أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - ضيا اسكندر - في حَضْرَةِ الغياب















المزيد.....

في حَضْرَةِ الغياب


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6435 - 2019 / 12 / 12 - 15:51
المحور: سيرة ذاتية
    


حشدٌ من الأهل والأصدقاء والجيران كان في استقبالي لدى الإفراج عنّي من المعتقل، باستثناء صديقي الحبيب أكرم الخاني! وهو الذي كنت أنتظر لقاءه كأوّل المحتفين بخروجي إلى الحرّية. ولدى استفقادي وسؤالي عنه، كان جواب أختي إنه أخذ إجازة طويلة وذهب إلى قريته «ديمو» في منطقة الغاب لزراعة الذرة. وسيعود بعد شهر.
* * *
عند الظهيرة، يفتح السجّان أبو محمد طاقة الزنزانة وينادي: ضياء اسكندر! زيارة.. هيّا!
«يا إلهي! أيُعقل؟! أخيراً سمحوا لي بالزيارة بعد ثمانية أشهر من اعتقالي؟!» لبستُ ثيابي على عجل وخرجتُ ملهوفاً. ونحن نصعد الدرج سألتُ السجّان:
- من زائري يا أبو محمد؟
- صهرك..
قفز إلى ذهني صهري الوحيد (أبو رامي)!
وصلتُ مكتب المحقق في الطابق العلوي وأنا أتخيّل لحظة اللقاء مع صهري. وإذ بالصديق أكرم الخاني ينتظرني!
«غير معقول! أكرم الخاني؟! صهري؟! كيف؟!»
عانقته بشوقٍ واستغرابٍ عظيمين.. وحاول سريعاً توضيح الموقف قائلاً:
- يعود الفضل بهذه الزيارة للأخ أبي محمود (وأشار بيده إلى المحقق) فهو ابن منطقتنا في الغاب..
عاصفة من الأسئلة تدافعت إلى ذهني، واحترتُ كيف أبدأها؟ إلا أن السؤال الأول الذي أردتُ الاستهلال به:
- بلغني وأنا قادم إليك أنك غدَوْتَ صهري..؟
- (مقاطعاً بابتسام) أه .. طبعاً, لقد خطبت أختك ليلى.. لكننا أجّلنا الحفلة لحين خروجك بالسلامة..
- ألف ألف مبروك يا أكرم! والله أسعدتني جداً بهذا النبأ.. كيف حال أهلي جميعاً أخبرني عنهم؟
- كلهم بخير ويسلّمون عليك.. وقد فهمت من الأخ أبي محمود بأنهم سمحوا لك بالزيارة.. وسوف يزورونك الأهل ربما بعد غد.. هل تريد شيئاً؟ فالزيارة مدتها دقيقتان فقط!
- شكراً جزيلاً.. لا أريد إلّا سلامتك.
وقف المحقق إيذاناً بانتهاء الزيارة. وقفتُ بدوري وعانقتُ صديقي مجدداً ونزلتُ إلى الزنزانة وأنا بحالة من الانشداه والغرابة والسعادة! أختي ليلى تُخطب إلى أعزّ صديق لي وهو من طائفة أخرى!
صديقي أكرم هذا, سبق وتعرّفتُ عليه منذ سنوات, يعمل في مؤسسة الإسكان العسكرية باللاذقية ويسكن بالقرب منّا. وتوطّدت صداقتي معه كثيراً إلى حدّ أننا نلتقي يومياً ولساعات.. قلتُ في سرّي: «ممكن جداً أن تكون قد نشأت علاقة عاطفية بينه وبين أختي خلال فترة غيابي. فهو يزورنا باستمرار. وكل أفراد أسرتي يكنّون له المودّة والاحترام. إنه شابٌّ يحمل من القيم النبيلة والأخلاق الحميدة ما يجعلني وأهلي فخورين بمصاهرته لنا.»
* * *
ياااه ! متى يأتي بعد غد؟
ليلتان لم أنمْ خلالهما بضع دقائق وأنا أهجس بلقاء الأحبة.
ويأتي اليوم الموعود وتحصل الزيارة؛ أمي وأختي (المخطوبة) وأخي الصغير. بعد العناق والدموع، سارعتُ بتقديم التهاني لأختي بمناسبة خطوبتها على صديقي أكرم! لكنها رفعت حاجبيها بعد أن ألقتْ نظرة خاطفة صوب المحقق الذي كان يتحدّث على الهاتف وهمستْ: «أكرم لم يخطبني! لكنه ادّعى ذلك من أجل السماح له بزيارتك!»
تردّد صدى كلماتها في ذهني المشوّش إلى أن استوعبتُ قولها.
يا إلهي! كيف يمكن للإنسان أن يتسامى إلى درجة القداسة في هذا الزمن الرديء؟!
