب التفكيرُ في إطلاقِ اسمٍ على علمِ الاجتماع المعنيِّ بمواضيعِ الخَلْق في أقصرِ فترة من بين الفترات القصيرة على الصعيد الاجتماعي. وحسبَ رأيي الشخصي، فتسميةُ علمِ الاجتماعِ المعنيِّ بالوقائع الاجتماعية في "لحظة الخَلْق" بـ"سوسيولوجيا الحرية" ستكون في مَحَلِّها المناسب. والأهمُّ من كلِّ ذلك هو قناعتي بأنَّ سوسيولوجيا الحرية، التي يمكننا نعتُها بكونها ضربٌ من ضروبِ سوسيولوجيا الذهنية، هي حقلٌ ضروريٌّ لأبعدِ الحدود؛ نظراً للمرونةِ المذهلة التي يتميز بها ذهنُ الإنسان، وما يتمخضُ عنها من إبداعٍ وخلاقية، والبالغةِ حداً منقطعَ النظير في كفاءاتِها بفضلِ المجتمعية. ولَرُبَّما كان البحثُ والتدقيقُ في فكرِ الحرية وإرادتِها في صدارةِ المواضيع الهامة. وبطبيعةِ الحال، تَتَصَدَّرُ سوسيولوجيا الحرية المواضيعَ السوسيولوجيةَ الواجبَ تطويرُها، باعتبارِ أنَّ التطورَ الحاصلَ في لحظةِ الخَلْق تطورٌ له جانبٌ من الحرية، ونظراً لكونِ هذه الفترات الأقصرِ من الفترات القصيرة – أي "لحظةُ الكوانتوم" و"فاصلُ الفوضى" – التي يمكننا تسميتُها أيضاً بسوسيولوجيا الخَلْق، تَحتَضِنُ في ثناياها الميدانَ الاجتماعي بالأكثر.
علاوةً على ذلك، مِن الضروري الحديثُ عن "الفترة الفلكية" Astronomik Süre من بابِ الفكر العام، ولو أنَّ موضوعَنا غيرُ معنيٍّ بها، حيثُ لا يزال الغموضُ يكتنفُ مواضيعَ هذه الفترة. لكنْ، وبالخطوط العامة، فإنَّ تَكَوُّنَ وانهيارَ "الشمسِ" و"الجزرِ السماوية"، وميزة احتمال "الاتساعِ" و"التَّقَلُّصِ" في الكون، وبالتالي قوى "الجذبِ" و"الدفعِ" الأساسية؛ هي قضايا يمكننا إدراجُها في لائحةِ اصطلاحاتِ ومواضيعِ "الفترة الفلكية". هذا وتأتي إشكاليةُ عُمْرِ الكون في صدارةِ المواضيع التي تنتظر النقاش.
سنعمل على شرحِ وتطبيقِ أفكارِنا هذه بشأنِ أسلوبِ البحثِ السوسيولوجيِّ في مكانِها، وفقاً للمواضيعِ التي نتناولها. ويجبُ عدمَ السهو أبداً عن أنني أعملُ مِن بابِ التجربة، لا غير. لذا، مِن الطبيعيِّ بمكان أنْ تَكتَسِبَ أفكارُنا قيمتَها كَمُسَوَّدَةِ مشروع.
