أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع العبيدي - تفكيك العنف وأدواته.. (قراءة سوسيولوجية عراقية سياسية)/ الكتاب كاملا













المزيد.....

تفكيك العنف وأدواته.. (قراءة سوسيولوجية عراقية سياسية)/ الكتاب كاملا


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 6381 - 2019 / 10 / 16 - 17:46
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


وديع العبيدي
تفكيك العنف وأدواته..
(قراءة سوسيولوجية عراقية سياسية)
(1)
مضى القرن العشرون، وانتقل العالم- الغربي والشرقي- من مرحلة لأخرى. والعرب يسعون وراء هذا وذاك، ويتصارعون فيما بينهم، تعصبا لهذا وانحيازا لذاك، ولو على حساب مصالحهم العامة وثوابتهم التاريخية. ولا غرابة في -مثل هذا- السلوك العربي، الذي مورس في القرن الماضي، بل قبله بقرون.
أليس المفروض القيام بمراجعة ذاتية للقرن العشرين ومحدثاته، حسناته وسيئاته، في مختلف قطاعات الحياة والمجتمع والنظام السياسي، وذلك بالعلاقة مع النتائج، والحال التي انتهى اليها العرب على اعتاب القرن الواحد والعشرين؟..
هل خطر للجامعة العربية والمنظمات التابعة لها، القيام بخطوة المراجعة الذاتية وفرز العوامل والنتائج؟.. هل تداعت حكومة أو حزب أو جهة وطنية أو أممية أو شعبية لمثل تلك المراجعة؟..
أسس بنية المراجعة..
- رصد المحدثات التي طرأت على حياة العرب منذ بداية القرن العشرين، ومناقشة الياتها وديناميكياتها، وجدول الازاحات والخسائر والفوائد السافرة عنها، بالمنظور العربي المحلي..
- رصد الثوابت التقليدية في الحياة العربية المستمرة عبر القرن العشرين، حسب محايثتها وتأثرها، بالمحدثات..
- موقع العرب وموقفهم بين المحدثات والثوابت، وجهة الرجحان..
- عرب القرن العشرين وصراع الثقافات والمرجعيات..
- ماذا ولماذا وكيف.. في مسألة العرب والعصر/(العرب والغرب)..
استغرقت الحداثة والتحديث والتطور والتقدم والتنوير، القسم الأعظم من اهتمامات الحكومات والأحزاب والمؤلفين، مسجلين انحيازا واضحا للمفاهيم الجديدة، بينما انحسر الانحياز للتقليد والتراث في قطاع الجماعات الدينية المنقسمة بدورها للسلفية في جانب، والتجديد والعصرنة في جانب..
لكن السؤال/ الظاهرة، هو عدم تبلور أو بروز تيار أو مدرسة/ مدارس، تستوعب ما يسمى بالحداثة، والتي لا تتعدى في حقيقتها، كونها تقليدا أعمى لظواهر ومظاهر وطرز غربية، لا تتصل بعالم الشرق والعرب من قريب أو بعيد؛ بل هي لا تخرج في أصولها وتطبيقاتها، عن اطار المركزية الغربية..
ولما كان ما يدعى -زورا- بالحداثة والتحديث والتجديد والتطور والعصرنة، لا يخلو من دعاوى [حريت- عدالت، مساوات] الجامعة لمفاهيم التحرر والتطور والاستقلال، فلم يخل خطاب الدولة والأحزاب والتيارات التحررية من تلك الشعارات والمبادئ، دون أدنى تبصر، لتناقض تلك الشعارات مع مفهوم المركزية الأوربية، والتي تعادل اليوم: القطبية الأمريكية/ السيادة الامبريالية العالمية للبيت الأبيض..
خطاب لندن الاستعماري تناول مساعدة الشعوب لتجاوز التخلف والارتقاء الى سدة الأمم، وتناول الخطاب الامريكي مشروع (تحرير البلدان من الدكتاتورية ودعمها على طريق الدمقراطية والحوار والتقدم)، دون ظهور مناقشة وافية أو حاضنة للبت في ذلك، وعدم ظهور مبادرات تحررية وتطورية من الداخل، بله، تأكيد التبعية للخارج.
بدء من الثورة الدستورية في الاستانة إلى الانتفاضات الشعبية والبرجوازية في المحيط العربي، ضد الاحتلال الانجليزي لمصر والعراق وجنوبي الشام، لم تفلح في طرد الاحتلال وبناء دولة/ حكومة وطنية سيادية مستقلة، وانما تحالفت وتعاونت مع سلطات الاحتلال الانجليزي لبناء دول/ حكومات/ دساتير محلية، بقيادة سلطات الاحتلال، وتمثيل نسبي تابع للجماعات العربية المتعاونة مع الاحتلال/[1919 المصرية، 1920 العراقية، ثورة 1925 السورية، الانتفاضات الفلسطينية المبكرة بقيادة موسى كاظم الحسيني [1853- 1934م] وولده عبد القادر الحسيني [1908- 1948م] والقسام [1883- 1935م]]..
ان التجارب السياسية العربية المحدثة في القرن العشرين، تتشابه بدرجة كبيرة، سيما مع مركزية العامل الحاكم، وهو سلطات الاحتلال الانجليزي، في كل من مصر والعراق وجنوبي الشام، فضلا عن منطقة الخليج والجزيرة، المجيرة بتاريخ سابق لحكومة لندن..
وكون التجربة المصرية منذ بواكيرها هي الأنضج والأميز وعيا والأكثر تطورا، لم يغير كثيرا من صيرورة مصر الحديثة، والمصير المنتهية اليه في نهاية القرن، أو المستقبل الأمريكي للمنطقة.. وهو أمر يتساوى فيه كل العرب من المحيط إلى الخليج، ملكيات وجمهوريات وإمارات، دمقراطية أو لبرالية أو تقليدية، دينية أم علمانية..
كيف انتهت كل تلك التجارب الى مصير واحد.. وكيف خدمت كل النضالات والشعارات التحررية والتقدمية في خانة التبعية الامبريالية..
ثمة بلدان لم تشهد ثورات وتيارات تحررية.. ثمة بلدان لم تعرف مظاهر الحزبية والنقابية والدمقراطية والبرلمانية وبضمنها الحداثة، تقف اليوم على مستوى واحد من بلدان الغليان السياسي والحزبي؛ والجميع ينضوي تحت املاءات البنك وصنوق النقد الدولي ونفوذ الناتو..
كيف يمكن تقييم حجم الهدر الشعبي والوطني للعمل الحزبي والنقابي والاصطراع السياسي والاقتصادي والديني المستهلك خلال القرن العشرين..
ماذا نسمي حجم الاحباط العربي القومي، بعد قرن من التحديث والعصرنة الغربية.. كيف نبرر مشروع التهجير والطرد السكاني لأثنين وعشرين بلدا عربيا وضعفها من البلدان المسلمة، وهي تتقاسم هزيمتها أمام المشروع الغربي والامبريالي..
أم أن محاولات التطبيع والمراوغة والاحتيال على الذات المسحوقة، مشاريع للاختراق المقابل، أو الهروب العاري إلى الأمام.. بعد الاقرار بالخسران والهزيمة الشاملة، هزيمة جميع القوى والعناوين السياسية والقبلية والطائفية في العالم العربي..
هل يستمر الحديث بنفس الحماس عن الحداثة الغربية والتفوق والنمذجة والدمقراطية الغربية.. تستمر الدعوات للقيام بالانتفاضات والانقلابات والثورات، والمزيد من الطائفية السياسية والتشظي والانقسام تحت مظلة الدمقراطية الرأسمالية.. والى متى يستمر القهر والهدر القومي.. لكي نقر بالافق المسدود للنفق المظلم.. حين مندم!..

(2)
العنف اصطلاحا، له مصادر وتعريفات وتحقيبات زمنية وفكرية متعددة، منها..
عنف محلي، وعنف خارجي
عنف موروث، وعنف محدث/ طارئ
عنف أهلي، وعنف حكومي وسياسي
عنف شعبي/ عرفي، وعنف قانوني
عنف قبلي، وعنف طائفي وحزبي
عنف فردي/ شللي، وعنف مجتمعي، عام
من المؤسف ان العنف هو الطابع العام والسائد، للنشاط البشري، وذلك بالمفهوم الفلسفي. أما مقابل العنف ، وهو السلم، فلا وجود حقيقي له، وانما له وجود افتراضي، في صورة التناقض المنسجم، وهو تحديد العنف وتقنينه، بحيث لا يظهر على السطح، ويمنح صفة القانون، بذريعة حفظ النظام العام/ الامن المجتمعي، كما هو في البلدان الرأسمالية.
فالعنف المقنن، لا يوصف بالعنف، ولا يجوز مقاضاته، أو مقابلته بالمثل، ولا الاعتراض عليه. فالاضراب أو الانتفاضة والعصيان، كأدوات سياسية للمطالبة بحقوق شعبية ونقابية، يتم محاصرتها بقوات مسلحة، مبالغة بالكم والنوع، بل باستخدام الجيش والدبابات التي لا يجوز استخدامها الا في حالات الطوارئ، لكن استخدامها بغير اعلان طوارئ، لا يواجه معارضة شعبية أو برلمانية، .. ولا يسمع صوت أو اعتراض المحكمة الدستورية، المنظمات القانونية الدولية.
ان عصرنا الراهن، هو عصر الدول والمنظمات والتنظيمات القائمة على القوة المنظمة. ما تقوم به الدولة، لا يوصف بالعنف، لأنه يستظل بالقانون ومصادقة البرلمان أو اجتهاد الحكومة. لكن تقنين العنف حكوميا وبرلمانيا، لا ينفي الفعل الحكومي من كونه عنفا وعدوانا، بالمنظور الفيزياوي والنفسي والفكري.
ان ممارسة العنف تحت عناوين شرعية، عرفية، دينية، لا يجردها من مضمونها العنفي المادي والمعنوي.
ان لفظة – اسكت-، أو تكميم الفرد، هي عنف لفظي مباشر، يجري استخدامه في المحادثات والتصريحات، ويرد في كلام ترامب مع الصحفيين، ولا يتم الاعتذار عنه، أو مقاضاته قانونيا. والمفروض، في منظور الحكم المدني الدستوري، أن يقوم – الادعاء العام- برفع الدعوى ضد ذلك، وردع اي تجاوز أو اعتداء على السلم المجتمعي والقوانين الراعية له، بما فيها مواثيق حقوق الانسان، وليس التغاضي عنها، وتعتيم الأمر .
التسيب، والفوضى، والاحتكام للقوة ومراكزها، هي مظاهر منحرفة شائعة اليوم. لكن شيوعها لا ينفي كونها انحرافا. وشيوع ممارساتها بين الدول والحكومات، لا يجعلها مقبولة، أو مسوغة مجتمعيا.
العنف: فقهيا وقانونيا، هو عنصر ردع اخلاقي، أو اسلوب عقابي ازاء خطأ/ جرم، مخالفة عرفية أو قانوية. فالعرف والقانون يقر بأن العنف ليس ظاهرة طبيعية، أو سلوك أصلي. هذا يتضمن تناقضا مع فلسفة النظام الاجتماسياسي، التي تعتبر الانسان كائنا عدوانيا، ولابد من ترويضه واحاطته بالروادع
ومن غرائب الأفكار، ان المؤسسات الرسمية والقضائية، تسوغ جانبا من أعمال الجريمة، باعتبارها ظواهر طبيعية، أو حاجات انسانية، وذلك في حالات معينة، عندما تريد حماية المجرم، او اهانة الضحية. وفي واحدة من شوارع لندن، قام شاب انجليزي عابث، بضرب رجل عراقي كبير السن في بطنه، واطاح به ارضا، وعند حضور البوليس، لم يتخذ اجراء، بذريعة ان الجاني يعاني من اضطراب نفسي.
وفي النمسا قامت المحكمة باخلاء سبيل عصابة لصوص رومانية، قامت بالاعتداء على محل شخص عراقي، وسرقة محتوياته، وتدمير الأثاث، بعد تحطيم واجهته الزجاجية، وذلك بذريعة ان الجناة، ليس لهم مورد عيش، وقاموا بالفعل لتأمين معيشتهم. بينما أصرت سلطات البوليس على الضحية أن يدفع تكاليف عمل البوليس ليلا، بدعوى حماية المحل- بعد سرقته- ووضع حاجو خشبي على الواجهة.
هاته من وجوه الانسانية الحولاء للرأسمالية الغربية، في اطار يوميات بسيطة، فكيف بجرائم العدوان الخارجي، واتفاقيات العدوان والامتهان الدولي.
والمؤسف، ان تبقى هاته الظاهرة وممارساتها خارج التداول السياسي والقانوني والانساني، وبما يعكس لدى الجمهور المجاني، صورة الفردوس الرأسمالي، وفردوس حقوق الانسان المزوقة والمزيفة. وقد سبق أن تطرقت الى طرق عرض مناهج الدراسة الاولية في الغرب لحركة الافكار وتواريخ البلدان والرموز العالمية، بشكل لا يخلو من تسذيج التلاميذ، وغسيل أمخاخهم. وهو أمر مقيت، تستحق الامم المتحدة ومنظمة اليونسكو ، مزيدا من الادانة، لسكوتها عنها، بينما تراقب مناهج الدراسة العربية والاسلامية، بعيون وقحة.
في اطار العنف غير المكتوب، والممارسات العنصرية المعادية لمبادئ حقوق الانسان التي وضعها العالم الراسمالي بنفسه، لتغرير البشرية بانسانيته منقطعة الجذور والنظير. اورد مثالين آخرين لمن يعنيه الأمر..
ان بلدان الغرب، تعامل البشر وفق جدول عنصري شوفيني، مخالف لمسودة القانون التي تزعم مساواة البشر في حقوق الانسان والمواطنة، لكن تطبيق القانون العملي يخالف ذلك. ففي كل بلد أوربي ثمة تراتبية بلدانية وأثينية في تصنيف البشر، وثمة اختلاف وضعهم القانوني في كل شيء.
ويقتضي هذا تأشير التبعيات البلدانية المفضلة لكل بلد، فنجد أن اليوغسلاف والترك، مفضلين على سواهم في النمسا وألمانيا. وبعد انقلاب اردوغان على منهج اتاتورك، فقد الترك درجة الافضلية. وفي انجلتره كان الهنود يحتلون الأفضلية قبل سواهم، ولكن بعد سقوط الاشتراكية، استقدم بلير البولونيين واستقدم كامرون الرومان الى انجلتره، ومنحوهم الافضلية على غيرهم من الاجانب.
الافضلية ليست منافية للقانون والقانون الدولي، وانما جريمة يومية تنعكس اثارها في أدنى التفاصيل، ومنها طريق المعاملة في الدوائر، أو فرص العمل غير الماهر، والمشاحنات الشارعية. وقد حدث في النمسا أن تصادمت سيارتان، يقود احداهما تركي والاخرى عراقي، وبعد تسجيل الحادث وانتظار قرار التأمين، كان القرار لصالح التركي المخالف.
وفي حادث بين سائق نمساوي وسائق عراقي، تم تجريم العراقي، وتعويض النمساوي. وعندما طالب العراقي باقامة الدعوى على شركة التأمين رفض البوليس والتأمين منحه صورة من أوراق الحادث وصوره، بذريعة انها تخص البوليس والتأمين. علما ان سيارة العراقي تضررت بالكامل -دمار شامل/ توتال شادن- ، ولقصص التأمين مع الاجانب عجائب وغرائب، سيدها العنصرية والنهب وغياب القانون والعدل.
ان كل أجنبي مقيم في الغرب، هو مدان في عيون الغرب، حتى تثبت براءته. والبراءة من ابواب المحال. فالقضاء منحاز ضد المهاجر، ظالما أو مظلوما. وإذا حصل وكان محامي الأجنبي مساندا له، وله باع في مواجهة المحاكم، وحصل على قرار لصالح موكله، فأن المحكمة تروج القرار للسلطات العليا والمحلية، نسخة القرار وأجواءه، بحيث يوضع المدعى في قائمة حمراء، تجعله محاصرا ومطاردا طيلة وجوده في البلاد، وفي أدنى التفاصيل والمراجعات الحكومية، والحياة العامة. وهذا ما حصل معي شخصيا، وهي لا تختلف عن ممارسات الانتربول،.
لقد تناولت هنا مسألة العنف الحكومي وممارساته المخالفة للقانون الدولي والانسانية. والأمر الواجب ادراكه ومراقبته، ذلك البون الوحشي بين نصوص القوانين، وتطبيقاتها العملية، عندما يتعلق الأمر بأجنبي، حيث يتضمن عنفا مضاعفا.
وعلى العموم، تنظر الحكومات والمجتمعات الغربية، للأجنبي، بكون كائن متخلف وحشي غريزي غير عاقل، وأفضل ملابسات ذلك، عندما ينعلق الموضوع بالمرأة .
أو الأطفال، حيث يتم تجريم – الأب- قبل رؤيته والتعرف عليه، ويتم تحريض المرأة والاطفال وتقويلهم ما ليس في أذهانهم تحت طائلة العنف البوليس، وهي الصورة التي تتخذها ملامح وأصوات المحققين، سواء كانوا من طاقم المدرسة أو البلدية.
وهناك أعداد فظيعة ومخزية، من اطفال حرموا من ذويهم، بزعم كون ابائهم عنفاء أو غير مدركين لابجدية التربية الغربية الحضارية، فضلا عن فسخ غير قليل من العوائل المتورطة مع المدارس ومنظمات رعاية الاسرة.
لاحظ تناقض العنوان مع طبيعة الاداء والرسالة العملية.
وعودا للتراتبية العنصرية، يحتل عراقيو المهجر احط الدرجات، أما أفضل العرب المفضلون في التعامل الغربي، فهم بالتدرج: (الجزائريون والمغاربة والمصريون)، بما يمكن وصفهم بعرب أفريقيا، وفصلهم عن عرب أسيا. وبالنسبة لبريطانيا، فهي تميز بعمق بين مواطني البلدان الثائرة والمتمردة عليها في تاريخها الاستعماري السابق، وبين بلدان خانعة ومسالمة تجاه سياساتها ، ومنهم الهنود والأفارقة
نخلص مما سبق، ان العنف الحديث مصدره الدولة، والدولة الاستعمارية أساسا. أما محور العنف، فهي العلاقة غير المتكافئة بين الغرب والشرق، والنظرة الاستغلالية والفوقية للعنصر الأوربي، ضد العنصر الشرقي، المتهم بالتخلف والجهل والعدوانية الطبيعية.
هاته صورة ميدانية وجيزة للممارسات الغربية الحكومية وشبه الحكومية، لكون البلدان الغربية وحكوماتها ودساتيرها، هي النموذج – الحضاري- المعتمد من قبل العرب جميعا، حكومات ومجتمعات وأفرادا.

(3)
تفصيل العنف..
من الضرورة الاكادمية تفصيل العنف : تاريخيا وسياسيا وتبعا لمصدره. وقد سبق الاشارة لجانب منه قبل الان، وهنا، نقسم العنف لجهة اصداره: عنف محلي مجتمعي، وعنف حكومي، اقترن بظهور الدولة/ الحكم البلداني، كظاهرة غير مسبوقة في تاريخ الشرق العربي.
ان الاطار السياسي الذي عرفته (العرابيا) هو الحكم الامبراطوري الذي شهد مراحل متعددة: اكدية، بابلية، اشورية، كلدانية، مقدونية،ايرانية، رومانية، بيزنطية، عربية اسلامية، عثمانية. خلال ذلك كانت أقاليم العرابيا تأخذ صفة ولايات، خاضعة للحكم المركزي الامبراطوري. ومع انفراط الحكم العثماني، مرت الاقاليم بمراحل من الاضطراب، حتى تجد نفسها تحت الاحتلال الغربي، وسيما البريطاني منذ (1914م).
وفي هاته مراجعة نقتصر على ما يعرف بالشرق العربي، وهو يشمل شبه جزيرة العرب وحوض الخليج العربي واقليم الشام والعراق. ويلحظ ان علاقتها بالدولة العثمانية، لم تكن على نفس المستوى. والأساس فيها ان شبه الجزيرة أولا وحوض الخليج العربي، بقيت هامشية من جهة الادارة والحماية العثمانية. وفي ظروف الاضطرابات والتحديات الخارجية، كانت حمايتها تناط بولاة العراق، الذي قادوا حملات عسكرية، لتسوية الاوضاع.
ان اهمال الدولة العثمانية لمنظقة الجزيرة والخليج كان خطأ ستراتيجيا، وجريمة لا تغتفر، كلفت التاريخ العربي انحرافا وضعفا ستراتيجيا وهيكليا مستمرا، سّهل وقوع المنطقة تحت احتلال آخر. وعلى حساب الدولة العثمانية والاسلامية نفسها.
بدايات القرصنة والهيمنة الأوربية في المحيط الهندي والبحر العربي، تعود الى بدايات القرن السادس عشر، ممثلة بالقرصنة البرتغالية، والهولندية، والبريطانية، على التوالي. وكانت هولنده أول من اخترق مياه الخليج. وفي أزاء المواجهة القوية لاساطيلها، استنجدت هولنده باسماعيل الصفوي شاه ايران، واقنعته بدعمه في الصراع مع سلطنة عُمان ومسقط، للسيطرة على حوض الخليج، وكانت مكافأة الاتفاق أطلاق تسمية (خليج فارس) في المدونات الأوربية على الخليج العربي منذئذ.
كانت ايران مناوئة للدولة العثمانية، رغم انهما، تتخذان (الدين الاسلامي) عقيدة وديانة، وتتنافسان في شعارات رعاية المسلمين وحماية أرض الاسلام زورا ولأغراض سياسية رخيصة. ان اتفاق الصفوي مع هولنده، وضع ايران في خدمة الامبريالية الغربية والصليبية، وفي مواجهة العالم الاسلامي والمسلمين منذئذ حتى اليوم. وسوف تتجدد اتفاقات ايران مع السلطات البريطانية والاميركية المتعاقبة في منطقة الخليج.
في القرن الثامن عشر، شعرت حكومة الهند الشرقية بأهمية موانئ الخليج العربي، لتأمين هيمنتها الملاحية في حوض المحيط الهندي والبحر العربي وفوهة الخليج العربي. وبدأت مفاوضات وضغوط على سلاطين عُمان لأجل ذلك. وازاء المقاومة والرفض المستمر للجكم العماني وعدم ثقتهم بوعود الانجليز وشروطهم، لقيت عُمان ممارسات وحشية وعدوانية متنوعة، انتهت، بجعل (مسقط) مكتبا للقنصل البريطاني في رأس الخليج، مزودا بحامية عسكرية؛ ومن جهة اخرى، جرى تقسيم عُمان إلى أربعة اجزاء، وفي بعض الاحيان كان ثمة اكثر من (سلطان) حاكم، احدهما من اتباع الانجليز، والآخر ممن تؤيده القبائل.
وقد سعت بريطانيا لأبعد منه، عندما اقترح كروزون: نائب الملك في الهند، والوزير البريطاني المفوض في الخليج لاحقا، تحويل منطقة الخليج إلى منطقة تجارية بريطانية، على غرار مكتب التجارة البريطانية في الهند. ولكن سكان الخليج رفضوا رفضا قاطعا القرصنة البريطانية في بلادهم، وبالاعتماد على امكاناتهم البطولية الذاتية. وفي خلال كل ذلك، كانت الامبراطورية العثمانية في شغل شاغل عن حماية المنطقة، فيما كانت ايران تؤازر القرصنة الغربية على عرب الخليج، وتحلم باحكام هيمنتها على المنطقة بدعم امبريالي غربي.
ومع تعاظم سيطرة القوات البريطانية على حوض الخليج، وافقت الاستانة على توقيع اتفاق مع بريطانيا، تتنازل فيه عن منطقة الخليج/(1862م)، خلال حكمها المباشر للهند /(منذ 1850م). وفي تصور ستراتيجي لمدّ نفوذها الشامل من الهند، عبر حوض الخليج، الى وادي النيل، حيث سبق تشكيل مكتب القاهرة الذي سيكون له دور في ترتيبات الاحتلال البريطاني للشرق العربي وتشكيل أنظمته وحكوماته، في بدايات القرن العشرين.
علما ان المكتب البريطاني في القاهرة، هو النواة الأصلية لولادة ما يعرف بجامعة الدول العربية، على أيدي الانجليز أنفسهم. ومن الضرورة الفات النظر، الى صيغة التسمية القائمة بدالة: (الدول العربية)، وليس (العرب/ الشعوب العربية)، عند المقارنة بالمسميات الاوربية ( عصبة الأمم/ منظمة الأمم المتحدة). وبشكل يجعلها تجمعا لوكلاء الاهيمنة الغربية ومؤسساتها البوليسية والمخابراتية، /(سجان يمسك سجان).
حتى 1920م لم يشهد الشرق العربي دولا مستقلة وحكومات وطنية محلية، ما خلا سلطنة عُمان العريقة تاريخيا، وسلسلة امارات ومشيخات قبلية في بوادي الجزيرة وحوض الخليج. بينما كانت الدولة الخديوية في مصر قد تأسست
منذ 1805م، دون أن يكون لها موقف واضح، من الحكم العثماني والقوى الغربية، ولجأت للتواطؤ مع تلك الاطراف، لكسب دعمها على حساب المسلمين ومصالح المنطقة. وفي الخلاصة لم تسجل موقفا تاريخيا، لحماية المنطقة من الأطماع الأجنبية.
فالدول المسلمة ذات النفوذ قبل القرن العشرين، وقفت الى جانب القرصنة الصليبية ضدّ بلاد المسلمن ومصالحهم، حتى في شبه الجزيرة التي تضم قبلة المسلمين والحجاز.
الدولة، بمعناها السياسي المعاصر، لم تكن عربية ولا مسلمة، وانما ظهرت تبعا للاحتلال البريطاني للعراق/(1914م)، ومنطقة فلسطين والاردن/(1916م)، بينما يعود الاحتلال البريطاني لمصر إلى (1861م)، والذي شكل قاعدة انطلاقها للشرق العربي.
من هذا المنظور، لابد ان نميز بين مظاهر العنف المحلي العربي، القبلي والعشائري، النابع من منافسات وخلافات سطحية، ولا تتعدى محيطها الضيق؛ وبين مظاهر العنف اللاحقة لظهور الدولة العصرية، حيث يتطور العنف، ليتحول الى عنف منظم ومقنن، يستخدم أجهزة حكومية مدربة ومسلحة، مما يعدمه العنف المجتمعي والقبلي.
ورغم النظرة السلبية للعرب المتعلمين إلى مجتمعاتهم وتقاليدها التراثية وعاداتها الاجتماعية، فليس من العلمية والانصاف، خلط الأوراق عشوائيا، لتبرير ممارسات العنف الحكومي، لسلطات الاحتلال الغربية، أو الحكومات المحلية الملحقة بها.
ولم تتوافر دراسة أو محاولة علمية لفصل النظر، في جملة الثوابت والقواعد الاساسية، للعلوم الاجتماعية والسياسية، بدون تأثرها بوجهات نظر وتخريجات استعمارية واستشراقية، مما ساهم في تشويه صورة العرب من جهة، وزاد من معدل الانحراف في فهم العربي لحياته ومجتمعه وتاريخه ومستقبله.
وفي العموم، ما زالت تسود نظرة غير دقيقة، تنسب العنف لأصول محلية وتراثية، وذلك بالتناغم مع المنظور الغربي النفسجتماعي، باعتباره الانسان كائنا عدوانيا/ شريرا، من جهة، ونسبة الشر والعدوانية للشرق، على أسس جينية/(بوليتزر)، أو على اسس التخلف/(سكينر).

(4)
مفهوم الاستعمار.. أو معنى التخلف..
(استعمار): لفظ مشتق من الفعل (عمّر/ إعمار)، ودخول المقطع الثلاثي (ا س ت) يفيد الرجاء والطلب، كالقول: (استحلف، أستعدّ). وتعبير (استعمار) لا يتضمن فعل (غزو) أو (عنف)، بقدر ما يشير إلى (اصلاح) و (تهيئة الشيء وتحسينه).
وفي العراق الملكي تم استحداث ما عرف بـ(مجلس الأعمار)، وفي عهده الجمهوري ظهر تعبير (اصلاح زراعي) نقلا عن مصر الناصرية، وشاع تعبير (استصلاح الأراضي البور)/ مثلا. وكان يجوز القول (استعمار الأراضي)، بتجريدها من الصبغة السياسية المقترنة بها.
لكن المفارقة اللغزية واللغوية هنا، تتمثل باقتران لفظة (استعمار) بفعل (إسكان/ توطّن/ استيطان)، وهو أمر غير لازم ولا وارد في أصل الفعل. ولذا يبدو من الغريب، اقحام هكذا تعبير من قبل (مترجمين) تلك المرحلة، في محاولة تطبيع/ تعريب لفظة (كولونيالزم) الانجليزية ذات الاصول اللاتينية.
يشير الاصل اللاتيني والاغريقي للمفردة، إلى المراكز التجارية التي أنشأتها أثينا خارج حدودها السياسية، لتأمين نشاطها التجاري في حوض المتوسط، وكانت تلحق بها حاميات عسكرية لحماية التجار والبضائع. ومع الوقت، تطورت تلك المراكز/ (كولونات) بتوطين جماعات موالية للمركز، وتتداول ثقافتها ولغتها، وتتبع نفس طرز النظام والعادات. وما زال حوض بحر ايجة وشرق المتوسط، حافلا بمدن وموانئ وآثار النفوذ الاغريقي القديم. وقد انتقل المورث الاغريقي الى روما وبيزنطه، وصولا لأوربا الحديثة، وبرامج نفوذها الخارجي عبر البحار.
استحياء هذا الاصطلاح القديم، وتوصيفه العمراني: (استعمار)، مخالف لحقيقة جوهره وأبعاده السياسية، التي صارت ظاهرة قهرية سائدة، وكأنها جزء من نظام الطبيعة، غير قابلة للرفض أو النقض أو التغيير. ظاهرة اقترنت بالقوة والخداع، لتجعل القوي قويا دائما، والضعيف ضعيفا دائما.
ومن مراوغات اللغة والخنوع ، تحوير هذه الظاهرة العنصرية، بما يتردد في أوساط اليسار الغربي، بعبارة: (الاغنياء يزدادون غنى، والفقراء يزدادون فقرا). دون تلميح لجوهر الحركة الكولونيالية الامبريالية وراء ذلك، والمقترنة بالوجود الأوربي السياسي منذ عهد الاغريق والرومان، حتى الآن. وكأن الغرب، لا يستطيع الوجود والاستمرار فيه، إلا على حساب جثامين ودماء الآخرين.
ومن أعراض تقليد الغرب واتباعه، شيوع ثقافة التطبيع مع السياسات والمنتجات الغربية، بله، الدفاع عنها وتبريرها، وكأن السياسات والدعايات والاساطيل الامبريالية، عاجزة، أو ناقصة الحيلة، في تسويق نفسها وفرضها على ثلث سكان الأرض.
ومن يراجع أدبيات الأحزاب والانظمة الوطنية والتحررية في القرن العشرين، يجدها تسوغ ترديد عبارة (الاستعمار والرجعية)، وهي تعني محاربتها. فكيف تحاربها وهي تمتدحها؟.. وكيف تتصدر الثورة وهي تدين نفسها، وتؤكد تبعيتها الثقافية للغة المحتل وبرامجه؟..
فلا غرو، ان لا تنجح اية حركة سياسية عربية، في تحقيق الاستقلال والسيادة والحرية الحقيقية لبلدها وشعبها؛ ولتسقط ثمة، سقوطا ارتوازيا في حفرة الامبريالية في القرن الواحد والعشرين.
من هنا هذا البون الشاسع بين الشرق والغرب، بين الحقيقة والافتعال. الغرب الذي انطلق من العقل والمنطق، وصنع الهته وطقوس دينه بيده، في صور الميثولوجيا ودراما الالهة الاغريقية والرومانية، لا يمكن أن يتساوى مع الشرق الذي يحتقر العقل ويعطله بناصية الدين.
وما يزال الشرق خاضعا وخانعا لجريرة الغيب والديانات الغيبية، ومضامينها الاقطاعية وتراتبيتها العبودية، سواء في هندوسية الهند ومداراتها المغلقة، أو دوامة شرق المتوسط الدينية الغيبية، والمسماة بالسماوية، دون توفرها على تعريف عقلي علمي لمفهوم السماء كمكان أو روح.
وقد لاحظ ابناء الشرق، وأحفادهم سمعوا، باقتران الغزو الغربي للشرق، بامتهان معابده ورموزه الدينية قبل أي شيء آخر، وذلك في تحد صارخ، لكسر كرامة الشرقي، وكأن لسان الاحتلال يقول، ما كان يقال في قصص التوراة: دع الهتك تحميك!.
وعند دخول الانجليز الى العراق، استخدموا حياض المساجد والاماكن الدينية، مرابط لخيلهم، ومعسكرات لقواتهم، دون أن يسخن دم اتباع تلك الاماكن. من هنا التقى زيف الدين والهامشية الثقافية مع الطفيلية الاجتماعية والاقتصادية، سبيلا للاستمرار في الوجود المنحني.
يعترف بعض اليهود، بأن ما يلاقونه من شتات وألام، هي بسبب عدم اتباعهم لجوهر ديانتهم، فسلط الله عليهم من يعيدهم إلى صوابهم، أو يتسلط عليهم، ويجردهم من الاستقلال والسيادة/(سفر ارمياء). ولكن، في كل تاريخ العرب، بعهديهم النصراني والاسلامي، لم تظهر فكرة العقاب الالهي، التي تلاحقهم، وتجردهم من السيادة والحرية، جراء نفاقهم وبعدهم عن جوهر العقيدة والدين.
لماذا استخدم القياس الديني في الشرق، وقد اعتبرته سبب انحطاط الشرق؟..
لأنه.. ما من دين شرقي، والاسلام تحديدا، يوصي المؤمن بالانحناء للكافر والغازي، ومضاهئته!.
لأنه ما من دين شرقي، والاسلام تحديدا، طلب من الفرد تعطيل عقله ومصادرة حريته وكيانه، ويتصرف تابعا قطيعيا، بلا رأي أو فكر، ويكون تبريره، فلان فعل وأنا اتبعته، الشيخ قال وأنا اطعته. الناس يلطمون وأنا ألطم معهم.
والقرآن، الذي هو الاصل والمصدر الوحيد للاسلام، يؤكد على يوم الحساب والآخرة، أولا، كما يؤكد على مسؤولية الفرد الكاملة عن نفسه، حتى أن الشيطان الذي يقوده للكفر، يتبرأ منه: [وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم؛ فلما تراءت الفئتان، نكص على عقبيه، وقال: اني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب/ الانفال 8: 48].
ومع ذلك، فأن الغالبية العظمى من المسلمين، بله اتباع الديانات الأخرى، منقسمين الى قطعان مذهبية وطائفية، ومنقسمين ضد أنفسهم وضد بلادهم، وراء هذا الشيخ، وامام ذاك المسجد، (عميانا تتبع عميانا/ الانجيل)..
ولا غرو، ان تكون المجتمعات الدينية، في مقدمة فرائس الاحتلال والتبعية الغربية، وتكون مجتمعاتها وأنظمتها في مقدمة طوابير الغرب؛ وقلما يدرك أبناؤهم بعمق تناقض الفكر الديني مع تطبيقه، وعمق نفاق الاباء ووصاياهم مع واقع الاداء المعمول به، منذ بواكير القرن الماضي.
ان مراجعة تاريخ الشرق في بواكير القرصنة الغربية، واحتلالها لبلدان الشرق، يفضح جملة افاته وتناقضاته ونفاقه. وليس بين اولئك من لم ينهج للانشقاق والتشظي أو التخلي، وبشكل يضعف المواجهة والمقاومة، ويحيل الحراك المجتمعي، من الاتحاد في وجه الأجنبي، إلى معارك داخلية طائفية/ حزبية، مشيخية، تمنح الغازي كل القوة والمجال، لفرض برامجه.
وما حصل في لبنان والعراق، وليبيا وسوريا، دار ويدور في نفس الدوامة، والأهم فيها هو غياب الرشد والمصلحة الوطنية.
فهل من العقل، استمراء وتسويغ مفردات (استعمار)، وترويج منتجاته وافاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، باعتبارها مفاتيح للحضارة والتطور. إذن، لماذا لم تتطور مجتمعاتنا، وتتحرر من عبودياتها الاقطاعية، الدينية والحزبية؟.. لماذا زادت معدلات الانحطاط، والفوضى والاضطراب؟..
كل شيء يبدأ بالعقل.
كل فعل، وكل فكر، وكل حراك يبدأ من العقل.. التطور والتحرر يبدأ بالعقل، ولا يكون إلا به. والغزو والاحتلال يبدأ بالعقل، ولا يستمر إلا به. ولكل فرد ان يمتحن نفسه وعقله، ليعرف قدر استقلاليته وحريته، أم تبعيته..

(5)
مفهوم الامبريالية.. تعريف التبعية..
إذا كانت فكرة الهيمنة والاحتلال الغربي، قد دخلت موضع التطبيق، وأسفرت عن وجهها من غير قناع، خلال جرائم الحروب الأوربية [1914- 1918م] ضد بعضها من جهة، وضد الانسانية من جهة ثانية؛ فأن فريق (الثعالب) في تلك الحروب، تحمّلوا القسط الأعظم من مبادئ التنظير الثقافي الامبريالي، التي رافقت ظهورهم التنويري في بلاد العرب، ولم تتأثر بالممارسات الاستغلالية والاحتكارية والوحشية العسكرية المباشرة ضد الأهلين.
وفضلا عن ايجاد طابور من المتعلمين وأشباههم، لترويج الدعايات البريطانية في المنطقة، فأن الساسة عموما، حكومة ومعارضة، مؤيدين ومناوئين للانجليز، ممن استنكروا الممارسات العدوانية والسياسات الاحتكارية في العراق، وقعوا ضحية الفصل، بين الجانب السياسي والعسكري للاحتلال والهيمنة، وبين الجانب الثقافي والفكري، الذي دخل جانب التطبيع والتعريب والتعريق، وشكل بيانات أساسية في الثقافة العراقية والعربية والدينية، والسارية حتى اليوم، غب قرن من الزمن.
الغزو الفكري أخطر من الغزو العسكري، لأن الغزو العسكري والسياسي يزول، والغزو الفكري يتأصل ويذوب في لاوعي الناس. وكما أن عرب اليوم، عاجزون، عن الفصل بين تراكمات الدين والتدين الشعبي، وجوهر الدين/ الأديان الأصلي، فليس بمقدرتهم اليوم ولا غدا، تحرير أذهانهم ونفوسهم، من آثار الاحتلالات المتعاقبة، لبلادهم.
أما الأكثر خطورة، ازاء هذا العجز ، ان تعمل نفوس الناس على تطبيع الاحتلال واثاره، واعتبارها جزء من مسيرة التاريخ وتطور بلدانهم، كما هو الحال مع الاملاءات البويهية في العراق/(دون غيره!)، وتغلغلها في لاوعي الناس، لتأخذ صورة المقدس والمكرّس. وبشكل قاد لمسخ الصيرورة والهوية العراقية، منذ بوادر تأسيس العراق الحديث، وصولا إلى عواقبها الدرامية والتراجيدية/(1976م).
تلك التي صارت حاضنة خصبة، فقست منها أشكال الدين والتدين السياسي. وكان ما كان من آثارها، ومنها الغزو الانجلوميركي الايراني المباشر للعراق/(محرم 2003م)، ومظاهر الفوضى الهمجية التي تستغرق/ تستنقع العراق، وتستغلق احتمالات خلاصه.
أما المثال الآخر، فقد تمثل في إعادة اكتشاف/ انجذاب العراقيين، للتبعية البريطانية، مع ضراوة الاحتلال الأميركي للعراق. ويمكن قراءة التبعية والنوستالجيا العراقية لأيام (أبي ناجي) على مستويين: شعبي وحكومي.
فعلي الصعيد الشعبي استعادت الذاكرة، أيام زمان، واجرت مقارنات مجانية، بين السياسة البريطانية في العراق، بواكير القرن العشرين، وطبيعة الممارسات والسياسات الأميركية في بواكير القرن الواحد والعشرين، دون ادراك التعاشق والصلة بينهما.
وقد ترتب على موقف الانحياز والحنين، للمحتل القديم، أن تكتسب لندن أهمية متزايدة ، وتتحول إلى قبلة للهجرة والاقامة الدائمة من جهة، وتتحول مدارسها وجامعاتها وثقافتها، إلى صورة تعويضية لمستقبل العراق، الى جانب اجتذاب متزايد لأكثر من نصف السيولة المالية العراقية، لخدمة الاقتصاد البريطاني.
ويساعد الوقوف، على حجم الاستثمارات العراقية في انجلتره، وحجم العقارات المشتراة من قبل عراقيين في المملكة المتحدة، كشف أنماط السلوك العراقي، في مواجهة الاحتلال الأميركي من جهة، وغياب خيمة الدولة والهوية الوطنية، غب الاحتلال.
أما الاتجاه الآخر، في تسلكات العراقيين، بعد الاستقطاب الانجليزي، فهو (اسطنبول)، وتوافد أعداد كبيرة من العراقيين نحوها للعمل أو الاقامة. وثمة، نشاط متزايد في حركة شراء العقارات السكنية في تركيا، وذلك منذ (2013م)، أو عقب الاعلان الرسمي لانسحاب بعض الجيش الأميركي من العراق، وظهور نشاطات (داعش).
ان أحد أسباب فشل الغزو الأميركي للعراق، ليس اعمال المقاومة المتشرذمة، ولا الصمود العراقي، أو غيره مما يروجه الآعلام المجاني. انما السبب في رسوخ التبعية العراقية للثقافة الانجليزية، مما جعل الأميركي، يشعر بالاغتراب والهزيمة النفسية في المجتمع العراقي.
ويمكن تلمس ذلك في جانبين: أولهما السلوك العنفي للادارة والجيش الأميركي ضد العراقيين، على كل صعيد. والعنف كسلوك نفسجتماعي هو تعبير عن الهزيمة والعجز عن التواصل مع المقابل. عندما يعجز اثنان عن التحاور والتفاهم، يتطور الموقف، أن يمسك أحدهما بتلابيب الثاني، ليجبره على التواصل معه أو تبادل النظر معه.
الأمر الآخر في هذا السياق، مبادرة بعض الأميركان للقيام بمحاولات التقرب من الاهلين، وتوزيع هدايا على الاطفال أو المدارس، أو زيارة ضحايا العنف والاغتيالات. وتجد في مكتبة الانترنت، مشاهد يلعب فيها جنود أميركا مع صبية عراقيين، كما لو كان مرحّبا بهم.
واقع الحال أنهم كانوا مرفوضين عموما، وجرائم مداهمة العوائل وتقتيلها بالجملة، مع الاطفال والنساء، وممارسات اغتصاب الفتيات وقتلهن/(حادثة سامراء المشهورة)، تعبير عن شعورهم بالرفض والقطيعة من قبل مجتمع الضحية.
منذ (1945م) وتطبيق فكرة اقتسام العالم، عملت الولايات المتحدة الأميركية، على السيطرة على مواريث انجلتره وفرنسا واسبانيا/(أوربا الغربية) ، بالتعويل على انقلابات الضباط وإقامة جمهوريات عالمثالثية، تتظاهر بالوطنية والتقدمية أولا، وتأتمر لواشنطن تحت الطاولة.
لكننا نجد اليوم، ان بلدان المغرب العربي، لم تنزع ثقافتها الفرنسية، ولا الشرق العربي نزع ثقافته الانجليزية، وهذا يشكل مصدر قلق وجودي للولايات المتحدة، العاجزة عسكريا وسياسيا وتنظيريا، عن التخلص من آثار مرحلة تاريخية، يفترض انها انتهت. لكن الواقع العالمي، ما ينفك يلتصق بها.
اشكالية واشنطن، التي نشأت وتأسست منذ البدء في عزلة مقيتة عن العالم، ما زالت عاجزة حتى اليوم عن التواصل والاتصال الطبيعي/ الدبلوماسي مع أوربا والعالم. وفي ألمانيا، كانت السخرية من الاميركان، تنتقد خيلاء الامريكي عند المسير أو الجلوس فاتحا ساقيه بشكل مبالغ فيه، وهو يرفع احداهما على الآخرى، أو يضعها على الطاولة في وجه محدثه، بينما ينحرف بجذعه لينظر يمينا ولا ينظر لمحدثه إلا بجانب عينه.
ولا ننسى علو صوته وابتلاعه اواخر الكلمات، وقهقهاته الفظة، بغير مناسبة. انه شخصية انعزالية، غير مرموقة اجتماعيا، عاجز عن التواصل أو التنازل أو الاحترام. ويشكل السباب والسخرية والعنف اللفظي جزء من تكوينه الانعزالي. ولعل دونالد ترامب وسابقه بوش الصغير أبرز الأمثلة الكاريكاتورية للشخصية الاميركية.
وعندما يركز ترامب على لغة المال وتفوقه الشخصي في مجاله، فهو يعبر عن خوائه الثقافي والنفسي والاجتماعي، وهو الاخر فخور عنجهي مختال أكثر من اللزوم، وينسى/ يتناسى ان الدولار الاميركي الدموي، مسنود بالين الياباني والمستندات السعودية واحتكار مجال الصيرفة والتبادل الدولي، بغير وجه حق.
وليس ثمة، اسهل من سقوط الولايات المتحدة، إذا تمردت اليابان أو السعودية أو الصين، وسحب دعمها المالي، أو استجرأ العالم الثالث - بغتة- وقرر الانفصال عن عصبة الدولار، واعتماد وسيلة بديلة غير الصرف الأميركي.
الولايات المتحدة الاميركية ، مسخ انجليزي بريطاني زرعته في وسط اميركا الشمالية، كما وضعت كندا، من الشمال، ووضعت استراليا ونيوزيلنده في جنوب شرقي العالم، ووضعت اسرائيل للسيطرة على نقليات السويس. والاستقلال الاميركي عن بريطانيا/(1776م)، بقي مرتبطا بمشيمة الأم في اللغة والثقافة والدين.
وقد حاولت الولايات المتحدة الاميركية، ان تمنح نفسها صفة غير تقليدية، مخالفة للميراث الاوربي الحداثي، وتحدثت أكثر من غيرها عن عالم مثالي، نظام سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، تتوفر فيه المجتمعات والبلدان على تجانس حضاري ومعيشي، تحت رعاية الاخ الأكبر، وفي صندوق أسرارها وعجائبها، ذخيرة من الخرافات والمزاعم والنبوات الدينية والسكاتولوجية، التي لا تتورع عن تدمير الطبيعة والراهن العالمي، لتأكيد رؤيتها المستقبلية المريضة.
لم تتخذ الولايات المتحدة الاميركية صفة [استعمار، كولونيالية]، وانما تجاوزتها لصفة الامبريالية/ الامبراطورية، مقارنة نفسها بالامبراطورية الرومانية التي احتوت القارة الاوربية وقلب العالم، واستمرت خمسة عشر قرنا.
وإذا كان مثال الاسكندر المقدوني، هو حلم كل قياصرة واباطرة روما وبيزنطه، في بناء امبراطورية عالمية موحدة/ (اله واحد، امبراطور واحد، عالم واحد)، فأن هذا هو الحلم الاميركي، المنبعث من عمق عزلتها، وبحثها عن رسالة عالمية، اوكل أمرها بالامة الاميركية/ الامبريالية.
الامبريالية: تصريف من لقب (امبيرر/ امبراطور)، و (امباير/ امبراطورية) من اصول لاتينية رومانية. وتقابل لفظة (امبراطور) صفة [ملك الملوك/ شاهنشاه]، والمعتقد أنها تطورت من اللفظ الاكدي (ملك الجهات الأربعة) التي وصف سرجون بها نفسه. وسرجون الاكدي [2270- 2215 ق. م.] هو مؤسس أول امبراطورية في التاريخ.
بنى سرجون مدينة (أكد) قريبا من موضع بغداد العباسية، وجعلها عاصمة لحكمه. وعندما اراد الاسكندر المقدوني [356- 323 ق. م.] توحيد العالم تحت سيطرته، اختار (بابل)، مركزا لامبراطوريته. وبابل: هي العاصمة الامبراطورية التالية بعد (أكد) في عهد مؤسسها حمورابي [1792- 1750 ق. م.].
وعندما وجد الاميركان فرصة اعلان امبراطوريتهم العالمية، تخذوا (بغداد) منطلقا لمشروعهم السياسي. أما زمن بدئهم التخطيط لذلك، فلا بد أنه يسبق (2003م) بكثير، إذا راجعنا، ماهية ومبررات الحصار الأميركي الدولي ضد العراق [1990- 2003م]، ولم تكن (الكويت) غير ذريعة له، لا غير.
لندن أول من استخدم لفظة (امبراطور) لوصف فكتوريا [1819/ 1837- 1901م] بعد استيلائها على الهند وتمددها من استراليا الى حوض الخليج العربي، فضلا عن الجزر البريطانية، وممتلكاتها الأخرى المعادلة لخمس مساحة الارض والسكان.
تتشكل الامبراطورية من دولة مركزية سيادية، هي مقر الامبراطور وطاقم حكمه، الى جانب دول وممالك عدة، تابعة للامبراطور، عن طريق الاحتلال والسيطرة، أو التبعية الطوعية، لضرورات اقتصادية وأمنية.
وليس هنا مجال التفصيل حول الحكومة العالمية التي رسمت الولايات المتحدة الاميركية ملامحها، بدء من عنايتها بنشاء منظمات أممية دولية/ (عصبة الأمم/(1918م)، منظمة الامم المتحدة/(1945م)، صندوق النقد والبنك الدوليين/(1944م)، حلف الناتو/(1949م))، وغيرها من الاحلاف والمنظمات والاتفاقات الدولية، الخاضعة لزعامتها الدكتاتورية المتفردة.
قد يكون الوقت مبكرا، لاصدار حكم على مستقبل الحلم الاميركي الامبريالي لسيادة الكرة الأرضية. لكن تجربته العراقية، قد فشلت بكل تأكيد. وكان باراك اوباما اتبع سياسة التركيز على الداخل، والانسحاب من النزاعات الدولية، وهو ما يتبعه خلفه ترامب، في تأكيده على اصلاحات اقتصادية وأمنية وصحية، تهدد بانفجار كارثي للأوضاع.
بينما تستمر المخابرات الأميركية في توتير، علاقات وأزمات العالم الاسلامي والعربي فيما بينها، لما يشار له بعنوان (حرب بادارة عواقبها، وكسب غنائمها، والبدء لبناء نظامها العالمي.
وفيما يخص مصير البلدان والانظمة الأخرى، فثمة ارشيف من الوثائق والدراسات والاتفاقات والبرامج التي فصلت القول فيها، ومنها مشروع صامويل هنتنغتون [1927- 2008م] المعروف، والهادف الى تصفية وتشذيب الهويات والثقافات العالمية، وبشكل يوائمها مع الخطاب القومي الأميركي.