هذا الصديق العظيم وبالرغم من المخاطر الأمنية التي كانت تحيط به من كل حدبٍ وصوب, غامر وزارني في المعتقل منتحلاً صفة (خطيب أختي) ليتمكّن من رؤيتي والاطمئنان عليّ..
أكرم! أيها الصديق النبيل! يا حليف الروح! لِمَ جازفْتَ بنفسك وأنت المطلوب أمنياً، وجئتَ لزيارتي قبل أهلي، بل قبل رفاقي في الحزب؟
أيّ حبيبٍ أنت؟ بل أيّ نبيّ..!؟
* * *
بعد سبعة أيام على إخلاء سبيلي زارني أحد الأصدقاء صباحاً مهنّئاً. وبعد العبارات التقليدية في مناسبةٍ كهذه، قال لي:
- يا حرام! هل عرفت بما حصل لأكرم الخاني؟
ويبدو أن نظرات أهلي إليه حذّرته من مغبّة الإفصاح أكثر. توقّف فجأةً كأنه عقد العزم على شيءٍ ما ثم قال في هدوء:
- إلى متى سنُخفي عنه الموضوع؟ بصراحة صديقنا أكرم مريض في مشفى تشرين بدمشق منذ ما يقارب تسعة أشهر. فقد أُصيبَ بنوعٍ نادرٍ من الرشح أدّى إلى التهاب النخاع الشوكي لديه، ما سبّب له الشلل.
كانت كلماته تنزل عليّ كالسّهام. تحوّل وجهي إلى بركان من الدهشة والاضطراب والذهول.
عند العصر كنت في دمشق.
لدى بلوغي مشفى تشرين والاستفسار من مكتب الاستعلامات عن غرفة صديقي، لم أنتظر المصعد، بل بقفزاتٍ سريعة كنت في الطابق الرابع، وتوجّهتُ مباشرةً إلى غرفته.
نقرتُ على الباب المغلق نقرتين خفيفتين وفتحته، لأجدَ امرأة ستّينية تقترب منّي بلباسها الشعبي القريب من لباس البدو. حيّيتها بسرعة وألقيتُ نظرةً عجلى على السرير الذي يرقد فيه صديقي وقد غطّى رأسه بمنشفة. قلت لها مُعرّفاً بنفسي وأنا الذي أراها لأوّل مرة:
- خالتي، أنا ضياء اسكندر، صديق أكرم..
ندّت عنها شهقة متكسّرة واحتضنتني وهي تجهش بالبكاء وراح جسدها يختضُّ بعنف. ومن خلال كلماتها فهمتُ أن ابنها أكرم يذكرني يومياً أمامها ويقول لها: «أتمنى أن ألتقي بصديقي ضياء قبل أن أودّع هذه الدنيا يا أمّي!».
تقدّمتُ من السرير بخطوات وجلة وأزحتُ المنشفة عن رأسه. وبدأتُ أتأمّله وقد استغرق روحي انكسارٌ فظيع وأنا أتفقّد علامات المرض على وجهه كيف تركت دلالاتها عليه.
ويا حسافة على ما رأيت! رأسٌ صغير، بل جمجمة يكسوها جلد!
اقتربتُ منه أكثر إلى أن صار رأسي فوق رأسه تماماً. انبجستْ أشواقي في اندفاعة عفوية، انهمرت على إثرها دمعتان من عينيّ واستقرّت على وجنتيه. استيقظ ببراءة طفل وليد. فتح عينيه بفتور، وسرعان ما ثبّتَ نظره بي وقد ارتسمت بسمة حزينة على وجهه الشاحب وهتف: «مين؟! حبيب القلب ضياء؟! ياه! أشكرك يا ربّ أنك استجبت لدعائي..» غمرته وانخرطنا ثلاثتنا في النحيب.
بعد أن هدأتُ قليلاً بادرتُ بالسؤال عن آخر مستجدّات وضعه الصحّي. فأجاب وهو يجتلي أثر كلماتي من حركات شفتيّ:
- أنا لا أسمعك يا صديقي. إضافةً إلى شللي وإصابتي بـ«الخشكريشة» (قرحة الفراش)، فقد خسرتُ أيضاً حاسة السمع منذ عدة أشهر بسبب الأدوية. يمكننا التواصل عبر الكتابة. (وأشار بيده إلى مجموعة دفاتر مركونة على طرف السرير خلف رأسه).
تعبّأ الذهول رأسي والخفقان جوارحي. إنها المصيبة الثانية التي لم أكن أتوقّعها حتى في أسوأ كوابيسي؛ صديقي الغالي مشلول.. وأصمّ!
جلستُ إلى جانبه على السرير وطفقنا نتبادل الأحاديث. وكأغلب المصابين بالصمم كان يتحدث بصوتٍ عالٍ. وعندما أذكّره بلطف بأني أسمعه جيداً ولا ضرورة لرفع صوته، كان يجيب مبتسماً بحزنٍ أنه لم يعد قادراً على تخفيضه، فقد اعتاد على ذلك وأصبح لا إرادياً يتحدث بهذه النبرة.
بعد حوالي الساعتين من مكوثي، مُلِئت الدفاتر الخمسة كتابةً.