لو أَعَدنا التأملَ والبحثَ في التطوراتِ الاجتماعية في الهلالِ الخصيب، ولكنْ بهذه الرؤية السوسيولوجيةٍ هذه المرة؛ سنلاحظ أنَّ سوسيولوجيا الحريةِ قد شَهِدَت خلالَ مرحلةِ الثورةِ النيوليتية القائمةِ في هذه المنطقة أغنى فواصلِ الفوضى وأكثرَها عطاءً في تاريخِ المجتمعات. فَمَعَ ارتدادِ الجليدِ بسرعةٍ إلى قِمَمِ الجبالِ الشاهقة، شَرَعَت المجموعاتُ المتنقلة المقتاتةُ على الصيدِ وجَمْعِ الثمار تَتَوَجَّهُ نحوَ الحياةِ المستقرة، وتميلُ للاعتمادِ على الزراعةِ في معيشتها، وذلك بعدَ حل بناها المجتمعية، واستنباطِها الدروسَ مِن تجاربها في المراحلِ السابقة. إنهم وجهاً لوجهٍ أمامَ تَخَلِّي جماعاتِ الكلان المُعَمِّرةِ مئاتِ الآلافِ مِن السنين عن مكانِها لبنىً أوسع. نحنُ الآنَ على عتبةِ حقبةٍ تَشهَدُ انفجاراً وتَحَوُّلاً ذهنياً مثيراً. فَعِوَضاً عن ذهنيةِ الكلان القديمة، والبُنيةِ اللغويةِ غيرِ المنقطعة كلياً عن لغةِ الإشارات البدائية، ثمةَ انعطافٌ نحوَ تَشَكُّلِ ذهنيةِ الشعب والأثنية القاطنة في قرى أوسع نطاقاً. ويتطورُ نظامُ اللغة الرمزية بوتيرةٍ عليا، ويُبتَكَر عَدَدٌ لا حصرَ له مِن موادِّ الغذاء، المواصلاتِ، النسيجِ، الفخارِ، الرَّحى، العمران، والمواضيعِ الدينية والفنية؛ والتي تتطلب بدورِها نظاماً من التسمياتِ والقوالبِ الذهنية الجديدة.
وبينما يَعتَمِدُ المجتمعُ الجديد على حياةِ القرية بالأغلب، تَتَحَوَّلُ أواصرُ الكلان إلى روابطَ أثنية. هذه الأشكالُ الجديدةُ مِن البنى الماديةِ لا يُمكن لها المسير، أو حتى البدء، دون وجودِ إطارٍ ذهنيٍّ أغنى وأرقى معنىً. يَتَجَسَّدُ هذا التحوُّلُ الذهنيُّ ولغتُه الجديدة في رُسُومِ "الإلهة – الأم" كرمزٍ للمجتمع النيوليتي، جنباً إلى جنب مع بقاءِ "الطوطم" كهويةٍ للمجتمعِ الكلانيِّ القديم. فبينما يَضمَحِلُّ عددُ الأشكال الطوطمية، تكتظ الأوساط برسوم الإلهة – الأم، التي تَرمِزُ إلى سُمُوِّ دورِ المرأةِ الأم. وهذا ما يُشَكِّلُ بدورِهِ مرحلةً أرقى على الصعيد الديني، لتجلب معها عدداً وفيراً جداً من الاصطلاحات، وتبرز اللواحق المؤنَّثَةُ في اللغة، والتي ستصون منزلَتَها الأوليةَ في اللغةِ الرمزية فترة طويلةً من الزمن. ولا نَبرَحُ اليومَ أيضاً نعثر على هذه الخاصيةِ في العديد من اللغات. ومع بروزِ الإلهة – الأم تشرعُ المجتمعيةُ تَلتَحِفُ بغطاءٍ كثيفٍ من القدسية. فالمجتمعُ الجديدُ يعني تماماً مصطلحاً جديداً وتسميةً جديدة. مِن هنا، علينا إدراجُ ما أسميناه بمرحلةِ الثورة الذهنية ضمنَ حقلِ سوسيولوجيا الحرية، نظراً لِتَطَلُّبِها الإبداع. ومعايشة هذه المرحلةِ بشكل كثيف، هي مِن المواضيعِ التي أجمَعَ عليها المؤرخون الرواد. فالآلافُ من الظواهرِ يعني الآلافَ من الثوراتِ الذهنيةِ والأسماء. إنه انفجارٌ أشملُ مِن الثورةِ الذهنية الحاصلةِ في أوروبا، واستلزمَ جهوداً حثيثةً أكثرَ أصالة وإبداعاً. وقد بُرهِن تاريخياً على أنَّ القِسمَ الأعظمَ مِن المصطلحات والاختراعاتِ التي نستعملها اليوم قد اختُرِع وأُبدِع في تلك الحقبة.