(6)
داود باشا مؤسس الدولة العراقية..
النقلة السياسية في تاريخ العراق الحديث، كان تحوله من مرحلة الولايات الثلاثة، إلى اطار سياسي اقليمي واحد، له قيادة مركزية وحكومة موحدة تعنى به مجتمعا ودولة. وكانت دالة هذا التحول على يد الوالي داود باشا [1797- 1851م]، والي بغداد والموصل والبصرة في آن واحد [1816- 1831م].
ولا يبدو هذا التحول السياسي الدقيق، منفصلا عن بادرة محمد علي باشا [1769- 1849م]، في تأسيس الدولة المصرية الحديثة [1805 -1952م] ، وذلك لمواجهة مرحلة جديدة من تكالب الأطماع الخارجية، حول العالم العثماني، من كل اطرافه وحدوده.
وهو ما دفع لنقلة سياسية عربية عامة، تمثلت بنشأة سلسلة كيانات سياسية ومرجعيات حاكمة، على أسس بلدانية وطنية (مصر، عراق، لبنان)، أو أسس قبلية ومشيخية [مشيخات القواسم، امارة الدرعية، امارة ال الصباح في الكويت] وغيرها.
وعندما قامت حملة ابراهيم باشا [1789- 1848م] للسيطرة على الحجاز ونجد، قامت قوات داود باشا بالسيطرة على شرق نجد ومنطقة الاحساء، لتحديد حركة ابراهيم باشا، ودفعه للتراجع، بدل التقدم. وقد قام مدحت باشا بحملة عسكرية في عهده للدفاع عن منطقة الجزيرة والخليج، في وجه الاعتداءات الخارجية، فضلا عن حملات محدودة لولاة البصرة في نفس الاتجاه.
فلم يكن المجال السياسي والعسكري العراقي محصورا أو محددا كما هو اليوم، ونفس الامر ينطبق على المجال السياسي والعسكري السعودي والخليجي المنفتح، ضمن فضاء اقليمي متجانس وموحد مع امتدادات البوادي والنفوذ النجدية والخليجية نحو العراق.
وهو ما ينبغي استعادته وتفعيله في اطار الشرق العربي، ووضع حد حاسم، للتخرصات الايرانية في بلاد العرب، أو الوضع المزري لعهد ما بعد (2003م) وربط العراق التاريخي العريق بعجلة السياسة والاقتصاد الفارسي، واطلاق الحدود لموجات توطين ايرانية في الاراضي العراقية، برعاية وحماية مليشيات مسلحة، مما يشكل ممارسة لا أخلاقية لمزيد من تهرية النسيج المجتمعي العراقي، والممزق اصلا، جراء ممارسة نفس الفعل، عبر التاريخ، كلما ضعفت القيادة المركزية في بغداد.
وليفكر الجناة، قبل تهيئة أموالهم السحت وجوازاتهم المزورة للهروب، في مصير أطنان البشر والطابور الايراني في العراق. العراق الذي ما كان ولا يكون ساذجا، لتمرير ألعاب صبينة فارسية، على حساب وجوده ومستقبله. وليرحم الله من يعرف حدوده السياسية والشخصية، بدل عقيرة الشكوى والاتهام.
بدأ داود باشا حياته الأولية بالدرس الديني، وحصل على درجة (العالمية) في أصول اللغة والمنطق وعلوم الدين، تقرب من بلاط الوالي سليمان باشا [1724/ 1780- 1802م]، الذي زوّجه ابنته، وكلّفه بمهمات عديدة، أهّلته لتنكب مناصب قيادة في الادارة والجيش ومعالجة الازمات.
فالصفة الثانية لشخصية داود باشا، هيكونه قائدا عسكريا ناجحا، نجح للتصدي لكل الأزمات الخارجية المحيطة بالعراق، أمس كما اليوم، وتأمين استقرار البلاد داخليا وخارجيا، بل: خارجيا وداخليا. فلا استقرار داخلي مجتمعي وسياسي، بغير استقرار عسكري وسياسي خارجي، ومن غير وجود قيادة سياسية حكيمة، وزعامة عسكرية تاريخية ذات رهبة وتوقير داخلي وخارجي.
وهاته هي مؤهلات داود باشا وصفاته التي بناها بنفسه، وجعل منها قاعدة لزعامته وبناء الدولة الوطنية المستقلة/ الأولى في العراق المعاصر. ان اعتماد شخصية داود باشا، كان على ذاته وقدراته الشخصية، على ذكائه وحكمته، وعلى نزاهته وخصائصه النفسية العفيفة، والسامية عن التفاهات والترهات الدنيوية والشخصية الفاسدة، من طمع ولؤم وانتفاخ وغرور وألقاب خاوية.
لم يعتمد داود باشا على عتلة الدين، والتباهي بها لترفعه على سواه. لم يؤسس حزبا سياسيا أو عصبة مذهبية أو مأفيا مسلحة، يخترق بواسطتها نفوس الدهماء، ويجند الغوغاء لمآربه الخاصة، مستخدما شعارات سياسية أو دينية فضفاضة.
فالادعاءات الدينية اليوم، ليست غير موضة تجارية بخسة، لا تختلف في جوهرها عن شعارات القومية والماركسية في اربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، ولن تختلف عن اي موضة جديدة، يصدرها الغرب للمنطقة، وتتلقفها اللاهثون.
مع فارق جوهري أصيل، هو عنصر الصدق والاصالة والايمان الفعلي، فكلما تقدم الزمن، تبخرت هاته العناصر الثلاثة، وصار الساسة المستجدون، ليس غير ممثلين مشوهين، وأدعياء مفضوحين، وسماسرة ينقصهم الرأي والسيادة،وقبل كل شيء، النزاهة والوطنية.
لماذا لم يتوسل داود باشا، الطامعين والمغرضين من قوى اقليمية أو غربية، لدعمه في تسلق الحكم، وتحويل البلاد إلى مزاد وخان للسمسرة واجراء صفقات مشبوهة، تصادر حقوق وكرامة والبلاد والعباد، وتؤمن حكما شائنا أبديا له.
لكن داود باشا، لم يكن طامعا في السلطة، ولا في حاجتها، وليس بينه وبين عجلة الحكم وترهات العالم غير الضرورة/ الضرورة الحتمية للتاريخ، والتي في اللحظة المناسبة، تقدم وترفع شخصياتها التاريخية، في المكان والزمان المناسبين، لاحلال الصيرورة المنطقية، والباقي على ذمة الجماهير.
داود باشا لم يسقط أو ينته، ولم يتعرض لنكسة أو هزيمة، وانما الجماهير هي التي خانته. الجماهير التي كاتبته واستدعته. الجماهير لم تخن داود باشا، وانما خانت واقعها ومستقبلها، خانت ضمائرها ومبادئها الأصيلة، لتشبع من الفوضى، وأبواب التردي والاناركية، الخارجة على كل مسلمات العقل السّوي.
لم يظهر داود باشا، من الفراغ أو الغيب، أو بسحبة يانصيب، وانما عرف بسيرته المقبولة ومنجزاته الادارية والعسكرية، التي اكسبته تقدير الوالي سليمان باشا. والمرجح أنه أطلق عليه اسم (داود)؛ كما أكسبته احترام وثناء الباب العالي.
قام داود باشا بتصفية النعرات والتناحرات القبلية والعشائرية على حدود العراق وأطراف حواضره، كما تصدى للاستفزازات الايرانية من جهة الشرق، واتخذ اجراءات ادارية حاسمة، لتنظيم الزيارات الدينية الى كربلاء والنجف، ومنع استخدامها لأغراض أخرى.
وفي الجانب الاداري، قام باصلاح الموارد المائية ومنظمات السدود، والتطوير العمراني للمدن والقصبات. وقبل عهد مدحت باشا بأربعة عقود، أصدر داود باشا أول جريدة عراقية بلغتين عربية وتركية، حملت اسم العراق/(جورنال العراق)؛ واستقدم أول مطبعة عام (1830م).
لكن فوضى العام (1831م) وحركات التمرد المرافقة لانتشار وباء الكوليرا، منعت وصول المطبعة الى بغداد. ان الأولى بالعراق ونقابة الصحفيين والمؤسسات الثقافية اعتبار صدور (جورنال العراق)/(1930م) في عهد داود باشا، عيدا للصحافة العراقية، وليس جوريدة الزوراء/(1869) في عهد مدحت باشا.
وفي نفس العام، أصدر الباب العالي اوامره، بتعيين وال جديد في العراق/(علي رضا باشا/ والي حلب سابقا)، وهكذا جرى هدر اصلاحات ومنجزات ما ينيف على عقدين، مما لا يمكن أن يتكرر ، ويستمر. كما استمرت الدولة المصرية زهاء قرن ونصف، واتصلت اصلاحاتها ومنجزاتها، ووجدت اعتبارها وتقديرها في عيون وحياة المصريين حتى اليوم.
فيما يتحدر سكان العراق من فوضى إلى تمرد إلى عصيان إلى نكران منجزات حكامه ومصلحيه التاريخيين، ليأنس لبرامج الفوازير وتدمير قواعد البناء والاستقرار.
اصلاحات داود باشا ومنجزاته العراقية..
- برامج تحديث العراق دولة ومجتمعا.
- اصلاحات عمرانية لتحديث المدن والحواضر وربطها بشبكة طرق حديثة ووسائل اتصال الاطراف بالمراكز.
- اصلاحات مائية تتعلق بمجاري المياه وصيانة شبكة المنظمات والسدود وقواعد توزيع المياه.
- الفصل بين الامور المدنية والعسكرية، وفصل ادارات المدن والحواضر، وادارات البوادي وتوطين الرحل.
- اصلاحات عسكرية وبناء أول جيش وطني عراقي مستقل عن القوات العثمانية، واستقدام خبراء عسكريين من أوربا لتدريب الجيش العراقي تدريبا حديثا.
- وضع اسس وقواعد الصناعة والتصنيع العسكري العراقي، لانتاج سلاح وعتاد محلي.
- تشريع أول قانون للخدمة العسكرية الالزامية في العراق.
- اصدار اول جريدة عراقية/(جورنال العراق) والتهيئة لبوار نهضة أدبية ثقافية حضارية في العراق.
والمؤسف، ان قليلا من المثقفين ومؤرخي الثقافة العراقية، يلمون الماما صحيحا بثقافة العراق ومثقفيه في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، المؤسسة للثقافة العراقية المعاصرة، التي تسبق الجواهري والسياب بكثير. فالتجاهل والتهميش والنسيان والنعرة الطائفية والحزبية، لا يصنع ثقافة حقيقية، ولا تفتح طريقا لمستقبل حضاري.
ولنسأل اليوم.. لماذا كان داود باشا الكرجي، أكثر عراقية ، وأكثر وطنية، من كثيرين، من ادعياء الوطنية الخاوية والعراقية الكاذبة. وفلأول مرة، ينتشر تسعة ملايين عراقي خارج بلدهم وأهلهم وبيوتهم، بينما سلمت الامبريالية الأنجلميركية مقاليد العراق، بيد أغراب وخونة. وفي خطوة مفضوحة، لمسح العراق من خريطة المواجهة والمقاومة ضد (اسرائيل) الزائلة اجلا او عاجلا، هي وكل طاقمها المسرحي الهزيل.
(نفيت واستوطن الغراب في بلدي.. وجمّروا كلّ أشيائي الحبيبات) - اغنية لكاظم الساهر- شعر كريم العراقي

(7)
التأسيس العثماني للكيان السياسي العراقي..
امتدّ نفوذ الدولة العربسلامية شرقا، حتى التقائه بقبائل المغول في أواسط أسيا، وعلى حدود الصين، ليتوقف التوسع العسكري والسياسي، وتعود الدولة العباسية [750- 1258م]، للاهتمام بتثبيت حكمها في الداخل، وتنشغل بمعالجة الاضطرابات هنا وهناك.
ومع اتساع النفوذ العباسي، وتراجع شوكة المركز، لعبت القبائل المغولية المسلمة، دورا تاريخيا حاسما، في ديمومة الاسلام وازدهاره من جهة، واستمرار الهيبة الأسمية للخلافة العباسية. ومنذ القرن العاشر الميلادي تقريبا حتى قيام الدولة العثمانية ونهايتها/(1922م) على يد أتاتورك، كانت هي الحارسة والراعية لبلاد الشرق، في وجه النفوذ الأوربي.
وليست هاته بالمهمة السهلة أو المسؤولية المحتملة، ازاء التنوع والتعدد والفوضى والاصطراعات التي تحكم وسط وجنوبي أسيا، منذ القدم وحتى اليوم. ولم يكن بدّ.. من حصول ثغرات واخطاء ميدانية وستراتيجية، مع توغل العثمانيين في وسط أوربا، وظهور حكومات بلدانية في بلاد الشرق.
ولا يمكن الاجابة بسهولة أو مجانية، عن سبب ظهور دول وممالك حول العالم، ومنها الهند والعرابيا، وعدم ظهور دولة مستقلة، أو حكومة مركزية في العراق، أو الشرق العربي!.
بدعم من القراصنة الهولنديين، أسس اسماعيل حيدر الصفوي [1487/ 1501- 1524م] دولة شيعية اثني عشرية في ايران عام [1501- 1722م]. وفي عام (1509م) توجه بجيشه واحتل العراق، وأحدث فيها مجازر ودمار، منها هدم أضرحة أئمة المسلمين/(السنة) وقتل كثير من علمائهم العراقيين وترويع أتباعهم .
وكانت مجازر مماثلة ضد المسلمين احدثها الصفويون في تبريز وغيرها من الاقاليم، مما جعل السلطان العثماني سليم الأول [1470/ 1512- 1520م] الرد على أعمال غريمه، وملاحقته عسكريا في معركة جالديران الحاسمة/(1514م) التي تكللت بهزيمة اسماعيل الصفوي وتشتت قواته. وفي عام (1531م) دخل الجيش العثماني بغداد.
ولابدّ من الانتباه لعامل الزمن، بين توقيت هجوم الصفوي على بغداد، وموعد الهجوم ثم الحصار العثماني على فيننا سنة (1529م)، وهذا هو غرض انشاء الحكم الصفوي، لمشاغلة العثمانيين والضغط عليهم من الشرق، لصرفه عن تهديد الغرب، أو استضعافه أمام الهجوم الأوربي الموحد ضد المشروع الاسلامي. هنا تتحدد حقيقة الاسلام الصفوي، الموضوع بيد الملالي في القرن العاشر، والمتمرد على الاسلام العام والأصيل المعلن بيد محمد والقرآن.
ولكن المراوغة الصفوية، ولا غيرها ن اضطرابات الولايات الشرقية، أثنت العثمانيين عن مشروع ضم وسط أوربا وغربها للامبراطورية العثمانية المسلمة، ولذلك عادت للمواجهة العسكرية مع التحالف الأوربي الصليبي عام (1541م) عند العاصمة الهنغارية (بودا).
وفي نفس الوقت اتجهت قوات عثمانية لمواجهة قوات الهابسبورغ الاسبانية والقوات الفرنسية عند مدينة (نيس) الفرنسية. وقد كانت الهجمات العثمانية، متعاقبة في سلسلة معارك وحصارات ضاغطة، دون تراجع أو يأس، فحصار (1529م)، سبقه وأعقبه: [1526م، 1529م، 1532م، 1541م].
وكان هدفها تحرير المجر من التوسع النمساوي، بشكل أنتهى بهزيمة الهابسبورغ، وتراجعها من امبراطورية إلى مملكة، مع تكفل بدفع الجزية للباب العالي، عن طيلة مدة نفوذهم في المجر.
وفي عام (1624م) عاود الجيش الصفوي واحتل العراق، محاثا مجازر كبيرة، سرعان ما تداركتها قوات السلطان مراد الرابع [1612/ 1623- 1640م]، في عام (1638م) وفرضت أسباب الاستقرار ونظمت شؤون الادارة والحكم واستتباب حياة الأهلين، ودام ذلك حتى الاحتلال الانجليزي المباشر للعراق في (1914م).
عدم ظهور دولة عراقية موحدة، بعد سقوط الدولة العباسية، سؤال جدير بالتفكير والبحث الموضوعي، بعيدا عن الخرافات والمهاترات الاقليمية؛ سيما وأن العراق التاريخي، هو أقدم من سواه في المطقة والعالم، فماذا حصل للسومريين والبابليين والاشوريين الذين انتهوا الى سبات عميق، ومن غير ظهور سلالة عراقية رابعة، تمد ارثهم، وتمنع وقوع العراق فريسة عديمة الحول والارادة لحماية ذاتها وهويتها وكرامتها، في وجه الاطماع الاقليمية المتطفلة على ارثها وثقافتها وتاريخها.
بعيدا عن العثمنة والتغريس، أين هو العراق الحر الابي المستقل، بالمقارنة بمصر والسعودية ولبنان والمشيخات الخليجية، وما يشغلهم عن أنفسهم وأرضهم؟.. هل الغياب السياسي الوطني، ينسحب على الصمت الثقافي والفكري للعراقيين في هاته النقطة، ولماذا العراق تحديدا، نقطة الصراعات والمنافسات الخبيثة، والنفوذ/(سلب ونهب وتزوير) المجاني خارج الحدود.
ان العراق الحقيقي هو الذي يقف على ساقيه وينتمي لذاته وأرادته وتاريخه، ولا يكون فريسة وتابعا هويلا للأجنبي، مهما كان وتحت أي عنوان. فكل زعم يربط العراق بقوة خارجية، أو هوية وولاء أجنبي خارجي، ليس عراقيا، وانما هو ضد العراق. لقد غاب العراق حوالي ألف سنة تحت أقدام ايران، بين سقوط بابل الخياني في (538 ق. م.) حتى ظهور المارد العربي من قلب الصحراء في (622م، 634م).
اضعف الايمان في المعادلة البلدانية، هو الاستقرار والأمن والبناء، وهذا هو الفارق بين الحكومات المتعاقبة على حكم العراق، وهذا هو الفارق بين المنافسات المخزية لامتلاك العراق، وهذا هو الفارق بين اداء الفرس والحكم العثماني، والفارق بين الاحتلال الانجليزي والاحتلال الأمريكي للعراق..
كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس، فيمكث في الأرض/ الرعد 13: 17).
ان معالم الحضارة والعمران وشبكات السدود ومنظمات المياه وطرق المواصلات الحديثة مما يدعم البنى التحتية ويرسخ قواعد الاستقرار والتنظيم والتطور، ويبث الامل في جوانب الحياة والمستقبل، لها أهلها وصناعها، ومهندسوا القبور وثقافات النياحة وعبادة الموتى والأوثان، وسدنة الفساد والتحلل والسلب والنهب وتزوير التواريخ والثقافات، لها أهلها وخدنها، والفارق بين الأثنين كبير.
وضع الانسان في الأرض لرعايتها وبنائها وتطويرها..
ووضع ابليس ليكذب ويفسد ويقتل ويسرق..
(السارق لا يأتي، إلا ليسرق ويذبح ويهلك)- (يوحنا 10: 10)
كل بلد يحتاج من يحميه ويبنه ويعليه. ولا يحمي العراق غير ابن العراق الحر المستقل الابي الواثق من نفسه وضميره وانتمائه. العراق الذي يطمع فيه الجميع، لا لزوم له بدعاوى الصدقة والتفضل والمنّة، والواثق هو من يحمي نفسه، ولا يتعدى حدود الغير..
لقد نال كثيرون من العراق عبر التاريخ. وما يعانيه اليوم ليس وليد اللحظة. ولكن المسؤول عنه هو الأفواه المملوؤة ماء أو قيحا. أولئك الخائفون من كلمة الحق والصدق والحقيقة. تاريخنا.. تاريخ العراق حافل بالكتبة المزورين والكذابين المنافقين، والشبكة الالكترونية الحاضرة حافلة بأخطاء تاريخية وعلمية وعدائية. ليس لنوايا السياسة الغربية لتشويه العالم وبذر اسباب لصراعات مستقبلية.. ولكن..
هل يزورون تاريخ العراق..
أم ينسبون الفضل والحقيقة، لمن ينقصه الفضل والحقيقة..
لنتظر العراق.. (حتى يسخن ظهر الحوت)*..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* حاصر العثمانيون فينن غير مرة، وبقوات عسكرية جرارة، أولها في (1529م) وآخرها في (1683م).
* رواية للكاتب العراقي فاتح عبد السلام.

(8)
حرب = مال + سيطرة = دولة..
حرب + دولة = مال + سيطرة..
مال + سيطرة = دولة + حرب..
قوي، قاتل، مخادع، نصاب، كذاب، سارق، نهّاب، سلاب، اخلاقسز، متوحش، مغتصب.. هؤلاء يحكمون العالم ويستعبدون سكانه، ولهم حق تجاوز الحدود وعبور القارات، وترسيم السياسات والقرارات، وتوجيه المنظمات الشريرة في العالم، وأولها (الأمم المتحدة).
وللقوة الشيطانية المبتذلة، حق تفسير ميثاق حقوق الانسان العالمي، والتباهي بلعب دور شرطي السلام العالمي، والحلول محل (الله) في الأرض.
في الجهة الأخرى، تجد الضحايا والفرائس والضعفاء والمستضعفين/(زورا- نيتشه)، والساعين وراء المساعدات العينية والقروض ، واللاهثين وراء الأدوية والاكسسوارات والزينة، والمتاع الرخيص ومواد التسلية، مما يعجزون عن صنعه، ويقلدون به أعداءهم.
وهكذا يزداد القوي قوة، ويزداد الضعيف ضعفا..
وهنا نحتاج قراءة (نيتشه) ونظامه الأخلاقي، ونتصدى للقول، لا يوجد ضحايا ولا مساكين. فكل فرد وجماعة وبلد مسؤول، عن نفسه ووضعه مسؤولية حقيقية مباشرة، في الأرض والسماء. لا يوجد برئ مسكين، ولكن يوجد متخاذل، انتهازي، مبتذل.
ومن يقرأ القرآن قراءة حقيقية، من غير تحشيش ديني وتنبلة، يجد جدولا متقدما لتصنيف أنواع البشر. وأن انتهازيي الأمس، والمنافقين على اصنافهم، مشخّصين، وباءوا مصيرا. ولذلك لم يكن عدد المسلمين في العالم، منذ أيام محمد وحتى اللحظة، غير نسبة متواضعة، وأغلبهم: منافقون وكذبة وكفرة.
وأول الكفرة وقادة النفاق، هم الشيوخ والحكام. وأشهر أعداء الاسلام هم ممثلوه الزائفون والمتاجرون به..
(يا أيها الذين آمنوا (؟)، لا تتخذوا الكافرين، أولياء من دون المؤمنين، أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا/النساء 4: 144).
(لا يتخذ المؤمنون، الكافرين أولياء، من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك، فليس من الله في شيء، إلا أن تتقوا منهم تقاة/ ال عمران 3: 28).
(يا أيها الذين أمنوا، لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منهم فأنه منهم، ان الله لا يهدي القوم الظالمين/ الماءدة 5: 51).
(يا أيها الذين أمنوا، لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم خبالا، ودّوا ما عنتّم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينّا لكم الآيات، ان كنتم تعقلون/ ال عمران 3: 118).
وسؤال الراهن، لكل مدعي (اسلام): أين يضع يديه ورجليه، أين وضع قلبه وعقله ولسانه؟.. وهل ثمة بلد أو مجتمع/(مسلم) لم يتخذ (انجلتره/ الولايات المتحدة الأميركية، والغرب عموما) أولياء له، أولياء في السياسة والحماية والغذاء والثقافة، وكل ما هو من سقط المتاع.. (الجواب شخصي، والكذب مباح!).
بعد اجتياع الامريكان للعراق، ارتفعت أصوات (!!)، تؤيد التغيير السلمي والداخلي، ومن غير عنف وتداخل أجنبي. لكن ما حصل ليس تدخلا اجنبيا، وانما استسلاما خيانيا لزعيمة الامبريالية، خيانة وطنية وقومية بالمفهوم الستراتيجي، وابتلاعا لمشاريع الهيمنة.
وفي القرن الماضي، كان مجرد زيارة موفد أميركي، أو اتفاقية انجلوعراقية جديدة، يجعل العراقيين يخرجون للشوارع ويقلبون الأرض.
احد القادة الفلسطينيين اعتبر غزو العراق للكويت، سبب انهيار المقاومة الفسطينية: (لولا الثاني من آب، لما كان مؤتمر مدريد). لكن الخيانة العظمى لزمرة من حواضن اجنبية واقليمية معادية للعراق، لم تستهدف صدام وحزب البعث، وانما المشروع الحضاري والصناعي المتقدم الذي بدأه عراق السبعينيات، عندما قال صدام حسين، ان العراق خلال سنوات قليلة سيكون، (تايلند) الشرق الأوسط!.
صعود دولة عربية السلم الصناعي الدولي، هو نهاية الامبريالية والسيادة الغربية. ذلك أكثر بكثير، من فرية حرق اسرائيل التي جرى استخدامها ذريعة، لاغتيال ناصر ونظامه. وهي نفسها استخدمت ضدّ نظام البعث، وكانت تستمر ذريعة لدمار بلدان أخرى، باسم الطغيان والانحطاط الدولي، ومن المؤسف أن يرقص الناس للقوي والطاغوت.
ان دمار العراق، انعكست شروره على العرب عموما، حكومات وأفرادا، وانعكست على المنطقة والعالم الثالث والعالم، وذلك على مدى التاريخ وصعيد الستراتيج. وحال الاقتصاد العراقي المبتذل، وهو يشتري الطماطم والماء والكهرباء وأتفه البضائع وأرذلها من ايران، فيه الرد الوافي والحكم الكافي، على ترسيخ الطفيلية العراقية، وقتل أي بادرة وطنية شريفة، ترفع اسم العراق والعروبة./(العراق يجوع، ليشبع الجيران/ العراقي يذل، ليشمخ الجيران).
ولكن، سبحان الذي أحال عراقيي (الكرامة والوطنية)، إلى عراقيي الجلبي [أحمد: 1944- 2015م] وزبانية ايران. كل بلد يحفر مصيره بيده. بعضهم يتقمص دور الذئب والبلطجي، وبعضهم دور الضحية والعاجز.
لا عذر لأحدهما، لا غفران ولا شفقة، لمن سعى بيديه ورجليه.
ويبقى قول فلاح عسكر الاكبير بوطنيته وفكره، يجوس ضمير العراق:
اليريد يعيش.. يزرع ورده بيده
واليريد يموت.. يحفر كَبره بيده!.. -(فلاح عسكر/ ت 1991م)
وعراق الاحتلال وسلطاته اختار. اختار سياسة القبور والسواد والفساد، اختار ثقافة القبور وعبادة القبور وسياحة القبور...
كلّ تواريخ أوربا المعاصرة، يرتبط بنظام الادارة والعسكرة الرومانية. وكلّ اقليم أوربي/(شرق أوربا وغربها) له فرقة عسكرية خاصة ومستقلة ذاتيا ، تعمل في قطعات الجيش الروماني، سواء في حروبه الخارجية على الحدود، أو حروبه الداخلية، للسيطرة على حركات التمرد والعصيان، داخل اقاليم الامبراطورية.
كانت خزينة الدولة الرومانية، تدفع معونة مالية وعينية، لكلّ حكام الولايات والمقاطعات التابعة والخاضعة لها، في الظروف العادية، وتدفع لها مكافآت وتخصيصات إضافية عند مشاركة قطعاتها في الحرب. لكن ذلك ليس كلّ شيء.
الحرب لم تكن لعبة، ولا مجرد نزوة ثأر وانتقام، أو حقد وحسد. فبغض النظر عن أغراض الحكومة، كان غرض القطعات العسكرية المقاتلة، هو الحصول على أكبر نسبة من الغنائم، من ذهب ومجوهرات وكنوز، وأطعمة وعبيد ونساء.
وكان وضع اليد، هو المبدأ في أعراف الغنائم. فكل ما يضع العسكري يده عليه يكون له عرفا، وكل بيت أو قصر أو كنيسة، يسيطر عليها أحد أو فئة، تكون له كاملة، ولا يدخلها غيره، حتى يغادرها أولا. وهذا يضيف لعوائد كل مقاطعة ومداخيلها، مصدرا سخيا للدخل. ولذلك كان سكان المقاطعات، يتنافسون لدخول المعارك، ولو في أقصى الأرض. وفي نفس الوقت، يجتذب قبائل ومقاطعات جديدة، للانضواء تحت خيمة الامبراطورية، للحصول على الرعاية والامن والمال.
ومن أعراف الحروب يومذاك، مبدأ (استباحة) المنهزم، أو البلاد المغلوبة في الحرب.
ومدة الاستباحة في الأصل: شهران إلى ثلاثة أو أربعة، حسب الدّسم. خفضت لاحقا إلى شهر واحد، أو اسبوعين عند تدخل الامبراطور. وفي النتيجة، لا يبقى من المدينة غير خرائب وأعمدة مهجورة، يجوس خلالها، بعض نفوس هرمة، عافها الغزاة.
أما عند اجتياح القسطنطينية/خلال شهر رمضان: (857هـ/1453م)، فقد منع السلطان محمد الثاني [1429/ (1444/ 1451)- 1481م] استباحة الأهلين، وفي ثلاثة أيام أعاد الاستقرار للمدينة وطرد الجنود خارجا، الى معسكراتهم.
الحروب القديمة، لم تكن تضبطها قوانين واتفاقات أوربية عنصرية كما اليوم، وانما كانت تحتكم إلى (أعراف)، تستند وتسند مواقع وحاجات الفئات المتحاربة، ومنها: تكون الحرب في الصيف، ولا تكون في الشتاء ذي البرودة والجليد؛ تكون في النهار ولا تكون في الليل؛ اعلان اشارة البدء باتفاق الطرفين عند المواجهة، والفصل بين مواقع كل فئة متحاربة.
وفي بعض الحروب، يتم الاتفاق على فن الحرب، أو الحرب المشروطة، بحيث لا يكون ايقاع قتلى، أو قتل قائد الجيش أو الملك، أو المدنيين غير المقاتلين، وعدم ايقاع أسرى. ولكم من حروب، كانت تنتهي بهدنة، أو برغبة الطرفين، لوقف الحرب/(لا غالب ولا مغلوب).
وفي الغالب، يسمح للملك أو القائد، أو بقية الجيش المهزوم بالانسحاب، بغير ملاحقة أو أسرى. وهو أمر ابتلعته الثقافات المعاصرة، العامدة لمهانة الخصم، وامتهان رموزه، وتدمير البلاد الشامل.
ان عبارة (الحروب الشريفة)، صفة كانت تصح قديما، قبل ظهور المدنيات العصرية أو ما يوصف بالحضارة الحديثة، التي أطلقت الطاقات الوحشية، خارج حدود القانون والكرامة الانسانية.
كما ان (تكافؤ جانبي المعركة) كان من الأعراف المتوافق عليها عالميا.
وما من جيش/ بلد له كرامة، يقوم بالتجييش، أو يسير لمعركة ضدّ طرف ضعيف، أو عديم أهلية عسكرية: دفاعية أو هجومية. كما هو الحال، في كل الحروب الحديثة والمعاصرة، التي شنّتها أطراف غربية كولونيالية، ضد بلدان وسكان، لا يتوفرون على مبادئ الحضارة والتمدن، وليس لهم تنظيم دولة أو جيش نظامي، حسب المفاهيم والاقيسة الأوربية.
وفي حرب الخليج، حشدت الولايات المتحدة الأميركية أكثر من نصف مليون عسكري، ومثلهم من قوات متجحفلة، عربية وأجنبية، فضلا عن اسلحة تكنولوجية متقدمة، برية ومائية وجوية وكيميائية، من اخر ما توصلت اليه معامل التصنيع.
وباتفاق الخبراء، فقد كان المجال العراقي، أول حقل لتجريب الأسلحة والاعتدة الحديثة، بما فيها الممنوعة دوليا. وفي شهر ابريل الماضي/(2019م)، تم تجربة أول اطلاق صواريخ من طائرة حديثة الصنع، في عملية عسكرية جوية شمالي بغداد.
وفي حرب أميركا ، استخدم الكذب والاتهام وتضليل الرأي العام والمنظمات الدولية، لتحشيد العالم ضد صدام حسين، وقدراته الخيالية، وبعد اسبوع من سقوط الحكم العراقي، اعترف بوش الصغير أنه كذب، وكل ما أشيع عن العراق، انما هو تلفيقات اعلامية وأخبار مفبركة.
دون أن يسيح وجه البيت الأبيض، ولا وجه بوش ووزير خارجيته، ولم تتمرد جهة عراقية أو أميركية أو أجنبية، على لعبة الخداع الأميركي: فالقوي يعمل ما يشاء، والكلّ له صاغرون.
وهذا عنوان العالم الحديث ، البراغماتي اللا أخلاقي: الدولة هي القوة، والقوة فوق القانون والأخلاق والدين. القوة اليوم هي أميركا، حتى لو كانت قوة وهمية.
وعلى العموم، فأن كلّ حروب بريطانيا في الشرق، كانت ضد غابات استراليا وأفريقيا، حيث تعيش جماعات بشر بدائيين عراة، يعيشون في مغاور وأكواخ. ومنها ضدّ جماعات لم تتطور لديهم فكرة الدولة ولا تتوفر على جيوش نظامية، وانما جماعات قبلية، عاجزة عن تأمين قوتها، تسعى لحماية نفسها بطرق بدائية، كما في الخليج والجزيرة.
بينما القوات البريطانية وغيرها تتوفر على أسلحة نارية وبواخر عظيمة محصنة بالمدفعية، التي دخلت المحيط الهندي والبحر العربي في القرن السادس عشر والسابع عشر، سواء في قوات البركه البرتغالية، أو قراصنة الانجليز في حوض الخليج.
في أزاء السلوك الأوربي العنصري، وثقافة الحرب غير المتعادلة، وما يترتب عليها من نهب وسلب وحشي، خارج تدخل الحكومة وقادة الحرب، مما يتجاهله طابور (الثقافة الامبريالية)، لا بد أن نستذكر، ما يلي:
1- ان الحروب العربية والاسلامية، لم تكن، (خلافا)، لأعراف الحرب القديمة وفنون القتال السائدة يومذاك في العالم، ومنها الامبراطورية الرومانية والبيزنطية الصليبية.
2- ان المسلمين، (خلافا)، للسائد عند الرومان وبيزنطة والفرس، لم يطلقوا وحشية النهب والسلب، حسب مبدأ وضع اليد، وانما وضعوا قانونا خاصا للغنائم وتركات الحرب، وتقسيمها بنسب حسابية، تشرف عليها ادارة الحرب، أو جهة خاصة في الدولة، هي التي تدفع أعينات الجنود والقادة، وتحدد ما يذهب لخزينة الدولة، ومنها يعاد توزيعه على الفقراء والمحتاجين.
3- ان البلاد المهزومة لا تترك قفرا، وانما تدخل في (رعاية) الدولة العربسلامية، وتخير بين قبول عقيدة الاسلام، أو دفع الجزية. ولم يعتبر سكان البلاد الجديدة، أدنى مستوى من المسلمين عامة، سيما لمن اعتنق الاسلام. بينما ينظر الغرب عموما نظرة دونية لأهل الشرق وسكان البلاد المهزومة أو المتحاربة معها، كما هو حتى اليوم. فالقوانين الدولية داخل المجال الغربي/(المركزية الغربية)، ليست نفسها خارج المجال الغربي.
ان غياب الفكر (المقارن) عند عرب اليوم، وكتاب الحداثة، والانحياز الفاضح للتبعية الغربية، وراء تورط كثير من المتعلمين والمتثاقفين من بلاد العرب، لتوجيه سهام نقد غير موضوعية، لكل ما يتصل بالاسلام والعروبة، تاريخيا وراهنيا، تعبيرا عن حالة فصام شوفونية حضارية، عن قيم الانتماء والهوية والأصالة الوطنية والقومية: [إن كان يمكن أن يخون، فكيف يمكن أن يكون/ السياب/(1926- 1964م)].
والمفارقة، ان العرب والمتعلمين وتلاميذ البعثات في ظل الدول الحديثة، بدل أن يعودوا ليخدموا مجتمعاتهم وبلدانهم، عادوا مسلحين بثقاقة برجوازية غربية، تنظر بازدراء لأهليهم، وتتنكب/ تتقمص دور (خواجا) فرنجي، في التعامل مع قطاعات المجتمع والحكومة.
وما يزال غالبية طبقة المثقفين العرب، تفصل نفسها عن واقع المجتمع الأهلي، وتنظر لهم بفوقية واستنكاف، حتى لو كان اولئك من عائلته الصميمة. وإذا كان هذا حال اليمين الثقافي وبعض القوميين، فهو لا ينفصل عن المثقفيين الماركسيين والشيوعيين.
فعلى رغم التأكيدات والشعارات اليسارية، بكونهم حزب العمال والفلاحين والكادحين، فأن المثقف الشيوعي والماركسي، يعيش في معطف (برجوازي صغير). وكل التنظيمات الشيوعية والماركسية، يقودها (برجوازيون صغار)، يتحدثون باسم الشغيلة الكادحة، ويصادرون أصواتها.
فالشيوعيون والماركسيون، ما كانوا خارج طابور العلمانية، في التعالي والانفصال عن التاريخ والتراث العربسلامي، واعتباره دالة للتخلف والبدائية. وما زالت نعرات الاستشرق والغربنة، تصف (العرب) بالبداوة والتخلف والهمجية، وتنسب للاسلام ما لا يناسب اللياقة العامة والهوية الوطنية والقومية.
ومنذ سقوط الدولة والنظام في العراق /(2003م)، تتصدر المشهد الاعلامي، حملة حامية من معاداة وامتهان الثوابت العربية والقومية والاسلامية، تعمل على تبرير وتبجيل ممارسات الامبريالية والرأسمالية الوحشية، على حساب بلدانها، ولا تسأل أين كان هؤلاء قبل أمس!.
كل هذا الطرح الاعلامي والثقافي، يترافق مع ادعاءات وشكاوى صارخة، تندد بالقمع العربي والارهاب الاسلامي، وأكثر من هذا وذاك، يتناسى العلمانيون عامة، من يكونوا، وهل هم عرب ومسلمون، أم لهم انتماء وولاء وتوطن مختلف.
لم نتعلم أن نفكر، نعمل، نختلف، دون تنكر لواقعنا المجتمعي، وبيئتنا الثقافية، وهويتنا التاريخية الاقليمية.
الحرية ليست فوضى، حرية الرأي ليست الخروج على الثوابت والمنطق، ولا الدمقراطية تعني التخريب ومديح الاضطرابات. والمقيم في الغرب، يدرك معنى دمقراطية القمع، والثوابت البوليسية التي تمسخ الناخبين إلى حشرات مدجنة، ولكن بأدوات دمقراطية وعنف قانوني.
نحن، لم نأت من المريخ، ولا نعيش في القمر، ولن نذهب إلى عطارد.
هل من المنطق، استخدام المعارف الحديثة، ومظلة حقوق الانسان لمحاكمة التاريخ الاسلامي قبل ما يزيد عن الف عام؟.. بل هل يجوز تطبيقه على النظام السياسي والمجتمعي العربي، ولا يجري تطبيقه على بلدان الغرب الامبريالية، وممارسات الاحتلال والسياسات الدولية المعادية للشعوب وقضاياها العادلة في التحرر والاستقلال والكرامة الوطنية؟.. - بحسب كليشهات كفاحية رفعتها جماعات لقومية وشيوعية، في عهد الحرب الباردة-.
ان معاناة الشعوب تضاعفت أضعافا، والعبودية والاذلال والتدخل في القضايا المحلية والاقليمية، صارت أمرا عاديا؛ بما فيها اجتياح الدول واعتقال/ اغتيال الرؤساء، والرموز الوطنية، على يد الاحتلال وأعوانه، وكأنهم لصوص وشذاذ. وفي ظل لامبالاة/ شماتة شعبية. وهذا مخالف للمنطق وللقيم الخلقية.
وهذا يدفع للتساؤل، هل كان سبب ثورة العشرين اعتقال (شعلان ابو الجون/ ت 1941م) والسعي لتحريره. إذا لما لم يثر العراقيون، لاطلاق لحماية وتحرير مئات وآلاف العراقيين الذين جرت تصفيتهم على يد القوات الأميركية والايرانية ومليشاتها الحاكمة في كل محلة وزقاق عراقي؟..
وما مصير الاف المعتقلين من علماء ووطنيين شرفاء بين سجون أميركية وايرانية ومعتقلات المالكي وغير المالكي السرية. ما معنى كلمة (وطن)، وما معنى مفردة (شعب)؟.. وما معاني أشياء كثيرة كان يعتلجها الشارع العراقي، اختفت من القاموس، واستبدلت بخلافها، ومنها الذلّ والكذب والانتهازية.
أسماء ليس لها سوى ألفاظها.. أما معانيها فليست تعرف - معروف الرصافي [1879- 1945م]
الوطن ليس الحاكم، والأحذية الأجنبية ليست أكثر رحمة بالشعوب من أبنائها، ولو كانوا قساة، غلاظ، ودكتاتوريين..
هل الحكم الأجنبي حرير ومخمل، أم أن المجازر الامبريالية والاغتيالات السياسية والتصفيات الايرانية لالاف العراقيين، جرت خارج محيط الحوار.
وليس غير مجازر النظام السابق، يتم التشهير بها بشكل مجرد وغير موضوعي، متناسين ان نظام المجازر، هو رائد أكبر حركة عمرانية وتنمية تقدمية اجتماعية في العالم الثالث. وهذا لا يناسب حضارة الفساد والجريمة والعمالة للخارج، لساسة عهد الاحتلال.
بكلمة.. أراقب بأسف، جملة الأداء العراقي لعهد الاحتلال جملة، وأحاول مقارنته بأي بلد آخر، فلا أجد له مثيلا، لا في لبنان ولا الصومال ولا أفغانستان. علما ان خبراء اعلام الاحتلال، يتجرأون على تقديم نصائح/(خيبتهم) للبلاد الأخرى، ممن لا يعترف بوضع العراق الجديد.
والخبراء أنفسهم، لا يعرفون أن العراق الجديد معزول سياسيا ودبلوماسيا، ولا توجد سفارة فعلية في بغداد، سوى بضعة: اميركية، بريطانية، ايرانية، ممثلية الاتحاد الأوربي. وما يتبقى فهم قناصل تجارة أو تمثيل دبلوماسي أدنى.
(العراق العظيم)، حسب توصيف النظام السابق، هو (العراق الكسيح)، العراق (الذليل)، الذي يحكمه المقيم الايراني في بغداد. ولكن، لابد من كشف المستور، ولا بد للنعرات الطائفية والحزبية أن تظهر للعلن، وينكشف الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
فهذا يوم، وأمس يوم، وغدا.. لغير ناظره وشيك!..
كلنا، وأعني اتباع العلمانية والماركسية، والبدع الدينية، ما نزال نتحدث اللغة العربية، وننتمي للثقافة العربية، رغم أننا نقيم في المهجر الرأسمالي منذ عقود عدّة. وما نزال نحلم ونتوق، أن نتنفس هواء بلادنا ونتخطى في ظلال بساتين نخيلها وفاكهتها... وطوبى لمن يتاح له الجلوس على حافة كورنيش البصرة، ويترك ساقيه تتدليان في مياه شط العرب!..
علينا أن نصحو من خمرة/ مورفين الغرب الزائف، ونعترف بانحرافنا العقلي والفكري. أعني ذلك، ومعناه، ان المتثاقفين العراقيين، لم تخطر لهم مفردات: [تعريق]. والتعريق، على غرار (تمصير)، ليست (تعريب) من باب الترجمة، وانما، تطويرها بما يناسب تربة البلاد وتراثه الاجتماعي.
وهذا من أسباب نجاح الملاقحة المصرية مع الغرب، وفشل الملاقحة العراقية مع الغرب. وهذا سبب فشل المثقف العراقي، ونبذه الى نهاية هامش الحياة، واحلال لغة وثقافة (بوب) جنوبي وعادات ريفية، تستحل مكان الهوية المدينية الوطنية.
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، انما يتذكر اولو الألباب/ (الزمر 39: 9)).
وهذا سبب الفصام والقطيعة والاغتراب، التي وجد المثقف العراقي نفسه فيها بعد السقوط، اغتراب وغربة عن واقعه ومجتمعه وتراثه الوطني.
وكلمة (وطنية) غير مرغوبة في العراق، وتستخدم كلمة (بلد) الأدنى منها، كغطاء لعراق (أممي) متعدد الالوان والهويات والمرجعيات، إلى درجة التلاشي والانمحاء، وغياب الهوية والخطاب الموحد.
وفي هاته الحالة، يصحّ في العراق ما يصحّ في نيجيريا والهند. ان تكون ادارة البلاد بيد المحتل: [انجليزي، ايراني، أميركي]. وتكون الانجليزية لغة رسمية للبلاد. وكلّ ما يفصلنا عن هويتنا وانتمائنا التاريخي/(المتخلف)، هوية اممية رسمية.
ويترك لنا فسحة، لانتاج فوضى الكلام، وعبث الأفكار، والجدل العقيم، في سبيل اللاشيء.

