الدكتور سمير أمين يسارع فينزلق نحو المثالية والليبرالية
فؤاد النمري
2008 / 10 / 22 - 08:45
أحرص دائماً على قراءة الدكتور سمير أمين ليس لأنه مرجعية ماركسية كما يقول معارفه ومريدوه ـ ولي تحفظ قوي على ذلك وكنت قد كتبت عنه يلقي براية الماركسية في الوحول ـ بل لأنه يثير دائماً قضايا جديدة ومهمة في الماركسية كما في علوم الإقتصاد السياسي تستحق الوقوف عندها طويلاً والتفكير بها مليّاً . وعلي هنا أن أعترف بأنني قد استفدت كثيراً من قراءته طيلة ربع قرن تقريباً . ما يعيب مواقف أمين النظرية هو أنه غالباً ما ينزلق نحو المثالية وليس أدل على ذلك من أن لديه اليوم " خياراً " يسقط كل الشروط ليقول ب .. " الإنتقال الطويل من الرأسمالية العالمية إلى الاشتراكية العالمية " ؛ وغالباً ما يطرح القضايا من فوق، بدءاً من العلاقات السياسية التي يقررها أصحابها وليس من الواقع الذي يقرر مثل هذه العلاقات ولهذا تراه كثيراً ليبرالياً . وكلا العيبين يأسرانه بسبب تسارعه إلى الأمام، وهو ذات العيب الذي رآه في الثورات الكبرى، فيحلم في أن تتحقق الثورة الإشتراكية العالمية ويرى ذلك على الأرض قبل أن ينتهي عمره، وهو ذات التسارع الذي دفع بالمفكر الفرنسي روجيه غارودي وهو الماركسي والأستاذ في الفلسفة المادية لأن يكون مسيحياً يشكل منظمة مسيحية اشتراكية وثورية شارك بعض أعضائها في حرب أيلول 1970 بجانب الفدائيين ضد الجيش الأردني، ثم إعلان إسلامه فيما بعد علّه يجتذب المتطرفين الإسلاميين إلى جانبه في مقارعة الإمبريالية الأمريكية ـ ومثله اليوم يكرس الدكتور سمير أمين كل وقته لمقارعة الإمبريالية الأميركية كما يراها .
من باب ضبط مثالية أمين وليبراليته وتسرعه أجدني مدعواً إلى الإشارة إلى ما أختلف فيه مع " الماركسي " و " الشيوعي " سمير أمين منطلقاً من قوانين العلوم الماركسية التي يعلن أمين مع بعض الاستحياء عن تقادم بعضها . في مقالته بعنوان " الأسباب الموضوعية لفشل الثورات الاشتراكية الأولى "، من منشورات منتدى العالم الثالث، أختلف مع أمين في عشرين نقطة أو أكثر أتعرض فيما يلي إلى المهم منها ..
1. الثورة الكبرى والثورة العادية
ميّز أمين بين الثورة الكبرى والثورة العادية فقال أن الثورة الكبرى هي التي تسارع فتسبق الزمن ولذلك تفشل والثورة العادية هي تلك التي تتقيد ببرنامجها المطروح على جدول أعمال اللحظة . إن أحداً من علماء الإقتصاد السياسي لم يشارك أمين في مثل هذا التمييز. فما اتفق عليه هؤلاء العلماء أن الثورة الكبرى هي التي تؤذن بنظام إجتماعي جديد سيسود في العالم مقتلعاً النظام القديم بمختلف عناصره ومثله، مثل الثورة الفرنسية التي أذنت بقدوم النظام البورجوازي الرأسمالي واقتلاع النظام الإقطاعي، ومثل الثورة البولشفية التي أذنت بقدوم النظام الاشتراكي الشيوعي واقتلاع النظام الرأسمالي ؛ ولذلك هما حقاً ثورتان كبريان . أما الثورة الصينية بكل عظمتها واتساعها فلم تأذن بجديد حيث سبقتها ثورة أكتوبر البلشفية ولولا وجود الاتحاد السوفياتي لما نجحت الثورة الصينية ولما قامت أصلا، وعليه لا يمكن إطلاق صفة الكبرى عليها مثلما وصفها أمين .
