أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات - عبد المجيد السخيري - تاريخ الأوبئة(10) التفكير تحت وطأة الأزمات وهول الصدمات















المزيد.....


تاريخ الأوبئة(10) التفكير تحت وطأة الأزمات وهول الصدمات


عبد المجيد السخيري

الحوار المتمدن-العدد: 6615 - 2020 / 7 / 10 - 17:05
المحور: ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات
    


عند كل أزمة حادة، بيئية أو سياسية، اقتصادية أو صحية، يصاب الناس بالخوف والارتباك، وبضعهم تبلغ عنده الصدمة النفسية حد التعرض لخوف مرضي قد يتحول إلى عطب نفسي مزمن، فتجد منهم من يهرع إلى زاويته بحثا عن أجوبة مطمئنة، أو يستسلم للتفسيرات السهلة ويقع فريسة لمزاعم من "عالم المؤامرة"، بينما فئة مهمة وفعالة تنخرط في البحث الجماعي عن الحلول بأقساط متفاوتة من التفكير العقلاني والهادئ، وقد تُكثر من طرح الأسئلة والنبش في خبايا وأسرار مفترضة لها علاقة بنشوء الأزمة وتصريفها في ظروف تاريخية معينة. لكن قلة قليلة من توثر وضع الأزمة تحت مجهر الفكر النقدي والفحص العلمي والتفسير العقلاني دون السقوط في الردود الانفعالية والنزول إلى درك العدمية والأجوبة السهلة، ومنها بينها نجد بالطبع مفكرين وعلماء اعتادوا التفكير والتعاطي مع الأحداث التاريخية أو الإيكولوجية، والوقائع الجيو- سياسية والأزمات الاقتصادية، أو الظواهر والكوارث الطبيعية بقدر كبير من التعقل والرصانة والحس النقدي، وحصافة الرأي، ورجاحة الدليل والحكم، ووضوح الرؤية، فضلا عن مصداقية القول، والربط بين الموقف النظري والسلوك العملي، بصرف النظر عن الخلفيات الفلسفية والإيديولوجية التي يستند إليها كل واحد منهم. فكيف تعاطت هذه الفئة تحديدا مع الأزمة الراهنة؟ وماهي المخارج التي تراها ملائمة لتجاوز آثارها الكارثية سواء على المدى القصير أو على المدى البعيد؟