(9)
تاريخ الناقص والخائف والكذاب..
ذكرت قبل قليل، مصطلح الحرب الشريفة، واتطرق هنا إلى (العدو الشريف): الندّ: الأخلاقي والمتكافئ. وتلك مرحلة انتهت مع سقوط بيزنطه.
وكل القوى الامبريالية التي ظهرت في العهد الوسيط والحديث، مخالفة لما سبقها، لقيامها على الكذب والتزوير، الداخلي والخارجي، واعلانها حروبا ومعارك/(غير شريفة)، قائمة على الكذب والتزوير، مستهدفة - أعداء- مستضعفين، لا يتوفرون على أسباب القوة والتنظيم والادارة، المتوفرة في غرب أوربا.
وكلّ ما يدعى (فتوحات) و(بطولات) أوربية، يندرج في هذا العهد البدائي لعالم أسيا والمسلمين، حيث امتد النفوذ البريطاني في الشرق المهلهل، وفرضت فرنسا نفوذها في أفريقيا البدائية المهلهلة.
وبانشائها المدارس الأوربية العلمانية حول العالم، رسخت أسباب التبعية الفكرية والسياسية والاجتماعية، وأنتجت أكبر طوابير العمالة، وضعف الانتماء القومي، الذي يحصد العرب ثمراته الزاهرة اليوم، نفاقا وخيانة ذات.
وإذا كان العرب، قد عرفوا بالفروسية والشجاعة والمواجهة المباشرة، فقد حباهم الله بأعداء، خلاف سويتهم، خلافهم في كلّ شيء.
وكل شيء يشمل الكذب والتزوير، والخداع والطعن في القفا، والعمل في الظلام. والعامل في الليل، هو خلاف العامل في النهار. ويفصل الانجيل ذلك، بالذي يدخل من الباب/(راعي الخراف)، خلاف الذي يدخل من النافذة/(عبر السياج)، وهو (لص سارق)/(يو 10).
أعداء العروبة والاسلام اليوم، من النوع الأخير.
لم يحصل عبر التاريخ، ان تدخلت ايران في العراق أو أي بلد عربي، وهو في قوته ووحدته السياسية. ولكنها أول من يتخرق حدوده عند حصول فراغ سياسي وعسكري. وأمثلة التاريخ كثيرة. والدعاية السياسية المحتقنة ضد البعث وشخص صدام، هي انعكاس الرعب الايراني من قوة المركزية العراقية الوطنية والقومية، وتهديدها لكيان ايران وكل القوى التخريبية المتربصة بالعراق والعرب.
وهذا هو مغزى الدعاية الصهيونية الاسرائيلية والانجلوميركية [1990- 2004م] ضد حكم البعث [1968- 2003م] وقيادة صدام [1937/ 1979- 2003/ 2006م]، وحجم التجييش السياسي والعسكري طيلة ربع قرن، لأجل انقضاض جبان على دولة صغيرة.
ومن لطائف الكلام، أن تمتدح الانسكلوبيديا/ (بريتانيكا) عارها في تدمير العراق، بفرية بوش الصغير: (الحرب ضد الارهاب)/(سبتمبر 2001م).
وهي تخلط الورق بعماء، واصفة المسؤول عن مجازر وجرائم ضد الانسانية، بأنه صانع سلام، منقذ، متجاهلة الدعاوي الدولية لتقديمه للمحاكمة. ولذا حرصت القيادة البريطانية والامريكية، على اخفاء المسؤولين عن دمار العراق، وراء الكواليس.
والمختفون منذئذ هم: (توني بلير رئيس الحكومة البريطانية، بوش الصغير، وزيرة خارجيته وطاقم حكمه، سفيرة اميركا في بغداد في عام (1990م)، مس انجلاند: الشرطية الاميركية في سجن ابي غريب والمتهمة بالاعتداء على السجناء). وكل من كان له دور في دمار العراق الشامل. وحتام يبقى اولئك في (الغيبة) وخارج الاعلام والحياة العلنية.
فالدولة هنا تحمي المجرم الدولي، وتستهين بالرأي العام، وتعمل على تجيير طوابير الخيانة، من البلدان فريسة العدوان. ولابد أن يضاف للمطلوبين للعدالة والقصاص، كل الطاقم العالمي المشارك ضد العراق [1990- 2003م] من خلال عملهم في المنظمات الدولية ومنظمة الطاقة، وخدمة العدوانية الأميركية ضد العراق، والقيام بنشاطات دورية عالمية، لتذكير العالم بالهولوكست العراقي، واثاره التدميرية لليوم.
وللمجتمع الدولي الحرّ والشريف، أن يجد وصفا للاعتداءات الامبريالية الرأسمالية الغربية على نصف سكان الأرض، قبل اتهام الضحية المحاصرة وادانتها. فالعالم الموصوف بالحضارة والتقدم والدمقراطية، مسح نفسه في الأرض.
وفي العام (1989م) كتبت مقالا/(أين دور الأمم المتحدة؟)/(جريدة الزمان اللندنية) يدين (الأمم المتحدة) في موقفها العدواني من العراق، وتحولها إلى لعبة/ أداة بيد الخارجية الأميركية. ومنذ عهد بطرس بطرس غالي* [1922/ 1992- 1996/ 2016م] حتى اليوم، تقاد المنظمة بلا عقلها، وخلاف مسودة ميثاقها، مع التحية لكل العاملين والممثلين العرب في أروقتها.
وهنا نتعرف على أحد أعداء العراق والعروبة، من رموز الكذب والتزوير والخناثة التاريخية، وهم (بيت أبو ناجي) بالتعبير العراقي، و(العدو/الحليف الستراتيجي) حسب توصيف مصطفى النحاس [1879/ 1927- 1952/1965م] زعيم حزب الوفد المصري، في دعوته لزواج كاثوليكي بين مصر وانجلتره.
يشتهر الانجليز بتدوين تاريخ العالم، كما يشتهر الألمان بالفلسفة حسب الأمريكي وول ديورانت [1885- 1981م]. ولكن الانجليز يكتبون تواريخ كل البلدان، حتى أدق التفاصيل، ولا يكتبون مثلها عن بلدهم، سوى الديباجة المثالية المنتقاة، خلوا من الدم والنهب والكذب وشاكلته.
والسؤال، لماذا يتصدى الانجليز لتدوين التواريخ، قبل سواهم. أميركا تنكر التاريج، وانجلتره تعبده. أنها تعيد انتاج نفسها في صنعة التاريخ. واللطيف ان بلدان العالم/ الشرق تحديد، تستقى تاريخها من مدوّنات الانجليزي المحتل/(لا تعليق!).
وإذا كان التاريخ الحديث حكرا عليهم، فكيف توافروا على مصادر التاريخ السابق لوجودهم، ومنه تواريخ العرب والهندوس، والهندوسية والاسلام، بنسخته الانجليزية، وهذا لا ينفي مدونات الاستشراق الالماني والفرنسي وقراءاتهم المبكرة عن العرب والاسلام والقرآن.
اندفاع الانجليز لكتابة التاريخ، وتوصيف المجتمعات والبلدان والديانات، والظواهر والأحداث العالمية والبلدانية من منظور انجليزي بريطاني امبراطوري، هو دالة على احتكار الحقيقة والمعلومة التاريخية، التي تجعل (لندن) محور التاريخ، كما وضع العبرانيون (تاناكهم)، جاعلين (الجماعة اليهودية) محور حركة التاريخ.
فمن لا يحتل الأرض يحتل الفكر، ومن لا يستعبد الآخرين، يستعبد (المعلومة). وهيهات بين مثل اليهود والانجليز والأمريكان، وبين (فلاسفة أثينا)، الذين لا يمرّ يوم، لا يرد ذكرهم وفضلهم على الانسانية.
من زاوية أخرى، أن الثقافة العربية تجد نفسها داخل حصار غربي، لا فكاك لها منه، بغير حركة راديكالية ثورية، تمتلك عبرها، أدواتها وزمام أمرها، لتكون سيدة نفسها في كل شيء. وتفرض تقليدا ثقافيا جديدا، يجعل العربي يأنف من قبول أو تداول مصدر عدائي لهويته وثقافته.
ويلحظ أن اتباع الأديان والمذاهب والطوائف، لا يتداولون غير مصادر خاصتهم. أما في المجال السياسي والقومي، فلا يتورعون عن تداول مصادر الاستشراق والامبريالية، والاحتكام اليها، وتسويغ وترويج أفكارها وشهاداتها الاكادمية، باخسين قيم الانتماء والولاء الوطني والقومي.
وفي السنوات الأخيرة، تقدمت جهات عربية مسلمة خطوة للامام، بقرار انتباذ جملة من المدونات والمصادر الاسلامية، المصنفة من كتاب أعاجم، منهم البخاري والطبري، ممن ضمّنوا تصانيفهم قبائح وأخبار غير لائقة، تشين العرب والاسلام، ورموزهم الدينية والتاريخية.
وعلينا التقدم بخطوة جديدة، لغربلة كل ما يشين العرب والمسلمين، في المدونات الغربية والعالمية، لتأسيس قاعدة فكرية وثقافية عصرية، تضع حدّا للنعرات والافتراءات النابية، والمسيئة للثوابت العربية والاسلامية التاريخية والتراثية والمعاصرة.
ان (الاسلام) ليس دينا عربيا فحسب، وانما هو أساس الثقافة والهوية العربية.
ولابد من وضع مسافة، بين (الدين) و(الثقافة/ الهوية).
وقد وصف سيد القمني/(مواليد مصر- 1947م) نفسه مرة، بأنه (علماني مسلم). ووصف أحد الأقباط، نفسه بأنه (مسيحي مسلم)، بحكم الثقافة والهوية الوطنية. وما زالت تنقصنا أسس الوطنية وثوابت القومية والانتماء. وكلنا نتحدث العربية، ولكن البعض يستنكر العروبة ويهاجم تاريخها، بأبشع النعوت، مما ولدته العواطف العدائية، والنتائج التدميرية لدعايات الامبريالية في المحيط الاقليمي، ولا ينسى ان العربية لغته الام، وثقافته الموروثة.
في القرن السادس قبل الميلاد، تعرض العرب لطعنات يهودية غادرة، وهم يقيمون بين ظهراني (شنعار) وبابل. وفي صدر الاسلام، احاطت بهم واخترقتهم طعنات وسهام الثأر الايراني لأمجاد كسرى، واختراقهم الناعم لأدبيات الأسلام: تأرخة، تفسير، حديث، علم رجال، عقيدة يهمجوسية، قادت الثورة المضادة ضدّ الاسلام، وشقته الى شقين متخالفين متحاربين، فكريا واجتماعيا وأخلاقيا، وهو ما يحترق العرب بناره وبخاره، اليوم.
والمؤسف، ان يتلاقى الخداع الفارسي مع هشاشة الانتماء وسطحية الوعي، لأولئك، من التابعين لغير مركزية الاسلام والعروبة. يقول أبناء اليوم، ان الوطنية والقومية، صارت من تراث الماضي المتخلف، ويستعيضون عن (الوطنية) باصطلاح (المحلية/ عشائرية وطائفية وحزبية)، وعن (القومية) باصطلاح (أممية).
ويقول آخرون، ان الوطنية والقومية، مصطلحات حديثة، لا ذكر لها في القرآن، وكتب التراث. ولكن الوطنية والقومية، ليست مفردات، وانما شعور وانتماء ووعي!.
ولأصحاب هاته التنظيرات الطوباوية، أن يروا، هل تنازل الانجليز عن شعورهم الوطني والقومي، أم ان الاميركان، ابطلوا الافتخار باسم (الامة الأميركية) المبعوثة لنشر رسالة السلام والتوحيد والحضارة العالمية. هل توقف الامبركان عن وضع علم بلادهم في كل زاوية وبرنامج وترويسة اعلامية.
إذا تخلفت ثوابت الوطنية والقومية والانتماء، فما مبرر استمرار هياكل الدولة والجيوش وصراعات المصالح، وما مغزى اشتداد الصراع بين الدول والهويات والمصالح الاقتصادية. ولماذا يحمل الجيش الأميركي أو الانجليزي، وأمثالهم، علم بلدانهم، ليزرعوها في كل بقعة محتلة، وكل بناية يحتلونها، وعلى سطح القمر وسطوح الأسلحة والطائرات والمدرعات.
من الجميل، ان يظهر جيل منظرين عراقيين وعرب، يروجون للتبعية الامبريالية والفردوس الرأسمالي، وجملة قيم الخناثة والطفيلية في كل المجالات. فالبحث عن الشهرة والمجد الشخصي، تفعل المستحيل، لتجاوز شنار الخيانة.
لم يتعلم العرب من اليهود وعصبيتهم لأنفسهم، وهي صفة فاتت العالم الروماني الأمازيغي، الذي ألصق -(خطلا)- صفة (العصبية) بالعرب دون سواهم من يهود وعجم ورومان. كما فاته، وهو المؤرخ والناقد في قرطاجة القرن الرابع عشر، ان القرآن لم يميز (العرب) عن سواهم، كما رفعت (التوراة) اليهود فوق جملة البشر، واصفينهم بالكلاب.
وأن عبارة (كنتم خير أمة ال عمران 3: 110) جاءت في سياق الحديث عن اليهود، وليس العرب.
وانما عزلت العبارة عن سياقها واستغلت نقيصة لشتم العرب. جنبا إلى جنب عصبية عبد الرحمن ابن خلدون [1332- 1406م] التي يعتلجها كتاب محدثون بشكل مجاني. وهل العصبية قصر على جماعة دون سواها، أم أن المركزية الغربية والسياسات الامبريالية والرأسمالية، ليست صادرة من عصبية.
ان العصبية أساس الوعي القومي، والوعي القومي، بله الوعي الوطني وقيم الانتماء، وهي الأكثر هشاشة في الكيان والشخصية العربية. والمؤسف، ان الاسلام الذي وصفه الاستشراق بحركة سياسية وثورة اجتماعية، لم يؤسس للشعور القومي والوطني، وانما استهدف بناء كيان سياسي على أساس ديني.
والعصبية الدينية في القرآن، لا تمثل شيئا بالقياس للعصبية الدينية في التوراة والتلمود والانجيل.
لو توفر العرب على (عصبية: قبلية/ دينية)، لكانت تطورت إلى شعور: (وطني/ قومي). وكلمات القومية ما زالت محظورة في مجتمعات عربية، لأنها تعني لديهم قومية ناصرية/ بعثية. وانها تعني الذوبان في دولة الوحدة/ الاتحاد العربي، المرعب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بطرس بطرس غالي [1922- 2016م]، دبوماسي مصري شغل عدة مناصب حكومية عليا في بلده، قبل تعيينه الامين السادس لمنظمة الامم المتحدة [1992- 1996م]، وأمين عام منظمة الفرانكوفونية [1997- 2002م]. وصادف دوره الدولي ذروة تجييش الامم المتحدة والمجتمع الدولي ضد العراق. واسوة بكثيرين من العرب، فقد فضل أغراضه الشخصية ووولاءه الأجنبي، على المصلحة العربية القومية العليا، وليس عبثا أن يشغل اعراب، أمثال بطرس غالي ومحمد مصطفى البرادعي [1942/ 1997- 2009م- ؟] مدير وكالة الطاقة الذرية في فيننا، قيادة الحملة العالمية ضد العراق.
محمد مصطفى البرادعي [1942- ؟]: دبلوماسي مصري، عمل أمين وكالة الطاقة الذرية/(فيننا/ النمسا) خلال [1997- 2009م] وأشرف على مسرحية البحث عن اسلحة الدمار الشامل، وأرسال ىلاف المفتشين وخبراء الأسلحة الى العراق. مع ادراكه التام، بخلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، منذ (1991م). وكان من أخرق أدوات السياسة الاميركية في العراق تحديدا. وحاولت الخارجية الأميركي إعادة تسويقه محليا لخلافة مبارك، على رأس تكتل شبابي/(كفاية)، خلال الانتفاضة المصرية [2010- 2012م]، ولكنه فشل ورفضته القوى الوطنية المصرية. عينه المستشار عدلي منصور، الرئيس الانتقالي لمصر ، نائبا لرئيس الجمهورية، قبل أن تفرز الانتخابات، فوز جماعة الاخوان وتعيين الدكتور محمد مرسي رئيسا اخوانيا [2012- 3 يوليو 2013م]، الذي عزله العسكر، لاتهامه لصفقة تأجير سيناء/(مع قناة السويس) لدولة قطر.
ابن خلدون [1332- 1406م] من مواليد تونس، تخرج في جامع الزيتونة. عمل في السفارة والوساطة بين ملوك المغرب والاندلس. وشغل مركز قاضي القضاة/(المذهب المالكي) في مصر على عهد الظاهر سيف الدين برقوق الشركسي [1339/ 1382- 1399م]، حتى وفاته، ولمدة تقرب من ربع قرن. وأشهر مؤلفاته (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر من العرب والعجم والبربر وما عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)/ سبعة مجلدات. ويذكر ان ابن خلدون كان جزء من النهضة الثقافية الرومانية وبدايات المدرسة الانسانية، وكان معاصرا لمشاهير كتابها امثال: بترارك وتشوسر. وكتابه في العمران ، لابد ناتج عن تأثره بعمران الرومان المعروف عنهم، وليس من بنات أفكاره، بقدر ما هو نقل ثقافة الغرب جنوبا وشرقا. ويذكر أن عالم الاجتماع العراقي علي الوردي [1913- 1995م] كتب عنه كتاب (منطق ابن خلدون)، وجه اليه نقدات صميمة، منها وصفه بالازدواجية، وانه أكثر ميكافيللية/ (انتهازية) من الايطالي ميكافيللي [1469- 1527م] نفسه.
جيفري تشوسر[1343- 1400م] شاعر انجليزي في القرون الوسطى، موظف لدى بلاط الانجليزي. حاول الكتابة باللغة المحلية في وقت كانت اللاتينية لغة الثقافة والدين والسياسة. وقد تأثر ببترارك الايطالي[1304- 1374م] في سونتاته، ودانتي من فلورنسا [1265- 1321م] صاحب الكوميديا الالهية، في كتابة شعره بالانجليزية المحلية/(الشفاهية)، ونقده الديني. من كتاباته (حكايات كانتربري) التي يتصدى فيها للكنيسة.

(10)
اعرف عدوّك..!
لا يكاد الباحث يجد نسخة وافية مقنعة عن تاريخ انجلتره/ انجلاند/ انجليا/ بريتانيا. وما تجده في كتاب، لا يوجد في سواه، فتضطر إلى عملية جمع ومونتاج، لتقديم صورة اجمالية بونورامية، تشذب التفصيل في (التفاهات)، وتستخرج الاختزال والالتواء والتزوير في (الاساسات).
فالبحث عن تاريخ انجلتره الأصلي، يحتاج ارادة ورؤية وحفريات عمودية مضنية، وهدفا يستحق التضحية، لرفع الغشاوات عن عيون الملأ الأفقي/ السكارى، (وما هم بسكارى/الحج 22: 2).
والسبب، ان نظرة الانجليز للتاريخ، تختلف عن نظرة العالم للتاريخ. ونظرة الانجليز للعالم، تختلف عن نظرة العالم للانجليز، ونظرة الانجليز لمستقبلهم، تختلف عن نظرتنا لأنفسنا. انجلتره تصنع التاريخ، بحسب رؤيتها، وتحفره بأظافرها.
ونحن والعالم، نتصيد ونجتر ونتطفل، على موائد أعدائنا، الذين يعادوننا بحق وحقيق، ويتمنون زوالنا من الوجود. بينما نتمنى لهم دوام السيادة والسعادة، لنستمر في التوكل والتطفل على ثمار سيادتهم وسعادتهم. وها نحن، نرفع الصلوات لقادتهم، ونتجمع حول روائح مطبخهم، لنعوض شيئا من غبار هزائمنا، هزائمنا أمام شتات نفوسنا.
التسمية..
أصول التسمية: (انجلاند) تعود إلى (انجلالاند). (انجل) قبيلة جيرمانية كانت نقيم في جزيرة (انغلن)، نزحت في جنوبي انجلتره. وقد ذكر اسم (انجليي) في كتاب (جيرمانيا) للمؤرخ الروماني تاسيتس من القرن الأول الميلادي. وأول ذكر لكلمة (انجلتره) كان عام (897م) وقصد به الجزء الجنوبي من الجزيرة.
انجلاند.. مُستعمَرة رومانية [43م- القرن الخامس الميلادي]..
في العام (43م)، في عهد الامبراطور كلوديوس [10 ق. م./41- 54م] وقفت القوات الرومانية على ضفاف نهر التيمز، وبدأت في انشاء أول حامية عسكرية جنوبي النهر، وأول جسر عليه، لانشاء حراسات وبوابات على الضفة الشمالية، سرعان ما استتبعت نشوء مستوطنة شمالية/(قطاع (دبليو1)) اليوم. لتنطلق منها حركة تجارة محلية/ أوربية وعالمية لاحقا.
وحسب منوالهم، قام الرومان بشق الطرق وبناء المستوطنات والحواضر في انجلتره وويلز، وتطوير حركة العمران والمظاهر العمرانية، المنتشرة آثارها في كل أرجاء أوربا ومدنها الكبيرة، فضلا عن آثارهم في شمال أفريقيا وبلاد الشام.
مغزى عناية الرومان بالبناء والعمران، وتطوير حياة السكان، هو بناء مراكز تجارية مزدهرة. ولا تزدهر تجارة بدون خطوط حركة وتنقل/(كرفانات تجارية متنقلة). فطرق المواصلات، تؤمّن حركة البضائع وقوى العمل داخل المقاطعة، فضلا عن ربط المقاطعة بجيرانها، وصولا لبناء شبكة مواصلات واتصالات، تتمحور حول بؤرة العاصمة الامبراطورية (روما)/ العاصمة السياسية والتجارية والدينية/(كل الطرق تؤدي إلى روما).
تأمين حركة السلع والمواصلات داخل الوطن السياسي، هو خطوة رئيسة في تثبيت قواعد الاقتصاد الوطني/ القومي. ان الاقتصاد المزدهر الناجز، هو أساس الاستقرار السياجتماعي والامني. وهو مفتاح ازدهار القطاعات المختلفة في البلاد. والدولة/ المدتمع/ الحكومة، المتخلفة عن بناء الاقتصاد المحلي وانجاز مرتكزاته التحيتية، كخطوة أوليه في مهامها كحكومة، هو دالة ودلالة عن طبيعة الحكومة/ المدتمع، وعدم جديتها وولائها الوطني.
ومن هذا المنظور، ينبغي تقييم وتصنيف المجتمعات والحكومات والبلدان. وما يعانيه العالم العربي اليوم، هو تهرية اقتصادياتها، وعدم استكمال البنى التحية الأساسية للاقتصاد والمجتمع والمواصلات. وهذا ما يجعل بلداننا عاجزة عن تلبية حاجات السكان، وغير صادقة في معالجة التخلف الاقتصادي والاداري.
استكمال البنى التحتية لهذا الحراك التجاري العسكري لربط الأطراف بالمركز، ترتب عليه التمازج الثقافي والديني لاحقا، والهجرة لأغراض الدراسة والتعلم في العاصمة، أو مناسبات الزيارة والحج في الفاتيكان. وانعكاس ذلكم، في بناء هوية اجتماثقافية مشتركة، لعموم سكان الامبراطورية، فضلا عن وحدة/ تقارب طرز البناء والعمران والفنون والمواصلات، داخل الجغرافيا الرومانية، ومحيطها المتوسطي المعروف.
وما تزال معظم العواصم الأوربية الحالية، مثل: روما وباريس، فينا وبودابست، صوفيا وبراها ولندن، الخ.. هي مدن وحواضر رومانية، بل هي متاحف علنية في الهواء الطلق. كل زاوية فيها، تحمل عبق وأنفاس عهود التاريخ الغابرة، وتمنح أبناءها وسكانها، روح الامل وثورة الروح، التي تدفع وترفع تطلعاتهم، لامتلاك وسيادة المستقبل، وإرادة الحياة التي لا تنكسر.
ان آثار الرومان، وشموخ ومنعة عمرانهم، المدني والديني والسياسي، يفرض على أعدائهم احترامهم، ويجعل الأجنبي يتعلم ويتنشق روح الارادة من تاريخهم، المسيج والدفاعي لحاضرهم ومستقبلهم. هاته الملاحظة - المعترضة- ضرورية للفرد العرابي، ليدرك السرّ المحذوف في تاريخه، والمؤدي لانكسار حاضره.
بل هو السرّ المفضوح بين العراق الصحراوي والشام الرومانية، ومصر الفرعونية والقبطية وسوابقها في تونس والمغرب العبيدية.
زعم بعضهم، ان طبيعة الأرض الرملية في العراق وشبه جزيرة نجد والحجاز وحوض الخليج، هي السبب في عدم قيام حضارة مادية عمرانية، أو عدم صمود الاثار التاريخية القديمة. فأين العمران الاسلامي، الخالدة شواهده في الاندلس والشمال الأفريقي، من جدب المشرق العربي. الممسوح بفعل التخريب وغارات البدو وهمجية الحروب والمعارك، وليس بفعل الجغرافيا والمناخ.
أكثر من أربع حضارات في العراق، ليس منها اليوم، ما يستحق النظر. نعم التخريب، والتجريف السياسي والعدواني، وليس الجغرافيا والمناخ. وما جرى ويجري، في ممارسات الحكومات الراهنية من مسخ وتخريب، وحملات الغوغاء الهمجية في النهب والسلب والهدم، أدلة دامغة، على غياب الحس الجمالي، وغياب الوعي الحضاري والوطني، ليس إلا.
وفي روايات الشقيقين* حسن مطلك ومحسن الرملي، إشارات لقيام سكان القرى والمناطق القريبة من آثار الامبراطورية الأشورية، بسرقة أبواب وشبابيك، وطابوق ورخام، وحلي ومجوهرات وأواني، من مناطق الاثار، واستخدامها في بناء دورهم، وزينة نسائهم، دون أدنى وعي حضاري وشعور بالانتماء للتاريخ الاثاري.
هذا يذكرني أيضا بممارسات البوسنيين والكروات اليوغسلاف، الاجئين في النمسا وألمانيا. فعندما أوعزت السلطات، بعودة من يستطيع العودة لبلده وقريته، بعد وقف الحرب وزوال الخطر، مع معونة مالية للعائدين وتسهيلات من السكان. قام كثير من العائدين، بقلع الأبواب والشبابيك لبيوتهم النازلين فيها، ونقلهم معهم، مع كثير من المعونة والمؤونة ومواد البناء، لاعادة اعمار بيوتهم وقراهم اليوغسلافية، على تخريب بيوت نمساوية وألمانية. وهذا يذكر أيضا، بقصة ارتحال يهود موسى من مصر إلى سيناء، وما اخذوه ونهبوه معهم من أموال ومجوهرات وأاطعمة المصريين، ليقوتوا أنفسهم في الطريق، ويبنوا مستوطناتهم الجديدة/(خروج 12: 35- 36).
بل أن مواقع الآثار، بلغت من التقدير وعناية السكان، أن صارت مراكز لرمي النفايات، على يد الشركات العاملة في رفع النفايات. ومن هاته المواقع، مركز بابل الأثري، وعاصمة نبوخذ ناصر العظيمة، التي تفتخر العواصم الغربية ومتاحفها بامتلاك شيء من آثارها. هل يستحق أسد بابل وشارع الموكب، أن يكون (مزبلة)؟.. الرسالة وصلت، والمسؤول وراءها مهما كان (!!)، هم العراقيون، وسكان المحافظة، والعهد السياسي الحاكم.
ممالك سكسونية في انجلتره..
في القرن الخامس ازدهرت المستوطنات، وأصبحت لندن مركز مقاطعة رومانية، ولها (حاكم) عسكري روماني. وعلى غرار المقاطعات الرومانية/ البلدانية، كان على انجلتره، تجييش قوة عسكرية محلية، والمشاركة في حروب الامبراطورية. وقد أسفرت جملة التطورات الاجتماعية والاقتصادية عن تطور الوعي السياسي وجملة اصلاحات سياسية وادارية، ساعدت على تحول انجلاند من مقاطعة خاضعة لحاكم روماني، إلى مملكة يسوسها مملك، من أحد عوائل النبلاء الارستقراطيين.
الساكسون من الجماعات الجيرمانية التي انتشرت في انجلتره، جنوبي الجزيرة بالتوصيف القديم، فيما استقرت جماعات (الفايكنغ) وسط الجزيرة. وبعد انسحاب الحكم الروماني، أنشأ السكسون عدة ممالك في القرن السابع الميلادي، وذلك باختلاف مقاطعات وعوائل الحكم. ويشكل الاصل (انجلوسكسوني) أساس سكان البلاد، حتى اليوم.
كانت سلطة الحكم الملكية، تتنقل من عائلة ارستقراطية لغيرها، حسب تنامى نفوذ النبلاء، واشتداد أزمات البلاد. فتتنافس العوائل على تصدر المشهد، وانقاذ البلد من حالة الخطر. وقد يتلبس ذلك صراعات ومعارك عسكرية، تنتهي بتتويج المنتصر، وتحول الملك لأسرة ملكية جديدة:(مبدأ: الحكم للأقوى والأدهى!).
مملكة وسكس الأولى [871- 1016م]..
مع حركة الزمن، زاد نفوذ الفايكنغ، وظهرت مملكة (ويسكس) أهم مملكة في البلاد، بزعامة الملك الدنماركي الفريد العظيم [849/ 871- 899م]، وهو ملك انجلوسكسوني برز في مواجهة الفايكنغ. وقد نجح حفيده (اثيلستان) في توحيد انجلتره (977م) سياسيا لأول مرة في تاريخ البلاد، وذلك أثر هزيمته ملك الفايكنغ (ايدريد) وحلفائه.
ممالك سكندانافية [1016- 1035م]..
مع أواخر القرن العاشر غزا كانوت العظيم [1016- 1035م] انجلتره وضمها إلى امبراطوريته التي ضمت الدنمارك والنروج أيضا.
مملكة وسكس الثانية [1042- 1066م]..
لكن مملكلة وسكس بقيادة أدوارد المعترف [1033/ 1042- 1066م] تمكن من تحرير انجلتره عام (1048م) من يد كانوت الدنماركي.
الحكم النورمندي [1066- 1154م]/(الفرنسي) ينهي حكم السكسون/(الجيرمان)..
في العام (1066م) احتل الدوق ويليام النورماندي [1028- 1087م] انجلتره، وضمّها إلى سكتلنده تحت يده. وترجع أصوله إلى النورمان المنحدرين من سكسونيا.
وليم النورماندي هو ابن روبرت دوق النورماندي، ورث والده عقب وفاته في حكم دوقية نورماندي العام (1035م)، وهو يومها لما يبلغ الثامنة من عمره، وذلك بدعم من ملك فرنسا: هنري الأول [1008/ 1027- 1060م]. وبمعونته نجح في معالجة الفوضى والفساد في نوماندي، جراء صراع البارونات للسيطرة على الحكم. وفي (1042م) منحه ملك فرنسا وسام الفارس، ولما يبلغ الخمس عشرة عاما.
بعد استتباب أمر الدوقية، بدأ في التطلع حواليه لتدعيم وتوسيع نفوذه، فنجح في السيطرة على ماين وبرتانيا. كان عرش انجلاند يومها تحت حكم ادوارد المعترف [1003/1033- 1066م] وهو من عائلة سكسونية، مات ولم ينجب. كانت أم ادوارد المعترف شقيقة جدّ وليم النورماندي، وقد وعده بخلافته عرش انجلاند.
لكن زوج شقيقة ادوارد المعترف: هارولد جودوين [1022- 1066م] زعم أنه أولى بالعرش من سواه، وقد أيّد دعواه نبلاء المجلس الاستشاري الانجليزي. فجهز وليم النوماندي حملة عسكرية بحرية لمواجهته. في تلك الأثناء تقدمت قوات نروجية واحتلت شمالي انجلاند، فاتجه وليم النورماندي بقواته شمالا. وطرد القوت النروجية أولا، ثم اتجه للقضاء على قوات هارولد جودوين، المطالب بالعرش، وزعيم المقاومة الانجليزية للنفوذ النورماندي.
هزمت القوات النومندية قوات هارولد في معركة هاستنغ، وأصيب هارولد بطلق مات على أثره. وهكذا ملك وليم النورماندي/ الأول عرش انجلاند بدعم من البابا.
خلال حكمه قام وليم الأول [1028/ 1066- 1087م] باصلاحات ادارية وسياسية، وسنّ قوانين جديدة لتنظيم الدولة والمجتمع واهتم ببناء القلاع. وأدخل عادات وتقاليد نورمندية في المجتمع البريطاني: منها: (النظام الإقطاعي الزراعي، ارستقراطية محلية وظيفية من حاشسة الملك، نظام قضائي).
وبنى وليم نظاما سياجتماعيا هرميا قائما على الولاء للملك، المتربع على قمة الهرم. وفي العام (1077م) استقدم اعداد من يهود ألمانيا االعاملين في مجال التجارة والمال، لتدعيم مركزه الاقتصادي، وسلطته السياسية في مواجهة السكان المحليين.
والواقع انهم سيتعرضون للطرد من البلاد بعد مائتي عام، في خضم اشطرابات داخلية وتقلقل سدّة العرش، ليعودوا حثيثا بعد قرون أخرى، بعد استتباب الأوضاع، ليشكلوا لبنة وعامل رئيس في توطيد قواعد الاقتصاد التجاري ومقدمة نظام البنوك الحالي على يد عائلة روتشيلد، والمؤسسين لنظام الايواء والمعونة والضمان الاجتماعي في انجلتره، التي انشئت لاستقدام فقراء اليهود الأوربيين أولا، ثم انفتحت للطبقات الفقيرة من المقيمين والوافدين عامة.
ان العامل الأول وراء استقدامه يهود ألمانيا، ومنحهم رعاية ملكية، وامتياز ممارسة التجارة والصيرفة في البلاد، يكمن في خلفيات الأزمة التي تطفو وتخفت، من حين لحين، بين أصحاب الاراضي/(لاندلوردز) وبلاط الملك. وكان الرفض المحلي لوجود الملك وأصوله غير الانجليزية، يعبر عن نفسه، من خلال رفض دفع الضرائب للبلاط.
لكن الترقيعات، والروادع العنيفة، لا تعالج المشكلة ولا تلغي أسبابها التي تكمن تحت الأرض، لتندقع في عهد آخر. ومع ذلك، فأن ارادات الملوك، لا تغيرها اعتراضات بعض النبلاء، وسيما في بلد على حافة التخلف. وفي عام (1085 م) أصدر تعليمات جديدة، لإجراء كشف حساب ضريبي شامل، عن العقارات والأملاك والأراضي في مملكته، ودَوَّنَها في ديوان سجل العقارات)، الأول من نوعه ىفي البلاد.) (Domesday Book)
بعد موت وليم الأول/(الفاتح)، خلفه ابنه وليم الثاني[1056/ 1087- 1100م]، ويدعى وليم رفوس، أي وليم الأحمر، لحمرة تشوب بشرته.
بعد موت وليم الثاني، خلفه اخوه: هنرى الاول [1068/ 1100- 1135م] ملكا على انجلترا و دوق نورماندى، وهو الابن الرابع لوليم الاول/ الفاتح. تابع هنري الأول سياسة سلفه في توطيد الحكم واصدار تشريعات تنظم الحياة العامة والحقوق المدنية. وقد اشتهر هينرى الاول بكترة الانجاب، بلغ عدد أطفاله ما بين [20- 25] طفلا.
خلفه على العرش ستيفن [1096/ 1135- 1154م] وهو حفيد وليم الأول. وقد استغرق عهده في محاربة الامبراطورة ماتيلدا [1102- 1187م] بنت هنري الأول المطالبة بالعرش. ماتيلده هي خطيبة ثم زوجة الامبراطور هنري الخامس الذي منحها لقب (امبراطوره) وانجبت منه هنري الثاني ملك انجلتره. وتعتبر أول امرأة ملكت على انجلتره، رغم أنها لم تتوح أبداـ ولم يدم عهدها بضعة شهور عام (1141م)، لكنها حافظت على ملكها دوقية نورماندي، ما اتاح لابنها تسلق عجلة الحكم.
امبراطورية انجوية [1154- 1399م]..
نسبة الى اسرة ال بلنتجنت التي حكمت باسم هنري الثاني [1133/ 1154- 1189م] والمعروف بهنري ذو العباءة القصيرة، حكم اسكتلندة وايرلنده وويلز وبريتاني ونورماندي وأقطانية وغيرها. وهو الابن الاكبر لجيوفري كونت آنجو وماتيلدا بنت هنري الأول. وقد استغرق عهده في صراع مع الملك الفرنسي لويس السابع [1120/ 1137- 1180م] من أل كابيه، وانتهى لصالح خنري الثاني.
خلفه رتشارد الأول/(قلب الأسد) [1157/ 1189- 1199م]، وهو ابن هنري الثاني، دوق نورماندي. وهو المشهور بدوره في الحروب الصليبية ضد قوات المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي[1138- 1193م]، وهو الذي انهى الحكم الفاطمي [909- 1171م] في مصر وأسس الدولة الايوبية [1174- 1252م] في مصر والمشرق العربي، في ظل الخلافة العباسية [750- 1258م].
خلفه جون الأول /(لاكلاند)[1166/ 1199- 1216م] وهو الابن الخامس لهنري الثاني. وفي ازاء التهديد الفرنسي والبابوي من جهة، وتمرد الاقطاع في الداخل، طلب مساعدة ملك المغرب محمد الناصر [؟/ 1199- 1213م] في عهد الموحدين، لغزو انجلتره وتوطيد اركان حكمه. وأزاء ضعف حكمه، وتفاقم الاعباء الضريبية على السكان، تمرد عليه النبلاء، وأوقفوا دفع الضرائب.
مما اسفر عن ظهور أول ماجنا كارتا/[1215م، 1216م]، التي قلصت صلاحيات الملك الدستورية من جهة، ولكنها نظمت واختزلت حقوق النبلاء والاقطاع/(لاندلوردز)، وحظرت استخدام العنف السياسي داخل البلاد. وفي (1225م) تحولت الى قانون، وأساسا للدستور في (1297م). استخدم جون الوثيقة لتهدئة الاوضاع والسيطرة عليالعصيان الأهلي. وعندما حاول التملص منها ورفضها، اندلعت حرب أهلية [] انتهت بمقتله، وانته معه حكم الاسرة الانجوية.
خلفه هنري الثالث [1207/ 1216- 1272م] الذي أجبر على إعادة توقيع الماجنا كارتا، وتأسيس أول برلمان انجليزي (1264م)، ومن منجزاته المهمة بناء كنيسة وستمنستر القائمة حتى اليوم.
ادوارد الأول [1239- 1272- 1307م] ابن الملك هنري الثالث ابن الملك جون ابن الملك هنري الثاني. خلفه ابنه ادوارد الثاني[1284/ 1307- 1327م]. خلفه ابنه ادوارد الثالث [1312/ 1327- 1377م] عقب خيانة امه ايزابيلا الفرنسية لأبيه مع روجر مورتيمر. وأول عمل قام هو استبعاد امه الى سكتلندا واعدام عشيقها مورتيمر. وهو أحد خمسة ملكوا انجلتره، ودام حكمهم أكثر من خمسة عقود.
وفي عهده انتشر وباء الموت الأسود/[1348- 1350م] في انجلتره الذي قرض قرابة ثلث السكان. والذي عاد للظهور في القرن السابع عشر بشكل قاس، انعكس على الوضع الاقتصادي لانجلتره.
رتشارد الثاني [1367/ 1377- 1399/ 1400م]، وهو اخر ملوك اسرة بلانتاجانت. في أيامه بدأت حرب المائة عام/(1381م). وفي اول عهده/(صبي في العاشرة)، اديرت البلاد من قبل مجالس نبلاء لمنع استحواذ الوصي على العرش وابن عم الملك لمفرده.
حكم اللوردات [1387- 1397م]..
في (1387م) خضعت البلاد لحكم اللوردات/(مجلس اللوردات).
في (1389م) استعاد الملك رتشارد الثاني الحكم من ايدي اللورادات، من غير صراعات. في (1397م) بدأ انتقامه من اللوردات بوسائل الاعدام والنفي، وقد وصف المؤرخون تلك الفترة (طغيان رتشارد).
اسرة لانكستر [1399- 1471م]..
وفي اعقاب موت عمّه جون: دوق لانكستر في (1399م)، سعى رتشارد الثاني للسيطرة على أملاكه، وجرد ابن عمه هنري بولينجبروك من أملاكه، فغزا الأخير انجلتره بقوة صغيرة، سرعان ما انضمت اليها قوات من الاهالي، انتهت بخلع رتشارد الثاني من الحكم وقتله لاحقا، ليبدأ حكم هنري الرابع [1366/ 1399- 1413م] وهو ابن جون جونت دوق لانكستر، والذي هو الابن الثالث لادوارد الثالث.
هنري الخامس [1386/ 1413- 1422م] وهو ابن هنري الرابع [1366/ 1399- 1413م] وخلفه ابنه هنري السادس [1421/ 1422- 1461/ 1471م]. انتهى حكمه خلال حرب الوردتين/ حرب الثلاثين عاما [1453- 1487م]، التي اشعلها ادوارد رتشارد يورك، وبه انتهى حكم اسرة لانكستر.
مملكة ال تيودور [1487- 1603م]..
سنة 1485 قام هنري تيودر بغزو إنجلترا والقضاء على ريتشارد الثالث للوصول إلى كرسي الحكم. وتزوج من إليزابيث، أميرة يورك وابنة الملك إدوارد الرابع؛ لتنتهي الحرب بين ال لانكستر وال يورك، ويبدأ حكم ال تيودور، بقيادة هنري تيودور/ الملك هنري السابع تيودور [1457/ 1487- 1509م].
وقد خلفه على العرش ابنه هنري الثامن [1491/ 1509- 1547م] الذي تمرد على سلطة البابا، وأول من اعلن استقلال انجلتره عن الخارج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* حسن مطلك [1961- 1990م] رسام وروائي، من أعماله المهمة رواية (دابادا)/(1988م). وبعد اعدامه، جمع شقيقه الأديب محسن الرملي اعماله، ونشر منها: قوة الضحك في أورا/(2003م)، الأعمال القصصية/(2006م).
* محسن الرملي (مواليد الشرقاط- 1967م)، دكتور أدب اسباني، قاص وروائي وشاعر، شقيق الروائي حسن مطلك. من اعماله المهمة: أوراق بعيدة عن دجلة/ قصص- (1998م)، الفتيت المبعثر/ رواية -(2000م)، ليالي القصف السعيدة- رواية- (2003م).