2 . تسارع الثورة البلشفية
ما يراه الدكتور سمير أمين تسارعا للثورات الكبرى يجلب لها انهياراً أراه عكس ذلك تماماً فالثورات التي عرفتها البشرية حتى اليوم تتمثل بتحالف طبقي يثور على الأوضاع القائمة ويلغي الطبقة الحاكمة ؛ ومباشرة بعد ذلك تنفجر تناقضات أخرى بين الطبقات المتحالفة ويحتد الصراع بينها وهو ما يؤجل تحقيق أهداف الثورة وقد يلغيها مؤقتا ؛ هذا ما حدث في الثورتين الكبريين الفرنسية والبلشفية . فكرة تسارع الثورات الكبرى تتجاهل تماماً الصراع الطبقي وهو العامل الأول والأخير في تناوب الأحداث الاجتماعية . الثورة البورجوازية في روسيا (شباط 1917) قامت على تحالف بين البورجوازية والعمال والفلاحين والمثقفين . في صبيحة إسقاط القيصرية نشطت تناقضات جديدة بين الطبقات التي قامت بالثورة . وثورة أكتوبر بدأت كانتفاضة قام بها البلاشفة لكن فئات عريضة من البورجوازية ذاتها أيدتها بهدف تسريع تحقيق أهداف الثورة في السلام والأرض إلا أن انفجار التناقضات بين البورجوازية والفلاحين الأغنياء من جهة والعمال والفلاحين الفقراء من جهة أخرى حول انتفاضة أكتوبر إلى ثورة اشتراكية كبرى . الحرب الأهلية وحروب التدخل والسياسة الاقتصادية الجديدة [NEP] التي اقتضتها تلك الحروب بالإضافة إلى الحرب العالمية الأولى أعاقت حركة الثورة إلى الأمام . ثم قام الفلاحون بحرب اقتصادية ضد الثورة وتلا ذلك الحرب المصيرية ضد العدوان النازي كل ذلك أعاق الثورة عن تحقيق أهدافها إعاقة شبه تامة . فعن أي تسارع يتحدث أمين ؟ كثيرون يتهمون الحزب الشيوعي بتسرعه في تطبيق الفلاحة التعاونية لكن وقوف الاتحاد السوفياتي بثبات منقطع النظير بوجه الغزو الهتلري الواسع أثبت بطلان تلك الاتهامات إذ قام الفلاحون التعاونيون بقسطهم الكامل في تموين الجبهات الحربية والجبهة الداخلية وبشكل أفضل مما قام به القطاع الزراعي في بلدان أوروبا الغربية .
3 . الاشتراكية المثالية
يقول الدكتور أمين .. " إنَّ فهم البعد الهائل لهذا الواقع الإمبريالي، واستخلاص المسائل الإستراتيجية المتعلقة بتغيير العالم، تبعاً لهذا الفهم، يشكل ضرورة لا حياد عنها لكل القوى الاجتماعية والسياسية ضحايا توسع الرأسمالية، في مراكزها كما في أطرافها " . يمتطي الدكتور أمين براق المثالية ويحلق في عليائها عندما يرى أن تغيير العالم يبدأ من فهم الواقع الإمبريالي واستخلاص المسائل الإستراتيجية وليس من التناقضات التي تفعل فعلها في الواقع وتحتّم الثورة في لحظة معينة دون استشارة المحللين والدارسين الاستراتيجيين . وأن يرى أمين كل القوى الاجتماعية والسياسية تنظر وترى الواقع من ذات الزاوية فذلك يعني أنه يرى من علياء المثالية . الطبقات العاملة لا ترى الرأسمالية كما يراها الفلاحون ففائض القيمة وفائض الإنتاج يتحققان فقط من دماء العمال وليس من الفلاحين بأي شكل من الأشكال . أما البورجوازية الوضيعة فتحلم دائماً بحصة أكبر من مجمل الإنتاج القومي الذي كدح في إنتاجه الفلاحون والعمال . ليس من طبقة ترى وحش الرأسمالية بذات الوحشية . العمال والفلاحون والبورجوازية الوضيعة أيدوا ودعموا انتفاضة البلاشفة لغاية مختلفة لكل طبقة من هذه الطبقات المختلفة والمتناقضة .