الأزمة الراهنة في ضوء الفكر النقدي

ثمَ مشاغل مشتركة تشكل أرضية التقاء بين قلة من الفلاسفة والعلماء اليوم لإنعاش الأمل في مستقبل ممكن للإنسانية على الكوكب. ومع أن أغلبهم لا يزال يتحاشى الاعتراف بانسداد أفق النقد الليبرالي للنيوليبرالية، أو يشكو من عدم القدرة على رؤية مستقبل بديل للرأسمالية، إما بسبب من ضبابية منطلقات نقد "الانحراف النيوليبرالي"،أو من جراء الارتهان لنوع من النقد المثالي يأبى الإقرار بأن "الشر" يوجد في "قلب" الرأسمالية وليس بين الممارسات المنحرفة المزعومة، فإن فئة أخرى تستدرك اليوم بنوع من الحسرة ما فاتها من تصويب للنقد الفكري للنسق الإيديولوجي الليبرالي المسؤول عن انتاج الأزمات المعاصرة في كل المجالات والحقول، بالرغم مما يمكن أن نسجله مرة أخرى عليها من لف ودوران حول حقيقة المشكلات دون القبض على جوهرها وأسبابها العميقة والحقيقية. فإذا كانت هذه الفئة توجه سهام نقدها الحاد نحو الليبرالية الجديدة والرأسمالية المتوحشة، وتحملهما، وهما بالطبع وجهان لعملة واحدة، ما آل إليه حال العالم من تدهور بيئي، واستفحال للمظالم الاجتماعية، واستغلال مفرط للبشر والطبيعة، وسباق جنوني نحو التسلح وعسكرة الكوكب وإثارة الحروب، فإنها لا تصوب جيدا سلاحها النقدي حين تلقي بالمسؤولية، أحيانا على الانسان على وجه التعميم دون تعيين سوسيولوجي وتحديد دقيق للقوى والطبقات المنتجة فعلا للمصائب والمستفيدة من الأوضاع العالمية الراهنة المتدهورة، وأحيانا أخرى على سياسات معينة لهذا الرئيس أو ذاك، كأن الاستغلال والتسليع والتشييىء ليس من طبيعة الرأسمالية وإنما عرض من أعراض انحرافها، كما يجعلنا البعض نتخيل أو نعتقد ذلك. والحال أنه إذا كان النقد الأخلاقي مطلوب أيضا لإدانة المسار المتدهور لتحول الليبرالية المعاصر وتعبئة الضمائر، فإنه غير كاف لفهم أزمتها الخانقة اليوم وسيرورة انحطاطها وتدهور الحضارة الاستهلاكية والافتراسية التي شيدتها بالسلب والدم.
وبالطبع فإن قلة قليلة جدا من الفلاسفة والمفكرين النقديين هي من تابعت وواصلت مسيرتها بدأب ووضوح رؤية وصلابة موقف في نقد الرأسمالية وفضح طبيعتها الاستغلالية ومسؤوليتها عن كل الكوارث الاجتماعية والإيكولوجية والصحية التي يشهدها العالم منذ أزيد من قرنين، من انتاج البؤس والفقر ونشر الاستلاب والاستعباد وتدمير البيئة وصناعة الحروب والجريمة المنظمة والدعارة والمخدرات .. إلخ، والأهم قبل كل شيء هو الانتصار لبديل يقوم على أسس نقيضة لما بنيت عليه الرأسمالية، والانخراط العملي في تفعيل مشاريعه السياسية والاجتماعية، وتعبئة القوى الاجتماعية المدعوة إلى حمله وتحويله إلى قوة مادية. ولا حاجة لنا بالتنويه إلى أن من بين هؤلاء من نختلف معهم في أمور كثيرة وعدد من القضايا والاشكالات والمنطلقات النظرية والاستنتاجات السياسية، لكن لا يسعنا سوى أن نقدر جهودهم وصمودهم الفكري والسياسي في مواجهة آلة التضليل الرأسمالية، ووقوفهم الدائم مع القضايا العادلة للشعوب، وإعلاء راية الحق في وجه الطغاة، وشجب جرائم الرأسمال في كل مكان بقوة وجهر، مثل المفكر اليساري واللساني الأمريكي نعوم تشومسكي الذي دأب منذ عقود على فضح الممارسات المشينة للشركات والأجهزة والمؤسسات الرأسمالية العالمية من موقع نظري تحرري مسؤول ومتسق. كما أن اختلافنا مع غيره من المفكرين النقديين من الذين ظلت جهودهم تدور في حلقات مفرغة من النقد الأخلاقي المجرد، لا يعني بأي حال من الأحوال إنكار قيمة هذا النقد في سوق الأفكار والنظريات الاجتماعية، ولا أهميته كحد أدنى في تعزيز المقاومة الأخلاقية للغطرسة الليبرالية الرأسمالية وفضح انتهاكاتها للقيم الانسانية وتمجيدها للقوة والحروب ونشر الدمار، رغم أنه يظل قاصرا على رسم أفق تحريري حقيقي وعميق للخلاص الانساني، بعد قرون من بدء الصراع مع الرأسمالية.
سنقتصر في هذه الحلقة على رصد مواقف وآراء عدد محدود من أهم وأبرز أسماء الفكر النقدي المعاصر ، خاصة أولئك الذين صار لهم حضور رمزي مهم في فضاءات ومواقع التأثير في الرأي العام العالمي، سواء من خلال التأليف في مجالاتهم، أو من خلال كتاباتهم وتدخلاتهم التي تلامس القضايا العامة، أو عبر الالتزام العملي والسياسي بالنسبة لبعضهم كمثقفين نقديين وعضويين. وسنركز بالخصوص على ما قدموه من تصورات ورؤى للأزمة الراهنة، والبدائل التي طرحوها لتجاوز الوضع الحالي في العالم، أو ما يقال عنه "عالم ما بعد كرورنا"، بحسب العبارة الرائجة في الخطابات الاعلامية.
ولا بد من الإشارة أولا إلى أن الخط المشترك بين أبرز أقطاب الفكر النقدي المعاصر يتمثل اليوم في شجب السياسات التدميرية التي قادتها ولا تزال النيوليرالية المتوحشة، وأدت إلى كوارث بيئية واقتصادية واجتماعية وصحية تجلت، منذ مرور لحظة الانتشاء بالنصر بعد سقوط جدار برلين، في توالي الأزمات المالية وتوسع خرائط الفقر والبوس عبر العالم، وتفاقم التغيرات المناخية المنذرة بالكارثة العالمية، خاصة المرتبطة منها بظاهرة الاحتباس الحراري، وتهديد الأمن الدولي بسبب ثبات سياسة السباق نحو التسلح النووي وصناعة الحروب، وليس انتهاء بتزايد ظهور الأوبئة والجوائح المهددة للصحة العالمية وانهيار الاقتصاد العالمي...إلخ. أما الاختلافات التي يمكننا الإشارة إليها باختصار شديد فتهم بالأساس منطلقات نقد "النيوليبرالية" من ناحية، ونوع البديل الذي يتصوره كل واحد من هؤلاء للرأسمالية القائمة من ناحية أخرى، فضلا عن التباين في درجة الصدق الفكري والانسجام بين النظرية والممارسة، والذي يمكن للقارئ-ة المطلعة-ة أن يلاحظه للوهلة الأولى في ردود فعل بعض من هؤلاء الذي صمتوا لسنوات طويلة عن أي نقد جدي لجرائم الرأسمالية في العالم، وغضوا الطرف عن الاكتساح النيوليبرالي لمجالات حساسة، كالنشر والابداع والعلوم، وفضلوا بدل ذلك ترك الجمل بما حمل قبل أن تصعقهم جائحة كورونا بتعريتها لجشع الرأسماليين وخدامهم في الحكومات الغربية حين بدأوا يسمعون علانية أن البقاء للأقوى والأصلح للاقتصاد، وأن لا مكان لأولئك الذين صاروا عبئا على موازنة الدولة وبلا مردودية، مثل كبار السن والمتقاعدين الذين ينتمي إلى فئتهم أغلب هؤلاء الفلاسفة والمفكرين ممن تجاوزا العقد الثامن( موران، تشومسكي، هابرماس، باديو، تورين...).