وإذا ما قُمنا بتصنيفٍ فظ، فَسَوفَ نَجِدُ أنها مرحلةُ إبداعٍ اجتماعيٍّ يشمل ما لا يَقِلُّ عن نصفِ ما هو قائم. فاللائحةُ المُكَوَّنةُ من الدين، الفنِّ، العلمِ، المواصلاتِ، المعمارِ، الغِلال والحبوبِ، الفواكهِ، قطعانِ المواشي (الكبيرة منها والصغيرة)، الحياكةِ، الفخارِ، الطحنِ بالرحى، المطبخِ، العيدِ، الأسرة، الهرميةِ، الإدارةِ، الدفاعِ والهجوم، الهدايا والعطايا، الأدواتِ الزراعية، والكثيرِ مما يمكن إضافتُهُ؛ إنما لا تزالُ تُعتبَرُ اليومَ أيضاً اللائحةَ الأساسيةَ في الحياة الاجتماعية، بعدَ أنْ طرأَ عليها التحويرُ والتطويرُ كماً ونوعاً. وإذا ما تَمَحَّصنا البنى القرويةَ والعائليةَ المتبقيةَ مِن العهدِ النيوليتي، وكذلك الأخلاقَ الاجتماعيةَ الأكثرَ أصالة ونُبلاً – والتي تُفعِم الحياةَ بالمعاني النفيسة، وتُزوِّدُ المجتمعَ بالقوة والهيبة، بدءاً من الاحترام والود، وصولاً إلى علاقاتِ الجوار والتعاونِ والتضامن – سنجد أنها تُضارِعُ وتضاهي مُثُلَ (أو لاأخلاقياتِ) الحداثةِ الرأسماليةِ في الرُّقِيِّ والسمو. إنَّ قوالبَ الذهنيةِ الأساسية، التي لن يعفا عليها الزمنُ أبداً، مشحونةٌ ببصماتِ تلك الحقبةِ أساساً.
كما أنَّ الحياةَ الوقائعيةَ في المنطقة تَتَمَيَّزُ بِغِناها الوفيرِ نِسبةً لعهدِها، وذلك مِن زاويةِ السوسيولوجيا الوضعية. فقياساً بالمجتمعِ الكلاني ونمطِ معيشته الرتيبة المعتمدةِ على الصيدِ والحماية وجمعِ الثمار، تَتَبَدَّى الوقائعُ والظواهرُ الجديدةُ البارزةُ في الهلالِ الخصيب كانفجارٍ مُدَوٍّ. فالوقائعُ والظواهرُ اللامتناهيةُ في تعدادها، والمكتسِبةُ تسمياتٍ جديدةً، تَبسُطُ لنا صوتَ الإنسانِ وأعمالَهُ بأغنى الأحوال. هذا ويمكننا الاستنباطُ من نصوصِ الكتبِ المقدسةِ بأنَّ المعانيَ الأوليةَ التي تَرَكَت بصماتِها على ذهنيةِ الإنسان في تلك الحقبة، قد تَمَخَّضَت لاحقاً عن مصطلحِ "الجنة". وقد نكون بذلك وجهاً لوجهِ أمامَ أوفرِ لحظاتِ السوسيولوجيا الوضعيةِ حَظّاً. ذلك أنَّه تَطَوُّرٌ أقربُ لأنْ يَكُونَ وابلاً غزيراً من النجومِ المتلألئةِ في سماءِ البشرية، حيث تنهمر الوقائعُ والظواهرُ اللامعةُ كالنجومِ البراقةِ في الجهاتِ الأربعِ مِن المعمورة، لتُحقِّقَ خيالَ التَّطَوُّرِ الاجتماعيِّ في الجنة، بل وتَزرَعُ لحظاتِ تحويلِها إلى حقيقة، وتُحَوِّلها إلى ثقافة.