العقبة الكأداء على طريق العمل الشيوعي هي أن الشيوعيين بالإجمال وأدعياء الماركسية لا يعرفون إطلاقاً أي ملمح من ملامح الاشتراكية ومع ذلك يدْعون إليها . الإشتراكية ليست نظاماً اجتماعياً أو اقتصادياً، بل ليست نظاماً على الإطلاق ؛ إنها فترة إعداد قصيرة للدخول إلى الشيوعية تقوم خلالها دولة دكتاتورية البروليتاريا بتحرير الإنسان من مختلف قيود الإنتاج القائمة وذلك بتحطيمها دون استبدالها بقيود إنتاج مختلفة . الشيوعية تعني إلغاء كل القيود والقوانين وحتى إلغاء الدولة . أن يعمل الدكتور سمير أمين في حركة ما يسمى بالعولمة الإنسانية التي تأخذ على عاتقها نقل العالم من العولمة الرأسمالية إلى العولمة الاشتراكية فما ذلك إلا تجارة المفلسين . إن أحداً من شذّاذ الآفاق من مختلف أطياف البورجوازية الوضيعة المعادين للعولمة الرأسمالية لا يريد أن ينتقل إلى الشيوعية . هؤلاء كالكلاب الجائعة تريد أن تلقي الرأسمالية إليها بعظام ليست جرداء تماماً والعولمة تحرم كلاب المراكز الرأسمالية من أية عظام .
4 . المراكز والأطراف
المفكرون الشرقيون بعامتهم، والدكتور سمير أمين أحدهم، زعلانون لأن الثورة الفرنسية وقعت في فرنسا وليس في القاهرة أو نيودلهي أو بكين وتعبيراً عن هذا الزعل يحتجون ضد المفكرين الغربيين، وكارل ماركس منهم، لاعتبارهم أوروبا الغربية تحديداً مركزاً يقود العالم إلى الحداثة . عيب على المفكرين أن يزعلوا من التاريخ، بل من يزعل من التاريخ ليس مفكراً على الإطلاق، ثم ليس لأحد من المفكرين الغربيين يد في قيام الثورة في فرنسا وليس في أي عاصمة أخرى . البورجوازية الفرنسية، يعضدها الفلاحون، هي التي سبقت إلى القيام بالثورة البورجوازية عام 1789 وفتحت الأبواب على مصاريعها في أوروبا الغربية لقيام النظام الرأسمالي . نظام الإنتاج الرأسمالي أسر انتباه العالم لخصوبة عطائه وكثرة إنتاجه فأخذ العالم يحث الخطى لتبني هذا النظام وهو أمر لا يتحقق إلا بمساعدة مراكز الرأسمالية في أوروبا الغربية وخاصة في إنكلترا وفرنسا . بحجة المساعدة امتدت الأذرع الانكليزية والفرنسية إلى مختلف بلدان العالم فكانت أذرعاً استعمارية تقوم بدور حيوي في نظام الإنتاج الرأسمالي . إن مركزية أوروبا في النظام الرأسمالي العالمي هي حقيقة لا تقبل المناقشة وليزعل من يزعل . الحقيقة الأخرى التي تترتب على هذه الحقيقة هي أن الثورة من أجل تفكيك النظام الرأسمالي لا بد أن تبدأ من مركزه، ليس لأنه المركز الذي يقود العالم ويتحكم به فقط، بل لأنه أيضاً الأسبق إلى التأزم فكل أزمة في نظام الإنتاج الرأسمالي تنعكس في المركز مباشرة وتبدأ منه. الزعلانون من مركزيّة أوروبا الغربية يقترحون اليوم بعد انهيار المعسكر الإشتراكي أن تقوم الثورة في