النيوليبرالية وفشل اقتصاد السوق

نبه نعوم تشومسكي إلى الكوارث التي ستواجه الانسان في هذا الأفق المظلم، مركزا على نقد سياسات بلاده بقيادة "ترامب" في ظل تدهور الممارسة الديمقراطية، ونهجها الهيمني والعدواني على الشعوب والدول الذي يولد المزيد من الكراهية، كما أدان الغرب عموما لأنه أصبح مدمرا. وفي نفس السياق حذر العالم اللساني من استغلال الجائحة لفرض سياسات أمر واقع، أو استعمال خطاب الحرب لتبرير انتهاك الديمقراطية والتحول إلى الاستبداد، وانسياق وسائل الاعلام وراء هذا النوع من الخطاب، في وقت فشلت فيه دول متقدمة في السيطرة على الجائحة بسبب حساباتها الاقتصادية وترجيح كفة الربح على حياة الناس، ورضوخها لتحكم النيوليبرالية في الاقتصاد العالمي. ومن ثم فإن أمام العالم خيارات عديدة من بينها اثنين: إما العودة إلى نزعة انسانية تستجيب لمتطلبات الناس دون تغليب مصالح النيوليبرالية الاقتصادية، وإما التحول نحو الاستبداد والهمجية مع وجود بوادر لتوسل النيوليبرالية لعنف الدولة في مواجهة آثار الأزمة الراهنة، على غرار ما حداث قبل الحرب العالمية الثانية مع صعود الفاشيات في أوروبا. فالليبرالية الجديدة بدت أنها هي الوباء الحقيقي، فيما كشفت أزمة كورونا عن فشل ذريع لاقتصاد السوق وتغول المؤسسات الخاصة والشركات التي رهنت الليبرالية الجديدة مصائر البشر بها. ولأجل عالم أفضل، يرى تشومسكي أنه ليس أمام الانسانية سوى التضامن لتفادي الأسوء بالعزم والأمل على إقامة نظام عالمي انساني!