(11)
ال تيودور [1487- 1603م] واستقلال انجلتره/ (1534م)..
التاريخ لا تصنعه الجماهير، كما أراد ماركس والماركسيون. وتاريخ انجلترا وألمانيا لم يصنعه الغوغاء، وانما قادة الحرب والفرسان ورجال الحكم، وفي مقدمة اولئك الملوك المتمايزون. أما المجتمعات والجماهير، فهي تصنع الخراب والفوضى، أنها قطيع هائج بلا عقل، طاقة هائلة بلا هدف. ولا مكان للمجاملة البرجوازية في مواجهة الحقائق.
هاته الطاقة التدميرية غير الموجهة وغير المعقلنة، الاناركية المتمردة على سلطة القرار والتوجيه، هي ما حدث في ما يدعى (الثورة الفرنسية/ 1789م)، وما اعقبها من كوارث ومجازر في سبيل اعادة الاستقرار. وهذا ما حصل في انتفاضات الطلبة والشغيلة في ايران/(1978م) وما ترتب عليها، وكما في انتفاضة شعبان/(1991م) في العراق، وما ترتب عليها، وانتفاضات ما دعي بالربيع العربي [2010- 2019م]، والمآسي والمجازر التي ترتبت عليها، فضلا عن حجم الاحباط واليأس وموت الحياة والأمل والتقدم.
الله فرد، آدم كان فردا. والانبياء كانوا أفرادا، والعلماء والمخترعون هم أفراد. مكتشف البنسلين هو فرد، وصانعو الحياة هم افراد. كل المكتشفين والمبدعين وصانعوا النقلات الحقيقية الكبرى هم افراد. زعماء القبائل والدول والجيوش هم أفراد مميزون شجعان ومضحّون.
أفلاطون وضع نظام التعليم والتربية، وأسس أول (أكاديما) واليوم تنتشر المدارس والجامعات والاكادميات في القرى والمدن، دون ذكر افلاطون. جون ديوي وضع منهج التعليم وطرقه الحديثة، وانتشر منهجه في العالم، بطريقة النسخ والتقليد الأعمى.
لا بد من اعادة الاعتبار للنخب والطلائع المثقفة في المجتمع، ومنحهم الحرية والقدرة لبناء المجتمع ومعالجة أدرانه، بدل قطع رؤوسهم، وربطهم بنهاية عجلة الغوغاء. هذا هو سبب تخلف وانحطاط المجتمعات الاستهلاكية كثيرة الانجاب.
سائق السيارة أو القطار أو الطائرة هو فرد. السفينة يقودها فرد، وإذا تعدد الربابنة ، تغرق السفينة، كما يقول المثل. ابحث في عراق ما بعد (2003م) : من يعرف من يقود البلاد، من يقود المجتمع، من هو الحاكم الفعلي؟..
إذا كان الطاقم السياسي، نفسه، لا يعرف، فما مغزى ومبرر وجوده، بل ماذا يفعل منتسبوه. أحدهم، قال: أنها مافيا سرية تتكون من رؤساء الأحزاب والكتل. وقيل دولة داخل دولة داخل دولة، وحكومة وراء حكومة وراء حكومة، وقيل كثير مما يفسر الماء بالماء.
من يصنع تاريخ العراق اليوم. لا أحد، لأنه لا يوجد تاريخ، يوجد فوضى ولا معقول ولا منطق، ومن يزعم غير ذلك، يخدع نفسه. والبلدان لا تعيش بالخداع والكذب. نحن في الالفية الثالثة والقرن الحادي والعشرين، وليس في عصر الغابات.
الذي صنع الدولة الاميريكية هو فرد، بضعة أفراد، وضعوا الدستور. الذي صاغ وثيقة الاستقلال فرد، والذي يحكم البيت الأبيض هو فرد واحد، وطالما صدرت من الفرد قرارات خطيرة، من غير استشارة البرلمان وموافقته، ومن غير اطلاع وموافقة الأطراف الدولية النافذة.
هل شاركت جماهير الاميركان في قرار الحرب ضد العراق وغزوه لاحقا، أم أن معارضاتهم واحتجاجاتهم، أحبطت الحرب على العراق. هل الدولة السوفيتية صنعتها الجماهير أم أفراد، يقودون حركات حزبية مسلحة. هل تركيا الحديثة صنعها الاتراك، أم شخص مصطفى كمال. هل جماهير الهنود وانقساماتهم الدينية الساذجة، صنعت دولة الهند أم شخص غاندي.
ماذا قدمت الانتفاضات العراقية غير الفوضى والفرهود والدمار الشامل، وكل ما تبعها من قمع ومجازر، لاعادة القطيع الى الحظيرة. لقد انتفض االعراقيون في الوقت الغلط، واستكانوا وهانوا في الوقت الغلط.
مطلوب جرد نظيف لكل الاغتيالات والتصفيات واحكام الموت والسجن، منذ (محرم 2003م) وحتى نهاية الطغمة المتسلطة على البلاد، لا لشيء، إلا ليعرف العراقيون، كم من تلك الجرائم، كان ضحيتها الشرفاء والوطنيون، والكوادر التي تخدم البلاد.
وخارج كلّ القاموس السياسي الجماهيري؛ هل الاحتلال وعملاؤه، ثورة أم انقلاب/ أم انتفاضة وطنية أو غوغائية، أم تنفيس نعرات ونزعات طائفية وعشائرية وأيديولوجية، لتفريغ البلاد وبيعها للعدو المتربص؟.. هل كان تزوير التاريخ والجغرافيا بهذا الرخص والابتذال..!
بلاد بلا عقل، تجري إلى هاوية!.. كل ما تحتاجه هو سلطة دكتاتور!.. بعيدا عن كل الرومانسيّات السياسية ومسودات التنظير المجاني، لببغاوات الغرب. والغرب ليس رومانسيا ولا يتاجر بالأحلام. عندما فسد الناس، جاء فيضان نوح، لتطهير الأرض، عندما فسد أهل سدوم، انقلبت الأرض على رؤوسهم. ما هي نتيجة الفساد والنفاق والجريمة اليومية؟.
وهذا هنري الثامن/ السفاح[1491/ 1509- 1547م] الذي بدأ حياته تقيا، منصرفا للدراسات الدينية. ولكنه عندما لزم ان يقود البلاد، نحى كلّ شيء جانبا، وجعل فكره وارادته الفورية فوق كلّ شيء. المبدأ الذي سار عليه هنري الثامن: الملك هو الأول والآخر، وهو فوق الجميع، والجميع من أجل الملك.
رفض هنري الثامن ايّما جهة، سياسية ودينية، بما فيها البابا بنفسه، أن يتحكم بحياة هنري أو سلطانه. وعندما تحكم البابا في حياته الزوجية والنسائية، أصدر قرارا برفض سلطة البابوية، ومنع تدخله في البلاد. واستقلت انجلتره عن الفاتيكان بقرار سيادي، جاعلا نفسه رأس الكنيسة/(1534م)، ليلحقه بوثيقة (قانون السيادة) التي تحظر اي تدخل خارجي في حياة انجلتره.
جعل من قانون (السيادة) معيار المواطنة البريطانية. فمن يعارضه يعتبر خائنا ويعدم. وهذا ما حصل مع أقرب مقربيه ووزرائه الكاردينال توماس وولسي [1473- 1530م] وتوماس مور [1478- 1535م] وجون فيشر [1469- 1535م].
تاريخ انجلتره هو تاريخ ملوكها، وحياتهم الشخصية الباذخة، في اتفه تفاهاتها، هي مادة التاريخ. وها هي انجلتره مشغولة حتى اذنيها، بولادة أمير جديد، يدخل تاريخ البلاط. الاعلام والحكومة والملكة التي لا تظهر للملأ، يملأون وسائل الاعلام، متناسين البركست وأزمة الحكومة الحادة والمختنقة منذ ثلاث سنوات، والتبعات المعيشية لالغاء الحوافز الاجتماعية لفئات الدخل المحدود.
هاته هي ايضا انجلتره الدمقراطية وانجلتره الدستورية وانجلتره القانونية وانجلتره البوليسية.. وغيرها من العناوين والكليشهات التي يرددها المهاجرون من بلاد خاضعة للاحتلال والتبعية الانجليزية. مهاجرون وجدوا في الفضاء الانجليزي فرصة لممارسة التجارة السوداء والجريمة الاقتصادية وأساليب الاحتيال على القانون والضريبة والقضاء.
فما يهم الحكومة هو ايرادات المال وتجارة العملة، وليس الأخلاق والطبائع. لكن انجلتره كنظام سياسي ونظام حكم، تجربة متفردة، لا يوجد ما يضاهيها، في صناعة الدولة والسيادة والحكم والصرامة.
عند قراءة شخصية هنري الثامن، لا بد من استذكار الملك جون الأول [1166/ 1199- 1216م] ، وهو المكروه رقم واحد، من الناس والبلاط. في حينه، كان تتويج الملوك يتم على يد بابوية روما. وبحسب المراسيم، كان على الملك ان يركع ويقبل قدم البابا، والوحيد الذي رضي بذلك هو جون الأول، الذي جلب الشنار على اسم انجلتره. علما أن بلاط انجلتره، كان بيد الملكية الفرنسية، على مدى خمسة عشر قرنا، انتهت على يد هنري الثامن. وقد وظف هنري الثامن كلّ الفرص والامكانات، لمحاربة فرنسا وكسر شوكتها.
هنري الثامن الذي جلس على العرش، ولما يبلغ العشرين من عمره، كان مثالا للقائد الفرد، ونظرية الارادة والقوة الفاعلة. فعل كلّ شيء برغبته وارادته، وعاقب بالسيف كلّ من يعارضه أو يتدخل في ملكه. بدأ بقوة وعنف، بعد يومين من تتويجه أعدم أثنين من الوزراء بتهمة الخيانة العظمى. وكلّ مخالفي الملك يتهمون بالخيانة العظمى. ووضع حدا لكل مناوئي العرش، حتى لو كان من عهود سابقة.
لكن انجلتره اليوم، بريطانيا العظمى/ المملكة المتحدة، ما كانت لنراها - كما نراها- اليوم، لولا سياسة وشخصية هنري الثامن، ذلك الذي - ربما- ضحى بصيته وسمعته، لكنه صنع انجلتره: دولة امبراطورية عالمية مستقلة، تحكم ولا تنحكم، تقهر ولا تنقهر، تقود ولا تنقاد، تسوق ولا تنساق، تقول وتأمر، ولا يقال لها أو تأتمر لأحد.
هنري الثامن ملك انجلتره، كان مثقفا وخطيبا بارعا، شاعرا ومؤلفا موسيقيا، من أعماله الموسيقية (لهو مع الخلان) وقصيدة (الاكمام الخضراء). كان رياضيا في أول عهده، بارعا في المبارزة والصيد والتنس. وله جاذبية خاصة سيما للنساء، يعادل حماسه للمسيحية المحافظة. لم يكن هنري الثامن يعتقد بصلاحية النساء لولاية العرش، لذلك أنفق جهده في الحصول على وريث/(ذكر) بلا طائل.
عرف باهتمامه بفن العمارة، وبناء القصور والكنائس. وكان يضع على ثيابه تطريزة (قلب) مكتوب عليه كلمة (رويال)، وهو لقب (القلب الصحيح/ السليم) وهو شعار هنري الثامن.
ولغرض دعم وترويج اصلاحاته الكنسية، أنشأ وموّل فرقة مسرحية، تتنقل في البلاد، لترويج أفكاره والتعاليم الكنسية والملكية الجديدة. وقد استخدم توماس كرمويل [1485- 1540م] مستشار الملك، الطباعة والصحافة، لأغراض الدعاية السياسية والكنسية، في ذلك الوقت المبكر.
ركز جهده لبناء انجلتره من الداخل، وتقليص اعتمادها على الخارج، أو تدخل الخارج في شئونها. كان مصلحا سياسيا ودينيا. قطع تبعية كنائس انجلتره بسلطة الفاتيكان أولا، وبالكاثوليكية ثانيا. وهو المسؤول الأول لنقل انجلتره من الكاثوليكية إلى البروتستانتية.
قاد الاصلاح الديني والكنسي، وجعل نفسه رئيسا لكنيسة انجلتره. واهتم بترجمة (البايبل) للغة الانجليزية، ولكنه، يتحمل مسؤولية حملات الاعدامات والتصفيات المتبادلة بين الكاثوليكية والبروتستانتية في انجلتره. فولادة انجلتره المستقلة والبروتستانتية، تمت في بحار من الدم والاضطهادات والتصفيات الدينية والسياسية، لأشخاص بارزين في تاريخ انجلتره.
بدأ عهده معتمدا على عدد من المستشارين، من كبار الاساقفة والكرادلة والفلاسفة، وانتهى دكتاتورا دمويا مستبدا. وصفة السفاح والدموي، هي محض توصيف لممارساته، و اسلوبه العنيف المتطرف، في التعامل مع معارضيه، ومن يشك في اخلاصهم، أو ولائهم لشخصه.
كان معتدا بنفسه أكثر من اللزوم، بحيث لا يجد اعتبارا لغيره، الا من خلال خدمته وحاجته له. ان الوزراء والكهنة والنساء والشعب، موجودون لخدمة الملك/ سيد البلاط، وعلى كل منهم أن يقدم أفضل ما يمكنه، فذلك مبرر وجوده الوحيد.
تتويجه..
كان المفترض ان يتولى الامير أرثر [1486- 1502م] الحكم بعد هنري السابع [1457/ 1485- 1509م]، وهو أكبر أبنائه وولي عرشه، وأمير ويلز. ولغرض توطيد تحالف العرش الانجليزي مع عرش اسبانيا، فقد جرى ترتيب زواج الامير ارثر من كاترين أراغون [1485- 1536م] البنت الصغرى لفرناندو الثاني [1452/ 1479- 1516م] من اراغون وايزابيلا الأولى [1451/ 1469- 1504م] من قشتالة، ووريثة عرش اسبانيا.
وتعتبر ايزابيلا الأولى، أحد أخطر وأهم حكام أوربا والعالم يومها، وذلك لسعة مسؤولياتها، وخطورة قراراتها التاريخية على العالم. فهي: ملكة صقلية [1469- 1504م] وملكة قشتالة/(توليدو/ طليطلة) وليون [1474- 1504م] وملكة اسبانيا [1479- 1504م] بزواجها من ملك اراغون، وملكة نابولي(1504م). وهي راعية رحلة الايطالي كرستوفر كولمبس [1451- 1506م] لاكتشاف قارة جديدة/(1498م).
وفي عهدها سقط الحكم العربي الأموي لبلاد الاندلس [710- 1492م] الذي امتدّ (770) عاما، وكانت غرناظة بني الأحمر آخر قلاعها. في عام (1492م) اتحدت الممالك المسيحية في شبه جزيرة ايبريا، وفرضت سيطرتها على شبه الجزيرة.
وبعد سيطرة ايزابيلا على اسبانيا الموحدة، اتجهت السفن المغامرة في المحيطات، بحثا عن أقصر طريق يوصلها للهند، والذي تكلل باكتشاف قارة أميركا الجنوبية، ثم الشمالية، لتغيير خريطة العالم ومستقبل الحياة على الأرض.
وسواء كان توحيد اسبانيا، أو نهاية الحكم العربي في الاندلس، فأن ذلك التاريخ، كان بداية القرصنة الكولونيالية الاسبانية والبرتغالية، وبداية مشاريع الهيمنة الغربية على عالم الشرق والغرب، ممثلا في المحيط الهندي، بين شبه جزيرة الهند ومضيق هرمز وباب المندب، وأمريكا. ففي عام (1496م) وصلت أول حملة برتغالية بحرية عسكرية في جنوب الهند.
وفي ذلك العام (1492م) صدر مرسوم ملكي يقضي بتخيير يهود قشتالة واراغون، بين اعتناق المسيحية أو الطرد. وأعقبه فيما بين [1499- 1526م] صدور قرارات تلزم المسلمين الراغبين بالبقاء في اسبانيا، اعتناق الديانة المسيحية. ومنها منع استخدام اللغة العربية والأسماء العربية والثياب العربية. ولكن غالبية اليهود والمسلمين فضلوا الانتقال الى المغرب وتونس، وإعادة بناء حياتهم الجديدة.
وكان فرناندو الثاني وايزابيلا الأولى، قد أسسا محاكم التفتيش الاسبانية في عام (1478م) بموافقة البابا/(212) سيكستوس الرابع [1414/1471- 1484م]، اسوة بمحاكم التفتيش البرتغالية ومحاكم التفتيش الفرنسية والرومانية، التي أشئت لمكافحة الهرطقات والبدع الدينية، وتضمنت تصفية العقيدة الاسلامية، وفرض المسيحية بالترهيب والاكراه.
ومنذ أواسط القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين، جرى احياء ذكرى توحيد الجزيرة واستعادتها من أيدي العرب، وذلك في سياق واحد مع التطرف اليميني من جهة، وتطرف حملات منظمات (تنصير المسلمين) من جهة أخرى. ولما تزل تنعقد في جنوبي اسبانيا، مؤتمرات دورية تنصيرية مسيحية، يجتمع فيها متنصرون من شمال أفريقيا وأوربا، لتدارس أوضاعهم، وسياساتهم المستقبلية.
هاته المنجزات التاريخية لملوك اسبانيا، ما كانت لتخفى أو تغيب عن نظر العوائل المالكة في أوربا، وما كانت لتمرّ، دون السعى لاقتناء جزء من (كعكة الغنائم)، ان لم يكن الهيمنة عليها بالكامل، ووراثة العرش الاسباني. علما ان عروش أسبانيا وفرنسا، كانت متعاشقة ومتداخلة بشكل مباشر/(اسبانيا) وغير مباشر عبر زيجات/(فرنسا) مع عائلة الهابسبورغ الامبراطورية التي حكمت النمسا وشرق أوربا طيلة سبعة قرون، من ضمنها حملها لقب القيصر وحامية الكاثوليكية في العالم.
من هنا جاء قرار هنري السابع، بتزويج بكره الأمير ارثر، من كاترين اراغون وريثة عرش (اسبانيا). ولكن الأمير الشاب البالغ خمسة عشر عاما، سرعان ما مات بعد ستة أشهر من ذلك الزواج.
وجود ارثر، بوصفه الابن الاكبر للملك هنري السابع ووريث عرشه، جعل الملك يوجه ابنه الاصغر (هنري الثامن) للدراسة الدينية والحياة التقوية. لكن موت ارثر، أنقذه من حلقة (التدين) وجعله في القطب النقيض حالا. فها هو يرث أخاه أولا، قبل وراثه ابيه.
ورث اخاه في إمارة ويلز أولا، ثم أجبر على الزواج من أرملة شقيقه/(كاترين اراغون)، ومن هنا بدأت التقاطعات والخلافات بين الرغبة الملكية والارادة البابوية. إذ رفض البابا زواج الرجل من أرملة شقيقه، بحسب نص التوراة/(لاوي 20: 21). لكن الملكة ايزابيلا الأولى نجحت في دفع البابا يوليوس الثاني [1443/ 1503- 1513م] لمنح مرسوم عفو بابوي يمرّر زواج بنتها كاترين.
في (11 يونيو 1505م) تزوج هنري الثامن زواجه الأول من كاترين اراغون، وجرى تتويج الزواج في كنيسة وستمنستر. . وفي (نوفمبر 1511م) عقد (معاهدة وستمنستر)، تلبية لطلب الباب يوليوس الثاني، لانشاء تحالف مقدس مع اسبانيا والنمسا للحرب ضد فرنسا.
تكلل الزواج الملكي بأنجاب الاميرة ماري [1516/ 1553- 1558م] التي ستتزوج فيليب الثاني [1527/ 1556- 1598م] ملك اسبانيا، وتتورط في حرب فرنسا. وللملك فيليب أعمال كثيرة في المجال السياسي والديني، فضلا عن نقله العاصمة من طليطلة إلى مدريد/(1561م).
زيجاته..
1- كاترين اراغون [1485- 1636م]، تزوجت هنري الثامن في (1509م)، انجبت خمسة أطفال، توفوا جميعا ما عدا الاميرة ماري/ (ماري كوين لاحقا). وقد انفصل عنها واعتبر زواجه بها لاغيا/(غير شرعي)، وارسلها لتعيش في عزلة، لكنها لم تعترف بطلاقه لها، ولم يعترف البابا به أيضا، مما تسبب في انفصال انجلتره وكنيستها عن سلطة البابا والمذهب الكاثوليكي.
2- آن بولين [1501- 1536م]، كانت من وصيفات الملكة كاترين اراغون، هي وشقيقتها ماري بولين/(عشيقة الملك). لم ينجح الملك في استدراجها لعلاقة سرية مثل اختها، واشترطت عليه أن تكون (ملكة). كان الملك متعلقا بها، وعاجزا عن السيطرة عليها أو التخلص منها.
هاته العلاقة العاطفية هي سبب نفور الملك من زوجته الاولى. يعود اعجاب الملك بها إلى (1523م)، وفي (1532م) اتفقا على زواج سري في (دوفر)، وحملت منه، وفي يناير (1933م) اعلن زواجهما الرسمي. بعد أربعة أشهر من الزواج، أعلن توماس كرانمر [1489- 1556م] رئيس اساقفة انجلتره زواج الملك من كاترين لاغيا وباطلا/(23 مايو 1533م)، وبعد خمسة أيام منه، اعتبر زواج الملك من آن بولين شرعيا.
وكان ردّ البابا /(219) كلمنت السابع [1478/ 1523- 1535م] على انجلتره، اعتباره زواج الملك الثاني فاسخا، وتحديا لسلطات الكنيسة. وفي أول يونيو (1533م) تمّ اقرار طلاق الملك من زوجته الأولى، وتجريدها من سماتها الملكية، وبالمقابل، تمّ تتويج آن بولين ملكة انجلتره.
في ديسمبر التالي وضعت الملكة آن مولودها الأول من هنري الثامن، ودعيت (اليزابيث الأولى/ لاحقا) [1533/ 1558- 1603م]، على اسم جدّتها من الأب: اليزابيث من يورك. وفي عام (1533م) صادق برلمان انجلتره، على زواج هنري الثامن وآن، واصدر قانون (وراثة التاج)، الذي اعتبر ماري بنت كاترين من الملك، غير شرعية.
وأبرز بنود قانون (وراثة التاج)، عدم شرعية أي نفوذ/ سلطة أجنبية في المملكة، وكلّ من يرفض المصادقة عليه ، يعاقب بالاعدام. وفي عام (1534م) عقب الحمل الكاذب للملكة آن، اتفق الملك وكرومويل في طريقة للتخلص من زوجته الثانية، ويأسه من انجابها خلفا ذكرا.
في (1536م) حملت آن مرة أخرى، وعند وفاة كاترين اراغون، ومشاركة الملك في الاحتفالات الملكية التي أمر بها هنري الثامن، اسقطت حملها في الشهر الرابع، وكان ذلك صدمة أخرى للملك. يومها كان للملك عشيقة جديدة هي جين سيمور، فنقلها لمسكن جديد، وصدرت أوامر باعتقال آن بولين وشقيقها مع آخرين، بتهم (زنا المحارم)، وضعوا في برج لندن، واعدموا في [17، 19 مايو 1536م].
3- جين سيمور [1509/ 1536- 1537م] هي وصيفة الملكة آن بولين، تجهل القراءة والكتابة، بدينة الشكل. خطبها الملك بعد يوم من اعدام آن بولين، وبعد عشرة أيام تزوجا. أنجبت للملك وريثه الذكر ادوارد السادس [1537/ 1547- 1553م] وتوفيت بعد أثني عشر يوما بآلام الولادة.
ويذكر أنها طلبت من الملك، أن يغفر للمشاركين في حركة مهاجري الرحمة/(1536/ 1537م). لكنه أنذرها بمصير آن بولين، ونهاها عن التدخل في أمور الحكم. اعتبرها الملك زوجته الحقيقية، وأمر أن يدفن بجانبها عند موته.
4- آن كليفز [1515/ 1540- 1557م] والدها امير دوقية كليفز في ألمانيا. كان زواج هنري الثامن منها/(1540م) سياسيا لغرض التقرب من البروتستانت، والتحشيد ضد فرنسا الكاثوليكية. وقد طلقها بعد ستة أشهر. دعيت (اخت الملك)، لدعواها ان الملك البدين لم يلمسها، وكان يدخل الحجرة ليلا، ويطبع قبلة على جبينها، ويذهب لينام. فاعتبر زواجها فاسخا، ونجت من الطلاق أو قطع الرأس.
5- كاترين هوارد [1524/ 1540- 1542م] ابنة عم آن بولين ومن وصيفاتها. زوجة الملك الخامسة، كان زواج الملك منها يوم (28 يوليو 1540م)، في نفس يوم اعدام رأس وزرائه و أكثر المقربين اليه:توماس كرومويل. كشف توماس كرانمر للملك تصرفاتها الشخصية المشبوهة مع خطيبها السابق وأحد حاشية الملك. لم يصدقه الملك في البدء، ثم أمر بالتحقيقات، حيث اعترفت بها هوارد. اتهمت بزنا المحارم، وأمر القضاء في (13 فبراير 1542م) باعدامها بالسيف.
6- كاترين بار [1512/ 1543- 1548م] أرملة من مذهب الاصلاحيين، ولكنها بعد الزواج امتثلت لمذهب زوجها المحافظ، وهي زوجته السادسة والأخيرة، وأرملته بعد وفاته في (1547م). لقيت صنوف العذاب والاضطهاد على يد (ماري واليزابيث) بنات الملك الأكبر منها سنا.
عشيقاته..
بيسي/(اليزابيث) بلونت [1500- 1539م] هي بنت السير جون بلونت من حاشية الملك، كانت وصيفة كاترين اراغون الزوجة الأولى لهنري الثامن، جذبت انتباه الملك منذ (1514م)، واستمرت علاقة الملك بها ثمان سنوات. انجبت للملك ابنه هنري فيتزروي [1519- 1536م].
وقد اعترف به الملك وجعله دوق ريتشموند وسومرست وايرل نوتنغهام. بعد انقطاع علاقة الملك بها، تزوجت من جيلبرت تيلبويز المتوفي عام (1530م). ثم تزوجت ادوارد كلينتون ايرل لنكولن بين [1533- 1535م]. وانجبت من كلّ منهما ثلاثة اطفال، وماتت بمرض السل.
ماري بولين [1499- 1543م] فتاة من ريف انجلتره، كانت وصيفة لزوجة الملك الأولى، تخذها الملك عشيقة، بعد قطع علاقته مع بيسي بلونت، أثر انجابها هنري فيتزروي/(1519م). وقد أنجبت منه بنتا وولدا، حملا اسمي زوجها اللاحق/(وليم كاري). وهما كاترين كاري/(1524م)/(تزوجت السير فرنسيس وأنجبت اثني عشر طفلا)، وهنري كاري/(1526م)/ تزوج من آن مورجان عام (1545م) وأنجب منها. وعاشوا جميعا في الريف، بعد قطع علاقة الملك بماري بولين، عقب اعجابه بأختها الصغرى آن بولين.
[اليزابيث، أو آن هاستنجس] شقيقة ادوارد ستانفورد [1478- 1521م] دوق باكنغهام الثالث.
ماري/ مارغريت شيلتون في حدود العام (1535م).
طاقم حكمه..
توماس وولسي[1473- 1530م]: كانت خدمته بين [1514- 1529م]. كلّفه الملك بتوزيع صدقات الكنيسة على الفقراء، ثم تنامى نفوذه للسيطرة على كلّ مسائل الحكومة والكنيسة. تعين مستشارا للملك [1515- 1529م]. وبلغ من نفوذه وشيوع صيته، أن يوصف بأنه (ملك آخر)، أو قائم مقامه.
فشل وولسي في تدبير طلاق الملك من زوجته كاترين اراغون. ولم ينجح في ملء الخزانة بالمال، لتلبية افراط الملك في الانفاق. وازاء تصاعد الغضب الشعبي، اقاله من مناصبه وأودعه السجن عام (1530م) ومات في السجن قبل حكمه بالاعدام. وكان له ولع خاص بفن العمارة وقصره/(هامبتون كورت) من التحف اللندنية الخالدة لليوم.
توماس مور [1478- 1535م] المحامي والعالم والفيلسوف. عمل نائب عمدة لندن [1510- 1518م]، في (1517م) عين سكرتيرا ومستشارا للملك، في (1523م) ناطقا باسم مجلس العموم، ثم وزيرا للعدل [1529- 1532م]. لكنه استقال منه لمعارضته طلاق الملكة، ورفضه قانون السيادة. اعتقل عام (1534م) في برج لندن، واعدم العام التالي.
توماس كرانمر [1489- 1556م] نجح في ايجاد ذريعة، لتسويغ طلاق الملك من كاترين اراغون، الأمر الذي فشل فيه توماس وولسي. عينه الملك هنري الثامن عام (1533م) رئيسا لأساقفة كانتربري، وهو من أقارب عائلة بولين. ساهم بدور أساس في انفصال انجلتره عن سلطة الفاتيكان، عمل مع توماس كرومويل [1485- 1540م] في تمرير (قانون السيادة) الذي يمنح الملك السلطة المطلقة على الكنيسة دااخل مملكته/(1534م).
توماس كرومويل [1485- 1540م] بعد اكماله دراسة القانون اصبح عضوا في البرلمان عام (1523م). في (1524م) تم تعيينه في لجنة حلّ الاديرة ومصادرة أموالها. في (1529م) استدعاء الملك للبرلمان للمصادقة على فسخ زواج الملك من زوجته كاترين أراغون وأرملة شقيقه ارثر.
في (1530م) عين مستشار للملك في متابعة اعمال البرلمان. في (1531م) عين في الدائرة المصغرة الموثوق بها للملك. في (1532م) قدم عدّة مشاريع أمام البرلمان، منها قانون يمنح الملك السلطة المطلقة على الكنيسة/(قانون السيادة)، الأمر الذي لقي معارضة من توماس مور [1478- 1535م]: مستشار الملك ووزير العدل، فاستقال الأخير من منصبه، وعين الملك توماس كرومويل رئيسا للوزراء.
بعد (1532م) اصبح كرومويل الرجل الأول في البلاد، والمشرف الرئيسي على أمور الخزانة والمكاتبات الملكية/(حامل ختم الملك)، وكل أمور الكنيسة، وهو أمر لم يسبق لشخص عادي مثله، ان يتدخل فيه.
يقف كرومويل في تنظيماته السياسية، وراء قرار البرلمان بجعل الملك رئيسا مطلقا للكنيسة/(1534م)، غير مرتبط بأي سلطة خارجية، بما فيها سلطة البابا. وهو أول من اطلق صفة (امبراطورية) على انجلتره، ودعى الملك هنري الثامن امبراطورا.
قاد كرومويل مشروع الاصلاح الانجليزي، وترأس كلّ الوظائف الناجمة خلال عمليات التغيير، ومنها منصب (قاضي القضاة) في الأمور الكنسية. كما أشرف على تنظيم التشريعات التي وحّدت ويلز وانجلتره [1535- 1542م]، وعززت سلطة انجلتره في ايرلنده.
وهو ممن اوعز لاستخدام الطباعة والمسرح وفي أمور الدعاية للحكم. وفي أثر محاولته غير الموفقة في اختيار آن كليفز زوجة للملك، عزله الملك من مناصبه، وأمر بضرب عنقه.
نهايته..
في عام (1536م) اصيبت ساق هنري الثامن خلال مبارزة، تسبب في تقرح جرح سابق، خفض من لياقته البدنية مع الوقت، وترتب عليه زيادة وزنه زيادة كبيرة، بحيث بلغ محيط بطنه عند الوفاة (137سم)، عاجزا عن الحركة من غير مساعدة.
تعددت الاراء في طبيعة المرض/ الأمراض التي عانى منها: داء (السكري/ صنف ب). لكن دراسة متأخرة نشرت في (مارس 2011م) أفادت معاناته من مرض وراثي يصيب الدم، ويؤثر على الدماغ والقلب والاعصاب والعضلات، يدعى (متلازمة ماكليود)، وهو نفس الداء الذي عانته شقيقته الكبرى مارغريت [1489- 1541م] ملكة اسكتلندا.
وكان بين مارغريت وهنري الثامن خلافات دائمة، وجفاء بسبب الميراث. لذلك كانت الحاجة للمال وما تتطلبه من دسائس ومغامرات، وقرارات سياسية وادارية من جانب هنري الثامن الذي توفي وميزانية بلده في أسوأ حال.
دفن الملك هنري الثامن بجانب زوجته الثالثة/(بالنسبة له الوحيدة) جين وندسور، في كنيسة القديس جورج في قلعة وندسور، وبعد قرن دفن معهم الملك تشارلز الأول [1600/ 1625- 1649م].
خلفه على عرش انجلتره..
أوصى هنري الثامن بالعرش لابنه الشرعي الوحيد ادوارد السادس [1537/ 1547- 1553م] من زوجته الثالثة جين سيمور. ولما كان الوريث في التاسعة من عمره، فقد اختير خاله ادوارد سيمور [1500- 1552م] للوصاية عليه وحاميا للعرش. وكان وليم سيسل وزير خارجيته [1550- 1553م].
من اعمال هنري الثامن..
اعتقال اثنين من وزرائه، بعد يومين من تتويجه فقط، واعدامهما في (1510م).
مصادرة أملاك الكنيسة ونسبتها للبلاط.
اصلاح الكنيسة [1532- 1537م] وتنظيم العلاقة بين البابا والملك، وتضييق الحريات الدينية وممارسة طقوس الحج والزيارة.
اغلاق الاديرة في انجلتره، مما ترتب عليه نفي واعدامات لمعارضية قادة الدين الكاثوليك/(جون فيشر[1469- 1535م] وتوماس مور[1478- 1535م])، ومن نتائجها حركة مهاجري الرحمة [1636/ 1537م] الممثلة بهجرة كثير من فقراء لندن المستفيدين من خدمات الاديرة، نحو الشمال وانضمام مجاميع سكانية اليهم، بلغ عددهم ثلاثين الفا بقيادة المحامي روبرت اسك [1500- 1537م] وشكلت تهديدا حقيقيا للملك. انتهت الحركة باعدام اسك وكثير من اتباعه.
زيادة الضرائب زيادات كبيرة.
بناء القوة العسكرية وزيادة قطعها البحرية من [5- 23] سفينة.
بناء القصور الملكية وزيادة عددها من [12- 25] قصرا، مفروشة على أحسن ما يكون/(2000) قطعة منسوجة مزدانة بالالوان والنقوش.
بلغت مقتناياته من قطع الاسلحة: (6500) مسدسا، و(2250) مدفعا.
زواج الملك لست مرات، فضلا عن عشيقاته المعلنات والسرّيات.
اعدام وليم تندال [1494- 1538م] حرقا بأمر الملك.
ضمّ ويلز إلى انجلتره/ (1535م).
ضمّ اسكتلندا الى انجلتره وكانت دوقية/ اقطاعية تابعة لبابا الفاتيكان، منحها البابا ادريان الرابع [1100/ 1154- 1159م] لهنري الثاني[1133/ 1154- 1189م]، وقد استمر ذلك في حكم هنري الثامن.
اصدار قانون الخلافة عام (1536م) والذي نص ان ابناء الملك من جين سيمور هو خلفاءه في العرض.
تدمير أضرحة القديسين /(1540م).
مصادرة ممتلكات الاديرة عام (1542م) ونقل ملكياتها للتاج.
قانون التعيينات الاكليريكية لعام (1534م) والتي تصدر جمعا بأمر سيادي. والملك رأس الكنيسة.
قانون الخيانة لعام (1534م) الذي يجعل كل من لا يعترف بسلطة (الملك) خائنا خيانة عظمى.
الحرب ضد فرنسا.

(12)
ثلاث ملكات.. ثلاثة صراعات [1553- 1603م]..
ملكة الأيام التسعة..
كان دوق نورثمبرلاند: جون دادلي [1504- 1553م] جنرالا وادميرالا وسياسيا مرموقا في بلاط ادوارد السادس [1537/ 1547- 1553م]، رأس الحكومة بين [1550- 1553م]. وبينا الملك الشاب على فراش الموت، أقنعه بتوريث العرش لعمته الصغيرة جين غراي [1536/ 1553- 1554م].
وكان الدوق جون دادلي قد أحكم خطته، بتزويج شقيقة هنري الثامن من ابنه غيلدفريد دادلي، لتسلق العرش، وضمان دوام البروتستانتية في انجلتره. وبعد موت الملك تولت العرش ليدي جين غراي، وحاول الدوق ابقاء خبر الموت سرّا، لحين استتباب الأمر لكنته.
لكن الاميرة ماري [1516/ 1553- 1558م] بنت هنري الثامن الكبرى -من زوجته الأول كاترين الاسبانية-، اقتحمت القصر مع أختها اليزابيث في [3 أغسطس 1553م]، وأفشلت خطة الدوق دادلي، لتضعه مع ابنه وعمتها جين غراي في برج لندن، وحكمت عليهم بالاعدام جميعا.
عرفت الملكة ماري الاولى بعصبيتها المتطرفة للكاثوليكية، والعمل على اعادتها الى انجلتره. وفي القداس الكاثوليكي الذي دعت اليه الملكة ماري، تظاهرت اليزابيث بالمشاركة. لكن التوافق بين الأختين لم يستمر طويلا. ولم تقدر ماري على قمع الميول البروتستانتية عند أختها.
كانت البروتستانتية/(1534م) ومشروع الاصلاح الكنسي [1532- 1537م] قد قطعا شوطا بعيدا في انجلتره طيلة عهد هنري الثامن وخلفه ادوارد السادس. وعندما استلمت ماري الحكم، أصدرت أمرها للاساقفة والعلماء بقبول برنامجها لاعادة الديانية الكاثوليكية الرومانية لانجلتره. وعندما رفضوا، حكمت عليهم بالموت حرقا.
ولغرض توطيد حكمها ومذهبها، تزوجت من فيليب الثاني [1527/ 1554- 1558/ 1598م]: ملك اسبانيا [1556- 1598م]، في محاولة لانجاب طفل يكون وريثها على العرش، بغير طائل.
قرار زواج الملكة من فيليب الاسباني، وفر أسبابا جديدة للاهتياج الشعبي ضد حكمها في يناير وفبراير (1554م) بقيادة توماس ويات الابن[1521- 1554م]. وقائد الانقلاب، وهو ابن الشاعر توماس ويات من شعراء بلاط هنري السابع وهنري الثامن، وكان والده هنري ويات مستشار البلاط.
وكان توماس ويات [1503- 1542م] وهنري هوارد [1517- 1547م] قد أدخلا السونيته في الشعر الانجليزي نقلا عن الايطالي بترارك [1304- 1374م] من أدباء عصر النهضة، وتأثرا بأشعار دانتي [1265- 1321م]. وهما من حاشية البلاط.
عجزها عن انجاب طفل ذكر، وطلاقها ، أصاب ماري باليأس والاحباط، وزاد من حدّة ميلها للعنف الدموي. قدّر ضحاياها بالالاف، ممن ماتوا بالسيف أو الحرق، وألصقت بها صفة ماري الدموية.
الملكة العذراء..
كانت اليزابيث الأولى[1533/ 1558- 1603م] في عامها الثاني والنصف من عمرها، عند اعدام والدتها آن بولين[1501/ 1533- 1536م]. تربت بعدها مع اختها الكبرى من جهة الاب، في بيت ماري بنت كاترين اراغون الكاثوليكية. وعندما صدر مرسوم أول يونيو (1537م) الذي اعتبر زيجاته الاولى والثانية غير شرعية، وكذلك أطفاله منها؛ شعرت ماري بغيظ شديد تجاه والدها، ونزعة للثأر والانتقام، كما يتبدى من بعد.
أما اليزابيث، فاحتفظت بهدوئها، ولم يبدُ عليها شيء. ولعلّ هذا يلخص الفرق بين الشخصيتين الأختين، وبين سياسة عهديهما.
عندما ولي ادوارد السادس عرش انجلتره وهو في التاسعة من عمره، تشكل مجلس وصاية على العرش، اختير خال الملك ادوارد سيمور [1500- 1552م] وصيا وحاميا للعرش. أما شقيقه توماس سيمور [1506- 1549م] فقد تزوج من كاترين بار [1512- 1548م]: أرملة هنري الثامن عام (1547م)، واستقدما الاميرة اليزابيث لتعيش معهم في (تشيلسي)/(حي في وسط لندن، جنوب الهايدبارك).
كان توماس سيمور يرغب في الأميرة، ويبثها عواطفه الغريزية الجامحة، كرجل مراهق في الاربعين. وعندما صارت في منزله، كان يختلي بها، دون اعتراض من زوجته. بل أن الأخيرة كانت تشاركهما المداعبات. لكن الاميرة الشابة، انسحبت من تلك العلاقة، عند رؤيتها لالتصاق الزوجين أمامها.
وفي (1548م) تركت منزل سيمور الى هاتفيلد هاوس. وعند وفاة زوجته، استمر يحوم حول اليزابيث ويستعيد معها دعابات المراهقة المتأخرة، طمعا في الزواج منها. لكن تصرفاته تلك، لفتت انتباه طقم القصر لأطماعه في العرش، وانتهت به إلى برج لندن، واعدامه في (1549م).
تلك العلاقة الشاذة، تركتها في أزمة عاطفية نفسية، لم تتخلص منها لاحقا. وهو ما يلحظ من رفضها للزواج وتفضيلها البكورية، رغم كثرة الطامعين فيها. والأمر الآخر، حالة الانطوائية ونبذ الاجتماعيات، التي تفاقمت لديها في أواخر عهدها، مع تفاقم الأزمات السياسية، وحصول انتفاضات شعبية، جعلتها أكثر حدة وصرامة.
ومع ذلك، فقد كان بينها وبين رفيق طفولتها روبرت دادلي [1532- 1588م] عواطف ورغبات مشتركة في الزواج، سيما بعد وفاة زوجة الاخير. لكن الموقف العام والنبلاء ووزيرها سيسل كان ضد الزواج، وحتى بعد زواجه الثاني، استمر تقديرها له، حتى موته في الحرب مع فرنسا.
خلال حركة التمرد ضد ماري الاولى[يناير/ فبراير 1554م] اتهمت الاميرة اليزابيث بالضلوع في المؤامرة ضد اختها، وسجنت في برج لندن [18 مارس- 22مايو 1554م]. وكانت وشايات أقنعت الملكة ان عرشها يبقى مهددا، طالما بقيت اليزابيث في الحياة، فاعتقلت وتم التحقيق معها، دون العثور على دليل ضدّها.
تقدم أنصار اليزابيث بطلب للملكة للعفو عن اختها، لعدم وجود دليل ضدّها، فنقلت من سجن برج لندن، إلى (وودستوك) وبقيت تحت الاقامة الجبرية لمدة عام، تحت اشراف هنري بدنجفيلبد. في [17 ابريل 1555م] استدعيت لتشهد حادث حمل الملكة؛ فإذا أنجبت، تخسر اليزابيث فرصة الحكم، أما إذا مات الطفل وأمه، تكون اليزابيث وريثة العرش.
وعندما مرضت ماري الأولى زوجة فيليب الثاني ملك اسبانيا/(1556م) أرسل مستشاره، للتشاور مع اليزابيث الاولى في هاتفيلد هاوس، مستبعدا ملكة اسكتلنده ماري ستيوارت [1542/ 1542- 1567/ 1587م] بنت جيمس الخامس، المتحالفة مع فرنسا.
وقبل أن تتوفى ماري بعشرة ايام، اعترفت لها بوراثة عرش انجلتره. وكانت اليزابيث قد شكلت حكومتها وبرنامج الحكم منذ اكتوبر (1558م). وجاء في خطاب تتويجها في قصر هاتفيلد قولها: [أنا أحتاج مساعدتكم جميعا... أنا بحكمي وأنتم بخدمتكم.. يمكننا أن نقدم عملا نافعا يرضى الله القدير، ويُقدم بعض الراحة لأجيالنا القادمة على الأرض. وسأجعل المشورة سبيلي عند اتخاذ القرارات].
اعتمدت اليزابيث في حكمها فريقا من المستشارين، باشراف وليم سيسل [1520- 1598م] كبير مستشاريها ووزير خارجيتها [1558- 1578م]، وحامل ختم الملكة [1590- 1598م]. وليم سيسل من طاقم ادوارد السادس ووزير خارجيته [1550- 1553م]. ومؤسس عائلة سيسل السياسية في تاريخ انجلتره الحديث وخدمة البلاط، وكان من بينهم وزراء وأثنان رؤساء وزارة.
من أعمالها الأولى السيطرة على الكنيسة، وتوليها أمورها، مانحة نفسها لقب (الحاكم الاعلى للكنيسة) بدل لقب (رئيس الكنيسة المطلق) الذي اختاره والدها هنري الثامن. أدخلت اصلاحات بروتستانتية في الكنيسة، وأبقت على رمزية الصليب الخشبي، ولم تلغٍ كهنة الكاثوليكية بثيابهم السود تماما، أو تجردهم من عضوية البرلمان.
لكنها زادت عدد النبلاء في البرلمان، قياسا لعدد الكهنة. اتسم عهدها بالاعتدال وغياب التعصب، ولم تتورط في اعمال التصفية والاضطهاد التي وسمت العهود السابقة.
في [8 مايو 1558م] اقرّت الكنيسة قانون السيادة، وعلى نهج هنري الثامن، كان على جميع موظفي الحكومة، الاقرار بسلطة الملكة/(قانون السيادة)، أو فقدان مناصبهم. وفي نفس الوقت اصدرت قانون التوحيد، الذي يلزم الجميع بالحضور الى الكنيسة، واستخدام كتاب الصلوات المعدلة/(كتاب الصلوات المشترك) لزما. ولكن العقوبات لمن يخالف ذلك، لم تكن صارمة.
(أرى ولكني لا أتكلم..!)..
هي حكمة الملكة اليزابيث الأولى، التي أكسبتها كثير الاحترام، وجنبتها التورط في كثير من الازمات والاضطهادات. وسرّ هاته الحكمة، هو توفرها على جهاز مخابرات داخلية وخارجية، يجعلها على دراية بما يحدث، وما يدور من مناورات،ولكنها، بحكمتها، تصرفت وكأنها لا تعرف شيئا، مخولة الأجهزة المعنية، بعمل اللازم.
هاته المتلازمة المستحيلة، بين التوفر على المعرفة/(المعلومات)، والتصرف في ضوئها، دون التطرق اليها، أو ترك أثر للمعرفة، مما ينبغي للسياسي الحكيم والناجح ادراكه وإجادته بعمق، كجزء من شخصيته.
الأمر الشائع عربيا، وعراقيا، هو العكس تماما. فعلي رغم محدودية معارف الحاكم، ومعلوماته الميدانية عما يتربص بالبلاد داخليا وخارجيا، تجده مندفعا بعنترية الإدعاء: أنه يعرف كلّ شيء، بل أنه (يقرأ الناس من عيونهم)، حسب تصريح صدام حسين [1937/ 1979- 2003/ 2006م] في قاعة الخلد، ذات الصيت السيء.
ومن الأمثلة القريبة لذلك، ادعاءات المالكي المتكررة، بأنه يملك (ملفات) ضد كلّ شخص يعترض طريقه أو يخالفه، متخذا تلك العبارة/(الملفات الوهمية)، (طاووس الملائكة) الذي يمنحه حصانة فوق عادية، تحميه من محاولات فضحه والنيل منه.
وبينما بالغ صدام في قراءة عيون المحيطين به، وأخطأ أخطاء غير مبررة، نجح المالكي في السيطرة والتسلط -(كقطب ولاعب رئيس)- في دفة الحكم لفترة ما بعد (2006م) حتى اليوم. لكن نجاح المالكي لا يعود لذكائه، وانما لهشاشة المسرح السياسي العراقي لعهد الاحتلال، وعدم وجود/ ظهور سياسيين مثقفين، أو رجالات تاريخ من الوزن الثقيل.
دخل صدام عربة السلطة من خلال منظومة الامن السياسي، ولكنه كان مغامرا ثوريا على غرار الكاوبوي أو طريقة غوبلز [1897- 1945م] وزير الدعاية الالماني، يتحسس مسدسه، بدل استخدام (المعرفة والمعلومات) كأسلحة ومفاتيح سياسية ودبلوماسية، يمكنها قلب صورة الحدث، وتحويل (الأعداء) إلى (أصدقاء).
ما فعله صدام هو العكس. أحال (الأصدقاء) إلى (أعداء). صدام كشخص عادي وشخصية سياسية، محدود الخبرة الاجتماعية/(غير اجتماعي)، وهي صفة تجمع عامة العراقيين تقريبا، لذلك يستعيض عن الخبرة الاجتماعية، بأحكام مثالية متطرفة، عن الصدق والوفاء والولاء والتضحية المتناهية.
هاته الأزمة الاجتماعية ، اقترنت بخصائص نفسية تدميرية في مجال العلاقة بالآخر، ممثلة في ظاهرة الشك وأزمة الثقة. وصدام هو صاحب مقولات أثيرة منها: (ان العرب لا يثقون ببعضهم!)، لذلك يتكلون على الأجنبي/ العدو نكاية ببعضهم. وهاته حالة تاريخية مستمرة، وهي سبب فشل الصيرورات التاريخية في حياة العرب.
صدام حسين، كشخصية سياسية اقليمية، هو أفضل مثال ناضج ومتقدم للحاكم العربي، -بكل حسناته وسيئاته- على مدى التاريخ، وهو حري بالدراسة العلمية الاجتماسياسية والتربوية، في المدارس السياسية ومعاهد تخريج الساسة.
ولا أعتقد أن سياسيا عربيا أو اقليميا، أنفق على تربية نفسه، وتاهيلها لدور الحاكمية والبطولة التاريخية، كما فعل هو. ومن يراجع تسلكات السيسي [1954/ 2013م- ؟] في مصر، وولي العهد السعودي -تحديدا-، فضلا عن آخرين، يجد ملامح شخصية وأداء صدام حسين تتكرر.
وقد سبق في المجال العراقي، ظهور محاولات البعض، لإعادة انتاج شخصية صدام حسين، في اطار ايديولوجي مختلف، سواء : لدى أياد علاوي أو ابراهيم الجعفري أو خلفه المالكي، وحتى عادل عبد المهدي. لكنها تبقى مجرد محاولات جزئية انتقائية، تفتقد الاقناع.
الحكم فن. وقد قيل (السياسة فن)، لكنه الفن الأصعب. الحكم هو أن تكون مسؤولا فعليا مؤثرا، ولا تسمح لذلك أان يبدو على شخصيتك. وهذا هو سرّ اللعبة الملكية.
الملك منصب شرفي، والمسؤولية تتجه الى رأس الحكومة في الظاهر. ولكن الحقيقة أن الملك يفعل كلّ شيء، ويتدخل في كلّ شيء، من وراء الكواليس، ممسكا بخيوط السياسة، يحرك بها رأس الحكومة والوزراء، وحتى بعض البرلمانيين، من مقربيه.
ان السلطة استفزاز. والاستفزاز عدوان. كلّ سلطة هي استفزاز. والسلطة ليست سياسية أو عسكرية دائما. المعرفة والتعالُم ونعرات الأستذة والتدين وتجارة القيم والمبادئ هي سلطة سلبية، وهي استفزز، لا يدركه الفاعل، ولا ينتبه لمفعوله السلبي.
احتفظ بمعلوماتك وكنوزك لذاتك، ولا تتظاهر بها. ركز على التواضع والاتضاع، واحذر الادعاء والانتفاخ. والمثال الأعظم هنا هو شخص يسوع الناصري، في سلطانه الكوني وزهده في العالم: (إذا كنت ابن الله فانزل عن الخشبة)/ (خلص كثيرين ولا يخلص نفسه!).
في أجواء المناورات الأوربية وصراعاتها البلدانية ضد بعضها البعض، خاضت انجلتره حربها المرتقبة منذ زمن، ضد اسبانيا، ونجحت البحرية الانجليزية في هزيمة اسطول ارمادا الاسباني، لتحصل انجلتره على مكاسب سياسية واقتصادية، وتنتهي للأبد من عدو سابق. اضاف الانتصار العسكري مكاسب جديدة لحكم اليزابيث، معوضا خسارة انجلتره أمام فرنسا في عهد ماري الأولى.
ان السرد التاريخي الجميل الخاص بشخصية اليزابيث الاولى، لا ينبغي أن يستغرق القارئ في متاهاته المزوقة. فاليزابيث التي كافحت الكاثوليكية وطاقم الحرس القديم الذي أعادته ماري الاولى. فضلا عن نفوذ البابا وكبار أساقفته، لاستعادة انجلتره من براثن الاصلاح البروتستانتي؛ كلّ ذلك يقتضي حزما وذراعا. كما أعدمت ماري ستيوارت ملكة اسكتلندة/
(1587م)
في عهد اليزابيث الاولى عرفت انجلتره معنى الاستقرار والازدهار والشعور بالهوية الوطنية لأول مرة في تاريخها. وعند تذكر اليزابيث الاولى اليوم، يتم التركيز على أمرين، فن العمران، وازدهار الاداب والفنون ومنها مسرح شيكسبير [1564- 1616م] ومسرحيات كريستوفر مارلو [1564- 1593م] الذي كان جاسوسا للملكة داخل فرنسا.
ومن وحي تجربته الشخصية كتب مسرحية (يهودي مالطا) الملهمة لمسرحية شيكسبير(تاجر البندقية). يذكر ان كرستوفر مارلو خريج كامبردج، كان جاسوسا لصالح معهد الجيزويت في ريمز خلال سنوات الجامعة، قبل اختياره في مكتب المخابرات السرية لليزابيث الاولى، وكان يتظاهر بمعارضة البروتستانتية.
يعتبر كريستوفر مارلو معلما لشيكسبير، وفي أعمالهما عوامل مشتركة عدة، منها: تأكيد مبدأ القوة، الضمير والحوار الداخلي للشخصيات، وإعادة انتاج التاريخ السياسي الانجليزي على المسرح الدرامي.
ويذكر ان حركة المسرح التمثيلي وتسخيره للدعاية الملكية، تعود لأيام هنري الثامن ومستشاره توماس كرومويل، قبل أن تتحول سمة رئيسة للعصر اليزابيثي. كما ان فرقة تشمبرلين التي عمل فيها شيكسبير، دعيت كذلك (رجال الملك).
علاقات انجليزية عثمانية..
- وليم هاربورن أول سفير انجليزي لدي الباب العالي العثماني/(1578م).
- توقيع أول إتفاقية تجارية بين الطرفين في (1580م).
- مراسلات بين اليزابيث الاولى والسطان مراد الثالث [1546/ 1576- 1595م]، بغية انشاء تحالف بين الطرفين، في الحرب ضد اسبانيا.
- السماح للسفن الانجليزية بحمل العلم الانجليزي في المياه العثمانية، بينما السفن الأخرى تحمل العلم الفرنسي المقدم على سواه لدى العثمانيين.
- انجلتره تصدر القصدير والرصاص للعثمانيين، لاستخدامه في صناعة الاسلحة والمدافع، مما أغاظ بابا روما.
علاقات انجليزية مغربية..
أقامت اليزابيث الأولى علاقات تجارية مع دولة المغرب، اعتمدت على استيراد السكر المغربي، وتصدير الاخشاب والمعادن والدروع والذخيرة. وفي عام (1600م) زار الملكة عبد الواحد بن مسعود [1558- 1610م] مبعوثا من احمد المنصور الذهبي [1549/ 1578- 16-3م]، للتحالف مع انجلتره ضد اسبانيا.
خلفها على العرش..
بعد موت وليم سيسل [1520- 1598م] خلفه في خدمة البلاط ابنه روبرت سيسل، الذي رتب موضوع خلافة العرش سرا مع جيمس السادس [1566- 1625م] ملك اسكتلنده، ليكون ملكا على انجلتره، ونصحه على مداهنة الملكة المريضة وكسب ودّها.
وعند موتها في (1603م) اصبح ملك اسكتلنده ملكا على انجلتره. يذكر ان اليزابيث الاولى سبق واعتقلت ماري ستيورات ملكة اسكتلنده في برج لندة لمدة ثمانية عشر عاما قبل اعدامها، لمنع تهديدها لعرشها. وبموت اليزابيث الاولى، انتهى حكم ال تيودور، المؤسسة لانجلتره القوية والمستقلة، وبدأ حكم ال ستيورات السكتلندية.
من أقوال اليزابيث الأولى..
- أنني أرى، ولكني لا أتكلم.
- وفي النهاية، يكفيني حجر رخام نقش عليه أن ملكة حكمت فترة من الزمن، عاشت وماتت عذراء/(1955م)
- إذا اتبعت أهواء نفسي، فأنا أفضل أن أكون فقيرة ووحيدة على أن أكون ملكة ومتزوجة/(1563م)
- جميع أزواجي، شعبي الكريم/(1599م)