الأطراف لمحاصرة المركز وتفكيكه ! مثل هؤلاء مثل الطبيب الذي يقترح معالجة ابن المريض لأجل شفاء المريض !! وما يزيد من غرابة هذا الاقتراح هو أن جميع من يقترحونه يؤكدون أن من أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي كمركز للثورة الإشتراكية العالمية هو ما ورثه من تخلف روسيا القيصرية في الإنتاج الرأسمالي !! تقوم الثورة الإشتراكية فقط إنطلاقاً من متاريس البروليتاريا حصراً، إذ لا ثورة اشتراكية بدون بروليتاريا . هل يتواجد في الأطراف طبقة بروليتارية حقاً ؟
5 . البنية العالمية للثورة الإشتراكية
ليس إلا التسارع إلى الأمام ما جعل الدكتور سمير أمين، وهو الضليع في العلوم الماركسية، يزيح جانباً من طريقه السريع بعض الحقائق الجوهرية التي لا تقبل الإزاحة وأولها أو أهمها هي البنية العالمية للثورة الإشتراكية . في البيان الشيوعي 1847 اقترح ماركس وإنجلز أن تقوم الثورة الإشتراكية دفعة واحدة في العالم كله . اقتراحهما لم يأت من فراغ إذ كان ماركس قد أكد أن النظام الرأسمالي هو أول نظام إنتاج عالمي عرفته البشرية وعليه لا بد أن تكون الثورة لتفكيكه ثورة عالمية تبدأ من المركز . وفسر لينين تلك العالمية فقال بوجوب انطلاق الثورة من أحد المراكز وأن الثورة في الأطراف تأخذ طابع الوطنية فتفك الروابط مع المراكز الرأسمالية . ليس ثمة من شك في الوحدة العضوية للثورة لا يجوز تشطيرها كما طالب خروشتشوف في العام 59 وكما يطالب اليوم سمير أمين . الثورة وحدة عضوية واحدة ومن الطبيعي أن يحمي مركزها الأطراف، وقد فعل، وأن تحمي الأطراف المركز وهو ما لا يجوز لسمير أمين أن يستنكره بحال من الأحوال . التنكر للوحدة العضوية للثورة هو ما حدا بالدكتور أمين إلى الفصل بين بناء النظام الإجتماعي في الأطراف عنه في المركز . عجيب أن يصدر هذا عن أول من أشار إلى قانون " القطيعة الرأسمالية " وهو أمين نفسه . صحيح أن البورجوازية الوطنية تقوم بفك الروابط مع المركز الرأسمالي بهدف إقامة نظامها الرأسمالي الخاص بها لكن الدكتور أمين كان قد أكد لنا استحالة ذلك ولذلك ترتب على الدول التي فكت روابطها وتحررت أن تعتمد على المساعدة السوفياتية في بناء اقتصادها ومن هنا رأينا العديد من هذه الدول تعلن توجهاتها الاشتراكية . لا يمكن لأية قوى وطنية أن تبني اقتصادها القومي معتمدة على ذاتها . الاقتصادات المستقلة المعتمدة على الذات حكاية قديمة لا وجود لها منذ انفتاح العالم على النظام الرأسمالي قبل ثلاثة قرون . كان الخيار أمام القيادات البورجوازية الوطنية في الدول المستقلة إبّان ثورة التحرر الوطني 1946- 1972 هو إما الالتحاق بالبنية الإقتصادية الاشتراكية العالمية وإما بالبنية الرأسمالية ولم يكن هناك أي خيار آخر .