فهمتُ منه أنه ينتظر دواءً شهيراً من ألمانيا سيصله بعد يومين. وأنه إذا لم يستفِدْ، سوف يقرر إنهاء حياته التي لا معنى لها وسط هذا الوضع الكارثيّ الذي وصل إليه.
طلب مني برجاء أن أبيتَ عنده. اعتذرتُ منه كون إدارة المشفى لا تسمح بأكثر من مرافق للمريض. ثم إن الغرفة صغيرة لا تتسع لي ولوالدته الصبورة التي ما انفكّت عن البكاء كلما تطلّعت بوجهي. كرّر طلبه بضراعة وتوسّل. لكنني أصررتُ على اعتذاري واعداً الاتصال به عبر الهاتف للاطمئنان عليه.
ودّعتهما وخرجتُ. وقد غدا العالم فراغاً مثيراً للأعصاب، مضرّجاً بكل أنواع القلق والهموم. مشيتُ متثاقلاً على غير هدى متعثّراً ضائعاً إلى أن غادرتُ دمشق عائداً إلى اللاذقية.
بعد أسبوع اتصلتُ هاتفياً بالمشفى، وطلبتُ تحويل مكالمتي إلى غرفة صديقي أكرم. سألتني عاملة المقسم من أكون؟ أخبرتها أنني صديقه. قالت لي بعد لحظة صمت: «بصراحة، إن وضعه حرج جداً وهو الآن في غيبوبة. وأعتقد أنه سيرحل عن هذه الدنيا اليوم أو غداً كأبعد حدّ حسب تشخيص الأطباء، فقد امتنع عن تناول كل الأدوية المخصصة له». قلتُ لها وأنا أزدرد غصّةً وقد استيقظ خوفاً كامناً في داخلي: «ولكنه كان ينتظر دواءً من ألمانيا؟» أجابت: «هذا صحيح، لكن الدواء كان مفعوله سلبياً للأسف».
تذكّرتُ وعيده من أنه إذا لم يستفد من الدواء الألماني سيُنهي حياته بنفسه. فقرّرتُ السفر مجدّداً إلى دمشق.
ظهيرة اليوم التالي كنت على باب غرفته. داخلني شيء من الرهبة وأنا أقف متأمّلاً مجموعة من الأطباء والممرّضات يعجُّ بهم المكان. لمحتُ والدته التي سرعان ما أقبلت نحوي واحتضنتني وهي تبكي قائلةً: «يا وَيْلي! صديقك أكرم في لحظاته الأخيرة يا بنيّ!». رجَوْتُ الأطباء أن يسمحوا لي بإلقاء نظرة الوداع. اعترض أغلبهم متذرّعين بأن الانفعال قد يزيد حالته سوءاً. إلا أن أحدهم أمسكني بذراعي واقتادني إلى السرير وهو يحذّرني ألاّ أقوم بأيّ تصرّف من شأنه إيذاء المريض. دنوتُ من صديقي متفحّصاً وجهه الممتقع الذي استحال ببعض أقسامه إلى الاخضرار والازرقاق، وخاطبته بصوتٍ متهدّج: «أكرم! أنا ضياء!» فتح عينيه ببطء شاخصاً ببصره إلى السماء. وافترّ وجهه عن ابتسامة يائسة ثم تنهّد بزفرةٍ كبيرة. كأنما يحاول أن يقول شيئاً فلا يستطيع. وسالت دمعتان من عينيه تدحرجتا على مسارب وجنتيه فانفجرتُ باكياً. أسرع الطبيب إلى إخراجي من الغرفة وهو يواسيني بكلمات حزينة.
صوت حشرجته كان مسموعاً حتى خارج الغرفة. لم أجرؤْ على البقاء لأحضر مغادرة روح صديقي جسده المتهالك. قرّرت الهروب سريعاً. لا أريد أن أشهد أو أسمع بأن أعزّ صديقٍ لي في الوجود سيأفل نجمه وأُحْرَمُ منه. سأُبقي ذكرى تألّقه التي أعرفها موصودة في قلبي إلى الأبد.
نعم، إلى الأبد.



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا لم تُشكّل الحكومة الانتقالية في سورية؟
- قَصْرُ المُحافِظ
- من أين لك هذا؟!
- البَدْلةُ الزرقاء
- جُرْأة غير مسبوقة!
- الصحفي والمسؤول
- القلم
- بين الفكر والسّلوك
- الملعبُ البلديّ والسُّلُّمُ الخشبيّ
- أوّلُ أجرٍ أتقاضاه
- فأر الحقل
- مع عدم الموافقة!
- خطاب رسمي
- من ذكريات «الزمن الجميل!»
- روسيا وتركيا و«الكباش» المعلن والمخفي
- أوَّلُ مهمّةٍ حزبيّة
- هل روسيا «الأمّ الرؤوم» لأصدقائها؟
- سورية إلى أين؟!
- هل الحلفاء أخوة؟!
- «القرضاوي» والمسيحية


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - ضيا اسكندر - في حَضْرَةِ الغياب