(13)
سكتلنده تحكم انجلتره [1603- 1714م]..
سكتلنده مقاطعة/(اقطاعية) خاضعة لبابا الفاتيكان، تحت وصاية فرنسا الكاثولكية. وكانت انجلتره تخضع لملك سكتلنده، حتى ظهور هنري الثامن وتمرده على البابا والحكم الفرنسي واللغة الفرنسية. اسكتلنده منطقة زراعية غنية بالمعادن والكشوفات التاريخية، وتتوفر على أكبر احتياطي نفطي/(نفط الشمال) بين دول الاتحاد الأوربي.
وفي المجموعة البريطانية، تنفرد سكتلنده بأقدم وأفضل أساليب وأنظمة التنظيم والادارة والأمن. والسكتلنديون هم الأكثر شعورا قوميا بالاستقلال والهوية، التي يكافحون في سبيلها حتى اليوم، ويسعون للتحرر من الارتباط السياسي بانجلتره/(استفتاء 2015م).
لغة اسكتلنده هي (الغيلية) من (الغال) أو (الكيلت)، سكانها القدماء. وبجانبها ثمة لغتان هما الانجليزية/(بلهجة سكتلندية)، والسكتلندية. وأصل سكانها من الكيلت والغال والفايكنغ.
لعلّ الهيمنة الفرنسية المدعومة من بالبابا، وراء الحساسية والبرود/(الحرب الباردة) -تاريخيا- بين الطرفين. وعندما كان هنري الثامن على سرير الموت، حذر من وقوع انجلتره تحت حكم السكوتلاند. وكان تحجيم النفوذ السكوتلندي والفرنسي والبابوي في انجلتره، في مقدمة أغراض سياسة اليزابيث الأولى.
لكن.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ!. وهذا يعرض لسؤال هيجل الكلاسيكي: من يكتب التاريخ؟..
بعبارة أخرى، من كان يصنع التاريخ قبل دخول التكنولوجيا والحضارة وأطماع البشر، ذلك ما أدعوه (التاريخ الطبيعي)/(منطق التاريخ)، الذي يقوم على التناسق والانسجام والتجدد الانساني، الأمر الذي يفتقده التاريخ الصناعي/ الاصطناعي، الذي عادت نتائجه وبالا على البشرية والفكر السياسي الرأسمالي الغريزي.
النظرة العامة ترى مملكة سكتلنده أكثر تطورا ووعيا وتنظيما، من شركائهم في بريطانيا. وترى في انجلتره الأكثر تخلفا وبدائية وفظاظة وشرورا. وهي نظرة ذات مدى أوربي عام. وفي الصعيد الشعبي- تحت السائد-، والتاريخ الشفاهي غير المكتوب، تتحدث كل جماعة بلدانية/ قومية عن أخواتها الاوربيات، بحسب النظام القبلي والثقافي القديم، العائد للحكم الروماني أو ما قبله.
وهو أمر لا يمكن تعلمه في مناهج الدراسة. ولكنه يوجد لدى المخضرمين، ممن لا يسايرون الثقافة السائدة، ويتحدثون عن ايام المغازي والحودث، عندما كان الهنغار يغيرون على سكان النمسا، والجيرمان على أهل فرنسا، وجماعات الفايكنغ تغير وتعبث ضد سكان الشواطئ الشمالية.
ولا حاجة للقول، ان التاريخ الرسمي/ (الأكاديمي) هو الأبعد عن سياق الواقع والطبيعة. ولذلك يفشل غالبا في ان يكون قاعدة استنتاجات واستقراءات الحاضر أو المستقبل السياسي.
على مدى عهود، واجهت الملكية الانجليزية تحديات عدّة، وفضلا عن المال والسيادة، كانت مسألة الخلف/(الوريث). وفضلا عن تجارب هنري الثامن، عجزت بناته: ماري واليزابيث عن انجاب وريث للعرش. ولسرّ لم يكشف كنهه، كان الانجليز ضد زواج ملكاتهم.
فقد ثارت انتفاضات ضد ماري الأولى، عند زواجها/(1554م)، كما ثارت انتفاضات، في عهد اليزابيث الاولى، كلما شاعت رائحة زواج لها ، للحد الذي انعكس على طباعها، وطبع نهاية عهدها بالحدة والعنف. وعندما دنا رحيلها، بلا خلف، واضعة حدا لحكم ال تيودور، لم تجد بدّا من التسليم لغريمها جيمس السادس ملك سكتلنده، بتنكب مهام عرش انجلتره.
في (1323م) استقلت اسكتلنده، واعترفت انجلتره باستقلالها. وبلغت اسكتلنده ذروة ازدهارها تحت حكم ال ستيورات [1371- 1488- 1714م]، وقدمت أعمالا ادبية بارزة. وقام ال ستيورات بعدة محاولات لاحتلال انجلتره، بدعم من فرنسا الكاثوليكية، في عهود كل من: جيمس الرابع، وجيمس الخامس، وماري ستيورات.
بالمقابل وقف بعض السكان والأساقفة، ضدّ مشاريع الوحدة/ التبعية لفرنسا، واتخذوا لذلك جانب البروتستانتية المخالفة للكاثوليكية الفرنسية، والممالئة لانجلتره، وصولا لاعلان اسكتلنده دولة بروتستانتية/(1559م)، تحميها الملكة ماري ستيوارت.
قابلت فرنسا الاحتجاجات بإحكام السيطرة على البلاط، ودعم طبقة النبلاء فيها، مما حدا بهم لخلع الملكة البروتستانتية ماري ستيوارت [1542/ 1542- 1567/ 1587م]، ووضعها في السجن. وعندما هربت ماري ستيوارت جنوبا، للحصول على دعم اليزابيث الأولى، سجنتتها الأخيرة ثمانية عشر عاما، في برج القلعة قبل أن تقضي عليها بالاعدام.
جيمس الأول ملك انجلتره [1566/ 1603- 1625م] هو أول ملوك انجلتره من ال ستيورات: جيمس السادس ملك اسكتلنده [1566/ 1567- 1626م]، هو ابن ماري ستيوارت.
في عام (1603م) تم ابرام اتحاد ملكي بين انجلتره وايرلنده في عهد جيمس الأول.
في الاول من مايو (1707م) توحدت اسكتلنده وانجلتره سياسيا بموجب قانون (الوحدة)، وقامت بريطانيا العظمى. ولكن سكان اسكتلنده بقيادة النبلاء، وقفوا ضد الوحدة، وأكدوا مطاليبهم بالاستقلال. وفي الأول من يناير (1801م) دخلت انجلتره في اتحاد سياسي مع سكتلنده، لانشاء بريطانيا العظمى وايرلنده.
انجلتره + ويلز + سكتلنده = بريطانيا = المملكة المتحدة
انجلتره + ويلز + سكتلنده + ايرلنده = بريطانيا وايرلنده = المملكة المتحدة وايرلنده
رغم دعاوى الوحدة والاتحاد، فأن اسكتلنده لم تتخل عن ثقافتها وهويتها القومية، واستمرت في تطبيق نظامها القضائي والمالي، ولها برلمان وحكومة ذات سيادة. وفي (1997م) صار للبرلمان السكتلندي صلاحيات كثيرة للتدخل في الشؤون العامة. وفي (مايو 2011م) فاز الحزب الوطني السكتلندي بالأغلبية. وتحدد اجراء استفتاء حول الاستقلال في [18 سبتمبر 2014م]
في القرن التاسع عشر ظهرت حركة الاستقلال السكتلندي بزعامة الملك، وفي (2007م) حصلت على الأغلبية في البرلمان، واستحقت حكما ذاتيا، في إطار المملكة المتحدة، اعترفت به منظمة الأمم المتحدة. ولكن من الناحية الدستورية، لا يتمتع برلمان اسكتلنده وحكومتها بسلطات وصلاحيات مطلقة، بينما يمتلك برلمان انجلتره سلطات مطلقة، تمنحه حق التدخل في اسكتلنده، وحلّ الحكومة والبرلمان فيها، وهي نقطة الخلل في الاتفاق، ومحور الحيلة والخداع في السياسة الانجليزية.
ال ستيوارت..
يعود أصلهم الى (الن فيتزفلاد) أحد أفراد جيش وليم الأول/ الفاتح دوق نورماندي [1035- 1087م]، في غزوه لبريطانيا، وملك انجلتره [1066- 1087م]. في عام (1114م) توفي ألن، وفي عام (1117م) كان حفيده (والتر) أحد رجالات بلاط اسكتلنده، والذي منحه الملك لقب (ستيوارت): اي القائم بأعمال القصر، ثم اصبح اللقب اسما لجدّ العائلة.
في عام (1371م) توفي ديفيد الثاني ابن روبرت بروس دون أن يعقب. فاختير أحد ابناء اخت الملك مارجوري زوجة والتر فيتزالن عرش اسكتلندا، وتلقب باسم (روبرت الثاني) أول ملوك ال ستيوارت على عرش اسكتلنده، والذي يبلغ عددهم (14) ملكا.
في (1603م) تولى أل ستيوارت حكم كل من اسكتلنده وانجلتره معا، عقب وفاة اليزابيث الأولى. وذلك في عهد جيمس السادس/ (جيمس الأول) ملك أنجلتره، ويستمر حكم عائلته، لخمسة من أحفاده.
تشارلز الأول [1600/ 1625- 1649م] مال للاستبداد بالحكم، وفي (1629م) حل البرلمان وحكم بمفرده [1629- 1640م]. مما جعل البرلمان ينتفض عليه ويطالبه بتوقيع وثيقة الحقوق والحريات. وفي عام (1640م) ثارت سكتلنده على الملك، فاحتاج دعم البرلمان لتجهيز القوات العسكرية.
انتهز البرلمانيون تلك الظروف، وأطاحوا بأعوان الملك: سترافورد والاسقف لود، دون رد فعل من الملك، مما دفع البرلمانيين لمقاطعته/(1645م)، وهكذا تشكلت ارضية الحرب الاهلية بين انصار الملك والبرلمانيين.
ثورة كرومويل..
شهدت انجلتره صراعات سياسية ومسلحة في عهد تشارلز الأول [1600- 1649م]، بين مجموعتين، الملكيين بقيادة تشارلز الأول، والبرلمانيين بقيادة اوليفر كرومويل [1599- 1658م]. بدأت شرارتها الأولى بين [1642- 1646م] انتهت بعزلة الملك وتسليم نفسه للاسكتلنديين الذين سلموه للبرلمانين.
لكن الملك هرب عام (1647م) وعقد تحالفا مع الاسكتلنديين، مقابل منحهم حقوقا دينية، مما أدى لتجدد المعارك ثانية بين [1648- 1649م]، لكن كرومويل جمع البرلمان، وأصدر حكمه باعدام الملك/(1649م)، وتم ضرب عنقه في قصر وايت هول القريب من كنيسة وستمنستر، وشهد اعدامه من أبنائه: هنري واليزابيث.
وقد تجددت الحرب مرة ثالثة بين انصار الملك والبرلمانيين في [1649- 1651م]، لتنتهي بهزيمة انصار الملك في معركة وورسستر في [الثالث ايلول 1651م]. أعقب ذلك استبدال الحكم الملكي بكومنويلث انجلتره [1649- 1653م]، ثم محمية انجلتره [1653- 1658م] بقيادة كرومويل، وهو ما يعرف بجمهورية بريطانيا.
كان من نتائجها وضع حد لاستبداد كنيسة انجلتره، وعدم قدرة الملك على الحكم بدون موافقة البرلمان. وقد وقفت اسكتلنده وايرلنده الى جانب الملك في الحرب. لكن ثمار جمهورية كرومويل لم تترسخ تماما الا في ثورة (1688م) في عهد وليم الثالث حاكم هولنده.
يومها ثار البرلمانيون الانجليز بالتحالف مع وليم الثالث ملك هولنده، وقاموا بعزل جيمس الثاني وتنصيب ابنته ماري المتزوجة من الهولندي وليم اورانج. وتكللت الثورة بمرسوم (اعلان الحقوق) عام (1689م) الذي يفضح مظالم الملك وتجاوزه على حقوق السكان.
تشارلز الثاني [1630/ 1649- 1685م] ابن تشارلز الأول [1600- 1649م] دعي للحكم بعد وفاة كرومويل، وكان خلال الفترة الانتقالية، متنقلا بين فرنسا وهولنده. استلم تشارلز الثاني الحكم، وتم تأرخة جميع الوثائق والقرارات باسمه، باعتباره خلفا لوالده منذ (1649م)، وتعتيم حكم البرلمان بقيادة كرومويل.
اصدر تشارلز الثاني قانون كلارندون الداعم لمكانة الكنيسة، وكانت الحرب بين انجلتره وهولنده محور عهده. في (1670م) عقد معاهدة (دوفير) السرّية، مع ابن عمه لويس الرابع عشر [1638/ 1643- 1715م] لدعمه في الحرب ضد هولنده/ مقابل اعتناقه الكاثوليكية لاحقا.
وفي (1679م) تم الكشف عن كون شقيق الملك وولي عهده ودوق يورك كاثوليكيا؛ مما قاد الى أزمة بين المحافظين/ أنصار الملك، وبين اليمينيين/الأحزاب الكنسية. وعقب مؤامرة لاغتيال الملك وشقيقه جيمس، تم الحكم على اليمينيين بالموت والنفي. في العام (1681م) قام تشارلز بحلّ البرلمان، وحكم بمفردة حتى وفاته.
خلفه شقيقه جيمس الثاني[1633/ 1685- 1701م] على عرش انجلتره: (جيمس السابع ملك اسكتلنده). وهو آخر ملوك الرومان الكاثوليك في انجلتره.
جيمس الثاني هو الابن الوحيد لجيمس الأول، واخر ملوك الرومان الكاثوليك على عروش انجلتره وايرلنده وسكتلنده. تم تتويجه عقب وفاة والده، وهو في السادسة من عمره تحت وصاية أمه جين بنت جون بيوفورت ايرل سومرست، وأصبح الايرل الخامس لدوغلاس ارتشيبالد وصيا على المملكة.
في (1639م) تزوجت جين أم الملك من السير جيمس ستيوارت فارس اللورن، فأصبح ليفينغستون وصيا على الملك الصغير. وفي (1649م) تزوج الملك من ماري بنت ارنولد دوق غيلدرلاند.
اهتم جيمس الثاني بالتعليم، وتطوير نظم الإدارة، وتنفيذ القانون. ولكن أثره الأكبر في تاريخ اسكتلندا، إنه أصدر جملة قوانين، تنظم حقوق ملكية الأراضي، وتعنى بتحديث نظام الصكوك، فضلا عن حماية حقوق الفقراء.
في (1688م) نشبت ثورة في بريطانيا ضد سياسات الملك جيمس الثاني [1633/ 1685- 1701م]/(جيمس السابع في اسكتلنده)، لتحوله للكاثوليكية، وقامت بخلعه وتنصيب شقيقته ماري الثانية ستيوارت البروتستانتية [1662/ 1689- 1994م] على العرش.
حكمت ماري [1662/ 1689- 1694م] بشراكة زوجها في الحكم: الهولندي وليم الثالث [1650- 1702م] الحاكم الأعلى لاتحاد مقاطعات الاراضي المنخفضة، الذي استمر في حكم البلاد حتى (1702م).
آل الحكم من بعده إلى آن ستيوارت [1665/ 1702- 1714م]. وفي عهدها: (الأول من مايو 1707م) اتحدت انجلتره وسكتلنده وكونت بريطانيا العظمى/(مملكة متحدة). قربت آن الأولى المحافظين لتقاربهم من أفكارها الانجليكانية. ووطدت علاقتها بسارة تشرشل [1660- 1744م] دوقة مارلبورو، وأحد النساء الأكثر نفوذا في وقتها.
حملت آن الاولى (17) مرة من زوجها الدنماركي جورج [1653- 1708م]، لكنهم توفوا جميعا. وكان برلمان انجلتره قد اصدر (مرسوم التوطين) الذي يشترط ان يكون الجالس على العرش بروتستانتيا. وكان أكثر رجال ال ستيوارت من الكاثوليك، بينما نساؤهم من البروتستانت، فكانت للنساء حظوة في عرش انجلتره على حساب الرجال.
انتقل حكم انجلتره مرة أخرى، لاسرة من إمارة (هانوفر)/شمالي ألمانيا. وكان جورج الأول[1660/ 1714- 1727م] أول ملوك اسرة هانوفر الألمانية في انجلتره القرن الثامن عشر.

(14)
أسرة هانوفر الألمانية/ حكم الجورجيين [1714م- 1910م]..
انتقلت وراثة عرش انجلتره إلى حكام هانوفر الالمانية من خلال الأميرة صوفيا [1630- 1714م] حفيدة جيمس الأول [1566/ 1603- 1625م] ملك انجلتره، أول ملوك ال ستيورات السكتلندية في لندن. وقد ورث العرش من خلال أمه ماري ستيوارت، لعدم ترك اليزابيث الاولى وريثا بعدها.
توفيت صوفيا قبل أسابيع من موت الملكة آن الأولى، وقد آلت اليها وراثة العرش حسب قانون التسوية لعام (1701م) الذي يمنع الكاثوليك من عرش انجلتره. وبوفاتها انتقل العرش لولدها جورج الأول. ورغم وجود أكثر من ستة وخمسين وريثا كاثوليكيا للعرش، إلا أن أيا منهم لم يعتنق البروتستانتية، لحيازة العرش.
جورج الأول [1660/ 1714- 1727م] هو اول ملوك بريطانيا/[اتحاد انجلتره واسكتلنده وويلز/المملكة المتحدة]، واجه حكمه محاولة اليعاقبة تنصيب جيمس فرانس ادوارد ستيورات، وهو أخ غير شقيق للملكة آن، بدلا منه، الا ان المحاولة حبطت.
نشأت حركة اليعاقبة في انجلتره، نسبة إلى (جيمس/ يعقوب)، المطالبة بإعادة الملك الكاثوليكي المخلوع جيمس الثاني[1633/ 1685- 1688/ 1701م]. في خلال ذلك عاشت اسرة ستيوارت في الخارج، مع محاولات لاستعادة الحكم من وقت لآخر. وكان لهم أنصار في اسكتلنده وويلز، وفي شمال انجلتره وجنوب غربها.
رفض اليعاقبة تدخل البرلمان في وراثة العرش، ونددوا باضطهاد الكاثوليكية في انجلتره. وفي اسكتلنده تشابكت خيوط الحركة مع نظام القبائل الذي شهد نهايته في معركة كولودين/ (1745م). شعار اليعاقبة هو (الوردة البيضاء)، وموعد احتفاله السنوي في [العاشر من يونيو]، وهو يوم ميلاد جيمس ستيوارت ادوارد عام (1688م).
اتسم حكم ال هانوفر بتحديد سلطة الملك، وخضوعها لموافقة البرلمان من جهة، ووضع السلطة الفعلية بيد مجلس الوزراء. وفي عهد جورج الأول، كانت السلطة الفعلية بيد رئيس وزرائه، السير روبرت والبول [1676/ 1721- 1742/ 1745م]. وكان لقبه الرسمي رئيس الخزانة. أما لقب وزير أول أو رأس وزراء، فلم يستخدم في انجلتره، قبل القرن العشرين.
كان جورج الأول في السادسة والخمسين عند توليه العرش. ولكونه ليس بريطانيا، ولا من مواليدها، نص القانون الدستوري/(1705م) على تطبيع ولاية العهد للرعايا الانجليز، وترتيب انتقال السلطة عبر مجلس وصاية انتقالي. وقد عاش الملك خمس مدة ولايته في هانوفر، كان الحكم خلالها بيد مجلس الوصاية.
جورج الثاني [1683/ 1727- 1760م] ورث عرش بريطانيا خلفا لوالده. في عهد والده تقرب من بعض سياسيي المعارضة، ونجح في ضمهم للحزب الحاكم/(1720م). كانت سلطته ضعيفة في الداخل، لسيطرة البرلمان الفائقة. وكانت علاقته سيئة بولده الأكبر فردريك [1707/ 1727- 1751م] وليّ عهده وأمير ويلز، المؤيد للمعارضة.
توفي فردريك الأكبر إبان حكم والده، وانتقل العرش لابن فردريك، جورج الثالث [1738/ 1760- 1820م] وهو أول حاكم من اسرة هانوفر، يولد في انجلتره، ولم يزر هانوفر قط. وفي عهده/(1801م) اتحدت بريطانيا وايرلنده سياسيا، ونشأت بريطانيا العظمى.
شهد عهده سلسلة حروب خارجية في اسيا وأفريقيا وأوربا والأمريكتين. انتهت حرب السبع سنوات مع فرنسا لصالحه. لكنه خسر في حرب الاستقلال الامريكية [1775- 1783م]. لكن الصراعات استمرت مع فرنسا النابليونية[1793- 1815م] حتى نهايتها في معركة واترلو/ جنوبي لندن.
نتيجة لمعاناة صحية، عين ابنه جورج الرابع [1762/ 1820- 1830م] وصيا عليه عام (1810م)، ليخلفه بعد موته. عرف جورج الرابع بميله للفنون والبذخ، مما اثار استياء الناس. في عهده سادت الكاثوليكية في ايرلنده. وقد خلفه اخوه الأصغر وليم الرابع [1765/ 1830- 1837م].
الملك وليم الرابع هو الوحيد من بين ملوك انجلتره، ممن اختطّ سلكا مهنيا. فقد خدم في سلاح البحرية الملكية/ (1779م) حتى ارتقى لرتبة ادميرال/(1827م). وفي عهده عارض وثيقة الاصلاح/(ريفورم بل)، ونجح في اختيار رأس وزراء محافظ روبرت بيل [1788- 1850م]. وقد ولي بيل رئاسة الوزارة مرتين: [1834- 1835م]،[1841- 1846م].
الملكة فيكتوريا [1819/ 1837- 1901م] بنت الامير البرت امير كينت وابن جورج الثالث. خلفت عمّها وليم الرابع بعد وفاته. وفي (1840م) تزوجت من الامير البرت [1819- 1861م]/(شاعر ومؤلف موسيقي)، وخلفا تسعة أبناء، تصاهروا مع عوائل ملكية داخل أوربا، وتولى احدهم: ادوارد السابع [1841/ 1901- 1910م] عرش بريطانيا بعد والدته.
ومن ذريتها من الحكام: فيكتوريا امبراطورة المانيا [1840- 1901م] زوجة فردريك الثالث امبراطور المانيا [1831- 1888م]، وهو المعاصر للسياسي الالماني اوتو فون بسمارك [1815- 1898م] مهندس المانيا وأوربا الحديثة؛ ادوارد السابع [1841- 1910م]؛ الامير ارثر [1850- 1941م] حاكم كندا.
عرفت فيكتوريا بدور فاعل في الحياة السياسية من خلال الحكومة، أما إزاء البرلمان والأحزاب، فكانت تتظاهر بالحياد. انسحبت من الحياة العامة، بعد وفاة زوجها. فاستغل الحزب الجمهوري غيابها لزيادة شعبيته. لكنها سرعان ما استعادت دورها وملأت الفراغ السياسي بشخصها.
شهد عهدها/ عصرها الفكتوري أحداثا تاريخية وعصرية مهمة..
وضعت حدا لشركة الهند الشرقية البريطانية، وفرضت الحكم البريطاني المباشر للهند منذ(1858م). وكانت الشركة قد تأسست بمرسوم من اليزابيث الاولى في [31 ديمبر 1600م].
امبراطورة بريطانيا العظمى وملكة الهند منذ (1876م).
حدوث الثورة الصناعية، واستخدام الالات بدل العمل اليدوي، وذلك بفضل تعاون السكتلندي جيمس واط [1736- 1819م] مع العالم السكتلندي الفيزياوي والكيمياوي جوزيف بلاك [1728- 1799م] مكتشف (الحرارة الكامنة)، واكتشاف واط توليد الطاقة من قوة البخار/[قوة البخار تدفع المكبس داخل اسطوانة، وتعمل على حركة التوربينات].
في عهدها بلغ النفوذ البريطاني ذروة مداه في التاريخ، ليشمل خمس مساحة الكرة الارضية وسكانها.
ازدهار حركة العلوم والثقافة والفلسفة، وتطور العلوم الاجتماعية التي ساهمت نظرياتها وأفكارها في ظهور تيارات فكرية واجتماعية في العالم، ومن ابرزها الافكار الاشتراكية والماركسية التي غيرت خريطة السياسة والثقافة العالمية.
وضعت تشريعات وتعديلات قانونية، أسست لحق الاختراع والانتخابات النيابية السنوية.
خلفها على العرش ابنها: ادوارد السابع [1841/ 1901- 1910م] الذي تزوج/(1863م) الكسندرا [1844- 1925م] بنت كريستيان التاسع ملك الدنمارك [1818/ 1863- 1906م] وانجبا: البرت فيكتور [1864- 1892م] خطب الامبرة ماري بنت فرنسس دوق تيك؛ وبعد موته تزوجت/(1893م) اخاه جورج [1865/ 1910- 1936م] لتصبح الملكة ماري [1867- 1953م]،
عائلة وندسور [1910م- ؟ ]..
جورج الخامس [1865/ 1910- 1936] غير اسم العائلة ساكس- كوبورغ إلى اسم (وندرسور) عام (1917م). شهد عصره حدث الحرب العالمية الاولى [1914- 1918م] وما أعقبها من معاهدات واتفاقيات بين الحلفاء رسمت خريطة العالم السياسية، فضلا عن تعاظم القوى الرأسمالية والاشتراكية والفاشية والشيوعية، الى جانب حركة تحرير الهند.
في [العشرين من يناير 1936م] توفي الملك جورج الخامس بأثر حقنة من (تركيبة قاتلة) من [مورفين وكوكايين]، بيد طبيبه الخاص: برتراند داوسون، الفيكونت الأول داوسون من بن، عجلت بوفاته..
ادوارد الثامن [1894/يناير 1936- ديسمبر 1936/ 1972م] تنازل عن العرش ليتزوج الامريكية واليس سمبسون [1896- 1986م] كانت مطلقة مرتين من ولاية بنسلفانيا الامريكية، وبعد الزواج عاشا في باريس.
جورج السادس [1895/ 11ديسمبر 1936- 1952م] ابن جورج الخامس وشقيق ادوارد الثامن، تزوج/(1923م) من الاميرة اليزابيث بويه ليون [1900- 30 مارس 2002م]، وانجب منها بنتين: اليزابيث (21 ابريل 1926م) ومارغيت (1930- 9فبراير 2002م). شهد عهده حدث الحرب العالمية الثانية [1939- 1945م] ولم يترك لندن مع عائلته خلال الحرب.
اليزابيث الثانية [1926/ 6 فبراير 1952م- ؟] خلفت والدها جورج السادس في عرش بريطانيا. في عام (1947م) تزوجت من الامير اليوناني: فيليب [10 يونيو 1921م- ؟] بن اندرو شقيق قسطنطين الأول [1868/ 1913- 1917/ 1923م] ملك اليونان، وأنجبا: تشارلز [14 نوفمبر 1948م- ؟]، آن [15 اغسطس 1950م- ؟]، أندرو [19 فبراير 1960م- ؟]، ادوارد [10 مارس 1964م- ؟].
في العام التالي لحكم اليزابيث الثانية، توفيت جدّتها ماري تك/(24 مارس 1953م)، وذلك قبل عشرة اسابيع من التتويج، وقد اعلن نبأ وفاتها من قبل ونستون تشرشل [1874/ 1951- 1955/ 1965م] رأس الوزراء يومها خلال جلسة برلمانية.
يعتبر العام (1992م) العام المشؤوم للعائلة، حيث تحطمت فيه زيجات أبنائها وبناتها. في عام (1996م) تم طلاق ديانا من تشارلز. وفي (1997م) اغتيلت ديانا [1961- 1997م] في حادث مرور في باريس. وفي عام (2002م) توفيت اخت الملكة وأمها خلال أقل من شهرين.
واجهت اليزابيث الثانية باستمرار انتقادات لاذعة. وفي عهدها أجري استفتاء حول الغاء الملكية لأول مرة. وتحيط بعائلتها سلسلة فضائح واتهامات، منها حادث اغتيال الاميرة ديانا [1يوليو 1961- 31 اغسطس 1997م] زوجة/(29 يوليو 1981م) ابنها البكر تشارلز امير ويلز وولي العهد يومذاك.
خلفت الأميرة ديانا ولدين من الامير تشارلز، وهما: وليم [1982م- ؟] وهاري [1984م- ؟]. تزوج وليم من زميلته في الجامعة كاترين في (أبريل 2011م)، وأنجبت ثلاثة أطفال: جورج (يونيو 2013م)، شارلوت [مايو 2015م]، لويس [سبتمبر 2017م].
أما الأمير هاري فقد تزوج من الممثلة الاميركية ميجان ماركل في (19 مايو 2018م)، وأنجبت له: طفلة اسمها ارتشي مونتباتن وندسور في (6 مايو 2019م).
في العام (2002م) حلت واشنطن تحالفها الستراتيجي الثلاثي منذ (1945م) مع أنظمة لندن والرياض. في (2015م) جرى استفتاء في اسكتلنده، يؤيد انفصالها عن المملكة المتحدة، واستقلالها السياسي، تأجل تنفيذه لأسباب فنية، ومراوغات لندنية لتمييع الآمر واللعب على عامل الزمن.
في (2018م) أعلن الامير فيليب زوج الملكة اعتزاله العمل السياسي. وذلك بعد عام من اتخاذ قرار البركست/[23 يونيو 2017م] لخروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الاوربي، ضمن برنامج حزب المحافظين الحاكم لليوم. ولما تزل ثمة أجندة متراكمة من الأزمات، تنتظر البلاد.
ان عهد اليزابيث هو الأكثر خطورة وحراجة في التاريخ البريطاني الحديث، أثبت عجزها عن منافسة القوى العظمى في المدار الدولي، وخسارة الكثير من البلدان الخاضعة لها عن طريق الاستقلال، والتزامها الحياد والمسايرة مع القطب الأميركي، الذي ورطها في البرنامج الأمريكي لاحتلال العالم، والذي وضع قادتها في قفص الاتهام بجرائم ومجازر ضد الانسانية، إلى جانب قادة الولايات المتحدة الامريكية.
ان اغرب وأنكى ظاهرة سياسية لعهد اليزابيث الثانية، هي ظاهرة اختفاء قادتها عقب تركهم السلطة. فضلا عن ظاهرة تنحية رؤساء وزرائها عن الحكم: [تاتشر، بلير، كاميرون، ماي]، واختفائهم خارج البلاد، وامتناع وسائل الاعلام عن الاشارة اليهم. وهذا قريب من السياسة الامريكية، مع الاشخاص ذوي العلاقة بالملف العراقي منذ (1990م)، والمتهمين بجرائم في احتلال عام (2003م).
انجلتره تتقلب منذ أيام تاتشر، على أمواج من اضطرابات سياسية، ومستقبل مجهول.
ثمة مشروع تآمر أوربي غربي لتهميش الأحزاب والتيارات الاشتراكية خارج لعبة الحكم، منذ أزمة (1998م)، وهو ما نجح محافظو انجلتره في تهميش وتفكيك حزب العمل من داخله، وتسقيط قياداته بالتتابع، وتسليط الدعاية المضادة والفاشية ضدهم، بدء بتوني بلير وميلباند وجيريمي كوربن الذي جعلته سياسة تيريزا ماي والدعاية الموجهة لوسائل الاعلام كأنه (بعبع) يقلب النظام البريطاني على رأسه. لكن هذا لا ينفي سذاجة قيادات الأحزاب الاشتراكية، وهشاشة أدوارهم، وعدم تقديرهم ضراوة السياسات المضادة لهم ولحرية الشعوب.
الصحيح والمؤكد، ان الحكم الانجليزي في العدّ التنازلي السريع. ولا منقذ مؤقت منه سوى بقاء اليزابيث الثانية في الحكم أطول مدة ممكنة، أي باستخدام الأجهزة الطبية. اليزابيث الثانية في سياسة الحكومة هي الدالة الاخيرة والرمز الأخير للهوية والقوة والسيادة البريطانية، ولكن ماذا بعد؟!..
واقع الحال، ان معارضي الملكية أنفسهم، يقدرون رمزية الملكة وحاجة الاهلين، لشيء يطمئنهم ويذكرهم بالماضي؛ في عالم عاصف مضطرب، تستفرد واشنطن قياده والتلاعب فيه، بلا شريك. بينما تتصاعد شعبية الجمهوريين الانجليز، في العقود الأخيرة.
لقد شاخ حزب المحافظين البريطاني، والذي كان من بدايته واجهة لحماية الملك وتدعيم الملكية. ظهر خلالها عديد الأحزاب الانجليزية والتيارات السياسية المعارضة، واختفت من المسار.
رسم المحافظون برامج بذيئة لتحطيم هيكلية حزب العمل، ودفعه لليمين، وتعميق الانشقاقات والاضطرابات الداخلية فيه، وصولا لالغاء مبررات وجوده، أو عناصر استمراره في الحياة. ولما يزل مشروع تصفية القرارات والانظمة الاجتماعية التي أنجزها حزب العمل منذ (1945م) ساريا، وفي تجاهل تام لاعتراضات البرلمان والاحتجاجات الشعبية، وفي تجاهل دكتاتوري لشكاوي الفئات الشعبية من الطبقات الفقيرة ذات الدخل المحدود، الى جانب شكاوي العجزة واصحاب العاهات والحالات المرضية المزمنة.
استحق ديفيد كاميرون صفة الثعلب المراوغ واللاعب وراء الكواليس، في السياسة الداخلية والخارجية. واستحقت خليفته صفة الدكتاتور والمرأة العسكرية والهتلرية، فضلا عن صفات أخرى، مسخت شخصيتها في السلطة، لتنتهي نهاية سابقيها.
ليس هذا كلّ شيء. وما وراء الأكمة أكثر وأخطر وأغرب بكثير. اللعبة انتهت. كما قال ترامب، وما عادت أوراق تصلح للعرض على الطاولة، ولم يعد الناس قادرين على تغشيش أنفسهم، أكثر.
ليس العراق وحده، اختفى وراء الضباب، انما بلد الضباب نفسه، يوشك أن يختفي في ضبابه!..
في أول استلامها للحكم، سألت اليزابيث الثانية مستشاريها، ما الشيء الجديد الممكن عمله، مما لم يسبق حصوله في التاريخ. وقد حققت شيئا من ذلك، فهي الأطول جلوسا على العرش، من الملكة فيكتوريا، وهي تسعى لتجاوز المائة وواحد، الرقم المسجل باسم والدتها. ولكن..
سوف تدخل التاريخ من باب لم يسبق لغيرها..
ان المملكة التي قامت على أكتاف النساء، واستمرت بالنساء، سوف تشهد نهايتها على يد امرأة، كما تنبأ أحد ملوكها السابقين..