6 . الثورة الإشتراكية في المركز، موسكو
القول بمرجعية الدكتور سمير أمين في علم الماركسية يكذبه طرح سمير أمين في تطور التجربة الاشتراكية السوفياتية إذ يقول بانحرافها .. " لقد حضر هذا الانزلاق، في التخلي عن هدف الملكية الاجتماعية الذي يعرِّف شيوعية ماركس، وإبداله بالإدارة الدولتية المترافقة مع أفول الديمقراطية الشعبية التي خنقتها الديكتاتورية الفظّة والدموية " . أول واجبات المرجعية الماركسية هو التخلي عن العبارات الغامضة أو الغائمة التي تنطوي على أكثر من معنى . لم يقل لنا أمين كيف ولماذا تم التخلي عن الملكية الاجتماعية وإبدالها بالإدارة الدولتية ! ونسأل عن وظيفة دولة دكتاتورية البروليتاريا التي حصر بها ماركس عبور الاشتراكية ؟ ولماذا افترضها ماركس دكتاتورية وليست ديموقراطية شعبية كما يفترض أمين ؟ دولة الديموقراطية الشعبية لا تنحو منحى الإشتراكية على الإطلاق، وظيفتها هي المحافظة على مصالح كل الطبقات المتواجدة في المجتمع متعادلة . فكيف ينزلق الدكتور أمين وليس القيادة اللينينية-الستالينية ليقول بالشيوعية المترافقة مع الديموقراطية الشعبية، وهو قول يتنافى مع أبسط قوانين العلوم الماركسية التي تؤكد أن لا دولة على الإطلاق في الحياة الشيوعية بل ولا سياسة من أي نوع أو جنس في الحياة الشيوعية ؛ تتلاشى فيها السياسة بكل مفرداتها وأولها الحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية ..الخ ..الخ . نعود هنا إلى المناقشة الحامية في المؤتمر العام العاشر للحزب الشيوعي البولشفي في العام 1921 وإلى الهجوم الذي شنّه لينين على تروتسكي والفوضويين في المؤتمر الذين طالبوا بأن يترك الحزب أمر بناء الإقتصاد للعمال من خلال تنظيماتهم النقابية من أجل أن يتفرغ الحزب للأمور السياسية وتطوير الثورة لتعبر الحدود إلى ألمانيا وأوروبا الغربية . أكد لينين أن مقترحات تروتسكي ورفاقه الفوضويين من شأنها أن تعزل الحزب عن جماهيره العمالية ولا تصل إلا لانهيار الثورة نفسها وليس إلى تطويرها، ولذلك طالب لينين بقيام الحزب مباشرة بتطوير الإقتصاد الإشتراكي في الاتحاد السوفياتي وهو ما من شأنه وحده أن يطور الثورة ويحفظ ديمومتها . ولم يبيّن لنا أمين كيف لدولة دكتاتورية البروليتاريا أن تقنع الطبقة الوسطى من فلاحين وإنتليجنسيا أن تتخلي عن وسائلها الخاصة بالإنتاج طوعاً بعد أن فشل البلاشفة، الذين أثبتوا قدرة على عبور أصعب الصعاب، في إقناعهم بذلك . والدولة هي، كما يعرف أمين، هيئة تشكلها الطبقة الحاكمة لقمع أعدائها وإخضاعهم، فليقل لنا ما هي حدود القمع المسموح بها لدولة دكتاتورية البروليتاريا !
أدعياء الماركسية يدّعون أن انهيار المشروع اللينيني كان بسبب إما غياب الديموقراطية والحكم الدكتاتوري، وإما التخلف الرأسمالي في مجتمع روسيا القيصرية (الحلقة الضعيفة)، وإما رأسمالية الدولة وغياب العدالة الإشتراكية، وإما تآمر الأعداء الخارجيين، وبعضهم يتحايل لأن يكون في الجانب الصحيح والمضمون ويريد أن يبعد نفسه عن وجع البحث الصعب والمعقد فيقول بسببها جميعاً . هكذا قال سمير أمين وهكذا قال سلامة كيله في اليوم التالي متزيياً بزي الباحث المتخصص . مثل هؤلاء الأدعياء هم براء من كل أثر للماركسية حيث أن أحداً منهم لم يأت على ذكر الصراع الطبقي في المجتمع الاشتراكي السوفياتي . لا يجوز وصف الدولة السوفياتية بالقمع الدموي ما لم تكن تصارع عدواً في الداخل . وحتى إذا ما كانت تقتل الشيوعيين الحقيقيين، كما تشي أقوال بعض أدعياء الماركسية، فما ذلك إلا لأنها دولة الطبقة المعادية للشيوعية . كثيراً ما أشار لينين، كما ستالين، إلى أن التخلص من الرأسماليين والإقطاعيين كان أمراً سهلاً ، أما الصعوبة الكبرى التي تواجهها الثورة الإشتراكية فهي معركة التصفية ضد البورجوازية الوضيعة وهي البورجوازية التي تغلبت أخيراً على قوى البروليتاريا وحزبها الشيوعي وقوضت المشروع اللينيني بكل بنيانه . ولعلي أخيراً لا أكون مخطئاً إذا ما ادعيت انطلاقاً من قوانين المادية الديالكتيكية أن جميع أسباب الانهيار التي ادّعى بها أدعياء الماركسية كانت قد لعبت دوراً في تجديد حيوية المشروع اللينيني .