فشل العولمة في "توحيد" العالم على أسس انسانية

يسير الفيلسوف الفرنسي إدغار موران تقريبا في نفس الخط، مركزا على فشل العولمة في تحقيق التفاهم بين الشعوب، بالرغم من أنها نجحت في توحيد العالم تقنيا واقتصاديا، إذ خلقت سوقا كوكبية ضخمة حولت الأفراد إلى مجرد زبائن، وشاجبا ما نجم عن تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة من خراب وحروب وتفكيك للمجتمعات وتدهور بيئي وكوارث طبيعة في غياب بدائل دولية مؤسساتية للتضامن، كالأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، في وقت بدأت فيه أشكال جديدة من التضامن تبرز في الساحة بمبادرة من الباحثين والأطباء تزامنا مع تفاقم الأزمة الوبائية، والتي يعول عليها أن تحل مكان الأدوات التقليدية للتضامن الدولي. لكن الأهم أيضا أن الجائحة التي أتت على غفلة من الجميع تضعنا من جديد أمام تحدي اللايقين، يقوا الفيلسوف، وهي ككل أزمة تفاقم هذا التحدي وتفرض قانونها المربك للنظام السائد، وقد تفرز اتجاهات فاعلة بقدر ما تتيح لأفكار جرى تهميشها وفقدت بريقها استعادة حيويتها وفاعليتها، بالرغم من أننا لا نعرف بوضوح إلى أين يمكن أن تندفع بنا الأزمة الراهنة، هل في مسار إيجابي يفضي إلى تغيير حقيقي بأن تصيح الأفكار المجددة ذات قوة في السياسة والواقع، أم أن النظام القديم سيسترجع توازنه بعد أن تهدأ العاصفة؟ لا يتجرأ الفيلسوف على اجتراح رؤية واضحة للمستقبل في ضوء تفاعلات الحاضر تاركا للايقين حق المغامرة وللا متوقع الكلمة الأخيرة. غير أن لا شيء يمنع من الاستنتاج بأنه لا مكان للرأسمالية المتوحشة في صورتها الأمريكية المتجبرة في مستقبل الانسانية بعدما اتضح بجلاء أنها تدمر كل شيء جميل ومفيد في مسيرة الانسانية، من المساواة والديمقراطية إلى البيئة والسلام، وتنشر الروح الأنانية في كل مكان، على صعيد العلاقات الشخصية وعلى صعيد الدول( لنتذكر الشعارات الديماغوجية مثل "أمريكا أولا"، "الإيطاليون أولا" ، "البرازيل قبل كل شيء"...إلخ)، بينما كشف الأزمة الوبائية الراهنة عن وجود انسانية واحدة وترابط قوي بين البشر، على الرغم من أن الأزمات الخطيرة قد تدفع أيضا في اتجاه الانغلاق والبحث عن كبش فداء، مثلما أنها تعري حقائق صادمة، مثل التضحية بأرواح الناس والتخلي عن بعض الفئات الضعيفة كالمسنين والمرضى من أجل الاقتصاد والربح، و هو الجانب القاسي الذي عرته جائحة كورونا في العالم الرأسمالي حيث تعامل الليبرالية المتوحشة المرضى كسلع وتجعل المستشفيات بمثابة شركات، تماما كما فعلت مع تسليع التعليم.