(15)
تحليل نقدي..
(1)
الدولة بنطال الحاكم، يفصله على هواه، ويمدّه حسب رغائبه، يسرف أو يقتر فيها، حسب وعيه وضميره..
القانون مقشّة الحاكم، أو مقشّة خادم الحاكم، ينسج خيوطها أغلالا، لكي يحاصر بها الناس ويسجن أنفاسهم، حسب تعليمات السلطان المطلق، ثم يأمر بعبادة الأغلال، وألوانها من حديد وخشب وحرير. وفي ذلك ينقسمون زلفى الى الملك، أقارب وأباعد، والصلاة والعبادة للملك، وحده لا شريك له، في هواه وفي غناه وفي خناه..
الدمقراطية.. هه.. هي نكتة أو شوكولاته نصف ملوثة، تحمل الضحايا مسؤولية حماقات الحاكم وجشعه، وتجعل الناس يقاتلون بعضهم بعضا، بدل ان يوحّدوا جهودهم لقلع الطغيان.. دمقراطية الفساد هي اشراك الجماهير في تحمل مسؤولية الفساد والخيانة والمجازر.. (البرلمان يؤيد تفريق المتظاهرين باستخدام الرصاص الحي).. هه..
هل الدولة هي الحاكم الأجنبي المغتصب والجابي لريع البلاد والعباد..
هل القانون هو الماجنا كارتا: الورقة التي خدع بها الملك السكان، ليخرج من الأزمة ثم ينقلب عليها وعليهم..
هل الدمقراطية البرلمانية، هي اولئك الذين يختارهم الملك ممثلين عن الناس، ويخادعون الناس أنهم يمثلونهم. وفي النتيجة، يتحول اعضاء البرلمان إلى حاشية ارستقراطية، تخدم السلطان وتتسلط على الناس، وتتاجر بالمصالح العامة..
هل الدولة في خدمة الحاكم أم الناس.. (هل توجد دولة بلا حاكم/ مالك/ طاغية) و(لماذا كان الحكماء والفلاسفة والانبياء ضد الدولة والطاغوت)..
هل القانون في خدمة الحاكم أم الناس.. (من يشرع القانون وينسج خيوطه، يلزم المادون الخضوع له)..
هل البرلمان في خدمة الحاكم أم الناس.. (من المسؤول عن قمع مطاليب الناس والرد عليها بالدم والحديد)..
مغزى هاته الأسئلة الاستفزازية، تبيان الاخطاء الأساسية، التي قامت عليها المعرفة العامة والمعلومات السياسية، التي أسسها وروّج لها ونشرها بين الناس، جوق الحاكم وخيول عسكره.. فالانحراف القاتل الذي يعاني منه الراهن، مغزاه ان العدو، هو الذي نسج خيوط اللعبة، وقام بترويض الرعية وتدجينها حسب مصالحه.. ثم غرر بها بمزوقات لغوية بديعية ومصطلحات سياسية لا معنى ولا نفع لها.. وغير قليل من الناس يدركون ولكنهم يائسون أو خائفون، والأغلبية عمياء ملتبس أمرها.. وهؤلاء رأس المصيبة..
ولا غرابة ان يتجاهل العراقيون قولة معروف الرصافي [1879- 1945م].. (أسماء ليس لها سوى ألفاظها، أما معانيها فليست تعرفُ). فالرصافي كان يكتب بلغة مريخية، يخاطب بها سكان اورانوس..
لماذا لم يعرف العرب الدمقراطية، في حالات الاستقرار والازدهار النسبي، عندما كانت الطلائع المثقفة، واضحة وفاعلة في المجتمع.. مصيبة العرب، ان الدمقراطية وصلتهم عندما انقلب المجتمع على رأسه، وانحسر دور المثقف والدولة، وصارت أغلبية الغوغاء والفئات الجاهلة والمتخلفة، تغزو الحواضر وتسود العواصم والمدن الرئيسة/(ترييف المدن).. فالقاهرة التي كانت طليعة حضارية في النصف الأول من القرن العشرين، تحولت إلى عشوائيات فوضوية في النصف الثاني/(جراء فرية الاصلاح الزراعي)، ليصل نفوسها إلى (16 مليون نسمة).. وفي ذروة الفوضى والاضطراب المجتمعي، ظهرت لعبة الدمقراطية.. دمقراطية الاقطاع الجدد وتجار الفساد..
وكل الدمقراطيات العربية ظهرت في ظروف مماثلة.. اصلاح زراعي.. هروب الفلاحين واهل القرى إلى العاصمة.. هروب الاثرياء خارج البلد.. انقلاب النظام المجتمعي والقيمي والتسيب الطبقي.. وصولا الى حالة الضياع..
كثيرون لا يدركون/(لا يريدون أن يدركوا)، ان دمقراطية العرب، لا علاقة لها بالدمقراطية الغربية، التي ارتبطت بذرى ثقافية واقتصادية، عقب الثورة الصناعية وميثاق حقوق الانسان في القرن التاسع عشر.. بينما استلم العرب الدمقراطية، وهم في وحل الفساد والضياع والنفق المسدود.. بعدما فقدت اصالتها في الغرب نفسه..
هل دخلت الدمقراطية حياة العرب عن طريق الاستفتاء.. أم طريق الجبر والقهر الناعم، مفروضة من قمة الهرم..
ان خطر الدمقراطية الراهنة على العرب، أكبر من الخطر الاسرائيلي..
الدمقراطية العربية بكلمة واحدة.. هي أن الدهماء والجهلة والانتهازيين، يمتلكون سلطة القرار، بينما يتوزع أهل الفكر والحكمة في المهاجر، أو يتحسسون أعناقهم، خشية سيوف الغوغاء..
العصر الدمقراطي العربي، هو عصر ازدهار الفساد والدمار الشامل، وضياع الثوابت الوطنية القومية.. ولذلك يمتدحها طوابير الامبريالية، ليس لنفعها العام، وانما نكاية بالعروبة والوطنية والقومية، وشماتة بطلائع النهضة العربية الثورية..
الدولة والدمقراطية الانجليزية، هي دولة ملكية ودمقراطية ملكية، وهذا خلاف الدولة الشعبية والدمقراطية الشعبية.
وكلّ ما لا ينبع من بيئته وظروفه المحلية والجماهيرية الواعية، خدمة للطواغيت ضدّ الانسان الحرّ.
أما القانون، في نظري، فهو مرفوض قلبا وقالبا. القانون هو الشرطي والعقوبة، والسيف المسلط على الرقاب. القانون هو دالة اتهام الحاكم للمحكوم بالهمجية. والهمجي يتم ترويضه بالعنف والخوف والتهديد والقطع..
وقبل كل شيء.. يبقى السؤال، عن سبب لهاث اللاهثين، وراء صادرات الغرب وتقنياته التي تخدم أغراضه.. أم أن الضحية تعشق وتسعى وراء سيف الجلاد!!..
عندما كانت الطلائع المثقفة كالطهطاوي[1801- 1873م] وقاسم أمين [1863- 1908م] وعلي عبد الرازق [1888- 1966م] وطه حسين [1889- 1973م] وكثيرين امثالهم، يقترحون سبل النهضة وطرق المستقبل، تصدى لهم المجتمع، ورفض أفكارهم؛ وعندما تراجع النوع الثقافي، وراجت ثقافة الغوغاء والفهلوة والبلطجة، نزلت السلطة عند أقدامهم.
وما يحصل اليوم في الاعلام والثقافة المصرية، هو استعادة متأخرة، لأفكار طه حسين [1889- 1973م] ولويس عوض [1915- 1990م] وسعيد عقل [1911- 2014م]، حيث تهيمن العُجْمَة واللَّحْن على لغة الاعلام والكتابة، وتغلب الألفاظ الفرنسية والانجليزية والتلفظ الاميركاني، في ألسنة الشبيبة الممسوخة، والمأخوذة بالغربنة والأمركة في كلّ شيء..
لكن استعادة المصريين، لأفكار وآراء المفكرين والعلماء، بعد نصف قرن من رحيلهم، لا يتم من خلال العقل والدراسة، وانما التقليد العشوائي، لكلّ ما هو أجنبي، ودون صلة بطه حسين وعوض. لكنّما السابقين اقترحوا ذلك.. وإذا كان ثمة ضرورة يستدعيها واقع، فقد تنبأوا بملحّتها قبل نصف قرن.
ومراجعة محاضر برلمانات العرب والعالم عموما.. يصدم بانحطاط أساليب الخطاب، وأدوات الحوار، وطرق اتخاذ القرارات، بكلّ فنون السوقية والخداع والنصب.
فغياب العقل، وغربة الفكر التقدمي، ونفي الضمير الاخلاقي، هو رائد تبعية الراهن العربي، وراء مؤخرة الامبريالية الانجلوميركية النتنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* طه حسين(د.) [1889- 1973م] أديب وناقد وأكاديمي مصري، من مواليد مغاغة/ المنيا. فقد بصره في السنة الرابعة من عمره. درس في الأزهر/(1902م) ثم الجامعة الأهلية/(1908م) وحصل منها على شهادة الدكتوراه/(1914م) برسالته (في ذكرى أبي العلاء). وقد أثارت أفكاره موجات من الجدل والخلافات داخل مصر، منها اتهامه بالمروق والزندقة. في نفس السنة أوفدته حكومته الى فرنسا لاستكمال دراساته في مونبليه أولا/(1914م) ثم باريس/(1915م)، وفي (1918م) حصل على درجة دكتوراه عن رسالته: (الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون). في باريس تعرف على الفرنسية من أصل سويسري (سوزان بيسو) وتزوج منها، فكانت له معينا وصديقا، أنسته ألام فقد البصر وويلات الايام. تجمع سيرته بين مراقي المجد/[عميد كلية الاداب، رئيس الجامعة، وزير التربية] وبين الصراعات الجدلية والفكر التقليدي. وهو من أوائل من تعرض لاضطهاد الرأي بسبب كتابه/(في الشعر الجاهلي)/(1926م)، وتعرض للمحاكمة بسببه؛ أسوة بزميله علي عبد الرازق في موضوعة نفي فكرة (الخلافة) وحق المرأة في القيادة، وذلك استنادا للنص الكتابي. ان سبب معارضة طه حسين وما لقاه من نكال، هو جوانب شخصيته الفكرية الموسوعية، وجمعه بين تاريخانية التراث وعصرية الغرب، بين تلمذاه وأعجابه بمحمد عبده ومصطفى المراغي، وتلمذته لماسنيون وايميل دوركهايم وغيرهم من رموز زمنهم. وهو ما جعل الفضاء المصري المحافظ، يضيق به شخصا وثقافة. ومن أدلة ذلك، انه لم يحظ بمكانه المناسب. فكان مدرسا للتاريخ مرة، ومدرسا للغة العربية إدابها أخرى. بينما مكان طه حسين الموسوعي هو (الفلسفة). وقد جنت عليه بالرقابة الفكرية والملاحقة والمضايقة من قبل جندرمة الحرس التقليدي/(تنكب رجل الدين مسؤولية الثقافة)، وهو سبب كارثة كلّ مجتمع، في الغرب والشرق. تلك المضايقات التي تقتل نفس الابداع والتجديد لدى المثقف، وتكلفه الوقت والجهد والاعصاب ورهق النفس ونقس احيلة وكراهة كل شيء، ولاجدوى مسيرته العلمية. وما زالت مجتمعاتنا المترفة بالجهل وطوابير الغوغاء، لا تعرف اهمية التلقي في التأليف وعملية المثاقفة، قدر ما تتحمس له في سواق الغناء والوعظ الديني. في كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) دعا للأخذ بأسباب الحضارة والنهضة، والاقتداء بمدنية الغرب. ومما رآه، ان بداية تكون مصر كان من خلال ثقافة الاغريق، وتدرجاته الرومانية والبيزنطيه والقبطية، وأولى بها العودة لتلك المآثر والاقتداء بها في صنع حياتها الجديدة، أو اعتماد النموذج الغربي الفرنسي، وهو ديدن التنمية الخديوية يومذاك. فهل اتهم طه حسين بالدعاية للغرب أم الخديوية، وهو الوفدي اليساري المجدد. ان حياة طه حسين العملية لا تساوي غير القليل مقايسة بسعيه الدراسي والعلمي والثقافي. ولو أن طه حسين، وهذا هو السؤال المجروح. لو أنه عاش في أوربا، وعمل في التدريس والتأليف، لكان أحد كبار مفكري القرن العشرين، ولافتخر به العرب والمصريون، حتى لو أتى بالكفر والزندقة، التي أتهمه بها بنو بلده. لكن الشهرة العالمية تغطي على المثالب المحلية. بينما وجود العربي داخل بلده، يجعله محكوما، بطوابير الغوغاء والمرتزقة والحرس اللئيم. ولينظر الذي ناهضوا طه حسين ولويس عوض وسعيد عقل، لحال اليوم، وما ينطق به العرب من لغات وأفكار وطرز، ولا يجرؤ أحد من الحرس والاقطاع والغوغاء على معارضتهم أو اتهامهم بشيء، فيما تستمر محاكمات التفتيس والاضطهاد الفكري، ضد طبقة المفكرين. لتستمر العروبة ومجتمعاتها، سادرة سدير القطيع، منذ ما ينيف عن ألف عام من الفوضى واللغو العقيم.
* سعيد عقل [1911- 2014م] شاعر لبناني من مواليد (زحلة/ البقاع)، كتب الشعر منذ يفاعته، وقد تحمّس للأفكار القومية اللبنانية، التي تعود أصولها إلى أواسط القرن التاسع عشر، والأحداث التي عصفت بكيان لبنان وهويتها، وشارك كثير من أدباء لبنان في الجدل القديم والمستمر حتى منتصف القرن العشرين. سعيد عقل يعتبر الفينيقية أصل لبنان وهويتها. وقد ساهم في تأطيرها الايديولوجي، والتركيز على خصائص المحلية اللبنانية. ودعا للكتابة باللهجة اللبنانية الدارجة، ووضع أبحدية من (36) حرفا، اعتمدت على ابجدية لاتينية مع حروف مستحدثة، لتكون لغة كتابة ولغة حديث، وأصدر جريدة (لبنان) بلغته وأحرف ابجديته. يعتبر الأب المؤسس لحزب (حراس الأرز) لزعيمه أتيان صقر [1937م- ؟]؛ ومن مؤسسي حزب (التجدد اللبناني)/(1972م) والذي أعتمد من (حراس الارز) ذراعه العسكرية خلال الحرب اللبنانية [1975- 1990م]، وكان في صف اليمينيين المتآزرين مع الاجتياح الاسرائيلي/(1982م) للبنان، وضدّ الوجودي السوري والفلسطيني في لبنان. يبقى سعيد عقل شاعرا ومفكرا وسياسيا لبنانيا فاعلا ومؤسسا خلال القرن العشرين. لكنه، تبعا لتقلبات الأحداث والمسارات، وكونه شاهدا ومتفاعلا معها، يبقى اشكاليا وعلى درجة من الاضطراب والتقلبات المتفاوتة ذهنيا وسلوكيا. ولشعره خصائص جمالية وعذوبة مميزة، أثرت في ثقافة وخصوصية الرحابنة، وغنّت له فيروز من شعره الكثير. وله قصائد مشهورة تتغنى بالقدس والشام ومكة. فتجده عروبيا في مشاعره تارة، ولبنانيا يمينيا تارة. وحسب، فأن الوطني الحقيقي، هو قومي صميم، لا يتناقض مع محيطه الاقليمي العربي.
* لويس عوض (د.) [1915- 1990م] من مواليد المنيا/ مصر. شاعر ومسرحي وأديب أكاديمي، متخصص في اللغة الانجليزية، درس في جامعات القاهرة/(1937م) وكامبردج الانجليزية/(1943م) وبرنستون الأميركية/(1953م). (1953م) عمل محررا للقسم الأدبي في جريدة الجمهورية. وفي (1954م) كان أول مصري يرأس قسم اللغة الانجليزية في جامعة القاهرة. مؤلف كثير الانتاج، اكاديمي رصين في منهجه وتراجمه، متطرف في أفكاره وأعماله الأدبية والفكرية، وهو من دعاة القومية المصرية وروادها الأول، دعا لاعتبار اللهجة المحلية لغة مصرية رسمية، وأكد على الخصائص المصرية الفرعونية والقبطية في الحياة والأدب المصري. تجسّدت أفكارة في أعماله الشعرية والمسرحية. وقد أثارت أفكاره الحماسية المتطرفة لغطا وجدلا في حينها، وقد وضع محمود محمد شاكر كتابه (أباطيل وأسمار) في الردّ عليه. من مؤلفاته الاكاديمية: فن الشعر لهوراس/(1945م)، برومثيوس طليقا لشلي/(1946م)، في الأدب الانجليزي الحديث/(1950). له في الرواية: (العنقاء)، وفي الشعر: (بلوتو لاند وقصائد أخرى)، وفي السيرة: (أوراق العمر). وفي الفكر: تاريخ الفكر المصري الحديث/(1969م)، مقدمة في فقه اللغة العربية/(1980م)، الايراني الغامض في مصر، أقنعة الناصرية السبعة/ (محورة مع توفيق الحكيم ومحمد حسنين هيكل)/(1976م)، وكتب أخرى متنوعة.

(2)
ابتداء باللغة، فأن مصطلح (انجليزي) أو (أمريكي) يقوم على مغالطات جغرافية وتاريخية وثقافية. فالأول مشتق من أصل جيرماني قبلي، جرى تزحيفه وترحيله عبر المياه، ليكون صفة/ سمة لأرض أخرى، وما يزحف عليها ويسودها، من دواب وثقافات.
ومثله مصطلح (أميركي) الأحدث عهدا، والمشتق من اسم راسم الخرائط الايطالي أميرجيو. اطلقه الاسبان لتسمية الجزر المكتشفة عام (1496م) عن طريق المحاولة الغلط. فصفة الامريكي، صادرت التسمية والهوية السكانية والثقافية الأصلية لسكان الامريكتين.
وعندما يجري استخدام صفة (أمريكي) مقترنا بالسياسة والاحتلال والمكدونالد والبورغر وموسيقى البوب، وشبكة النت، فهو تعبير عن مصادَرة المهاجرين الغرابوة، لأرض الهنود الحمر وحضارات الانكا القديمة التي تعود لعصر سومر.
وهذا يجعل استخدام اللفظ المحدث، عنصريا وشوفونيا وعدائيا، ونحن جميعا نساهم في ترويج المسخ، وتغييب الحقوق الفكرية والثقافية، لحضارات وهويات سكانية، ما زالت مستمرة في الحياة والعطاء رغم التشويه الامبريالي، لمجتمعات المكسيك وكوبا والسلفادور وغيرها من ثقافات أميركا الجنوبية.
وليس أقل منه، ترويج وتطبيع مصطلح (انجليزي) الشائع من غير تبصر، وتعتيم كامل حول أصله وجذره وهويته الأصلية، بما فيها انقلاب معناه واتجاهه، واعتبار (الانجليزي) معاديا للـ(جيرماني) في الأدبيات التاريخية للجزيرة.
ذلك، فضلا عن كون اللغة والثقافة العامة، والأصول العائلية لملوك انجلتره اليوم، هي من أصول جيرمانية بعيدة وقريبة، لا تبرر ثقافة الحقد والاستعداء التربوية والاعلامية بين البلدين. ولا يبررها -طبعا-، طروحات مهاترة لكتاب تعتبر انقلاب المعاني وانحرافات التلفظ ، في سياق التطور/(انظر: خرافات اللغة، لمؤلفيه: لوري باور وبيتر تروجيل- بنجوين/ 1998م).
يقال في المزح: لايملك حتى اسمه. مما يندرج في هذا السياق. فالذين ملأوا العالم هرجا وعوجا، وعاثوا في الارض فسادا وسفكوا الدماء، هم ملل لا تملك حتى اسمها. ومن لا يستطيع أن يصنع اسمه، ما جدوى زعيقه.
جرى استحداث مصطلح (استعارة/ تقمص) بدل (قرصنة/ اغتصاب)، لتبرير ثقافات وهويات الممارسات العدوانية الغربية في تاريخنا المعاصر. المدونة الانجليزية تنسب تاريخا لما قبل التاريخ، أعني كيف تشكلت واستدارت مقاطع الجزر في مياه الشمال.
وكثيرون اليوم يصدقون أن تاريخ انجلتره وأميركا، قرين تواريخ الشرق والمكونات الأوربية. لماذا الحقيقة التاريخية خطيرة أو مؤذية الى هذا الحد؟. ولماذا الكذب والتزوير والخداع، يحظى بشرعية معصومة لهذا الحد؟.
كلّ هذا على حساب خيانة الخائن لبلده الأم وثقافته الأصلية. فالعرب، في ضوء الثقافة الامبريالية الصهيونية، فئات من الغجر والهمج، والانجليز والاميركان من آلهة الارض والحقائق المطلقة!/(عالم مقلوب/ عقل مقلوب).
تطبيق معكوس مشوه لعبارة: (ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة/الحشر 59: 9)!!.
(3)
سكان انجلتره..
يعود اصل سكان انجلتره الى ثلاثة: أولهم: (الكيلت)، واليهم يعود اقدم سكان اوربا الغربية. يليهم: (زاكسن) من شمال ألمانيا، وهم الأصل الأقرب لهوية سكان انجلتره المعاصرين، ويعرفون في الادبيات: (انجلوزاكسن)، وقد مرّ معنا ان (انجلن/ انجلز) ذات أصل ألماني أيضا. أما الأصل الثالث لسكان انجلتره، فهم: (فايكنغ) أصلهم من شواطئ النروج المقابلة، وهم صيادون وقراصنة، كانوا يجوبون البحار، لتأمين مصادر معيشتهم.
استقر (الكيلت) في أعالي انجلتره، وشمالي انجلتره العليا/ (جدار هادريان)*. بينما استقر (الفايكنغ) في وسط/ شمالي انجلتره المعروفة بأرض السواد/(بلاك لاند)، ومنذ العهد الوسيط اشتغل الفايكنغ في حفريات المناجم، وفي ظروف صحية وانسانية سيئة، ومن غير ضمانات أو عوائد مناسبة، رغم شدة المطاليب والجماعات المناصرة لهم، وفي تجاهل تام من قبل السلطات، عبر الزمن.
يوصف الفايكنغ في نظر الانجليز بالبدائية، والخفض الحضاري والثقافي. ويمكن تمييزهم بطول القامة وشعورهم المسدلة وميلهم للسكر والمزاح والعراك، وعلوّ أصواتهم في الحديث، ولكنهم لا يحظون بشعبية سياسية.
أما (الزاكسن) فهم سكان انجلتره من جهة الجنوب، حتى ما دون حدود السواد. وقد ملكوا وامتلكوا إمارة ويلز عبر الزمن، وهم النسيج الاجتماعي الوطني لما يعرف بالشعب/ الامة الانجليزية/ البريطانية.
وقد سبق التنويه، القول ان: (بريتاني) مقاطعة فرنسية، كانت معبرا للاحتلال الفرنسي للجزيرة، وتم تعميم اسمها على سائر البلاد تبعا لذلك. أما بالمفهوم السياسي، فأن تسمية (بريتاني) تشمل اتحاد ممالك انجلتره واسكتلنده وويلز/(المملكة المتحدة) التي يعود تاريخيا لثلاث قرون خلت.
ان استمرار الهويات السكانية، وتواصلها التراكمي عبر المساهمة بالتكاثر والانتاج الاقتصادي، ودورها في صناعة الهوية الاجتماعية القومية، عبر قرون كثيرة، يمنحها شرعية وصفها بالسكان المحليين، السكان الاصليين للجزيرة/(الانجليز) في جنوبي الجزيرة، وهم المعيار الأساس للهوية الوطنية للامة الانجليزية.
انجلتره بلد زراعي في الأصل. والانجليز ذوو أصول فلاحية، ترسخت فيهم منذ عهد وليم الفاتح النورماندي، أنظمة الاقطاع وتقسيمات الأرض، وتقنينات العمل والتواصل والتقاضي الأولية، والتي تطورت عبر العهود التالية.
وقد أضاف الفايكنغ من جانبهم، ثقافة القرصنة في الشواطئ المجاورة، وتوسعها نحو شواطئ اسبانيا وأفريقيا، منتجين فن المبادلات التجارية وتجارة العبيد والغنائم والصيد، التي ستتطور لاحقا الى أساس امبراطوري للسيادة الانجليزية، مع انشاء مراكز استيطان تجارية في وسط أفريقيا وجنوبها، وفي شمال الهند وغيرها.
العنصر الثالث في صياغة النسيج الانجليزي هو النشاط الديني، ذو المرجعية الرومانية البابوية، والتي تتمرحل وتتطور في مواجهة النقلة البروتستانتية للانفصال عن كنيسة روما الأم*، بزعامة الملك هنري الثامن/(1534م)، الذي وضع لبنات قانونية لاستقلال انجلتره، وعدم السماح لأية قوة خارجية بالتدخل، والتأثير في شؤون انجلتره الداخلية/ الوطنية.
يمكن القول، ان تاريخ انجلتره حتى القرن التاسع عشر، كان ينقسم الى مستويين: التاريخ الملكي السياسي؛ التاريخ المجتمعي الاجتماثقافيسياسي. وقد كان المجتمع الانجليزي خلال التاريخ، حصانا جامحا صعب القياد والترويض، مما انعكس على السلطة، بالتطرف في العنف السياسي، وشبكة القوانين والقرارات المعقدة.
تلك التشريعات التي جرّدت الجماهير المحكومة، مع الوقت، وبشكل مضطرد ومتوحش، من حقوقه الانسانية، حتى أبسط حقوقه المدنية والسياسية، في التواصل بين سكان بلدة وجارتها، أو الاجتماع العلني لأكثر من بضعة أشخاص.
ومن هذا المنظور، يلحظ تحديد حجم الفضاء الداخلي للكنيسة البروتستانتية، مقارنة بتصاميم الكنيسة الكاثوليكية التقليدية، التي تتسع لالاف البشر. فاجتماع عدد كبير من البشر، يعني لدى الحكومة، تأهيل تكتل سياسي سوف يهدد سلطات الحكم، في نظام قائم على الاستغلال والخداع والكذب على الناس.
ومقارنة، بكل بلدان أوربا منذ العهد الوسيط، والتي شهدت ظهور سلطات وعوائل حاكمة، فأن نسبة المجازر والمحارق والدماء المسيلة على يد الملكية الانجليزية، يعادل أضعاف أضعافها الاوربية مجتمعة. وهذا الدرس الدموي الذي قدمته الكنيسة والمجتمع الانجليزي والسكتلندي، لم يثنهم عن التطلع والمطالبة بالحقوق الثقافية والسياسية.
ويكفي دلالة في هذا السياق، ان ترجمة البايبل/(الكتاب المقدس للمسيحية) جرت ترجمته الانجليزية في انجلتره وسكتلنده، ولكن كل المترجمين الثلاثة الكبار للبايبل/[ويكليف/ 1384م، تيندال/ 1520م، كوفردال/ 1585م]، تم الحكم عليهم بالحرق أو قطع العنق. بل أن احدهم اخرج من قبره والقي في النار.
والنسخة المتداولة اليوم، لا تحمل اسم المترجم أو المسيح، ولكنها تحمل اسم الملك جيمس/ (كي جي فيرزن). نسبة للملك جيمس الأول [1566/ 1603- 1625م]. وفي ازاء الانتقادات اللاذعة حول العالم، يستخدم بعضهم تعبير (الترجمات الحديثة)، (نيو فيرزن بايبل).
وفي سياق التقنين المتطرف، والاستعداء على الناس، وتجريد المواطن من أدنى الصلاحيات، وهي آخذة في التطرف؛ سيما مع زيادة حجم طاقم البرلمان الى (650) عضوا، لاحتواء العملية السياسية، والتضييق على الناس؛ فأن الحياة الانجليزية، تطورت من مفهوم القلعة/ المنزل المشهور، إلى مفهوم السجن/ الشقة/ ستوديو ونافذة الحانة/ الكنيسة، كفسحة وحيدة للخروج/(الذهني) من المكان.
أما الدالة الثانية على اضطهادات انجلتره، فهي هجرة/ هروب رجال الدين والطوائف الكنسية، من انجلتره/(ارض العبودية)، الى الأرض الجديدة/(كنعان)/(أميركا الشمالية). وهناك ظهرت حركات أصولية مسيحية فيها، يقودها وعاظ ومبشرون انجليز وبريطانيون. يمكن تلمس آثارها وتبعاتها اليوم، في الخطاب السياسي للبيت الأبيض، ودور الوعاظ ورؤساء الكنائس في أميركا. بينما ينعدم دور الكنائس وقادتها في الحياة العامة والسياسية في انجلتره.
ومن الملاحظ، ان قادة الكنائس الانجليزية، ومنها وستمنستر، يغادرون الى الولايات المتحدة الامريكية بعد التقاعد، مثل ماك ارثر الذي وجد صداه وشهرته في الارض الجديدة، سيما في حملته على كنائس الكارزماتيك واتهامها بالهرطقة والخروج على النص الكتابي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ادريان/ هادريان [76/ 117- 138م] امبراطور روماني وفيلسوف رواقي أبيقوري. في أعقاب تمرد اليهود، قام الامبراطور الروماني تيتوس عام (70م) بتدمير مدينة القدس وتسويتها بالأرض. وفي أعقاب تمردات [132- 135م] قام الامبراطور ادريان، ببناء مدينة جديدة على أنقاض القدس القديمة، ودعاها بلغة الرومان: كولونيا ايليا كابيتولينا، وحرم على اليهود دخولها أو الاقتراب منها. وتعني مدينة ايلياء العاصمة باللغة العربية، وهو الاسم الذي بقي معروفا حتى دخول العرب، وإاعادة تسميتها بمدينة (القدس) العربية. كما قام الامبراطور هادريان ببناء (هادريان وول)/(122م) في مرتفعات شمال انجلتره، لصدّ هجمات الغزاة من جانب اسكتلده، وهو بعرض الجزيرة. ويشكل أحد ثلاثة أسوار إلى جانب: (كَاسك ردج) و(انتونيو وول).
* حركة التمرد على الفاتيكان ونقد الكنيسة الكاثوليكية، لم يبدأ من انجلتره، وانما حصل في مناطق مختلفة من أوربا، ومؤشرها الرسميعلى يد الراهب الألماني مارتن لوثر [] الذي انتقد الكنيسة الكاثوليكية في (95) نقطة، علقها على باب كنيسة، وذلك عام (1517م)، وهو الذي قام بأول ترجمة للانجيل للغة الالمانية.

(4)
الاحتلال الروماني لانجلتره جاء من جهة الجنوب، وتخذ لندن عاصمة له، وقد انسحب الاحتلال في القرن الخامس الميلادي، تاركا الأمر لسكان البلاد، وظهور اقطاعيات ومقاطعات وإمارات في جنوب البلاد.
لكن الاحتلال الفرنسي للجزيرة جاء من جهة الشمال، الممثلة بشبه جزيرة اسكتلنده، قبل أن يتسع ويفرض نفوذه على مساحة انجلتره، لعدم وجود امارة أو سلطة سياسية ذات جيش كبير. ومع استمرار الحكم الفرنسي، ورغم محاولاته للتطبيع والتوطن مع السكان، فأن ارتفاع نسبة الضرائب والتجنيد العسكري في حروب الملك وأطماعه التوسعية، زاد من نسبة التذمر ونفور السكان من الحكم الأجنبي.
يفهم من هنا، ان سكان البلاد في واد، وان السلطة (الأجنبية) الحاكمة في واد مختلف. صحيح ان الملك يجلس على قمة (الهرم) والجماهير تقيم في قاعدة الهرم، أو دون القاعدة، لكن انقطاع النسيج والصلة والروابط المصلحية بين الطرفين، يدعم غربة الطرفين عن بعضهما.
وهذا سؤال اشكالي رئيس في العلوم السياسية، أو النظام السياسي لكل بلد. فما مبرر وجود سلطة أجنبية، لا تجمعها بالسكان صلة أو هوية أو مصلحة. أن اي احتلال أو تسلط خارجي، يفتقد صفة الشرعية، مهما كدّس من قوانين وشعارات وتطبيلات اعلامية رخيصة.
لقد كان لبعض الحكام اصلاحات وطنية واقتصادية وعسكرية، لكنها، لم تصل الى خدمة السكان المباشرة، أو تحسين مستويات المعيشة والمواطنة. وقد جرت محاولات عدة ومتعددة الاتجاهات، منها لربط البلاد بالنفوذ الفرنسي المباشر، ومنها محاولات الاستقلال عن نفوذ فرنسا، وتأمين نوع من الحكم الذاتي المستقل عن الخارج، وهو ما نتلمسه في تاريخ سكتلنده.
وفي تاريخ الكنيسة ظهرت تيارات تتقارب من البروتستانتية، وتطلب الدعم من انجلتره، للتخلص من النفوذ الفرنسي بالوكالة. هذا الانشقاق الكنسي المبكر في اسكتلنده، كان لدوافع وطنية استقلالية، وما تزال الكنيسة، اداة وطنية فاعلة، في حماية استقلالية البلد وهويته الثقافية.
ولعلّنا نفتقد هذا الأثر، في العالم الاسلامي، الذي منح نفسه صفة (الأممية) في ظروف وأجواء غامضة/(بين السطور)، لا أعتقد أنها تتلاءم مع دعوة القرآن العروبية المكررة، عبر نصوص الكتاب. ان غياب فكرة الوطن والهوية الوطنية المحلية في الاسلام السائد، قاده ويقوده لمزيد من الاغتراب والانعزال عن اداء دور وطني اجتماعي. وبالتالي، فهو هوية خارجية مستوردة، أكثر منها هوية متعشقة في نسيج كل بلد على حدة.
اننا نعرف الهوية القبطية المسيحية لمصر، ولكننا لا نجد هوية اسلامية مصرية، رغم الجهد المثابر لحركة محمد عبده [1849- 1905م] وتلاميذه. ان حركة الاخوان المسلمين/(1928م) رغم توطنها المصري، والحركة الوهابية/(1844م) في توطنها الجزيري، كانت حركات (أممية) وليس وطنية. وقد انتهت الحركتان، الى فراغ وعدم وعبث، بعد ركام من خسائر ومساوئ مادية وبشرية، أساء للاسلام جدا.
ومثل ذلك، يقال عن الحركات والمافيات المسلحة باسم الاسلام، بدء من حركة المجاهدين العرب في أفغانستان، إلى نشاطات القاعدة في العراق/[الزرقاوي، المصري، البغدادي]، فهي كانت حركات أممية عابرة للبلدان، أكثر من كونها حركات بلدانية وطنية ذات غطاء وسقف وهوية وطنية محلية.
لكن الاسلام اليوم، بعد اربعة عشر قرنا، ليس دينا وهوية وطنية أو قومية، ولا دينا وهوية اممية مثل الشيوعية والماركسية مثلا. ان اليهودية عقيدة وطنية قومية منغلقة، والمسيحية هوية محلية بلدانية، تحمل خصائص كل بلد، فهي سريانية وقبطية، كاثوليكية وارثوذكسية ، اشورية وكلدانية، يعقوبية ومارونية، ولكلّ منها فضاؤها الجغرافي القومي والاجتماعي.
لا نجد مثل ذلك في الاسلام، مما انعكس في تسيّب مشاعر الوطنية والقومية من جهة، ومضيعة الجهد الاسلامي، من غير منظور وبرنامج وخطاب وطني واضح. فالمسلم العراقي لا يجتمع مع المسلم السعودي، والمسلم المصري لا يتفق مع مسلم يماني، مما يخدم حالة التشظي والتفرقة من جهة، وفي نفس الوقت، لم يلعب الاسلام دورا وطنيا محددا وواضحا، ضمن النضال الوطني والكفاح السياسي، من جهة أخرى.
بل أن سبب انحطاط الاسلام السياسي في الحكم، وما سجله من فضائح تاريخية لليوم، هو خطابها العابر للبلدان والقارات. ، والمطالبة بتطبيق الشريعة وشعارات طوباوية عدّة، فيما هو عاجز عن تأكيد اصالته الوطنية والقومية.
هذا الطرح سيبدو غريبا لكثيرين. ولكن الحقيقة، هي اعلان المستور، والكشف عما تحت السطور، وأكرر، ان اسلام اليوم، لا يتصل بالاسلام الأصيل والمكي التاريخي، وهذا هو سبب نكوصه، ونكوص المتاجرين بشعاراته.
إلى جانب الوعي الوطني لقادة الكنائس، كان ثمة حركة أهل الأرض، مالكي الاراضي، والذي جرى توصيفهم لدينا -ماركسيا- بالاقطاع. لقد جنت الماركسية والشيوعية عندما اعتبرت (اقطاع) الأرض، فئة غير وطنية ذات طبيعة استغلالية، انيطت بها كلّ صفات السوء، ونزعت منها كلّ صفات الخير.
وكانت النتيجة: هروب الفلاحين من أراضيهم لغزو المدن وتعكيرها ثقافيا، بينما هرب رموز الاقطاع خارج البلاد. وفي الحالين: حرمت البلاد من الاقطاع الوطني، وخسرت الأرض فلاحيها، لتنتهي للبوار، وتقوم الحكومة، باستيراد الطماطم والخضر.
ان قاعدة الثورة الانجليزية ضدّ الملك الأجنبي، تشكلت من اقطاع الأرض/(لاندلوردز) وقادة الكنائس. وضمت ثورة الاقطاع والكنيسة، ثمانية وعشرين جيشا، لها هدف واحد وخطاب واحد، هو التخلص من الحكم الأجنبي ورفض الاستغلال والاستبداد ودفع الضرائب/(الجزية والخراج).
هاته الثورة التي تواترت ضد قوات الملك، هي التي أجبرته للدعوة للمساومة والمفاوضات. فاختير ثلاثة من أبرز رموز الاقطاع واكثرهم حماسا، لتمثيل الأهلين أمام الملك. هاته المواجهة والمفاوضات بين أهل الأرض، وممثلي الملك، للتوصل الى اتفاق يرضي الطرفين، أنتج ما عرف بالـ(ماجنا كارتا) الانجليزية، والتي اعتبرت أول لائحة دستورية في التشريع السياسي الحديث، لتنظيم وتحديد حقوق وصلاحيات الملك، وحقوق وواجبات الشعب.
وفي حقيقتها، لم تكن الماجنا كارتا، غير خدعة، استخدمها الملك، لإعادة الثوار إلى بيوتهم وأراضيهم، وإعادة السيوف والبنادق إلى أغمادها، ليتسنى له خلالئذ، مضاعفة قواته وقدراته، وتشتيت المعارضة وإضعاف قدراتها، وتقتيل أبرز قادتها. وذلك ما حصل فعلا، عندما عاد الملك والغى الاتفاق، للعودة للاستبداد والتسلط.
يومها، كانت الجماهير، لم تفقد امكانياتها وحماسها، ولم تفرط بكلّ أوراقها. فعادت للثورة، مما دفع الملك للعودة للاقرار بالماجنا كارتا ثانية. ولم يسمح لملك جديد ابتداء حكمه، من غير توقيع اقراره بالماجنا كارتا. ولم تستمر لعبة الماجنا كارتا أكثر من قرنين، نجح المحامون خلالها، في تقنين أمور الحكم والدولة والتشريعات العامة، بحيث تم تجريد المواطن من كثير من حقوقه الشرعية، ومنها حقوق المعارضة والاعتراض والخروج على السلطة.
ومن هنا أيضا، ولدت أرضية جديدة، لاختراع لعبة جديدة، يدفع ثمنها وتكاليفها التاريخية أهل الأرض؛ تلك هي (البرلمان) ولعبة مندوبي الشعب. حيث يختار الملك أنفارا من اتباعه، ممثلين للمقاطعات وفئات السكان، تحت مسمى (مجلس اللوردات) في البداية، ثم (مجلس النواب) لاحقا.
في البدء، كان لمجلس اللوردات/(لاندلوردز)، دور فاعل في اتخاذ القرارات السياسية، ومن بينهم طاقم (الحكومة) وأنصار الملك. ولكن مع تزايد الوعي السياسي وتنامي التيارات الوطنية، تزايد الدور السياسي لمجلس النواب، وتراجع دور مجلس اللوردات ليصبح شرفيا.
وقد اقترنت تلك الحقبة، بالحكم الدستوري، ومرجعية الدستور. وفي تلك الحقبة الوسيطة، ما كان للملك الجديد، الجلوس على العرش، قبل اقراره بالدستور، والحكم بموجبه.
لقد نمت الحركة السياسية الوطنية في ظروف شائكة ومعارك عنيفة، من تبادل القوة وصراع الارادات بين أنصار الملك، وأنصار الشعب/ البرلمان بالمقابل. وكان حكم ال تيودور، ومنهم هنري الثامن، والصراع المستميت، حكما مطلقا، لتجريد الكنيسة من نفوذها وممتلكاتها، في الحقبة الدستورية. وكان حكم ال ستيوارت دستويا، مع صلاحيات ملكية محدودة.
وما يتعارف اليوم من حزب المحافظين، فهو تكتل (أنصار الملك) تاريخيا. ولا يمكن انتظار شيء منهم، يخدم الجماهير، وانما هم ضد الجماهير، ولصالح زيادة نفوذ ومصالح الملك/الملكة. وفي مقابل ذلك، ظهر حزب اليمين، وهي صفة الصقت بقادة الكنائس، وتمثيلهم السياسي في البرلمان، ممن عمل اوليفر كرامويل [1599- 1658م] على إضعافهم.
المعدل العام للصراع والعمل السياسي في انجلتره، نجد انحيازا متزايدا لصالح سلطات الملك. وبالنظر، لتقزيم امكانيات حركته. فقد تم اعتقال توماس هاردي [1840- 1928م] لقيادته تنظيما سياسيا، كان يقوم باتصالات مع رفاقه في بلدة مجاورة داخل المقاطعة. وجرى منعه من العمل السياسي، وهذا يعني تفكيك تنظيمه وضعه تحت مجهر المخابرات العامة.
ولا يزال هذا العمل المَنطَقي/ اللاوطني هو السائد قانونا. ورغم قدمية هذا القانون، فقد استخدم في اضعاف نشاط حزب العمل، الذي مقره الرئيس خارج لندن، وامكن توليد قيادات مخالفة لقرارات قيادة الحزب، وبذلك تتدعم قوة المحافظين المدعومين بتأييد البلاط.
وهذا ما أصفه بالدكتاتورية الملكية، أو دكتاتورية اليمين السياسي في كلّ أوربا، والمدعوم من الأصولية الرأسمالية الامبريالية، منذ سقوط المعسكر السوفيتي الاشتراكي، و هو أمر مكشوف منذ أواخر التسعينيات، وهو موعد اطلاق النار على الجماهير، واعلان استبداد الطبقة الصناعية ورجال المال، وبزعامة البنك الدولي وسلطاته اللامحدودة.
(5)
بدأت الدمقراطية والدستورية لعبة بيد الملك، وانتهت اليوم لعبة وخدعة ضد الناس، يدوس بها الملك/ الحاكم على ظهور الجماهير، واكتاف الشغيلة وقلوب كبار السن والعاجزين عن العمل ودفع الضرائب المتزايدة؛ مقابل الاستمرار في استقطاع المعونات الاجتماعية والتأمين الصحي والانفاق في مجالات التعليم والتأهيل والرفاه الاجتماعي.
فلمزيد من التصفيق والتطبيل للامبريالية والرأسمالية ودمقراطية التزوير والفساد والقرصنة، من قبل أعداء الشعوب ومطبلي الامبريالية العالمية، في يوم، لا يختلف اثنان عن تمييز الأسود عن الأبيض فيه.
لهؤلاء المطبلين والعملاء الغرابوة أيضا، ولمناسبة جهادهم ضد الجماهير والشغيلة الفقيرة، نقول: تحت هذا العنوان تقوم لبرالية الحكم الفاسد في العراق، بالغاء التعليم المجاني في العراق، وخصخصة الدروس والمناهج، وليس المدارس والعملية التعليمية ككل فحسب؛ بحيث يصبح تقاضي درس أو محاضرة، مدفوعا بالرشوة، وبتسعيرة السوق السوداء، واستبداد المعلم/ المدرس/ الاكاديمي، وبعمولات متزايدة لمدير المدرسة، ومدير القسم والعميد والفراشين والحرس. بحيث يجري على العائلة العراقية، حكم تاجر البندقية على زبائنه.
وهكذا نفيت مقولة: كاد المعلم أن يكون رسولا!
قبل الختام، هل يجري هذا تحت شعارات اسلامية، ام شعارات امبريالية راسمالية، أم يوجد غطاء آخر لتدويل الفساد واللصوصية بحكم القانون واجماع البرلمان المرتزق..
وهل يستحق البرنامج السياسي الانجليزي اليوم، نموذجا يحتذيه العراق والعرب، بينما ينحط للحضيض على أيدي المحافظين..

(16)
(لا تعطوا ما هو مقدّس للكلاب،
ولا تضعوا كنوزكم أمام الخنازير،
لئلا تدوسها تحت أرجلها،
وترجع فتدمّركم)-(مت 7: 6)..
(صارت فضتك زغلا.. وخمرك مغشوشة بماء..
رؤساؤك متمردون ولغفاء اللصوص..
كلّ واحد منهم يحبّ الرشوة، ويتبع العطايا..
لا يقضون لليتيم،
ودعوى الارملة لا تصل اليهم/ اش 1: 22- 23)..
(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا،
وأن الله على نصرهم لقدير/الحج 22: 39)..
عراق تحت الاحتلال..
أولا: انجلتره ليست أول دولة تحتل العراق.
ثانيا: العراق ليست أول بلد تحتلها انجلتره.
أولا: ان البلد المعروف باسم (العراق)، يحتل الفضاء الجغرافي السياسي لدول وممالك قديمة، حملت أسماء: [سومر/ أكد/ بابل/ أشور/ بابل الثانية]. وسجلت مملكة أكد بشخص مؤسسها وقائدها سرجون الأول [2300/ 2270- 2215 ق. م.] ظهور أول امبراطورية في تاريخ البشرية، وهو الثاني من بعد جلجامش، وصفته الأدبيات القديمة، أنه كان نصف (إله) ونصف (انسان).
ويوصف جلجامش في الملحمة التي تحمل اسمه، -(وهي أقدم نص شعري ملحمي متكامل)-، أنه يتكون من ثلثي إله، وثلث بشري، وهو الوصف الوارد عن ولادة سرجون في قصيدة شعرية منسوبه اليه، ولدته ووضعته في (قفة) مع مجرى الماء.
وكانت المملكة التي صنعها سرجون العظيم، تجاوزت حدود العراق السياسية التي رسمها الانجليز/(1920- 1927م)، وشملت هضبة الاناضول شمالا/(منابع دجلة والفرات)، نزولا مع ساحل المتوسط جنوبا، وشرقا باتجاه حوض الخليج الكامل.
تلك المملكة/ الامبراطورية/ العراقية العظيمة، تعود لحقبة العالم القديم، وانتهت عمليا في القرن الخامس قبل الميلاد/ العهد الوسيط، بسقوط مملكة بابل الثانية، على يد التحالف اليهمجوسي*. ليدخل العراق تحت حكم داريوش/(ملك بابل) وكورش/(مسيح الرب)/(أش 45: 1) ملك ايران/(16 نوفمبر 539 ق. م.).
وقد ثار أهل بابل/(العراق يومذاك) ضد الاحتلال الايراني، عامي (520 ق. م.) و(482 ق. م.)، ولكن الثورة اخمدت بعنف ودم. ولم يكن مصادفة، ان لحظة غزو كورش لبابل، هي لحظة اتجاه نبوئنيد/(آخر ملك وطني بابلي)، نحو تيماء واقليم الحجاز، تأكيدا لعمق بابل العربي، وربطا لماضي العراق التاريخي، بمخاض المستقبل العربي.
عندما دخل كورش بابل، رفع ايقونة مردوخ: الاله البابلي، واستخدم ديباجات ملوك أكد وبابل الملكية بوصفه: [أنا كورش، ملك العالم، الملك العظيم، ملك بابل، ملك سومر وأكد، ملك الجهات الأربعة]. وما أشبه ذلك، بتبجح العجم برموز العرب الدينية، وتسخيرهم أدوات لتغرير السكان وخداعهم، عبر افيون الدين والعاطفة الساذجة[بويهيين وصفويين وخمينيين].
ولابد من تنويه/ تأكيد، ان رأس وزراء بابل خلال حدث الاحتلال، كان أحد الفتية اليهود الذين اجتباهم نبوخذ نصر في احد غزواته لفلسطين. بينما كان ملك بابل هو نابونئيد، الذي اقام في تيماء شمالي الحجاز، تاركا ابنه بليشاصر على عرش بابل. وان دانيال، توفي في العام التالي للغزو الايراني لبابل، أي في عام خروج نحميا وعزرا نحو الشام.
ففي أثر تفسير لحلم نبوخذ نصر [634/ 604- 562 ق. م.]، حصل دانيال على تكريم وتقدير عالٍ، بحسب السفر المنسوب لدانيال: [حينئذ عظّ الملك دانيال، وأعطاه عطايا عظيمة كثيرة. وجعله الحاكم على كلّ اقليم بابل، والمتصرف الأعلى على كل حكماء بابل. وطلب دانيال إلى الملك: فولى (شدرخ وميشخ وعبدنغو)، على إدارة شؤون اقليم بابل. أما دانيال فكان في بلاط الملك/(دا 2: 48- 49)].
ذلك فضلا عن حجم الجالية اليهودية القاطنة في بابل، والتي عنيت بالتجارة ظاهرا، وعقيدتها السرية باطنا. وليس من عبث أو صدفة، ان يأتي مضمون الحلم/ الأحلام، المنسوبة للملك، -(نبوخذ نصر، كما فرعون مصر)- سياسيا شاملا ومدمرا، ومرسوما كعقاب إلهي.
بينما يحظى مفسر الأحلام اليهودي، بأكبر مركز سياسي في البلاد بعد الملك/ (يوسف على رأس حكومة مصر، ودانيال على رأس حكومة بابل)*. ومن الأهمية، سرد تفسير دانيال للحلم الملكي، لعلّه يكون موعظة للحالة الراهنية. يقول دانيال لملك بابل العظيم:
[بعدك تقوم مملكة أخرى. دونك شأنا. ثم مملكة ثالثة أخرى من نحاس. تحكم كل الأرض. أما المملكة الرابعة: فتكون قوية كالحديد/ دا 2: 39- 40]. فالمملكة الثانية بعد بابل، هي فارس، دونية الشأن [550- 330 ق. م.]. والمملكة الثالثة/(مملكة النحاس) هي امبراطورية الاسكندر المقدوني [356- 323 ق. م.]، والتي تتسع وتشمل كل الأرض مدة ثمانية أعوام فقط. أما المملكة الرابعة/(مملكة الحديد)، فهي الامبراطورية الرومانية [27 ق. م.- 1476م]، ودامت خمسة عشر قرنا.
ويتضمن النص إشارات وألغازا، على صعيد سكاني، منه: [وحيث أنك رأيت القدمين والأصابع، بعضها من خزف الفخار، والبعض من حديد. فالمملكة تكون منقسمة، منها ما هو في صلابة الحديد، من حيث أنك رأيت، الحديد مختلطا بالطين. وكما أن أصابع القدمين، بعضها من حديد، والبعض من خزف: فكذلك يكون بعض المملكة قويا، وبعضها هشا. وحيث انك رأيت الحديد، مختلطا بالطين. فأنهم يختلطون بنسل البشر. ولكن لا يلتصق هذا بذاك. كما أن الحديد لا يختلط بالخزف/(دا 2: 41- 43)].
كل تينك الممالك والأجناس، جاءت لتسرق وتقتل وتهلك/(يو 10: 10)، لتحيل البلاد الأمنة قفرا، ومأوى للوحوش، وتجعل أفاضل أهلها، يئنون تحت حكم أسافلها. [ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والأنفس والثمرات، وبشّر الصابرين/ البقرة 2: 155).
ما بين [539 ق. م.- 633م] خضع العراق لسلسلة احتلالات خارجية، غريبة على أرضه وثقافته. وقد شهدت تلك الحقبة سلسلة هجرات سكانية نحو الجنوب والغرب، قابلتها وفود موجات سكانية من الشرق. ومرّ خلال ذلك باستحالات لغوية وثقافية، بسبب انعدام الاستقرار، واختلاط الحابل بالنايل؛ واضطراب الأحوال الاقتصادية والعمرانية، وتخلف منظمات المياه والسدود النهرية. وكل هذا تكرر في عهد الاحتلال الراهن/(عقب 2003م).
على رغم ان العامل الرئيس والظرفية التاريخية، وراء ظهور الاسلام، هو التمدد الروماني/ البيزنطي في بلاد الشام وحوض البحر الأحمر، فأن التمدد الايراني في اليمن/(أمس كما اليوم)، شكل عاملا مساعدا، في استجابة العرب، الحضر والبداة، لطرد العجم تحديدا، قبل الاتجاه نحو الشام وشمال أفريقيا، لاستعادة الأرض من الروم.
والمعروف ان سورة الروم في القرآن هي من السور المكية، وربما لم تكن فكرة الهجرة -عندها- الى (يثرب) وما لحقها من بناء الجيش واعلان (الجهاد) في حسبان الدعوة. وكان مهمازها العدوان الايراني على سوريا، وتبادل الهجوم والهجوم المقابل عليها، بين ايران وبيزنطه، فكانت: (الروم 30: 2).
وفيما ابعد الروم خلف حدودهم، فأن ايران مسحت مسحا، حتى استعصى على حكامها لم شتاتها/(حتى ظهور الصفويين/(1501م). وهو ما يذكر ببداية الردّ العراقي العسكري على تخرصات ايران البرية والجوية ضده، حيث توغل الجيش العراقي في العمق الايراني، ليقف على مسافة (80- 120كم) من طهران.
وكان الانسحاب من غير مقاومة، أحد الأخطاء الستراتيجية العسكرية في ظرفها، مما حرم العراق من توظيفها لمكاسب تاريخية، ولم تكن الدولة الخمينية اكملت عامها الأول. وكم من قوة اوربية اقتحمت عاصمة بلد اخر، فاحتل الالمان باريس وفيننا وبراغ ومعظم عواصم شرق أوربا، واحتلت فرنسا روما، واحتل السوفيت برلين، كما احتلت الجيوش البريطانية بغداد والقاهرة، ودخلت فرنسا دمشق، واحتل الاميركان كوبا والمسكيك وفيتنام وكوريا وكابل وبغداد.
فما يكابده العراق منذئذ، تبعات ثقيلة للخطأ العراقي. وليسأل كل عراقي نفسه، لماذا تراجع العراق عن غزو العاصمة الايرانية، فيما انتهزت ايران ضعف العراق ووقوعه تحت العقوبات والضربات الامريكية ، لتحتل أرضه وتستبيح مدنه، ويتجول جيشها وقادتها في العراق، مثل حديقة خلفية.
ان اليد المغلولة لا تصنع ولا تقنع. والمثل العربي يقول: إذا ضربت فأوجع، وأذا أطعمت فأشبع. وفي الانجيل: (أنك لست باردا ولا حارا. ليتك بارد أو حار. فلأنك فاتر، ولست حارا ولا باردا. سأتقيأك من فمي. ولأنك تقول: أنا غني، وقد اغتنيت، ولا احتاج إلى شيء أبدا. ولكنك لا تعلم أنك بائس ومثير للشفقة، وفقير وأعمى وعريا. أنصحك أن تشتري مني ذهبا، ممحصا بنار، لتغتني؛ وأردية بيضاء لتلبس، ولا يظهر خزي عريك، وكحلا، تكحّل به عينيك ، لترى!/رؤ 3: 15- 18).
ان وصف الفرس بالدونية والخسة والخبث، جاء من مصدر توراتي قديم، وليس قصرا على العرب، الذين نقلوه عن كتب الأولين. وقد أورد الدكتور أحمد سوسه [1900- 1982م]، تفاصيل عن حال هندسة الري والعمران خلال الاحتلال الاخميني في كتبه المتعددة عن الري في العراق وتطوره منذ القدم)*.
والعراق بلد زراعي يعتمد على الارواء النهري، بحاجة الى عناية وصيانة منظمات المياه وشبات السدود، التي وضع أسسها السومريون والحضارات العراقية القديمة.
سقوط بابل التاريخية حدث بتآمر وخيانة داخلية، جراء تحالف يهمجوسي، ما زال لليوم فاعلا وباطنيا. ذلك التحالف الذي استأخر الضربة الغربية الامبريالية لايران. فالضمانة الايرانية، هي الكيان الصهيوني الاسرائيلي، وما أغرب الحلم السعودي، باستعداء (اسرائيل) لمهاجمة (ايران)، حماية للجزيرة والخليج.
والاحتلال الراهن، غب الفي عام وزيادة، حدث بتآمر وخيانة داخلية، قوامها طابور خامس تاريخيا وعصريا.
لقد أخطأت ايران إذ استعجلت وكشفت عن أطماعها التاريخية، وجملة أحقادها السياسية، المؤدلجة دينيا، واجتماعيا، بحيث لا يبقى لها ما تبرر به سلوكها العدواني واجرامها الدولي في تصفية الاف العراقيين، الرافضين للاحتلال الذي أزرى بنفسه. أما العمران الذي جرى نهبه المنظم عبر عقود طويلة، فمصيره الخراب والدمار العاجل.
ان المرحلة الحالية، وكل مجرياتها العراقية، اختبار دقيق وصعب للطرفين: الايراني والعراقي. وقد فشل الطرفان في الاختبار. والسؤال هو: أين يضع أولئك رؤوسهم عندما تنتهي هاته المرحلة.
ليست اللغة بتلك الطواعية والغباء لقلب عجلة التاريخ، وركام الحقائق والخسائر والمأسي والدماء، التي فاقت ما خسره العراق والعرب جميعا خلال القرن العشرين.
ان كل ما حصل في عهد الاحتلال/(الاتحرير)، هو مجرد تحشيد أسباب ووقود، لمعركة ومجزرة، دامغة الوقائع والاحكام، ولا يخرج منها، من بخسوا نتائجها. ولا بد لزواج المتعة العراقي الايراني أن ينتهي، فهو زواج مؤقت بحكم الظروف. ولكن ما يعقبه، سيكون أغلى بكثير، من لحظات متعة زائفة، وسقط متاع لا يدوم ولا يبقى.
الاحتلال ليس نهاية التاريخ، حسب المثل الانجليزي.
ان أهمية الظروف والضغوط والمتغيرات ليست في ذاتها؛ وانما في طريقة النظر إليها وطرق التعامل معها. تلك هي جدلية الفاعل والمفعول، وديناميكية المفعول في قلب اللعبة، والتحكم في مساراتها ونتائجها.
لقد عانى الانجليز من خمسة عشر قرنا من الاحتلال، لكنها كانت سيرورة ديناميكية متصلة من الجذب والشدّ، من المعاناة والتعلم، والتفاعل والانفعال، القهر والتسلط، السالب والموجب، وكل ذلك يدخل في حقل (تراكم الخبرة) الاجتماسياسية، وهذا هو جوهر المعرفة.
ان الشخصية الأوربية، وما توفرت عليه من ذكاء وخبرة وديناميكية، هي وليدة المعاناة الطويلة والقهر المتنوع، ومسيرة الجوع والجفاء الطويلة.
البلاد الأوربية بيئة شحّ وجدب، انعكست على طبائع أهلها وضيق نفوسهم تجاه البشر. بينما طبيعة الشرق السعة، وسهولة المعيشة، وسعة الصدور والتكافل، وايواء الغريب.
فالحياة الصعبة والمضغوطة تنتج شخصية صلبة وعقلية وهوية الراسخة؛ بينما البيئة السهلة والجماعة التكافلية، تنتج شخصية هشة سهلة، بسيطة التكوين، عاجزة عن الصمود والمقاومة، سريعة الانهيار.
ان الملاحظ في اجتماعنا العربي/ الاقليمي، الهشاشة والسذاجة وعدم التعلم من الظروف/الدروس. لذلك يجتر الناس أحداث الدهر، وكأنها تحدث لأول مرة. متجاهلين أثر الغزوات الايرانية على عرب الشرق، وما هو انعكاس العنجهية الايرانية والفوقية الارية في النظر لسواهم من البشر/(النعرة اليهودية)، في ذاكرة سكان العراق التراكمية.
ثمة تفاعلية سلبية، ساذجة، ليست من خصائص مجتمع حضاري، رسم الفباء الحضارة والتمدن والعمران. بل هي ليست من طبائع العرب وتكوينهم الاجتماعي. ويبدو ان الهجنة الاجتماعية، والتي وردت في تفسير حلم نبوخذ نصر، انتجت مجتمعا هجينا، وثقافة مسخا، تقمصت ثقافة الغازي وسيئاته، تملصا من آليات الحصانة والمقاومة والدفاعيات الذاتية.
من المستغرب جدا، ان لا يشهد تاريخ العراق، أي حركة مقاومة أو رفض، في الفترة بين سقوط بابل وطلوع الاسلام العربي. هذا هو الارث الايراني الهجين في أصله، والمنطبع في نسيج جماعات عراقية عبر الزمن.
ولم يدرك العراق، الذي كان ميدان ميدان صراعات الفرس وبيزنطه، على مدى التاريخ، ان الجيش الايراني لم يصمد في مواجهة، وانما كان يهاجم في حالة فراغ سياسي/ عسكري، ويراوغ وينسحب ازاء الهجوم المقابل، حتى يلجأوا للهزيمة، عن فشل المراوغة.
ان صاحب الفم الكبير، هو صاحب قلب أجوف.
وفي الحقبة بين سقوط العباسيين حتى القرن العشرين، لم تحصل ثورة أو احتجاج أو حركة تمرد منظمة في العراق، للتعبير عن الاصالة والحصانة والارادة الشعبية والوطنية العراقية. فأين هي الديناميكية الثورية، وديالكتيك الفعل وردّ الفعل، في علم الاجتماع العراقي.
دخل الصفويون بغداد مرتين في القرن السادس عشر، وهي بلا دولة أو جيش/(فراغ سياسي وعسكري)، دون أدنى مقاومة. ولكن الرد العسكري والسياسي والدفاعي جاء من العثمانيين، دون دور فاعل ووطني لسكان العراق.
وذلك لشيوع مقولات: (اليتزوج أمي، أدعوه عمّي)، ما هو مصدر هاته الخناثة والمقولة المريضة!. وكأن أرض العراق، الموصوفة بالقداسة، غير جديرة بالدفاع عنها، والتضحية في سبيلها.
العراقي مستعدّ للموت من أجل فكرة، أي فكرة طوباوية هوائية، اجنبية الهوى والمورد. مستعد للموت من أجل امرأة في مشادة (عرضة/ نهي). مستعد للموت في حالة سكر، وتنافس في لعبة دومينو. ولكنه يأنف عن الدفاع عن أرض أو حرمة وطن. فالوطن، في واقع الأمر، مجرد فندق، خان من غير بيبان، وطن للايجار، والسمسرة.
من هنا اشاع الامريكان في الاعلام العالمي، قبل غزوة الالفية، ان العراقيين سوف يستقبلونهم بالورود. أين هي (الثورة العراقية الكبرى) التي جعلها عبد الرزاق الحسني [1903- 1997م] عنوانا لأحد كتبه. الثورة العراقية الوحيدة هي صراعات العشائر المستيمتة والدامية ضد بعضها البعض، والمستمرة حتى اليوم تحت عناوين مختلفة، بينما البلاد تنهشها الغربان.
تعلم الانجليز من الهيمنات الاجنبية على بلادهم، كيف يتحولون الى امبراطورية عظمى، لا تغيب عنها الشمس. والعراقيون تعلموا من مسلسل الهيمنات الأجنبة كيف يتقمصون ثقافات الغزو وعقائده وترهاته، ويجعلون أنفسهم دروعا بشرية لحماية الغازي، بل يصنعون جيوشا من (ولد الخايبه)، للقتال في صف المحتل، ضد بلدانهم الأم، دون حياء أو رادع من ضمير.
العراقي بحاجة لمراجعة ذاتية عبر التاريخ، لاستقراء هويته وشخصيته الأصلية، والتحرر من خصائصه الهجينة والهوية السلبية التي سلخها في ذاته، بدل استخدام دفاعياته الذاتية ودعامات الحصانة الطبيعية والغريزية، التي لا يخلو منها كائن حي.