7 . دور العمل الوطني في الثورة الاشتراكية
من أغلظ المسامير التي دقها خروشتشوف في تابوت المشروع اللينيني هو سياسة الفصل بين الثورة الاشتراكية والثورة الوطنية التي كان من نتيجتها السماح لإسرائيل بإلحاق هزيمة قاسية بمشروع عبد الناصر التحرري . ليس من شك أن التناقض بين مراكز الرأسمالية الإمبريالية من جهة والدول المحيطية التابعة من جهة أخرى منعكساً في ثورة التحرر الوطني 1946-1972 قد أخذ يلعب الدور الرئيسي في تفكيك النظام الرأسمالي العالمي وليس مصادفة أن ينهار النظام الرأسمالي في السبعينيات بدءاً من انهيار الدولار في العام 1971 . إن وقوف الإتحاد السوفياتي بكل قوته مع مصر في مواجهة العدوان الثلاثي في نوفمبر 1956 نجم عنه انهيار أكبر إمبراطوريتين استعماريتين هما بريطانيا وفرنسا . وأوشك العالم إذّاك أن يعلن النصر النهائي والحاسم للإشتراكية في مختلف أركانه لولا أن كلاب المؤتمر العشري للحزب الشيوعي السوفياتي كانت قد عقرت الثورة في شباط 1956. لم يلاحظ سمير أمين المسمار الغليظ الذي دقه خروشتشوف في تابوت الثورة رغم كل الانتكاسات الثورية التي حصلت في الستينيات من أزمة الصواريخ إلى الإنقلابات العسكرية في إندونيسيا وغانا والعراق والجزائر والكونغو والسودان وسوريا وغيرها إلى هزيمة الثورة العربية 67، وها هو اليوم ينتقد الدولة السوفياتية كما القيادات الوطنية في العالم الثالث لأنها لم تفك الرباط فيما بينها . عجيب أمر هذا " الماركسي " الذي لا يدرك الوحدة العضوية للثورة بوجهيها الاشتراكي من جهة والوطني من جهة أخرى ؛ كلاهما كانا ينشطان في تفكيك النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي .
8 . راهنية الثورة الاشتراكية
كتب الدكتور أمين يقول .. " بعد الإعتراف بخطأ لينين في تقديره للتحديات الواقعية ونضوج الشروط الثورية .. " . ونتساءل عمّن اعترف بخطأ لينين ؟! طبعاً من اعترف ليسوا إلا أعداء لينين ومشروعه الاشتراكي، وهم تحديداً من أدعياء الماركسية من البورجوازية الوضيعة، وهم منها براء . الجماهير العريضة من مختلف الطبقات الشعبية هي التي طالبت البلاشفة بالانتفاض في 25 أكتوبر 1917 من أجل استلام السلطة عوضاً عن الحكومة البورجوازية المؤقتة بقيادة الاشتراكيين الثوريين التي رفضت الخروج من الحرب والقيام بالإصلاح الزراعي الموعود . قام البلاشفة بانتفاضة بيضاء تماماً من أجل استكمال الثورة البورجوازية في روسيا كما كانت قد طالبتهم بذلك الأممية الثانية في مؤتمرها العام في بازل عام 1912. شكل لينين حكومة فيها نصيب غير قليل للبورجوازية. من قرر استحقاق الثورة الاشتراكية هو البورجوازية وليس لينين والبلاشفة . في مارس 1918 قامت البورجوازية مدعومة من قبل ملاك الأراضي الكبار وبقايا القيصرية بثورة مضادة توعدت بإبادة البلاشفة عن بكرة أبيهم . لم تنتهِ تلك الحرب الأهلية عام 1919 قبل أن تتم تصفية البورجوازية كطبقة ذات حصة في الإنتاج القومي . وتلا الحرب الأهلية حرب التدخل ضد الجيوش الأجنبية فكان الإنتصار الحاسم