بالمستطاعِ ملاحظة آثارِ كلِّ الترتيباتِ المؤسساتية، التي نَقَشَت بصماتِها على مِحَكِّ التطورِ الاجتماعي من جهةِ السوسيولوجيا البنيوية، في أراضي الهلال الخصيب. ونَخُصُّ بالذكر مرحلةَ ما بين 6000 – 4000 ق.م، والتي هي مرحلةُ تَمَأسُسٍ بكلِّ معنى الكلمة. فقد تَحَدَّدَت أُطُرُ مساحاتِ الاستقرار التي ستَتَّخِذُها جميعُ البنى أساساً في القرى والمدائن، وتَمَّ الانتقالُ إلى المستوطَنات، ووُلِدت الهرميةُ، وتَمَأسَسَ الدينُ، وبَرَزَت أُولى المعابدِ للمَيدان، واكتَسَبَت الأثنيةُ ملامحَها في الوجود، واتَّضَحَت معالِمُ البنى اللغويةِ، وتَوَطَّدَت تقاليدُ علاقاتِ الجوار، وكأنَّ الإدارةَ قد شَيَّدَت أعتى مراحلِها عبر الأخلاق. بمعنى آخر، وكأنَّ المجتمعَ النيوليتيَّ قد جَزَمَ بديمومةِ الثورة الزراعية والقروية، وبالتالي حَسَمَ أمورَ تَمَأسُسِها. ولأولِ مرةٍ نَجِدُ البنى الاجتماعيةَ المؤلِّفةَ لموضوعِ السوسيولوجيا البنيويةِ الأساسيِّ تَبْسُطُ لنا تكويناً ونشوءاً هو الأقوى والأرسخُ في الهلالِ الخصيب. ولا يزال هناكَ الكثيرُ مما علينا تَعَلُّمُهُ مِن حقيقةِ هذا التَّحَوُّلِ البنيوي، الذي يَستدعي التدقيقَ والتمحيصَ اليومَ أيضاً كتمأسُساتٍ أصلية. بل، وبقدرِ ما نَسبُرُ ونَفحَصُ تلك البنى كأولِ قِيَمٍ متمأسِسَةٍ في التاريخ البشري، فسوف نَحصُلُ على نتائجَ سليمةٍ بنفسِ القدر فيما يتعلقُ بتأسيسِ السوسيولوجيا البنيوية. علينا الإدراكُ جيداً أنَّ السوسيولوجيا البنيويةَ الراهنةَ تعاني افتقاراً جدياً لـ"عِلمِ المعنى". أما إذا أعادَت النظرَ في ذاتِها كجزءٍ مِن السوسيولوجيا العامةِ، فقد تَصِيرُ تَعبيراً قديراً عن عِلمِ المعنى.
تَتَّسِمُ مكانةُ اللغةِ والثقافةِ المتأسستَين في الهلالِ الخصيب بِكَونِهِما المنبع الأصلي، كموضوعٍ في حقلِ سوسيولوجيا الثقافةِ الأولية. فالمجتمعُ المشَيَّدُ في هذه الأراضي يَتَمَيَّزُ بِكَونِهِ ذا أطولِ فترة. وكما ذَكَرنا سابقاً، فالحزامُ الثقافيُّ والحضاريُّ الاجتماعيُّ البارزُ بالارتكازِ إلى الهلالِ الخصيب، قادر على صونِ مرتبتِهِ في الصدارة، ما لم يُقضَ على حياةِ الإنسان بكوارثَ طبيعيةٍ أو آفاتٍ اجتماعيةٍ تتسبب في زوالِها بدرجةٍ بليغة (كالعودةِ إلى عصرِ الكلان مجدداً على سبيل المثال). أما أنْ تَبْسُطَ حضارةٌ مدينيةٌ منحدرةٌ مِن الثقافةِ الصينية أو الساميّةِ نفوذَها كقوةٍ مهيمنة، فهو – نِسبةً إلى أبعادها – أمرٌ جِدُّ عويصٍ على صعيدِ الواقع، وإنْ لم يكن مستحيلاً من الزاويةِ النظرية. بَيْدَ أنَّ الثقافةَ الهندوأوروبية (بالتالي الثقافةَ الأم، اللغةَ والثقافةَ الآرية) لم تَفقُد إطلاقاً طبائعَها في الهيمنة، رغمَ هذا القدرِ مِن "الغزوِ الإسلامي" والغزواتِ الكاسحةِ ذاتِ المَشارِب "المغولية". وقد تُشرِعُ الصينُ بِشَنِّ هجومٍ جديدٍ في المستقبل، إلا أنَّ احتلالَها للثقافةِ الهندوأوروبية – ذاتِ الاستقرارِ المنقطعِ النظيرِ في جميعِ أنحاء العالم – أو الاستيلاءَ عليها، أو إخضاعَها للاستعمار أو الاستيطانِ يبقى احتمالاً جِدَّ هزيل، ما لم تَتَلَقَّ دعماً مُعجِزَوِيّاً مِن المؤثراتِ الخارجية (كالكوارثِ الطبيعية والويلاتِ الاجتماعية القاضيةِ خارجَ نطاقِ منطقةِ الثقافة الصينيةِ على سبيلِ المثال).