غياب المعنى وتواري الفاعل السياسي

لم يجد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في الوضع الوبائي الحالي سوى من يعبر عن خشيته مما قد تتعرض له الديمقراطية والحريات الأساسية من تهديدات ويفرض عليهما من قيود بسبب التباعد الاجتماعي الذي لا يجب بنظره أن يتعدى الحفاظ على الحق في الحياة والسلامة البدنية. ورغم أنه يتحاشى نقد الليبرالية، فإنه لم يجد بدا من الاعتراف بدور الدولة في ظروف الأزمات وتلبية الحاجات الملحة للناس، وبأهمية أيضا التضامن في تجاوز الأزمة. من جهة أخرى سيوجه هابرماس النقد إلى السياسات المستندة ٍالى سلطة الخبراء التي أبانت التجربة الحية أن علومهم قاصرة على التكهن بالأزمات الوبائية والإحاطة بمخاطرها بسبب ضيقها، وهي في الواقع تعزز من سلطة من هم خارج المؤسسات التمثيلية التي شهدت إبان الأزمة الراهنة تقلصا واضحا لأدوارها و"توارى" خلالها الفاعل السياسي أمام تضخم دور "الأمني" وعالم الفيروسات، مع أن هذا الأخير لا يتصرف إلا في إطار حرية محدودة تضبطها مصالح لوبيات شركات الأدوية والمختبرات، بتواطؤ أكيد مع مراكز صنع القرار السياسي. يعاتب الفيلسوف اليسار على تخليه عن مناهضة الرأسمالية المتوحشة يشكل متسق مرتكنا للحل السهل وهو السيادة القومية أو الدولة الوطنية، بينما تلعب شعبوية اليمين في تفس الأرضية.
أما شيخ علم الاجتماع الفرنسي آلان تورين فقد هاله غياب فاعل حقيقي على مستوى الرأس فيما يغيب كل ما كان يصنع المعنى في المجتمعات الصناعة من حركات عمالية واجتماعية وطبقية ووطنية وغيرها، وثم صمت يسود اليوم مع غياب الفاعلين و الأفكار والمعنى، بل وحتى الاهتمام لم يعد موجودا. فكل ما هناك أشخاص أو مجموعات بلا أفكار ولا برنامج ولا وجهة ولا استراتيجية ولا قيادة بل وليست لها حتى اللغة، وهذا يجعلنا نسقط في الفراغ.

انحطاط "الحضارة الغربية" و"الخلاص التحرري"

فيلسوف أخر من خارج دائرة شيوخ الفكر المعاصر، وإن كان غير بعيد تماما عن انشغالاتهم، سيجد في أزمة الجائحة مناسبة لتدعيم قناعاته الجديدة بشأن مصير الحضارة الأوروبية اليهودية-المسيحية وتحول القارة العجوز إلى "عالم ثالث جديد"؛ إنه ميشال أونفري، الفيلسوف النجم، الذي هو الآخر بدأ تحت تأثير اليسار وانتهى مهرولا في كل الاتجاهات بلا بوصلة، وأحيانا يفعل ذلك على طريقة "الفلاسفة الجدد" حتى أنه بات أقرب إلى ظاهرة زعيمهم الدجال برنار -هنري ليفي، وربما انتهي إلى أن يكتسب سمعته السيئة في "النط" والخبط والتعلق بأضواء الاعلام، ولذلك لا تأخذ خرجاته على محمل الجد، فلا تبدو على الأقل تصريحاته حول فشل النسق الليبرالي، الذي تعبر عنه أزمة أوروبا في ظل تداعيات فشل مواجهة الجائحة الفيروسية، تعكس قناعة حقيقية ومتسقة. ولعل الأمر واضح أيضا في الإيحاء برغبة في التصالح مع التاريخ، من قبيل الدعوة إلى إعادة التفكير في الماركسية وتجديدها من أجل التخلص من النيوليبرالية وجعلها، أي الماركسية، قادرة على التعبير عن جميع الفئات المهمشة والمضطهدة، وليس فقط الطبقات التقليدية كالعمال والفلاحين. لقد أنذر أونفري قبل الأزمة الراهنة ضمن كتاب "الكوسموس" بانحطاط الحضارة الغربية "الميتة" مشددا على ضرورة النضال ضد العدمية و"إعدام المعنى" الذي أضحى سمة "الغرب المنهار"، وهو هنا يجدد الصلة بتراث من الأفكار المحافظة، الطبيعية والإيكولوجية، على طريقته الخاصة، بحثا عن خلاص يريد الصلة البريئة بين الانسان والطبيعة التي أفسدتها الثقافة، وانتهكها التقدم (الحداثة). والحال أن من يعرف جديا مسار الفيلسوف "الفوضوي المتوج" ويتابع أعماله ونشاطه، يدرك جيدا أنه يغير بين إصدار وآخر، وبين مقالة وتصريح وحوار ، "أفكاره" و"مواقفه" إلى حد بات من المستحيل أن نسجل له "رؤية واضحة للعالم"، اللهم إذا كانت قفزاته العجيبة في المواقف هي التعبير الفعلي لرؤية ذلك "التدبير التحرري للرأسمالية" كما وصفه في مكان ما، طالما أن الرأسمالية بالنسبة لفيلسوفنا هي "قديمة قدم العالم وستدوم قدر ما سيدوم"، وبالتالي لا مكان لأي ثورة ضدها ولا "لأمسية عظيمة".. ربما هو هول الصدمة من دفع هذه المرة أيضا أونفري للبحث عن شماعة "الحضارة الغربية" يعلق عليها أزمة "فكر" يرتد على نفسه باستمرار في حركة من الدوران الأبدي في الفراغ أو فيما يشبه لفَة البهلوان..