ثانيا: قبل أن تحتل انجلتره العراق، كانت قد احتلت وادي النيل وجنوب شرقي اسيا وجنوبي أفريقيا، وغيرها كثير.
كيف استحالت انجلتره من مقاطعة يحكمها دوق نورماندي من اقليم لورين الفرنسي، إلى دولة ذات سيادة وحكم مطلق، يزيح كل القوى الملكية والامبراطورية والبابوية من طريقه، ويلحق بها هزائم تاريخية دائمة لليوم.
واليوم، يخضع العالم كله للغة والثقافة والبروتستانتية الانجليزية.
بدأت القصة أيضا مع هنري الثامن: ذلك التقي الذي لم تكن السياسة والعرش على قائمة اهتماماته.
أكثر من ذلك، كل القصة تنحصر/ تختزل نفسها في قصة زواج الاستعارة، عقب وفاة أخيه، ليتزوج أرملته: كاترين اراغون الاسبانية، بنت ايزابيلا وفرديناند، صناع أول امبراطورية أوربية في العصر الحديث.
عهد هنري الثامن، وضع المخطط الرئيس لولادة انجلتره المستقلة، والأقوى في المحيط الأوربي. وكان لابد من وضع خطوات مدروسة، لاضعاف بقية أفراد العائلة الأوربية، لاحتكار السلطة بيد الأجدر والأقوى.
من هنا وضع البلاط الانجليزي أوليات الحرب ضدّ اسبانيا وفرنسا أولا، وألمانيا وروسيا ثانيا، والولايات المتحدة الاميركية والصين مستقبلا.
بدل أن تكون المصاهرة اداة لتقريب الأجواء وتوثيق العلائق، وتقريب المواقف؛ هي لدى الانجليزي، وسيلة استضعاف الأصهار، واستيراثهم سياسيا.
ولم تتنفس انجلتره الصعداء، أو تمد عنقها عاليا، قبل هزيمة اسبانيا وتهميشها عسكريا واقليميا. اكثر منه، واصلت انجلتره حربها ضد اسبانيا، لمصادرة نفوذها، واستقطاع ارضها الوطنية. وسواء.. لعشق انجلتره لاحتكار المضائق والمعابر الدولية، أو النكاية بالعدو، فقد نجحت في السيطرة على مضيق طارق واقليم جنوبي اسبانيا، الخاضع للادارة البريطانية.
تسلط بريطانيا على اسبانيا، كان بداية انطلاق الطموحات والاطماع الانجليزية خارج أوربا. وقد جرى توظيف قصة كاترين وتجريد الزواج من الشرعية والوراثة الاجنبية للعرش، دورا محوريا على الصعيد السياسي، والصعيد الديني، بنبذ الكاثوليكية وما وراءها، لصالح هوية بروتستانتية وطنية وهوية انجليزية مستقلة.
في نفس سياق مشروع السيادة والاستقلال، كان اهتمام انجلتره باجتذاب القوى المناوئة للملكية الفرنسية. وقد لوحظ، ان انجلتره، شاركت في التحالف جنبا الى جنب اسبانيا والبابوية، لضرب فرنسا. فالبراغماتية الانجليزية، يهمها الكسب باختلاف الوسائل، ويهمها الهدف، باختلاف السبل التكتيكية.
بل أن من خوارق الانجليز، انهم في اللحظة التي يستميتون لتوقيع اتفاق مع طرف معين، يحضرون ملفات ومشاريع لتدميره. وأفضل أمثلة ذلك، هو الدور الانجليزي المحوري في النصف الأول من القرن العشرين.
لقد بذلت انجلتره أكبر جهد دبلوماسي مستميت في تاريخها، في تلك الحقبة. ونجحت في عقد اتفاقات ومعاهدات سياسية وعسكرية واقتصادية وستراتيجية مع كل الأطراف الاوربية الرئيسة: برلين وموسكو وباريس وروما، فضلا عن اتفاقاتها المزدوجة مع الاساتنة وامير مكة.
وفي النتيجة، لعبت انجلتره ضد كل هاتيك الأطراف في نفس الوقت ونفس المستوى، وخرجت من تلك الألعاب التكتيكية، الرابح الوحيد والمستفيد الوحيد، ولا أقول المنتصر الوحيد. لأن انجلتره لم تدخل حربا ولا حققت نصرا عسكريا ميدانيا، ولكنها حاذقة جدا، في دفع عدوّها إلى هوّة الهزيمة العسكرية والسياسية.
وطريقة انهاك العدو واستنزافه، وسحبه للمطاولة، واستخدام الاعلام والدعاية لشحذ حماسه لمعركة وهمية، استخدمها الانجلوميركان ضدّ نظام صدام حسين [1937/ 1979- 2003/ 2006م]. وفي الوقت الذي تم تسخير الاعلام العالمي لتزويق صورة صدام، وتحويله إلى اسطورة عالمية، كان يجري تفريغ الاسطورة/ الشخصية من داخلها، وتجييش جماعات محلية ودعمها، لتكون البديل المقبل، والاداة بالوكالة لقيادة المعركة الوهمية بين طرفين محليين، بين صدام والمعارضة/(المصطنعة). ولم يكن دور الامبريالية الغربية غير دعم المعارضة وانقاذ الشعب من يد الجلاد. لكن أيتام صدام، لا يدركون ازدواجية اللعبة الغربية، ومصيرهم الذي ينسخ مصير كبيرهم.
هؤلاء لما يزالو يفكرون ويعملون بعقلية واساليب المعارضة، وليس بعقلية الحاكم. الحالة المسجلة عربيا، كانت من نصيب ياسر عرفات [1929- 2004م] في اعترفه، ان القيادة المقاومة أسهل من القيادة في الحكم أو القيادة في السلم. وسواء كان ذكاء من وحي اختباره، أو من املاءات ادورد سعيد [1935- 2203م] خلال تقاربه من عرفات في بيروت، وعضويته/(!!) للمجلس الفلسطيني، فأن عرفات نفسه، لم يحصل على فرصة الاختبار الثاني. لقد اغتيل مع نهاية اللعبة.
لقد بقي صدام حتى اللحظات الأخيرة قبل اعدامه، متشبثا بخلاصه على يد الامريكان. لقد نجح الانجلوميركان أن يكونوا حليفا ستراتيجيا، لكل الأطراف العراقية المتناقضة/[النظام ومناوئيه]، وهم يقومون بتدميرها وتفكيكها، وتهميشها، وقيادة خطتهم الى النجاح.
توافق الاعلام والجيش، هو ذروة اللعبة السياسية. وهذا هو اكسير الامبريالية الغربية.
ورثت بريطانيا الهيمنة البرتغالية والهولندية في الجزر الاسترالية وشبه جزيرة الهند. ولم يؤسس الانجليز مكتب التجارة الشرقية في الهند، وانما سبقهم اليها الهولنديون والفرنسيون، واستمر اسم - الشركة التجارية الهولندية في الهند- تحت ادارة حكومة اليزابيث الأولى التي وثقتها بمرسوم ملكي العام (1601م).
الهند هي دجاجة انجلتره التي تبيض لها الذهب. وبعضهم يشبه الهند بالبقرة الذهبية للانجليز. وعندما تزايدت حركات الانتفاضة والعصيان في صفوف الهنود، خشيت لندن من افلات الكنوز من يدها، وعدم قدرة التجار والمغامرين من الاحتفاظ بالبلاد.
عندها أعلن بلاط لندن فكتوريا ملكة امبراطورية على الهند. وأصدرت فكتوريا اعلانا دعائيا يدين اعمال العنف والمجازر التي شاركت فيها كل الاطراف الانجليزية والهندية، للتبشير بعهد من الاستقرار والعدالة والسلام الفكتوري. لكن تلك المزحة لم تستمر طويلا، ولم تجد بدا من تعديل علاقتها بالهند، من الحكم المباشر إلى الحكم غير المباشر.
وذلك بمنح الهند استقلالها، بعد تقسيمها إلى هند وباكستان/(1945م) أولا، ثم تقطيع دول وممالك أخرى مثل بنغلادش ونيبال وغيرها، بحيث لا يتبقى من التنين الهندي، غير كانتونات متصارعة، عاجزة عن الاستقرار والسلام والتنمية، حتى اللحظة.
وليس أقسى وأفظع في هذا المقام، من عتاب غاندي [1889- 1948م] ولومه لرفيق دربه محمد علي جناح [1876- 1948م]، الذي خان الطريق وغدر به. ولقد جاء اغتيال غاندي على يد احد خدمه، امتيازا لينفرد غاندي بالمجد، مجد حرية الهند وسيادتها واستقلالها، ومفردة عالمية تاريخية للابد.
اغتيال الزعماء على ايدي خدمهم، تكتيك انجليزي تقليدي. (الحمى تيجي من الرجلين)، و(أعداء المرء أهل بيته). لقد اغتيل الامير حسين بن علي [1854- 1931م] على يد خادمه. واغتيل صدام حسين بخيانة حمايته وربائبه. ولن تتغير اساليب العدو، وانما تتطور وتزداد دهاء ونفاقا.
في القرن السابع عشر، نصبوا قنصلا انجليزيا في مسقط لمكتب التجارة الهندية، وانتهو بسلطنة عمان لتقسيمها اربعة دويلات متحاربة. بعدها دخلت بواخر القراصنة الانجليز في حوض الخليج، التي انتهت بحادثة القراصنة، وتحالف الانجليز مع سلطان عمان وال سعود لضرب قوة (القواسم).
وفي القرن الثامن عشر اقترح الوزير الانجليزي المفوض في الهند، تحويل الخليج الى محمية بريطانية. ونجح في استحصال أمر سلطان من الاستانة، تتنازل فيه عن حوض الخليج لصالح انجلتره.
على الشاطئ الآخر، كانت مصر/ (اقليم وادي النيل)، تعيش ربيع الاحتلالات المتعاقبة والمتصارعة على أرضها، من حملة نابليون إلى الحاميات الانجليزية واتفاقياتها مع حكومة الخديوية لتدريب الجيش المصري، وتشابك القوات الالمانية والايطالية والنمساوية والامريكية حول وادي النيل، وصولا لانشاء مكتب القاهرة الملحق بمكتب تجارة الهند.
والى انشاء مكتبي التجارة في كل من دلهي والقاهرة، تعود فكرة اقليم الشرق الأدنى الانجلية/ الشرق الاوسط الكبير الاميركية، لتجيير المنطقة من الهند الى الساحل الاطلسي، حديقة خلفية وسوقا اقتصادية تابعة للهيمنة الامبريالية الانجلوميرية الدائمة، واغلاقها أمام أي قوة منافسة، ومنع ظهور أي قوة وطنية/ اقليمية، تهدد السياسات الغربية في العالم.
ان احتلال انجلتره للعراق كان قرارا مؤجلا، بانتظار الظروف المواتية، وتراخي قبضة العثمانيين، أو قرار تسوية وسحب يد، كما حصل في الخليج.
اين كان الموقف العثماني الامبراطوري أزاء النشاطات الكولونيالية والامبريالية في عالمها الجنوبي والشرقي؟..
اين كان موقف سكان العرابيا والعالم الاسلامي ابانئذ، على الصعيد السياسي والسيادي؟..
وقد شهدت تلك الحقبة، ولادة بدع وهرطقات وطوائف، ومراجع اسلاموية وعلموية، من حضانة الأجنبي، لا يستحق الذكر منها، غير دعوة جمال الأفغاني [1837- 1897م] التاريخية المميزة، والتي اتفق الانجليز والعثمنيون على محاصرتها وافشالها، وتفقيسها في ايقونة حركة حسن البنا [1906- 1949م] المصري، خلال الاحتلال الانجليزي لوادي النيل، بينما اخصبت حركة المدعو محمد عبد الوهاب [1703- 1797م]، لتشتيت القوة الاسلامية، وتحويلها إلى طوائف وبدع ونعرات دينية، على حساب الوعي والانتماء الوطني والسياسي، الفاعلة حتى يومنا هذا، إلى ما شاء الله!.
(ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق، وان الذين اختلفوا في الكتاب، لفي شقاق بعيد/ البقرة 2: 176)..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاظم جبر سلمان الكرعاوي: سقوط بابل عام (539 ق. م.) ودور اليهود في ذلك- موقع: اهل الجنوب السومريون/ في 3 فبراير 2013م
* للمزيد.. انظر: وديع العبيدي- (دامداماران): 15 في موقع الحار المتمدن: ع 5522/ (16 مايو 2017م)
* للمزيد.. انظر: وديع العبيدي- (دامداماران): 18 في موقع الحوار المتمدن: ع5536-(30 مايو 2017م)، و(دامداماران) 20 في ع 5541- (4 يونيو 2017م).
* المفارقة هنا، انني عثرت بكتب الدكتور سوسه، في أيام خدمتي العسكرية في حرب الثمانينيات، وكنت في مهمة عسكرية لحسابات الفرقة، فعكفت الليل اطالع بعض كتبه عن هندسة الري في العراق. وما أكثر الكتب والمصادر التي كانت غذاءنا الفكري والروحي حربئذ.

(17)
السيادة والزيادة..
(كلا. ان الانسان لَيطغى. ان رآه استغنى. ان إلى ربّك الرجعى/العلق 96: 6-8)
(1)
الجزيرة المقفرة، صارت تموج بالبشر. الأرض التي كانت آمنة، صارت مرتعا للصوص. الناس الذين ما كادوا يجدون لهم طعاما، جاء من يتسلّط عليهم، ويقاسمهم اللقمة، جاء من يغتصبهم ويصادر قوتهم.
هذا أيضا من دروس علم اجتماع السكان. لا انتاج بلا لصوص، لا حضارة بلا مخربين، لا مدنية بلا أوباش وغوغاء. لا انسان من غير شيطان. وبجانب كل مجتمع كدود، هوامش من سقط المتاع. من هنا ظهرت المنظومة القيمية في الشرق. منظومة الكرم والضيافة والصدقة والاحسان.
ثقافة الجواب قبل السؤال. التسليم قبل مدّ اليد.
فالاخلاق، لم تظهر كترف اجتماعي، أو مظاهر برجوازية للتفاخر، انما كانت نظام حصانة ذاتية ودعامة اجتماعية، لقطع دابر الشرّ، واستباق أسباب الجريمة، قبل استفحال عصابات القرصنة. ولم يكن نتشه [1844- 1900م] دائما على حق، عندما نسب الأخلاق إلى الضعف، لكنه على حق إذ احتقر الشفقة.
الشفقة دالة ذل، والشافق والمشفوق، ليس احدهما صنو الآخر.
بالتأكيد، ثمة بون شاسع بين الاجتماع والسياسة، بين نظام القبيلة والمحلة، وبين سلطة الدولة. الانسان يحتاج القبيلة والمحلة/(العائلة الكبيرة)، ولا يحتاج الدولة/(الطاغوت والطغيان والنهب المنظم بحكم القانون). القانون يضعه القوي/ الطاغية، لفرض رغباته وتنظيم آلية أطماعه. كلّ ما عدا هذا تخريف وافتراء، وخداع شيطاني.
لا يوجد قانون في خدمة الانسان. لا يوجد قانون صادر من الانسان بالمفهوم الجمعي، بل الفرد الطاغية. أما وصف البرلمان بالسلطة التشريعية، فهو من نكات الحداثة وهرطقات التمدن. فالبرلمان هو لعبة الملك/ الحاكم، لامتصاص نقمة الشعب. يحله متى شاء، ويذله متى شاء، تارة يضغط به على الحكومة، وتارة يراوغ به الشعب.
والنظام الاميري/ الملكي من مواليد الغرب/ القرصنة، حيث الشحة والتسلط والدكتاتورية. في رواية (القصر) لكافكا [1883- 1924م]، يدور الموضوع طيلة الوقت، حول اجراءات مقابلة الموظف مساح الأرض، لصاحب القصر/(غير المنظور).
الرفض المستمر لصاحب القصر لرؤية (الغريب). رفض قطعي قلعي. عدم اي تعامل بشري/ اجتماعي، يدفع بالموظف ان يشعر انه (حشرة)، أو (عدم) بحيث لا يحظى باعتبار، رغم حاجته لمن يصادق رسميا على أمر وجوده أو التحاقه بالعمل، والذي يأتيه الرد بالوساطة: (لا حاجة لمساحين، لا حاجة لموظفين، لا حاجة للغرباء. غادر فورا).
(غادر فورا).. يعني عدم حصوله على مرتب، يعني البحث عن وظيفة أخرى. يعني العودة، عبر الجبال والأودية. والرواية تدور في القرن الثامن عشر. صاحب القصر، هو صاحب القرية، هو مالك البلدة. كل الاخرين يعملون عنده. كلهم يأكلون من فضله. وبيده وحده، حياتهم وموتهم.
في هاته الرواية صوّر فرانتز كافكا نقطة انطلاق الاجتماع السياسي الأوربي، نواة جماعات: الفرسان، النبلاء، أمراء الحرب، الاقطاعيات والدوقيات التي خرجت من رحمها العوائل المالكة، ملكية وامبراطورية، ارستقراطية وبرجوازية، اقطاع ولوردات ورأسماليين وتجار بلا حدود ولا أخلاق.
هؤلاء هم السادة، أصحاب الدم الأزراق، وبقية الناس هم الخدم، الغجر، الهمج، الرعية والمواطنون بالمفهوم العصري. العمال والموظفون في دولة الملك، الذي يطيعون وينشرون نفوذه، ويعملون ويدفعون له الضرائب والرسوم بالمقابل.
الدولة/ السلطة في الغرب، ليست اختراع اغريقي أو روماني، ولا ابتكار فرانسس بيكون [1561- 1626م] أو جون لوك [1632- 1704م]، انما هو استنساخ قميئ لسلطة الكهنوت، التي اشتقها اليهود والمجوس من بابل، ونسختها بابل عن كهنة سومر القديمة.
هل كان كهنة سومر ملوكا أم كهنة. لا نعرف. لكننا نعرف، أن ملوك حمير كانوا كهنة. ومن هنا عرف الملأ سلطة/ دولة الكاهن الملك، النبي الملك/ الحاكم، في اليهودية والاسلام. موسى تبرع بالسلطة والكهنوت لأخيه هرون، واختفى من اللعبة. هرون وأولاده هم ذرية الكهانة/(ابناء لاوي).
وأبناء لاوي، هم وكلاء السماء، الذين خصصت لهم ثلاثة اسفار من التوراة: [خروج، لاوي، تثنية]، لوصف أنواع الذبائح والقرابين والاطعمة ومناسباتها وتقنياتها الظرفية، التي يأكل منها الكاهن وحده، وما يأكله الكاهن مع الذكور من العائلة، وما يجوز ان تأكل منه النساء في عائلة الكهنوت. ما يسمح أن يأكل منه الكهنوت فقط، وما يسمح أن يشارك به العامة، مما يلقى للكلاب.
تحوّل السلطة من موسى إلى هرون، هو السياق/ (ستاندارد)، الموروث الذي تمت استعارته وتبنيه، لنقل السلطة من (محمد) إلى (علي)/ (الكاهن الأعلى)، ومؤسس سلك الكهنوت الاسلامي، تحت مسمى (الإمامة/ أئمة) ووكلائهم العجم حتى اليوم.
ولا تستغرب وجود حديث موضوع فحواه (مكانة علي مني، مكانة هرون من موسى). موسى اختفى وليس له قبر. وذرية كهنوت هرون لا زالت في ولاية (المعبد اليهودي)، وخوارنة الكنيسة المسيحية، جيلا بعد جيلا، حتى يظهر المسيح على السحاب.
وأئمة (علي: الولي)، ووكلائهم المتكاثرين على الطريق السريع، في زيادة واضطراد وتطور، حتى ظهور (المهدي) من أعماق البئر/ البحر الذي يقيم فيه، منذ أول غرقه، كما عاش اوتو نبستي/ (الرجل الخالد) في ملحمة جلجامش في قاع (ملتقى البحرين).
المهم في كلّ ذلك، هو (السلطة والطعام).
هؤلاء محتكرو الأموال والريوع والضرائب والخراج والوقف والصّدقات والاعطيات والقرابين، حتى جلود الناس وفروج النساء ودمائهم وأرواحهم، هم السلطة والدولة والاقلية الاقطاعية/ الرأسمالية/ التجارية، التي لها الاولوية والأفضلية والارجحية والعلو والسموّ والغلوّ، اصحاب الدم الأزرق/(ابناء الله/(تك 6: 2))، وما عداهم العامة والخدم والغوغاء والهمج، ممن يدورون ويمذرحون بين أقدام وسيقان أصحاب الملك ذوي الدم الأزرق.
وتستأثرني من رواية كافكا/(القصر)، ثيمة ان (السيد/ صاحب القصر) الغائب عن العيان، والممنوع دخول القصر للبحث عنه، أو حتى محادثته من (وراء حجاب)؛ كان يراقب الناس من خلال (ثقب سرّي) ويتنصت لآحاديثهم، وما يقال عنه. والسيد الأعلى (في قبو النجف)، لا يقابل أحدا، ولا يراه أحد، ولديه سكرتاريا تمنع الناس عنه، وتصدر البيانات والرسائل وتوقعها عنه وباسمه.
فهو (ممنوع من الصرف والمقابلة)، لا تلسعه شمس ولا يمسه هواء ولا تلمسه يد عامي/ غجري. هناك في برجه الذهبي، يراقب العالم من ثقب سري، والناس ترفع له الادعية والصلوات والقرابين والدنانير المتلتلة، ليشتري لهم قصورا في جنة سستان.
ومفاتيحها في خزانة المهدي عند مجيئه الوشيك، ليأخذ المانحين العطائين الى قصورهم السماوية، كما يأخذ المسيح أتباعه الى منازلهم/(أدنى من قصور) في مدينة (الأب) الاوغسطينية. [في بيت أبي منازل كثيرة. وإلا لكنت قلت لكم. أنا ذاهب لأعد لكم مكانا. وإذا ذهبت وهيأت لكم مكانا، آتي ثانية وآخذكم إلي، حتى حيث اكون، تكونون أنتم أيضا/(يو 14: 2- 3].
هذا هو جوهر لعبة/ نكتة الدولة.
ودعك من كل الهراء الفكري والديني والفلسفي الذي يدعى بالعلوم الاكاديمية: السياسية والاقتصادية والقانونية والعسكرية والأمنية، مما لا يخرج عن خدمة غريزة الملك وتلبية احتياجاته. الدولة هي الملك الحاكم، والملك هو الدولة، والحاشية/المافيا المحيطة به.
والرحمة للقائل: ما هو القانون: القانون جرّة قلم!. بكل بساطة ووضوح، ومن غير خداع والتواء وباطنية، دولة عميقة ودولة خارج دولة/ داخل دولة، ارتوازية / افقية، سطحية، ممنوعة من الذكر أو التنويه أو الاشارة، ومن يذكرها يجري اعدامه بالرافعة....
الغرب الأوربي، كله خرج من بين دفتي التناك والانجيل. وكما ان يهود صفد كانوا أذكر من موسى، فأن بروتستانتية لندن صاروا أذكى من يسوع الناصرة. هؤلاء لم ينتظروا الأب، انما اخذوا دور الأب، وشرعوا سنن القيامة.
وكل ما ورد في سفر الرؤيا من فك أختام وتكنولوجيا شيطانية، ووشم على الجبين أو الرسغ، اختصرته التكنولوجيا الرأسمالية في أمصال ومجسّات وشرائح الكترونية، تزرع تحت الجلد، أو داخل أوعية الدم وعضلات الجسم، ويتم مراقبتها -لا سلكيا- على شاشات مكاتب المخابرات الامريكية.
مفهوم السلطة الغربية خرج من قدس الأقداس، المعبد المقدس، وبدل أن يكون الحاكم وكيل الاله في الشرقيّات القديمة، صار الحاكم/ الملك هو (الاله زيوس) في روما القديمة، هو وكيل بطرس الرسول في الفاتيكان، وهو رئيس الكنيسة الأعلى، والحاكم الاعلى للكنيسة الانجليكانية في لندن والعالم.
هل ما زال أحد يتحدث عن العلمانية والدولة والدين. هل كانت الدولة توجد لولا الدين. من هو الأسبق، دولة أم دين. متى كانت الدولة علمانية في الغرب. وكيف تكون انجلتره علمانية وملكها رأس كنيسة. وكيف تكون الولايات المتحدة الأمريكية رمز الحرية واللبرالية، وسياساتها الستراتيجية تمتح من اصولية دينية: صليبية صهيونية.
ما هي مرجعية انجلتره السياسية، (رأس؟.. (أم) كنيسة؟..). الجواب هو الرأس. ولا يمكن فصل الرأس عن الكنيسة، الراس هو الملك، والكنيسة هي (الشعب). ولا قيمة لشعب بلا رأس: يعني بلا ملك. (منذ 1534م) كان الملك/(هنري الثامن) رأس الكنيسة الأعلى، ورئاسة الكنيسة ميراث ملكي، حتى تنتقض الملكية.
الكنيسة هي مؤسسة سلطوية اجتماعية، قبل أن تكون مؤسسة دينية، تقيم صلوات وترفع أدعية وتوزع بعض اعانات غذائية على الارامل. والكاهن سلطة، رئيس الكهنة سلطة، (ارك بيشوف) سلطة، وهو نائب ملك انجلتره، في تمثيل الكنيسة.
في التطبيق الديني، يتمتع المتدين/ الكليرك بحصانة واستقلالية من الخضوع للقانون المدني أو تطبيقاته. وهو في ذلك يتمتع باستثناءات، لا يتمتع بها عامة الناس. وفي غير بلد، تتمتع الجالية الدينية بنظام تعليم خاص، وقضاء شرعي خاص، وأنظمة اجتماعية ومالية خاصة. فالدين، ليس مجرد سلطة سياسية اجتماعية، وانما هو (مبدأ سيادة).
وفي انجلتره، ظهر قانون السيادة/(1532م) مع انفصال انجلتره عن روما كنسيا.
ما أعنيه من خلال هذا، ان الدين هو أصل السلطة/ الدولة، تاريخيا وعصريا. ويلحق به مفهوم السيادة والاستقلال.
ان كل دين/(ديانة) يتمتع باستقلالية متطرفة عن الدين الآخر. وكل طائفة، تلح على استقلالها التام عن الطائفة الأخرى. فضلا عن كون كلّ دين وكلّ طائفة وكلّ مذهب، يزعم نفسه هو الحقّ المطلق، وهو الأفضل والأعلى والأوحد.
كل هاته المفاهيم والنعرات، وجدت مكانها داخل المنظومة السياسية لسلطة الحكم. بدل الدين تضع (السلطة)، وبدل الكاهن/ النبي، تضع الحاكم/ الملك/ رئيس الحزب. الفارق هو المعجم السياسي. المصطلح الديني ينقلب الى مصطلح سياسي. المصطلح اللاتيني يتحول إلى مصطلح عربي.
وفي الدولة العربية جرى اشتقاق مصطلح هوائي هو (أمير المؤمنين)، وصار من ألقاب الحاكم: سواء كان خليفة أو ملك أو رئيس جمهورية أو رئيس حزب، فهو أمير المؤمنين وقائدهم، بغير منافس أو اعتراض. أمير المؤمنين يؤمهم في الصلاة ويرأسهم في المجالس ويقودهم في الحرب. أمير المؤمنين هو رأس الكنيسة في أوربا المسيحية.
(2)
(السيادة) كمفهوم سياسي لوصف (الدولة)، يقابل (الكرامة) كفهوم اخلاقي لوصف (الانسان الفرد).
انسان بلا كرامة، يقابل دولة بلا سيادة. والعكس بالعكس.
هذا هو الفارق بين دولة ملكية ودولة رئاسية. الملك له ميراث وتقليد عريق، وله دم أزرق. فيما الرئيس يفتقد الميراث والتقليد العائلي ومن عامة الناس.
في المملكة، فصل بين سلطات الملك وسلطات الحكومة. وفي الدولة الرئاسية، رئيس الدولة هو رأس الحكومة.
الفصل بين السيادة والحكم امر وجاهي لازم. يقال لرئيس الدولة: (السيد الرئيس). أما رأس الحكومة، فهو وزير أقدم، ولا يمثل السيادة والرئاسة. انه خاضع للرئاسة ويلتزم خدمة السيادة، اسوة بكل العاملين في الدولة والمجتمع.
قد يكون ثمة شبه اجماع/ (شبه اعجاب)، بالخطوة الانجليزية في (قانون السيادة)، واعجاب أكثر بالفكرة البروتستانتية في الاستقلال عن تبعية بابوية الفاتيكان. رغم ان الفضاء الانجليزي بعيد عن الفضاء العربي. ولكن هذا الاعجاب وشبه الاجماع، لا يجد له ما يقابله نظريا أو عمليا.
ما من بلد، بين بلدان تبعية الثقافة الانجليزية، من تبنى أفكار السيادة السياسية والاستقلالية العقائدية والهوية الثقافية الوطنية في رأس اهتماماته وتفكيره. بعد قرن منه، لم يظهر عنوان (عرب ستايل/ عراق ستايل) كعنوان اجتماثقافي يكون له جمهوره ومجتمعه العامل على ترسيخه.
ثمة مطعم انجليزي. في الفطور تواجهك لائحة (فطور انجليزي)، بيض على الطريقة الانجليزية. يكاد كل شيء في الطعام والثياب والسكن والعمل وطريقة الحديث والتفكير والجلوس، يحمل سمة: (انجلش ستايل/ برتش ستايل)، ابتسامة انجليزية، ملامح انجليزية.
لكن لا يوجد شيء يتعارف عليه مجتمعنا، يقترن بسمة عراقية، باستثناء ما ينسب لتاريخ البداوة والتقاليد القبلية أو الدينية، والتي صارت مأثورا سلبيا لدى العموم، وسيما الشباب الذي ينسب نفسه للعمانية والحداثة والأمركة، مستخفا بتراثه الوطني. وهم في ذلك في قمة الخطل والتشوّه.
كثير من ثيابنا وقمصان أطفالنا تحمل اسماء ودعايات اميركا ونيويورك ولندن، وهاته ثياب مستورة يتم ترويجها داخل بلاد العرب، ولم يفطن لأي فرد عربي ان هذا يخالف قانون السيادة والكرامة. ان العرب يروجون للغرب مجانا. بينما الدعاية والاعلان في الغرب (بزنس) رائج يكسب المليارات.
لكن التاجر العربي أو العراقي هو اما شخص ساذج أو خائن. ربما يتقاضى مكسبا معينا، لترويج بضاعة مخالفة للسيادة الوطنية. هذا يحدث في كل بلاد العرب، تيشيرتات تحمل رمز مكدونالد وقبعات نيويورك وول ستريت. ومع ذلك، ثمة من يتحدث في الاعلام العربي عن السيادة الوطنية، وان (العراق له سيادة)، ولكنه يفتقد دائرة سيطرة نوعية على الاستيراد، أو السلوك السياسي.
في دراستنا التقليدية للاقتصاد، كان التاجر والرأسمال العربي، يوصف أنه (جبان)، ولما يزل (جبانا) وسيبقى كذلك. ولكن المستجد في الأمر، ان التاجر/ الرأسمال العربي هو خائن ومخالف لشروط السيادة/ الكرامة. كل ما على الفرد أن يعمله، هو مراجعة ثيابه وطعامه وقائمة مشترياته، ويسجل (كم) الدعاية التي يقوم بها مجانا، ويدفع مقابلها اجورا عالية، هي اختلاس من المال الوطني.
أما حجم الدعاية والاعلان والترويج في خدمات الهواتف الخلوية وووسائل الاعلام والتلفزة، فهي أكثر من مائة في المائة.
من هذا المنظور، تعرف حجم السيادة والكرامة، وليس بكلام فارغ وانتفاخ مجاني.
حاول أن تعطي صديقتك قميصا أو قبعة، تحمل اسم بلدك أو أحد مدنه، تحمل صور اثر تاريخي أو ماركة سياحية عربية. إما أن ترفضها منك مباشرة، أو تأخذها منك ولا تجدها ترتديها مرة. هذا هو الفارق بين ثقافة سيادية، وثقافة غير سيادية. السيادة ليست مبدأ سياسيا واعلاميا استهلاكيا، وانما معيار فاعل في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد.
ان الضرورة هنا، ليس أن (نتأنجل) أو (نتأمرك) ولا أن (نتفرنج) أو ( نتأسبن)، ولكن؛ في كيفية الاستفادة من كل أولئك وتجارب غيرهم، في العمل على بناس وصياغة وتطوير كياناتنا وهوياتنا الوطنية المستقلة.
لقد كان لوليم الفاتح الأول دور مؤسس في بناء دولة المؤسسات وتشريع النظم والمبادئ والاقنية المجتمعية والسياسية لمملكة انجلتره، ولكن الانجليز يقابلونه بالاحتقار، ويدعونه:(وليم النغل)، لمجرد كونه فرنسيا وغازيا.
ورغم كون هنري الثامن سفاحا وأنانيا ومؤسسا لكثير من الفضائح والفظاعات التي يضطر الانجليز لكتمانها وتسويغها للكوميديا، فأنهم يقدرونه بوصفه (الأب الروحي) لانجلتره المستقلة والدولة ذات السيادة المطلقة.
التشهير بلوليم الأول لا يقلل من شأنه وأهميته عند دارسي السياسة، ولا ينال من مقام فرنسا وتاريخها العريق والمتفضل على كل العالم، بضمنه انجلتره التي تطورت ونمت من حاضنة نورمندية وبريطانية فرنسية؛ لكن التشهير الانجليزي بالاخرين، شكل عوقا جينيا في الذات والعقلية الانجليزية، في طريق نموها ودوام صيرورتها.
لقد كانت انجلتره الفكتورية هم ذروة الامبراطورية والنفوذ الانجيزي والبريطاني في تاريخها. وهذا يعني، بداية انحطاط انجلتره عالميا، وعجزها عن مواكبة التطورات والظواهر الدولية والاقليمية الجديدة. بل أن انجلتره، منذ لحظة (1820م) تخذت قرارها بالتحالف الدائم مع غريمتها (الولايات المتحدة الأمريكية)، في موقفها من بلدان أميركا اللاتينية، وذلك كطريق أوحد، لحماية نفسها من الغياب أو الهزيمة، في مواجهة القوى البلدانية الاوربية، ونهوض القوى الاقليمية العالمية في اميركا اللاتينية واسيا وافريقيا.
ذلك التحالف، الذي سوف يستمر قرابة قرنين، منها سحابة القرن العشرين، وأزماته الكارثية. وفي كل ذلك، تدين حكومة انجلتره ومملكتها، بالفضل للحماية والسيادة الأمريكية، وليس لهزيمتها الداخلية، واستغراقها في النفخ في قرب الاخرين.
يقول تشرشل: (لقد كانت السياسة البريطانية منذ أمد، كما الآن، دعم البلدان المتأخرة في سبيل الاستقلال، ومنع أي من أقاليمها التمرد على الحكومة المركزية. ومن هذا المنظور، لا يحتاج القرن العشرون الى دليل، للحروب الكبيرة التي جرى خوضها في هذا السبيل)/(ونستون تشرشل/ تاريخ الشعوب الناطقة بالانجليزية/ المجلد الرابع: الدمقراطيات الكبرى- لندن- ط1- 1958م- الفصل الثالث- ص37).
ليس أجمل وأطرى من هكذا دعاية قومية، تجعل زعيمة الامبريالية الرأسمالية، منقذة البشرية، كما هي ربيبتها الامريكية اليوم. وإذا كان الاحتلال البريطاني للعراق، من ثيمات القرن العشرين، فذلك لم يكن احتلالا، وقد لعب تشرشل دورا محوريا فيه، وانما كان، -أمس كما اليوم-، مساعدة تضحوية بريطانية، في سبيل مساعدة العراق للاستقلال.
الحرب هي الدعاية. الدعاية هي الحرب. التاريخ مجرد كلام، يبيعه القوي للمفلسين تاريخيا. التاريخ مجرد غبار، يذره المحتل، ليعمى عيون الضحية عن فضائحه. (ومن الحب ما قتل، والحب أعمى أصلا). ولماذا لا يصدق المصدقون، ان الولايات المتحدة الاميركية، ارسلت نصف مليون عسكري، وأضعاف حجم الأسلحة والعتاد المستخدم في الحرب العالمية الثانية، لمجرد تحرير العراق، وتحويله الى واحة للفساد والانحطاط. وذلك أسوة بفتح الانجليز لخليج البصرة في نوفمبر(1914م).
فكرة قانون السيادة الذي اختطه كرومويل كانت جميلة، لو كانت في حدود الأخلاق الكلاسيكية. أما التطبيق الشيطاني[حلال عليّ، على غيري حرام]، فهو لا ينشجم مع التصوّر التشرشلي لبلده، داعية السلام والاستقلال والانقاذ. ما يجري هنا هو هيئة الشيطان، عندما يأخذ صورة المسيح، أو عندما يدخل الكنيسة.
وهذه اشكالية المسيحية المزمنة. كل مسيحي، حتى لو ادعى العلمانية، يرتدي ثياب الحمل/ المنقذ، وفي داخله، يفعل كل شيء لاشباع حاجاته وغرائزه، دون أن يفقد، صورة البار المسيحي، السائر ويده في يد الحمل السماوي؛ ودون أن يرتاب لحظة، في كونه الأفضل دائما، ووكيل الحق المطلق.
لم تقتصر بروتستانتية انجلتره الطارئة على حالة الملك أو المملكة، وانما سرعان ما تحولت الى حملة عالمية شاملة، ومشروع انشاء سلسلة كنائس انجليكانية في الخارج. ولم يتوقف مفهوم السيادة عند وقف التدخل الاجنبي في الشؤون الداخلية لانجلتره، وانما تجاوزه، لامتلاك الحق المطلق لتدخل بريطانيا في شؤون البلدان الأخرى، وبمبررات مسرحية وصبيانية، مثل دعم استقلال البلدان والمساهمة في تنمية المجتمعات، وكلها بلبوس مسيحي مثالي.
فتدخل الانجليز في تحريض اميركا اللاتينية ضد نفوذ اسبانيا، وارسال الجيش الانجليز لليونان في حربهم ضد العثمانيين، وجملة السياسة الخارجية البريطانية، الموجهة لتدمير واضعاف الامبراطوريات والقوى العالمية التقليدية، واستحلال نفوذها؛ وليس محبة في عيون الشعوب، ولا استكمالا لرسالة مسيح السلام والحرية.
لماذا هربت انجلتره من صراعات القارة الأوربية، للبحث عن مناطق نفوذ في أسيا وأفريقيا وشرق أوربا؛ لماذا حاربت كل المراكز الأوربية، وبشكل تكتيكي مراوغ، لينقض بعضها على بعض، ويصفو حساب البيدر لسلة لندن. لهذا لعبت الى جانب الحلفاء ضد المحور، بينما العائلة المالكة تصاهر الألمان منذ ثلثمائة سنة.
البراغماتية، وهو مصطلح أكثر شيطانية من الميكافيللية، هو ابتداع انجليزي بريطاني. البراغماتية هي جماع الانانية والغرور والاحتكار والاستغلال والنهب المزوق والسيادة المفرطة، وفق أفضلية عنصرية معادية للبشرية.
المغالاة في عقدة السيادة، وراء الغرور الانجليزي ومنح أنفسهم حق الوصاية على العالم، واعتبار المجتمعات قاصرة عقليا وثقافيا عن ادارة شؤونها، والاهتمام بنفسها. ولابد للقانون الاخلاقي الدولي، ان يراجع يوما، مسألة (الانتداب والوصاية) التي منحتها عصبة الامم لبلدان غربية في التسلط على مجتمعات أخرى، وتوجيهها حسب هواها المطلق.
سيادة انجلتره التي بدأت داخلية خجولة، انتهت دولية عابرة للحدود والمياه واللغات والعقائد. وكان الأساس في التحرك البريطاني استيراث غنائم الامبراطورية المتهاوية، بدء من بيزنطه والعثمانية، وليس انتهاء بميراث هولنده واسبانيا والبرتغال.
الناس يتحدثون في كل شيء. كل شيء ما عدا المسائل الاساسية وطوارئ التاريخ التي تأخذ سياق القضاء والقدر. ولكن الانسان لن يحقق وجوده، ولا المجتمعات تبرر وجودها، بدون امتلاك سلطة القرار وسيادتها الذاتية.
لربما اختلف راهن العرب، لو لم يقدموا بلادهم، غنيمة/ فريسة، (للصليبي الكافر)، ويمنحوه ثقتهم، كحليف ستراتيجي، يتلاعب بهم ويحرضهم ضد بعضهم، حتى ينهاروا بالجملة، وينتهوا بلا بوصلة ذاتية، متنافسين في الخضوع لأعداء الامة، ودمارهم الذاتي.
ان المشروع الانجلوميركي في بلاد العرب، لا يختلف عنه في المحيط الأوربي، بتدمير الجميع في اقتتال داخلي، لينتهي صافي الخراب العربي والأوربي، للثنائي الانجلوميركي.
العراقيون الجدد يصفون العهد العثماني بالاحتلال، والحكم البعثي بالاحتلال الفاشي، ولكنهم يتغزلون بالاحتلال البريطاني ، الاحتلال الاميركي، الاحتلال الايراني، للعراق، بوصفهم (ايلاف) اجتماثقافي وجماع مصالح ولقاء ارادات وأحقاد ومحاصصات.
مجرد عودة إلى فلسفة الصباح، واستعادة لفردوس الحشاشين.
(3)
قانون سيادة الاحتلال.. ووهم السيادة العراقية..
مشكلة الاسلام السياسي نادرة تاريخية وظرفية، لا أهلها يستحون منها، ولا الكتاب والمتثاقفون، شخصوا طرافة أسسها ومزاعمها. ورغم ان تيارات الاسلام السياسي قديمة، وأقرب عهودها في أيام العباسيين، فأن ظهورها المعاصر، اقترن بأواخر العهد العثماني، والمزاودة على زعامة الاسلام، ومزاعم الطائفة النجية.
لكن استلام الجماعات الاسلاموية في مصر والعراق، كان مجرد نكتة، ومناسبة للفوضى الادارية والسياسية في البلدان. وإذا كان المصريون كشفوا هشاشة دور الرئيس، وضياع السلطة بينه وبين المرشد الغائب، وتنافح اعضاء مجلس الارشاد ليتصرف كل منهم، وكأنه الرئيس/(بالميانة والاريحية).
حركة الاخوان المصرية التي تعود لثلاثينيات القرن الماضي، خلال الاحتلال البريطاني لمصر؛ احدثت خلالها كثيرا من الضجيج وأوهام القوة والشعبية، اكتشفت نفسها إذ استلمت الحكم، أنها بلا مسودة حكم، أو مشروع سياسي. وبقيت شعارات تطبيق (الشريعة والحدود)، دون أن تعرف هي مسودة (الشريعة، وحدودها) عمليا.
الحالة العراقية- اذا صحّ وصفها هكذا-، أكبر حجما وادعاءا، وقد نجحت بفضل الدعم الاميركي، في تدعيم قضيتها بمزاعم الاضطهاد والتصفية والمقابر الجماعية، أسوة بمزاعم الضربة الكيمياوية لحلبجه عند نظيرهم الكردي. وهو أمر، لم يلجأ اليه الاخوان المصريون، لتبرير وجودهم وحقهم في الحكم.
الاسلام السياسي العراقي ليس عراقيا في اصله، ولم ينبت أو يولد في حاضنة عراقية عربية. وكلّ اجنحته الرئيسة والماثلة في الحكم ووراءه، تم تدجينها وتعشيقها في ايران خلال أيام حربها الطويلة ضد العراق. وكان لكثير من أتباعها شرف القتال إلى جانب العدوّ، ضد بلدهم الأم.
وبغض النظر عن اللعبة/ الحماقة الاميركية، في تسليمهم السلطة، بدل التيارات العلمانية، فقد قدم الاسلام السياسي العراقي، شهادة تاريخية على فشله وافلاسه الذريع في كل صعيد. لقد نشأ هؤلاء في حاضنة ايرانية، وعندما استلموا السلطة، استلموها مع حاضنتهم التقليدية، والتي ما زالت تتعامل معهم من منطلق الوصاية الشرعية والسياسية.
عراق الاحتلال الامريكي كان دولة داخل الدولة الامريكية، وجزء من أمنها القومي العالمي. وعراق الاحتلال الانجليزي، هو دولة داخل الامبراطورية البريطانية وسيادتها القومية. وعراق الاحتلال الايراني هو دولة داخل دولة المرجعية والامبراطورية الايرانية، وإذا كان حاصل تقسيم الثلاثة على واحد، هو الثلث. فأن المتبقي من العراق، بعد استقطاع ثلاثة اثلاثه، هو (10%) ، نسبة السالب السائب، أو الهدر الاجتماعي القومي.
أي من الثلاثة له نصيب في السيادة. مبدئيا، لا تخضع السيادة للتجزئة والمساومة والادعاء. هل توجد سيادة حزبية، طائفية، دينية، أغلبية، طفيلية؟.. ان اصل السيادة هو الوطنية الامبراطورية في المثال البريطاني، والسيادة القومية الامبريالية في المثال الامريكي، والسيادة الايرانية الشاهنشاهية الصفوية في المثال الايراني.
اما العراق المتشظي، المنقسم، المتوزع، الطائفي، العرقي، الحزبي، الأممي، فيفتقد الأرضية الاجتماعية والسياسية لفقه السيادة، فضلا عن مشروع توزيع العداوات والاحقاد والغنائم، بين فئة وفئة، ومحلة ومحلة، وبيت وبيت، وبين كل فرد وذاته..
ان عراق ما بعد (2003م)، ليس دولة أساسا. الطائفة لا تصنع دولة في زحمة طوائف. والطائفة ليست مستقلة بذاتها أساسا، وانما مرتبطة بجهة خارجية، بحسب ظروف نشأتها. وما من جهة في عراق اليوم، تملك أمرها.
فكرة دولة داخل دولة، شاعت منذ خلع المالكي من الحكومة، عقب ظهور داعش. وبعد انسحاب داعش من المشهد السياسي، حسب مجريات اللعبة الدولية. ومع تفاقم الفساد والانحلال والانحطاط، وارتفاع وتيرة الانتقادات والتذمر في الشارع العراقي، صارت حكاية (المنظمة السرية) و(الدولة العميقة) و(دولة داخل دولة).. لما لا نهاية له، أداة تنفيس عن غضب الشارع، والاتهام الأعمى الذي لا يوجه لجهة محددة.
بعبارة أخرى، انها مناسبة لتضييع الوقت. ولا يتعدى هدف الطغمة الحاكمة ، غير اللعب على عامل الزمن، بانتظار ركلة الكرة الجديدة. وكل الجهات تنتظر الركلة من كل الجهات، داخلية وخارجية. لكن الركلة، سوف تنسف الغشاء الخارجي للسلطة، طغمة الحكم الساذجة، والغارقة في مستنقع البراءة.
وما يبقى بعد الركلة، هي الدولة العميقة، المنظمة السرية. ولكل منهما طبقات متعددة، كما يخبر عنها تاريخ العقيدة الباطنية، منذ جذورها اليهمسيحية، والقرمطية والصباحية.
معناه، ان الاسلام السياسي العراقستاني، يستخدم منظومة الدولة العميقة، كسلاح وتهديد ، ضد كلّ جهة، تحاول تهديد الوضع الحالي، أو تطمع في سرقة السلطة من أتباع ايران.
لا سيادة بلا دولة مستقلة. ولا دولة بلا سيقان تقف عليها. لا دولة بالاستعارة. ولا دولة بلا ذات أو هوية.
ثمة أكثر من مأزق يخنق الحالة الشائكة والمتخلفة في العراق، لكن المواجهة والامتحان الفكري لما حصل منذ (2003م)، لما يزل غائبا للان.
وقد نجحوا، - كما يعتقدون- في تأجيل المواجهة، لترتيب وضعهم الداخلي، لكنهم ازدادوا شقاقا.
دولة بريمر اختارت المثال الانجليزي، لإعادة هيكلة الدولة والنظام السياسي في العراق حسب مبادئه واملاءاته.
بينما اللبراليون والتكنوقراط، ينهجون حسب المثال الأمريكي، لدولة قائمة على أساس المصالح وليس الثوابت. والكليرك الديني منقسم لأجنحة وأهواء، أبرزها التيار الايراني ومقلدوه، وهؤلاء، يجعلون العراق ولاية ايرانية، خاضعة لولاية الفقيه؛ وتيار يدعو نفسه عراقيا، لمجرد انه لا يأخذ بولاية الفقيه، ثم ماذا.
عراق اليوم هو الغائب عن الحضور. لا ولاية فقيه ولا دولة شريعة. لا دولة سطحية ولا دولة عميقة.
انه عراق فوضى وتناحرات ومزاودات، أغلبها داخل الطغمة السياسية. وكل طغمة الحكم موالية وتابعة للمرشد والخارجية الايرانية.
اذهب للسفارة الايرانية في المنطقة الخضراء، لتعرف المندوب السامي والوصي الحاكم، من غير حرج.
واذكر، ان العراقيين ثاروا على الحكم الهاشمي، وما زالو حاقدين على الوصي عبد الاله، وما حصل له في التاريخ القريب. نحن اليوم، ما بعد نهاية التاريخ.
عراق اليوم غريب عن ذاته. ضد نفسه. أنه (أرض لا أحد/ نيماندز لاند).