للبلاشفة وقد التف حولهم بقوة العمال وفقراء الفلاحين . لا البلاشفة ولا العمال ولا الفلاحين لديهم أدنى خبرة في بناء اقتصاد بورجوازي يقوم على قاعدة السوق، هذا إذا قبلوا بذلك . توجب على البلاشفة إذّاك السير على طريق بناء الإشتراكية كخيار وحيد أمامهم . ثم لماذا يعتبر لينين مخطئاً وقد أخذ برأي كارل ماركس وفردريك إنجلز مجتمعين . ففي يونيو 1882 كتبا في مقدمة الترجمة الروسية للبيان الشيوعي يقولان أن الثورة الإشتراكية العالمية يمكن أن تبدأ من روسيا ثم تنتشر في باقي الأطراف الأوروبية . لينين بدأ الثورة الإشتراكية من روسيا وانتشرت الثورة فعلاً في ألمانيا والمجر وإحدى دول البلطيق، غير أن الرأسمالية الأوروبية جندت كل قوى القمع لديها وسحقت الثورات الاشتراكية الثلاث بوحشية فائقة . تجاوز الثورة الإشتراكية كل المصاعب والعقبات والمؤامرات ومنها المؤامرة الكبرى بتربية ألمانيا النازية ودفعها لمهاجمة الدولة الإشتراكية المسالمة ، تجاوزها كل هذا ووصولها إلى الدرجات العليا على سلم البناء الإشتراكي قبل اقتحام خروشتشوف وقطعه لمسار تطورها يمنع على مختلف أدعياء الماركسية القول بعدم استحقاق الثورة وأن مواقيتها لم تحن بعد، أو حتى التعلل بتخلف روسيا القيصرية .
9 . شيوعية بدون بروليتاريا !!
أغرب أطروحة تطرحها المرجعية " الماركسية " في عالمنا العربي هي أن تكون هناك شيوعية لا تخص البروليتاريا وحدها . وهذا الطرح يتناسب مع ما يقوم به أمين من نشاط يصفه بالشيوعي (!) وهو تجميع شتى المنظمات المعارضة للعولمة ومختلف أصناف شذاذ الآفاق لتشكيل تيار قوي يجرف العولمة الرأسمالية ويستبدلها بما أخذ بعض الماركسيين المنكفئين يصفونه ب " العولمة الإنسانية " ! نسأل هؤلاء العولميين وعلى رأسهم قائدهم " الماركسي " سمير أمين ؛ ما عساها تكون علاقات الإنتاج بعد عولمة العالم إنسانياً ؟ أهي بورجوازية تقوم على اقتصاد السوق أم أنها شيوعية كما كنت قد ألمحت وليس هناك من طريق ثالث بعد أن فشل زعماؤه في التعرف عليه . اقتصاد السوق الرأسمالي عانت منه البشرية أشد المعاناة طيلة القرون الثلاثة الأخيرة، أما الشيوعية فهي ليست من بنات أفكار ماركس، إنها نمط إنتاج مجتمعي (Associated Production) أخذت به الرأسمالية وعممته . اليوم ولأسباب كنا شرحناها طويلاً سابقاً تراجع النمط الرأسمالي القائم على الإنتاج المجتمعي وتفشى عوضاً عنه الأسلوب الفردي في الإنتاج (Individual Production) وهو أسلوب الطبقة الوسطى . الشيوعية لم تعد واردة في ظل الإنتاج الفردي . ليس ماركسياً من يدعو إلى الشيوعية في ظل الإنتاج الفردي . لقد غدا الدور الوحيد للماركسي الحقيقي هو الدعوة إلى تحطيم الطبقة الوسطى ووسيلتها الفردية في الإنتاج التي ما كانت لتتفشّى إلا في ظل الإقتصاد الاستهلاكي (Consumerism) وهو الإقتصاد الممانع لكل أنماط التنمية والمعادي للإنسانية .
ومن أغرب الدعوات التي يدعو إليها " الماركسي " سمير أمين هي العالم الشيوعي متعدد الأقطاب !!! يا للمهزلة يا معلمنا، كارل ماركس !!!