الوباء الرأسمالي و"الفرضية الشيوعية"

الفيلسوف الشيوعي سلافوى جيجيك Slavoj Žižek، الذي أصدر كتابا عن الجائحة بالإنجليزية تحت عنوان "Pandemic! Covid-19 Shakes the World"، وصدر بداية هذ الشهر بالفرنسية تحت عنوان Dans la tempête virale، يخرج عن المألوف عند "الشيوخ" وبعض "النجوم" من لف ودوران، ويصوب النقد إلى الأفق البعيد، مؤكدا أن "الشيوعية الجديدة هي الحل" لإيقاف الوباء الناتج عن الهمجية الرأسمالية العالمية، والذي هو، أي الوباء، بمثابة "الحد الفاصل بين عالم وآخر". فالشيوعية هي وحدها التي من شأنها منع السقوط في براثين "همجية عالمية"، وهي شيوعية قائمة أساسا على التعاون الدولي والتضامن اللا مشروط، ولا علاقة لها بالتصور الستاليني السابق ولا بالنموذج الصيني الحالي. لكن قبل شق الطريق البديل بعزم ووضوح، علينا أن نتوقع نهاية درامية للرأسمالية بثمن باهظ في الأرواح وملايين الإصابات. فالأزمة الوبائية الراهنة ليست إلا بداية أزمات حادة وخطيرة ستعصف بالبشرية مستقبلا، سياسية، اقتصادية وغذائية، وقبل كل شيء أزمة إيكولوجية تشملها جميعها، وهي بالتالي ستكون أشبه ب"عاصفة كاملة"، بحسب العبارة التي استعملها الصحافي Sebastian Junger سنة 1997، وتصلح اليوم لوصف التشابك الواضح للأزمات المتصاعدة في العالم في المسار المنذر بالكارثة العظمى، التغيرات المناخية. وإن رهان "الثورة الفلسفية" الذي يناط بنا، يقول جيجيك، سياسي بالأساس. فنحن نعيش اليوم في زمن سياسي بشكل لا يوصف يفرض علينا ابداع طرق جديدة للعيش والتواصل والتعاون وحتى الحب، وأقل ما يتوجب علينا للخروج من الوضع الحالي هو انتهاك القواعد الأساسية لاقتصاد السوق.
في الواقع أجدني في نفس الصف والموقع، وإن كنت أقل تفاؤلا بخصوص بداية الصراع في هذا الاتجاه، فلا يزال ربما في جعبة النظام الرأسمالي بقية من المناورات الإيديولوجية لتوجيه الأنظار في غير الطريق الشيوعي، ولا يزال بوسعه أن يستنفر مخزونه الهائل من الأفكار المستعارة من إيديولوجيات اجتماعية وديمقراطية مخففة لتفادي صدمة الأزمات المفاجئة، وتأجيل الأزمات الثورية التي عصفت ببعض كياناته في القرن الماضي على حين غفلة إبان الحرب العالميتين (روسيا والصين).
فيلسوف شيوعي أخر لامع، وهو آلان باديو، اعتبر أنه من الوهم التفكير بأن كارثة صحية مثل جائحة كورونا يمكنها أن تفتح الطريق لأي شيء جديدا سياسيا، وأنه لقلب نظام اجتماعي ما يتوجب تعبئة قوى أخرى وليس الفيروس. فقد بدا باديو هذه المرة متفهما أكثر لسياسات الرئيس الفرنسي ونهج الدولة السلطوي لفرض إجراءات العزل والحجر الصحي، وحتى متقبلا لاستعارة "الحرب" التي استعملها عند الإعلان عن الطوارئ الصحية، لكنه في الوقت نفسه لم يترك السياق الجديد يمر دون التذكير بما جنته السياسات الليبرالية للخصخصة على الخدمات العمومية، وهو ما يسمح بطرح قضية الملكية الخاصة، وبالتالي الشيوعية، أمام الرأي العام، الذي صار، بفعل الأزمة الوبائية، أكثر حساسية إزاء المشكلات التي أثارتها الحركة الشيوعية في السابق. ويؤكد باديو أيضا على أن الدولة البرجوازية الحالية، وفي فرنسا على الخصوص، عمدت إلى دمج المصالح الطبقية التي تمثلها على مستوى السلطة بالمصالح العامة بسبب الظرفية التاريخية الخاصة بالنظر لطبيعة العدو "العام" هنا، وهو الفيروس القاتل، دون أن يعني أنها تتخلى من الناحية الاستراتيجية عن طبيعتها كدولة برجوازية أولا وأخيرا وُجدت من أجل حماية مصالح الطبقة السائدة. ولذلك يقول باديو أن الوضع الراهن يظل "محايدا" على الصعيد السياسي، مثل وضع "الحروب العالمية"، وأنه من المستبعد جدا أن تحدث ثورات أو "أزمات ثورية" حقيقية من شأنها أن تطيح بالرأسمالية، المزهوة بنصرها وبأفول "الفرضية الشيوعية" في كل مكان، كما وقع في روسيا والصين بتوفر شروط استثنائية لا وجود لها في وضعنا الراهن. لكن ذلك لا يمنع من الانكباب على دراسة وتأمل أشكال جديدة للسياسة، ومشروع أمكنة سياسية جديدة، وقبل كل شيء في تقدم عابر للقوميات لحقبة شيوعية ثالثة، بعد الحقبة الأولى التأسيسية اللامعة، والحقبة الثانية التجريبية الدولتية القوية والمعقدة.