هذا وبمقدورِنا عَقْدُ التكافؤِ بين سوسيولوجيا الثقافةِ الأوليةِ والسوسيولوجيا العامة. وفي هذه الحال، يمكننا إدراجُ التغيراتِ والتحولاتِ الطارئةِ على كلٍّ مِن الأشكالِ الذهنية، مؤسَّسةِ العائلة، الكياناتِ الأثنيةِ – القومية (المندرجةِ ضمن إطارِ كافةِ الثقافات، وعلى رأسِها تلك المرتكزةِ إلى الثقافاتِ الثلاثِ الكبرى) ضمن حقلِ السوسيولوجيا العامة. والأهمُّ من كلِّ ذلك هو ضرورةُ البحثِ في "أوساطِ الفوضى والتفسخِ"، التي واجهَتْها سوسيولوجيا الحريةِ والسوسيولوجيا البنيوية، ومُقَوِّماتِها، والنتائجِ الناجمةِ عنها؛ وذلك كإحدى أهمِّ مواضيعِ السوسيولوجيا العامة.
وعليه، فالمرحلةُ الكبرى الثانيةُ مِن المجتمعِ الصاعدِ في أراضي الهلال الخصيب، والمبتدئةُ مع "دولةِ الرهبانِ السومرية"؛ سوف تَكُونُ مرحلةَ "المجتمع المديني". فالمجتمعُ المدينيُّ في أساسِهِ انطلاقةٌ ذاتُ أصولٍ هَرَمِيَّةٍ – سُلاليةٍ مستندةٍ إلى ثقافةِ الهلال الخصيب. أما مضمونُهُ، فهو إبداءُ مجموعةٍ سلالية هرميةٍ – أياً كانت – مَقدِرَتها على الاستفادةِ مِن إمكانياتِ "الرجلِ القويِّ" المنحدرِ مِن الماضي القديم، وتَسخيرِها في تنظيمِ "الدولة"؛ وذلك لدى تَحَقُّقِ التحامِ عواملِ وفرةِ الغذاء، وتَنَوُّعِ الغلال، وإمكانيات الطبقيةِ المرتبطةِ بنمطِ الإنتاج مع ظاهرةِ التَّمَدُّن. ولطالما نَشهَدُ الكثيرَ مِن هذه المحاولات في هذا الاتجاه ضمن أراضي الهلال الخصيب، ليس في ميزوبوتاميا السفلى فحسب، بل وفي ميزوبوتاميا العليا والوسطى أيضاً. وبينما تَتَرَسَّخُ بعضُها، تَفشَلُ أخرى في ذلك نظراً لطبيعةِ الشروط والظروف المحيطةِ بها. هذا ويَتُمُّ تفسيرُ الدولةِ في الكتابِ المقدَّسِ على أنها اللوياثانُ (الوحشُ الخارجُ مِن عِبابِ البحر). أما مسيرةُ هذا الوحشِ الدمويةُ، والاستغلاليةُ، وأحياناً المبيدةُ المُسَلَّطَة على سياق التطور الاجتماعي، وأشكالُ استغلالِها واضطهادِها واستعبادِها للإنسانِ في ظلِّ إدارةِ الملوك، المُقَنَّعين منهم وغيرِ المُقَنَّعين، المتسترين منهم والعراة، ولوازِمُها وأدواتُها المُسخَّرةُ في شرعنةِ ذلك؛ فإنَّ البحثَ والتمحيصَ فيها سيكون مِن بين المواضيعِ التي سنتناولها لاحقاً.