(يتبع)



#عبد_المجيد_السخيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تاريخ الأوبئة(9) نهاية الجائحة، أي ثمن للخلاص؟
- تاريخ الأوبئة(8) الأزمات الوبائية ومحنة العقل
- تاريخ الأوبئة(7) الوباء والاستعمار
- تاريخ الأوبئة (6) عن الحجر الصحي والتلقيح
- إدغار موران: العيش مع اللايقين*
- تاريخ الأوبئة(5) من الطاعون إلى كوفيد 19(ب)
- أوراق فلسفية(1) بيونغ - تشول هان* : هل نسير نحو فيودالية رقم ...
- تاريخ الأوبئة(4) من الطاعون إلى ك-ك 19(أ)
- تاريخ الأوبئة(3) دروس التاريخ
- الحجر الصحي والحجر الحقوقي: بصدد قانون -تكميم الأفواه-
- إيدير: -سيعيش-
- تاريخ الأوبئة(2) هل الوباء قديم قدم الانسانية؟
- تاريخ الأوبئة(1) عن المرض وتاريخه
- بوب مارلي، -النبي- المتمرد وإيقونة الريغي (4)
- بوب مارلي، -النبي- المتمرد وإيقونة الريغي (3)
- بوب مارلي، -النبي- المتمرد وإيقونة الريغي (2)
- بوب مارلي، -النبي- المتمرد وإيقونة الريغي (1)
- سمير أمين: وحدة النضال الإيديولوجي والالتزام السياسي والانتا ...
- سمير أمين: وحدة النضال الإيديولوجي والالتزام السياسي والانتا ...
- سمير أمين: وحدة النضال الإيديولوجي والالتزام السياسي والانتا ...


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- جائحة الرأسمالية، فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية / اريك توسان
- الرواسب الثقافية وأساليب التعامل مع المرض في صعيد مصر فيروس ... / الفنجري أحمد محمد محمد
- التعاون الدولي في زمن -كوفيد-19- / محمد أوبالاك


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات - عبد المجيد السخيري - تاريخ الأوبئة(10) التفكير تحت وطأة الأزمات وهول الصدمات