(18)
لماذا احتلت بريطانيا (العراق).. ولم تحتل (ايران)؟..
(1)
ايران أكبر من العراق مساحة، وأكثر منه نفوسا، وأوفر في مواردها الاقتصادية ومصنوعاتها اليدوية، وتشتهر بالسجاد والكرز، فضلا عن كونها أكبر قوة تهيمن على الخليج، وحركة الملاحة فيه. وكان أولى ان تنزل القوات البريطانية في شواطئها الخليجية ، بدل تضييع وقتها وجهدها، في بلد متخلف صغير المساحة، قليل الموارد، لا يسلس قياده.
بل أن السيطرة على ايران، كمفتاح ستراتيجي للسيطرة على عموم أسيا، يساعدها في ذلك، نفوذها الراسخ في شبه جزيرة الهند وكشمير وباكستان وافغانستان. وسوف يحظى طريق الحرير، بأهمية ستراتيجية، وهو يمرّ عبر ايران الى الصين.
أليس هدف انجلتره هو التجارة، والتجارة الحرة، وتأمين طرق المضائق والموانئ والخلجان، والملاحة العالمية الحرة، أمام قراصنتها وتجارها ؟.. كما ان سيطرة ايران على السواحل الجنوبية لحوض الخليج، من قمته حتى مضيق هرمز وبندر عباس، حيث تمتلك مكتبا وحامية عسكرية فيه منذ تاريخ أقدم، يدعم نفوذ بريطانيا في الخليج.
فالقيمة الستراتيجية للعراق محدودة ومتواضعة، قياسا بما تمثله ايران من موقع ونفوذ وامكانيات.
ان السيطرة على ايران، سوف يسهل لبريطانيا اختراق العراق من كافة الاتجاهات، الشرق والمياه الجنوبية، وعبر الفرات الغربي والبادية الجنوبية. ولا ننسى هيمنة انجلتره على حوض الخليج وشبه الجزيرة، منذ القرن الثامن عشر. فضلا عن نفوذها في مصر، وعلاقاتها مع حكام الحجاز.
ان الاطماع الغربية: الأوربية والامريكية، في ميراث آل عثمان يعود للقرن الثامن عشر، عندما كانت الصراعات السياسية والحدودية بين الزعامات الأوربية على أشدّها. وكانت وفود القراصنة على الباب العالي، تشتغل حسب قانون (الغيرة والحسد).
فكلما حظت فرنسا أو ألمانيا بامتياز في الملاحة أو سكك الحديد، اندفع قراصنة انجليز واميركان لاكتساب ضمانات وامتيازات مماثلة. وكان السلطان المسلم، كريما وشهما -بشكل مبالغ- في عدم احباط الصلابوة، وهو يعرف أنهم أعداؤه المتربصون به.
عمليا، حصلت القوى الغربية على كل ما تحلم به، وما يتجاوز أحلامها، في وقت مبكر، يسبق (1914م). وكان التذمر والاحتجاج داخل السلطنة وأروقة الحكم والبرلمان والمجتمع الثقافي، تتزايد بسرعة. بينا شعبية السلطان في تراجع، حتى جعل أمر الانقلاب عليه أدنى من رمشة عين.
ان العدوّ الأول للغرب هو الدولة العثمانية، التي تحتل قلب العالم الستراتيجي، وتسيطر على شرق أوربا وحوض المتوسط والبحر العربي. وهذا النفوذ الواسع والستراتيجي، يعيق حركة الملاحة الغربية والتجارة الحرة حول العالم. ورغم تراجع النفوذ العثماني واختلاف سياسته من الغرب، فلم يكن ذلك كافيا للغرب.ـ
(2)
كانت الدولة العثمانية بحاجة لمعارف الغرب العلمية وقدراته العسكرية، وذلك جراء فشلها في احتلال النمسا، وتمديد نفوذها في كل أوربا. لكن التوجه العثماني الاصلاحي هذا انطلق من موقع ضعف، وليس من موقع قوة. فكان مقامرا فاشلا، مع أطراف تتربص للانقضاض عليه بغتة.
وقد رسخت ضعفها وهشاشتها، في اعلان افلاسها المالي عام (1750م)، وبدء استجدائها القروض من الحكومات الغربية. ولعل السؤال هنا: ما أهمية لهاثها وراء المعارف والتقنيات السياسية، وهي تتهاوى بسرعة، وتخسر نفوذها وصيتها ومستقبلها الامبراطوري؟..
هذا ما جعل الباب العالي مزدحما بسفراء الغرب ووسطائه. هذا ما جعل الدولة العثمانية مفرغة لأزمات الغرب وأطماعه وعقده الداخلية. ونظرا لتاريخ الصراع التقليدي الطويل بين روسيا القيصرية والعثمانيين، وخشية وقع الأخيرة تحت قبضة الروس، كانت انجلتره وأخواتها، على استعداد للقتال، لتهميش الروس، وابعادهم عن قلب العالم الذهبي.
وتتضمن حقبة التردي السياسي العثماني جملة تنازلات سياقتصادية، من خلال توزيع امتيازات وحقوق مجانية لثعالب الغرب في أطراف الامبراطورية، ومنها بلاد العرب، كما لو انها غنائم بخسة، لا كرامة وكيان لسكانها، وحقهم الطبيعي في تقرير مصيرهم وادارتهم لبلادهم. فهي إذ تخلت عن الدور الشريف/(المقرر دينيا وتاريخيا)، صادرت حق السكان في سيادتهم على أرضهم.
حصلت انجلتره على حق استخدام نهر دجلة للملاحة التجارية/(1834م، 1909م)، كما حصلت على امتياز مد سكك الحديد داخل العراق/(1916م)، وعبره نحو الحجاز. وكانت المانيا أول من حصل على امتياز السكك الحديد/(1899م)، ضمن مشروع ربط أوربا بالشرق [خط برلين- بغداد].
13 مارس 1914م احتكرت بريطانيا حق الملاحة النهرية في انهار العراق، ابتداء من شط العرب/ البصرة، رغم اعتراض التجار والنواي العراقيين وممثليهم في المبعوثان العثمنلي. وكانت الحكومة العثمانية قد باعت حقوق الملاحة النهرية وطقمها للانجليز في صفقة سابقة، ورفضت بيعها لجهات عراقية، عرضت ضعف المبلغ.
(3)
1588م- انتصار الاسطول البريطاني على اسطول ارمادا الاسباني، ومنها انفتحت الملاحة الحرة أمام بريطانيا
في 1600م تأسست شركة الهند البرطانية.
1602م تشكلت شركة الهند الهولندية، ونافست انجلتره بعد البرتغال.
1622م طرد البريطانين البرتغال من مضيق هرمز.
1661م وقعت على معاهدة الامتيازات مع العثمنلية وتمم مصادقتها في (1675م): ومن بنودها: حقوق الرعايا الانجليز في الامبراطورية، تحديد التعرفة الكركية بنسبة لا تتجاوز (3%) من سعر البضاعة.
1764م الاعتراف بممثل شركة الهند قنصل تجاري يمثل بريطانيا. وفي (1798م) خصص له مقر رسمي.
1834م حق بريطانيا في استخدام باخرتين في العراق. وقد استاثرت شركة لنج/[هنري بلوس لنج] باستخددام هذا الحق بين بغداد والبصرة.
30 نوفمبر 1860م: تأسيس (شركة الفرات ودجلة للملاحة التجارية)، واستقدمت أول باخرة لها/(لندن سيتي) عام (1861/ 1862م)، والثانية عام (1864م)، وعندما تعطلت الأولى، عوضتها بباخرة (بلوس لنج) في (1875م). وكانت تقومات بالنقل التجاري بين لندن وبغداد. أما الباخرة الثالثة التي استقدمتها من لندن فكانت (خليفة) استبدلتها بـ(دجلة). وقد احتكرت شركة لنج الملاحة التجارية لنقل البضائع والمسافرين والبريد، بحيث نافست الملاحة العثمانية التجارية.
1859م استقدم الوالي رشيد باشا الكوزلكي [1853- 1857م] باخرتين اسمهما [دجلة، الفرات]، باشرتا العمل في ابريل 1859م. ومن بعده استقدم الوالي نامق باشا [1861- 1867م] ثلاث بواخر: [موصل، فرات، رصافة] وضمها لطقم الشركة النهرية العراقية. كما استقدم مدحت باشا [1869- 1872م] استقدم باخرة (مكنة) للعمل في نهر الفرات، الى جانب نينوي وآشور وديالى وبابل ونجد.
1909م قام الباب العالي ببيع بواخر النقل العراقية الى شركة لنج مقابل (250) الف ليرة، وتم تسليمها بالتدريج، استمرت حتى عام 1914م. وقد عارض التجار والنواب العراقيون قرار البيع العثماني، وقدموا أضعاف المبلغ، بلا طائل.

(4)
وبالمقابل، لم تظهر ايران في موقف العدوّ المباشر للغرب. فموقع الدولة العثمانية شكل حاجزا ودعامة لحماية فارس جيوبوليتكيا. بينما كانت فارس تتحرك جنوبا وشرقا، وتشكل ضغطا عسكريا وتهديدا سياسيا لجوارها العثماني. وليس من المجدي هنا، التطرق لوحدة الصف والموقف الاسلامي تجاه (الكفار).
عمليا، كان الصفويون أول من وقع معاهدة دفاع مشترك مع دولة أوربية، لتسهيل ملاحتها في المياه الجنوبية، مقابل اطلاق اسمها على الخليج العربي، وهو المثبت منذئذ باسم (خليج فارس) في الخرائط والادبيات الغربية. ولم يكن البلاط الايراني: الصفوي والقجري، خارج نشاط سفراء الغرب ووسطائه.
ولم يكن شبح الافلاس المالي قصرا على خزانة الاستانة، انما كان مهيمنا على الخزانة الايرانية، سيما في العهد القجري. والواقع ان الهيمنة الغربية على مقدرات ايران وحكومته، كانت شاملة ومبكرة، مقارنة بالسيادة العثمانية ازاء الغرب. وكانت لجنة خبراء روزفلت هي السند الايمن لشاهات القجر، ولم يكن المكوك البريطاني غائبا عن بلاط فارس.
مرة أخرى، دعنا نعطي فرصة لسؤال ساذج أو غبي، مهما كان: لماذا لم تتوافق الحكومات والبلدان المسلمة- يومذاك- في سياسة خارجية عسكرية مشتركة، وتحالف دفاع مشترك غير منافق؟.. لماذا بنى الصفوي دولته على اساس مخالفة العثمانيين في العقيدة والتوجه السياسي؟..
التاريخ لا يموت.. والسؤال لا يموت. ولابد للبلاد المتهمة بالاسلام، أو تزعمه هوية وعقيدة ووووو، الاجابة عن هذا السؤال.
هل يوجد نص قرآني، دعا المسلمين للتشرذم والاختلاف في العقل والعقيدة والاحتراب الداخلي، أم أن بدعة علي في نقل الحرب الاسلامية من اتجاهها الأصلي ضد الكفار، لاعلانها ضد الصدر الأول من اصحاب الدعوة، وجعلها دائرة داخل البيت والمجتمع الاسلامي.
فحتى عهد عثمان الشهيد كانت معارك العرب والمسلمين ضد الكفار، حتى ظهر علي، فجعل سيوف المسلمين تخرط اعناق المسلمين، ومعارك بني الاسلام وقادته المزعومين، تتجه نحو أركان الدعوة وقادة الأمة.
ان انشاء ثقافة تقديس (علي ابن ابي طالب) ورهطه، ورفعها درجات تتجاوز (النبي)، والعالم الدنيوي، إلى بعد ميتافيزيقي، يجعل مفاتيح (الجنان) بيد (فاطمة وعلي) وذريتهما، لن يعفي أيا منهم، عن المساءلة عن أعمالهم الشخصية، سواء في الدنيا، أو يوم الحساب، الذي يكون الجميع فيه تحت اقدام عرش القضاء، بما فيهم الملائكة وكبار الانبياء.
لقد تم اغتيال عثمان، وتضييع دمه بلباقة المدونين يومذاك. وبدل اخماد نار الفتنة، والكشف عمن وراءها، بحياد واستقلالية وشرف، تركت الفتنة تشتعل والدماء تسيل -حتى اليوم-، ليتقلد الامام الزاهد المقدس ربيطة الحكم، وسط احتجاجات واعتراضات ورفض مبايعة.
وماذا كان ردّ الزاهد والنقي، في استخدام السيف والحديد، ضد أهله وقومه وأهل نبي الاسلام ورسوله، الذي لم تمض ثلاثة عقود على وفاته. لقد أدخل علي في الاسلام ما ليس منه، ولا ينبغي له أن يكون منه. وما يزال أدعياء الاسلام وعلماؤه يبلعون ألسنتهم، ولا ينتصرون لقولة حق. متذرعين بقرابة علي من محمد.
وهل كان لمحمد قرابة في موقفه من ابي طالب، عندما رفض تزويجه بنته. هل كان لمحمد قرابة في موقفه من عمه أبي لهب، الذي رعاه وكساه وأنفق عليه وخصص له جارية، لارضاعه وتربيته حتى يستقيم عوده. متى فسح محمد مجالا لقرابة أو محسوبية أو نفاق، من بين عائلته أو زوجاته، حتى يتم تلفيق محسوبية خاصة لبنت محمد وابن أبي طالب؟..
ولماذا فاطمة أصلا، ولمحمد أكثر من بنت. وماذا عن أزواجهن، وحرمانهم من امجاد وحصانة (أهل البيت)، واحتكارها المتأخر في بيت فاطمة؟.. اليس عثمان القتيل زوجا لأثنين من بنات الرسول؟.. أم أن العصبية المشوّهة، أفرزت نفسها، لشق العرب أكثر من شق الاسلام، بذرائع ليس لها اعتبار في أخلاق العرب، فكيف باسلامهم.
من أعطى تاج الامامة والولاية والوصاية والخلافة والامارة لشخص ما، على اساس المصاهرة. تلك المصاهرة التي جعلت قانونا لمصاهرة تالية، صادرت مجد النبوة والخلافة خارج حدودها الثقافية والقومية. والتاريخ يكتب دائما بسياق رجعي، يجري تزويقه وترتيبه بحسب الايديولوجيا الباطنية.
لماذا يجري أهمال الاسئلة والتحديات الفكرية على مدى التاريخ، وتستمر خرائط الانحرافات. لقد قدم الدكتور حسين مؤنس [1911- 1996م] أسئلة علمية وموضوعية، لا ينبغي اهمالها والهروب أمامها. ولابد أن يظهر جيل وعقل عربي جديد، أكثر شجاعة ونزاهة، في الانتصار للحقيقة، ووضع حد صارم للنفاق والتزوير التاريخي الذي جلد قفا العرب والمسلمين، وطبعهم بالخنوع والركوع للاكاذيب والافتراءات، التي حذر منها القرآن ونهى عنها، ووصف أهلها بالكافرين والمنافقين والكاذبين.
(5)
ان حصيلة اجتماعية لعشرة قرون من التزوير والافتراء والانحراف، لا يمنحها شرعية اخلاقية أو سياسية، وفق مبادئ الدمقراطية الغربية، التي لم يكن لها وجود في حياة المسلمين قبل ثلاثة عقود، وليست عربية ولا اسلامية من منظر فكري/ (سيد قطب- معالم في الطريق).
كيف ترتفع يد المسلم على مسلم، وكيف يشهر سيف مسلم في وجه مسلم، ولا ينتفي نص الاسلام. كل من قابل أخاه المسلم بغيض أو بطانة أو عنف، يسقط خارج الاسلام، ويسقط خارج رابطة العروبة، ولو كان زعيما للامة. هاته هي أيضا وظيفة الطابور الكبير من المتثاقفة المسلمين والعرب من يومه حتى يوم القيامة.
في سياق سيوف علي ضد عائشة والزبير، والصحابة والعشرة المبشرة الأكبر سنا من علي ورهطه، سوغ الحكام العرب والمسلمون تشغيل سيوفهم على رقاب أخوتهم. وإذا كان محمد قد غيّر موقفه من يهود يثرب، لمجرد مباطنتهم المهاجرين، فماذا كان سيفعل، في مواجهة أول حرب أهلية اسلامية، يقودها زوج بنته ضد وحدة البيت المسلم، بدل تحصينه وحمايته.
اسماعيل الصفوي اقام دولته لمباطنة البرتغال ومعاداة ال عثمان، ونهج لنفسه اتجاها مذهبيا، خارجا عن أصولية العقيدة والايمان، ثم جعل نهجه صراطا، للمتمردين والمتذمرين والمخالفين للعروة الوثقى.
باسم الذرائعية نفسها، خالف ال سعود القواسمة في الخليج وال سعيد في عُمان، وانشقوا على الباب العالي ودولة محمد علي، وأنشبوا سيوفهم في جلود كل من لا يغني/ يصلي للملك. وفجأة، تطور حكام الاسلام الجدد تطورا عظيما. انهم جعلوا (المصلحة)، أساسا للعلاقات والسياسات والحكم.
رجحان المصلحة، يعني وضع الدين والانتماء والأخلاق والتقاليد دونها. كيف اصبحت البراغماتية الميكافيللية ديانة للعرب وأدعياء الاسلام، فتلك أية لا يأتي بها إلا (نبي). نبي مثل لورنس [1888- 1935م] أو برنار لويس [1916- 2018م]، أو أي نبي منقذ تلفظه الدعاية الغربية.
واليوم، في وجه الضياع والتفاهات وبرامج التسذيج والتسطيح العقلي، والاعلام المزور والمؤدلج لترويج فوضى خلاقة، تنتشر مظاهر شقاقات وتنابزات وخلافات واختلافات، وشتى مظاهر الانحرافات والعلل الطارئة والباطنية، بين شباب العرب والمسلمين ونسائهم.
من الأفضل اعلان (موت الاسلام) و(قبر العروبة) بدل تشويهها وتلويثها، وتخاذها موئلا للعن والشتيمة، ووصمها بالشرّ والبداوة والرجاسة، مما يدخل في باب علم النفس التعويضي. لماذا تشتم وتلعن، اخرج من الملة، وابتعد عن مكان السوء.
ان كل فرد، له الحق في اختيار ما يعتقد به ، والانتساب للجماعة واللغة والثقافة التي تعجبه. أما أن يتحدث العربية ويشتم العرب، ويشتم الاسلام وأصوله، ثم يدعي أنه (مسلم علماني/ مسلم تنويري/ شيوعي شيعي)، فلا توجد هكذا منتجات في أخلاق العرب والاسلام.
ثقافة الشتم واللعن والزراية، لها أصولها المعروفة، والتي انتشرت في أوقات الانحطاط والفساد والضياع ليس إلا. واستخدامها والترويج لها انما من قبيل الخناثة، وهي الديانة الثانية للعولمة بعد البراغماتية. ويعرف المرء، أنه لن يستطيع أن يقدح في انجلتره أو البيت الأبيض، ولكنه يحصل على مكافأة وتزلف، بشتمه الاسلام والعرب، لخدمة استعدائهما من قبيل المركزية الغربية.
(6)
القلق يساور كثيرين، حول احتمالية الضربة الامريكية لايران. هؤلاء لم يساورهم الموقف الاخلاقي ازاء السياسة الغربية اللاأخلاقية ضد العراق، وليبيا واليمن وسوريا والسودان ومصر والجزائر. ليس بالمنظور القومي العروبي، وانما بالمنظور الانساني واليساري- إن كان ثمة معنى لها اليوم-.
في السبعينيات العراقية، كانت جريدة طريق الشعب تزدحم بكتابات وقصائد عاطفية عن فيتنام وكمبوتشيا، حتى تصدى لهم شاعر بما معناه: (وندافع عن كل قضايا الكون ، ونسكت أمام قضايانا!). ألا توجد في العراق أزمات، ولا مشاكل في حياة العراقيين، أليس مثلها في سوريا ومصر والمهجر، وكل امبراطورية الاعلام والتشاكل الالكتروني، لماذا السكوت والتغييب، والمنافحة المجانية عن الغير، بل عن العدوّ.
متى يتعلم العرب والمسلمون أن يتفقوا ويتعاونوا ويتحدوا، ليس في سبيل الشر، وانما في سبيل الحياة؟..
لما لا يجري الفصل بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية، بدل أدلجتهما على أساس منفر؟.. لماذا يحتل بلد عربي بلدا عربيا، ويرفض الاعتراف بشعار (وطن عربي واحد)؟.. إذا كان بلد مسلم يحتل بلدا مسلما، يشابهه أو يخالفه، فما يتبقى للعدو الأجنبي؟ ولما يسمى نفسه مسلما بالمرة. ثمة لزمة للحياء، قبل أن تدمر السياسة والغريزة كل شيء.
هل يوجد حق وحقيق، وأفضل وأسوأ، في حالة الضياع التي تسود العالم الاسلامي والعربي الراهن، بفضل تخلف مجتمعاته وانتهازية حكامه؟.. اتعجب كيف يقبل أحدهم بكرسي السياسة، بكل ما استغرقه من عار ودنس!
(7)
تهاوي أركان الامبراطورية العثمانية، رافقه تنامي الشعور القومي التركي، داخل قطاعات الجيش والحكومة. وسوف يتزعم مصطفى كمال[1881/ 1923- 1938م] هذا التوجه، واشتقاق حركة استقلال تركية، مطلع القرن العشرين. وهنا أشير الى تناقض اتاتورك وغروره الشخصي، وهو ازاء مفصلية تاريخية اقليمية وعالمية.
لقد رفض اتاتورك معاهدة سيفر/(1920م)، وأعدم الموقعين عليها، بعد تجريدهم من الجنسية التركية. ولكنه لم يتوان عن التوقيع على معاهدة لوزان/(1923م) بنفسه، عندما فرضت عليه من قبل الحلفاء، وبنفس البنود والتنازلات. ولم يملك أحد يومها الاعتراض عليه وانتقاده، أو تجريده من الجنسية واعدامه، لتفريطه بالحقوق القومية والعثمانية، فهو اليوم رئيس البرلمان ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية الوليدة لثلاث دورات.
هذا الترقيع القومي غير الاخلاقي، لا يصنعه قادة شجعان شرفاء، وهؤلاء لا يصنعون بلدان عظيمة، أو تجارب تاريخية لا يثلمها الزمن. وفضلا عن المداورة الكمالية بين سيفر ولوزان، سرعان ما عاد عصمت اينونو [1884/ 1938- 1950/ 1973م] للمطالبة ببعض ميراث مزعوم، مستذكر ان أهل ولاية الموصل/(وبضمنها كركوك العراقية) يتحادثون اللغة التركية.
وبذلك أختلق أزمة غير مبررة، بعد اقرار حكومته التخلي عن كثير من الاراضي والبلدان، نزولا عند املاءات بريطانيا. وقد انعكس ذلك على أوضاع الدولة العراقية، التي تأجل تتويج الملك واعلانها الرسمي، لما بعد اعلان تركيا الحديثة/ (1923م).
لكن الشق المقابل للمعاهدة البريطانية التركية، هو سكوت العراقيين، بله، العراقيين والسوريين، عن امتدادهم القومي والعربي حتى منابع دجلة والفرات، ومقاطعة ديار بكر سياسيا واداريا. وبحسب المام الانجليز بتاريخ العراق القديم، ما كان جنوب الاناضول وديار بكر القبيلة العربية المعروفة، خارج حدود الكلدان والاشوريين.
وبغض النظر عن مشروع مصطفى كمال القومي العلماني العصري، فأن دفعه لهذا المصير، كان غربيا. والدولة الغربية الكولونيالية، هي التي اجبرته على طرد السلطان ونفي الخلافة وانتهاج العلمانية، وتحويل نظام الحكم من امبراطوري إلى وطني. وبمقتضى المعاهدة، لم يستطع كمال التدخل في التدخلات البريطانية والفرنسية من حواليه.
وبعد تنازل العراق عن ديار بكر، والقبول بترسيم الحدود شمالي الموصل/(1926م)، لم تتورع ايران عن مد نفوذها حتى شط العرب ورأس الخليج، مقتطعة امارة الخزاعل الكعبية/ عربستان عام (1925م) من الكيان السياسي لبلاد العرب. ثم تنفتح شهيتها لاحتلال الجزر الاماراتية الثلاثة عام (1975م) -غيرة من احتلال حكومة بولند اجويد جزيرة قبرص/(1974م)!-، وصولا لاحتلال العراق وجنوبي اليمن، بالتواطؤ مع الاميركان.
ان تاريخ (1925م) يؤرخ لتاريخ مسبق لاعلان الدولة العراقية العصرية/[1920- 1923م]، حيث كانت عربستان امتدادا للعراق العربي الجنوبي. واالمفارقة، ان تستذكر ايران اليوم، غب احتلال اراضي العراق، مدّ خط سكك الحديد يمتد من الشلامجة الى البصرة/(32كم)، ومن البوكمال حتى اللاذقية السورية.
ويعتبر خط السكك الايرانية، أول مشروع علني معلن، على الاطماع الامبراطورية الايرانية، وجزء من المرتكزات المادية التحتية، التي لا يمكن معارضتها أو تحديها بسهولة، فضلا عن أنه يمر في بلدان عربية منهارة سياسيا ومفككة مجتمعيا، ومتنازع عليها دوليا. ان ايران تلعب على العرب والعالم، في اللحظة التاريخية الصح.
ورغم ان الشرطة العراقية كانت تتوزع مراكز لها في عربستان، قبل (1925م)؛ فأن الصوت العراقي، الرسمي والشعبي، كان خجولا بحيث لم يترك صدى، اقليميا ودوليا. فما حدث في ديار بكر، حدث في عربستان، وسط التسامح والأريحية العراقية، في توزيع الهبات على الجيران. وهي سمة مستمرة لكل الحكومات والانظمة المتعاقبة في العراق.
هل يستطيع العراق مواجهة تركيا عسكريا؟.. هل يستطيع العراق مواجهة ايران عسكريا؟.. هل يستطيع العراق مواجهة الاطراف الاقليمية والدولية دبلوماسيا؟.. أين هي حصانات العراق الأمنية والستراتيجية إذن؟.. هل العراق بلد مؤهل للاستقلال والسيادة الفعلية على أرضه، من غير نفاق اعلامي دبلوماسي؟..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* معاهدة فرساي: عقب انتهاء الحرب العالمية الاولى، حيث وقع الحلفاء اتفاقيات منفصلة مع أطراف المحور، جرى المصادقة عليها في [10 يناير 1919م]: وكان من بنودها الانسحاب العثماني من أراضي أوربا، تحمل المانيا نفقات الحرب، الغاء الامتيازات الالمانية لدى الدولة العثمانية، وتقاسمها بين الثلاثي [بريطانيا، فرنسا، ايطاليا]، تحتكر بموجبه بريطانيا الامتيازات التجارية والنفطية، ويتم تقاسم الشركات الالمانية بين الثلاثة، انشاء عصبة الامم.
* معاهدة سيفر: [10 أغسطس 1920م]: وهي معاهدة هزيمة العثمانيين، وتضمنت: تخلي الاتراك عن الاراضي التي لا يتحدث اهلها التركية، واستيلاء الحلفاء عليها، تقسيم شرق المتوسط العربي بين بريطانيا وفرنسا، وادرتها تحت عنوان الانتداب. حركة الاستقلال التركية الغت معاهدة لوزن، واستبدلت بمعاهدات لوزان/(1923م).
* معاهدة لوزان: (1923م): بعد الغاء حركة الاستقلال التركية لمعاهدة سيفر الاستسلامية، وضع الحلفاء معاهدة لوزان التي صادق عليها الاتراك، وتضمنت تقرير وضع تركيا الحالية/ [الاناضول + تراقيا/(الجزء الاوربي من تركيا)]، وتعتبر بمثابة اقرار أوربا باستقلال تركيا الحديثة. تنازلت تركيا بموجب لوزان عن: العراق وسوريا/(3) وقبرص وجزر دوديكاسيا؛ كما تضمنت لوزان ترسيم حدود تركيا، سوريا، المشرق العربي، اليونان، بلغاريا. وقد واجهت معاهدة لوزان معارضة، واعتبرت مسؤولة عن جملة الاوضاع غير الطبيعية في الشرق الأوسط، ومنها تخلي تركيا عن دورها الديني تجاه المسلمين.

(8)
ايران رقم خاص في الخريطة العربية، ورقم خطير في المعادلة الاسلامية، وهي اكبر عدو ستراتيجي استهدف العروبة وبلادهم أولا، ثم ديانتهم تاليا عبر العصور. وإذا كان العرب تحدثوا عن عدو طارئ: تركي، بريطاني، فرنسي، اميركاني، اسرائيلي؛ فكل أولئك أهون على العرب من المشروع الايراني.
لا أحد من اولئك يستهدف نفي العروبة أو مسخها، ليس من اولئك من يستهدف نفي اللغة العربية والثقافة العربية وتهجينها بلكنة فارسية معروفة، وتلقيحها بثقافة عجمية زرادشتية مزدكية بهلخمينية، كما تسعى وتعمل لأجله ايران، وزبانيتها غير قليل من سكان العراق/ الطابور الصفوي.
ماذا تريد ايران من العراق العربي، ولماذا تتهرب من افغانستان وبلاد وسط أسيا؟.. لما تتداحم حدودها الغربية وتتهرب من حدودها الشرقية والشمالية والجنوبية؟.. هل ايران امبراطورية حقيقية انجبتها الطبيعة وحتمية الجغرافيا والتاريخ، أم ثمة ولادة قيصرية، ومولدات دولية وراء الكواليس؟..
ما الهدف الذي تعرض ايران لها نفسها، مستهينة بالكيان العربي، وكيف تطمئن لمواثيق بلد ومجتمع مشهور بالنفاق والازدواجية والفصام، بدلالات تاريخية منها خداع علي وخذلان الحسين، والمراوحة بين العثمنلية والصفوية والقجرية والملكية والجمهورية على تعدد الوانها.
ألم يكن عراقيو اليوم هم عراقيي النهوض البعثي والجيش الصدامي؟.. ألم يكن عراقيو الجيش الصدامي الذي قاتل بضراوة في ايران والكويت، هو نفسه الجيش الذي انقلب ضد قائده عندما أوجعته الضربات الاميركية، وطاردته ذليلا في حفر الباطن.
العراقي يحب الكبرياء والانتفاخ والغرور، حتى لو كان جائعا.. لكنه لا يحتمل الاذلال ولو مقابل كنوز الارض. وقد أخطأت ايران. ايران أذلت العراقيين، مرة داخل ايران وهم أسرى ولاجئون، ومرة وهي تستبد بأرضهم تحت غطاء اميركي. والعراقي لا ينسى.
التيارات الحزبية التي دجنتها ايران في أقبية استطلاعاتها في الثمانينيات. تعرضت للاذلال والامتهان ومنافاة ادنى حقوق الانسان. كيف تستقدم ايران، بالتعاون مع أجهزة حكام دمشق، الجماعات العراقية اللاجئة هناك، إلى داخل ايران، ثم تقوم باهانتها واذلالها واجبارها على تشكيل مليشيات مسلحة وواجهات سيادينية خمينية للدعاية لها داخل العراق، ومحاربة جيش العراق في الحرب بين البلدين.
وهؤلاء المستخدمين اليوم في تكميم العراقيين وتصفية شرفائهم، يعانون سقوطا مزدوجا، خزيا مزدوجا، فهم مهانون من قبل سادتهم، مذمومون وخونة للبلد والمجتمع، الذي لن يجدوا أكثر أصالة ودفئا منه.
المجتمع الذي خانوه وباعوه، لن يجدوا له بديلا، ولن يغفروا لانفسهم غدرهم به.
اولئك هم مادة ايران واتباع الاحزاب المخابراتية الهجينة لاستطلاعات ايران السارحة بالحكم اليوم، هم بقايا العشرة ملايين بعثي في حكم القائد الضرورة؟.. استطلاعات ايران ادرى بذلك. أليس (الحشد الشعبي) هو نسخة مشوهة من (الجيش الشعبي)، بابتزازه النوستالجيا العراقية لاستعادة الماضي الوطني القريب.
وكيف يكون قائد بدر والحشد الشعبي رمزا للوطنية والمتحدث الرسمي عن الوطنية العراقية والمشروع العراقي، الذي لا يكتفي بالربط بين تيار المالكي والعبادي، ولا بينهما وتيارات مقتدى المهدي، بل هو الوسيط السماوي بين كل مكونات الفسيفساء العراقية، التي يأكل بعضها بعضا في الظلام، وتتغازل في ساعات العمل الرسمي.
وليس حال سوريا المتشرذمة طائفيا وعنصريا بأفضل، بل أسوأ من العراق. فرغم اشتقاق وانشقاق الطوائف السورية من رحم عقيدة باطنية شيعية واحدة، فهم أشد على بعضهم، وأكثر انفصالية ورفضا لبعضهم البعض. بل هم طوائف واقليات ذات مشروع سياسي انفصالي عمليا على مسار التاريخ، وجهاديا في سبيل المستقبل.
ولم ينبع المشروع الفرنسي من فراغ، بتقسيم سوريا الى ثلاث/ اربع ولايات، وذلك على شاكلة لبنان المارونية.
ان العراق الاكثر اندفاعا لاحضان ايران، هو اضعف أوراقها وأدواتها، والأدنى موثوقية. لكن الموثوقية لا تدخل في القاموس الايراني التاريخي. ثمة.. من يخدع من.. ايران أم العراق؟.. الخمينية والمزدكية أم المراجع النجفية الكربلائية والكاظمية والعشائر الموالية والمراوغة بين الاطراف.. بأي عملة تنوي ايران شراء ذمم العراقيين..
منذ ألف عام وايران تحوك وتنسج خيوط مؤامرتها ضد محمد بن عبدالله [571- 662م] وكتابه العربي المبين.
نافحته بجيش من الاخباريين والمفسرين والمؤولين المعتدلين، وقابلتهم بجيش من المفسرين المكذبين والمناوئين للأولين، ثم جعلت بينهما جيشا محايدا منافقا، يأخذ شيئا من هنا مقابل الفريق الأخر. ثم يأخذ شيئا من الفريق الثاني ويقذفه في وجه الفريق الأول.
ومنحوا كل جهة ألقابا طنانة اشتهر بها الفرس، ونبذها العرب ولم يأخذ بها الأعراب.
فهذا الامام الأكبر، وهذا شيخ العلماء، وهذا اية الله، وذلك الامام الحجة وحجة المسلمين، حتى لم يعد يتساءل العربان، ما شأن هؤلاء العجم بكتاب عربي مبين. ألم يرد في الكتاب، لكل أمة بعثنا رسولا منهم، فهل العجم من العرب، أم محمد من العجم، أم علي من العجم أم.. ماذا..
ماذا قصد القرآن بالذين يلوون ألسنتهم في الحديث.. أليس هذا تعريف اللحن(!) والعجمة(!!) كما وردت في المعاجم.. وما لببغاوات العراق يتحدثون في الأسواق والمحاضرات الدينية ويقرأون الكتاب العربي المبين بلسان ملتوٍ.. هل ضاعت منهم ألسنتهم، أم أن أقبية ايران مسخت أشياءهم.. أين يمضون بألسنتهم عندما تنتهي اللعبة..
(9)
انتقلت لجنة الرقابة المالية الامريكية باعضائها التسعة من كوبا المحتلة الى ايران القجرية، وقامت بتوظيب دوائر الحكومة والمالية والشرطة وتحت اشراف خبراء وعناصر أمريكان، استمر وجودهم في ايران في عهد البهلوية حتى ثورة مصدق [1882/ 1950- 1953/ 1967م] الاشتراكية الذي خانه ابو القاسم الكاشاني [1877- 1962م] وكفّره، ليسلم ايران للعاصفة والالعاب الدولية منذئذ.
ايران منذ دولة الصفويين/(1501م) لم تكن مستقلة أو ذات سيادة، وانما خضعت لخبراء من هولنده والولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا على التوالي، وبين الأخيرتين بالتداخل والتشابك. وقد لحق الروس كدولة رابعة في المستشارية الايرانية. بينا يعود التعاون البريطاني الروسي في ايران، إلى أيام العثمانيين، وتوجيه الفرس ضد الرجل العجوز.
ايران هي نقطة التقاء المصالح الغربية في قلب الشرق. دولة تنتصف الوجود العربي من جهة، والوجود التركي من جهة، والوجود النفطي من جهة، وملتقى المضايق والمياه الدولية من جهة أخرى. وفي كل ذلك، لم يصدر من ايران أي موقف سياسي أو عسكري أو دبلوماسي معارض أو معاد للقوى الغربية التي عاثت فساد وخرابا في المنطقة، -ما عدا ايران-.
وفضلا عن تناغمها ضد العثمانيين وتركيا والعراق والخليج عبر القرون المتأخرة، فقد لعبت ايران الى جانب الصلابوه دورا ميدانيا ضد سلطنة عُمان منذ القرن الثامن عشر، وأنزلت حامية عسكرية ايرانية في جبال ظفار، وجنوبا نحو حضرموت، وما زالت تعزيزاتها العسكرية هناك، في ظل تجاهل غربي انجلوميركي تام.
فبينما أنذرت المنظمة الدولية حكام السعودية وحربهم في اليمن، لم يتتم اشارة عابرة للدور الايراني في تأجيج الحوثيين، واستخدامهم ضد السعودية/(حرب بالوكالة).
أكثر من هذا السؤال، هو صمت القبور الأمريكي والغربي، على احتلال ايران للعراق، وجملة ممارساتها ومجازرها ضد الاهلين، فضلا عم ادعاءاتها الاعلامية، بكونها وراء طرد الاميركان من العراق. علما أن الاميركان لما يزالوا في العراق، -جيش تحت الأرض-. ولهم خبراء عسكريين ومخابرات، داخل القوات المسلحة الرائجة في المنطقة.
ان ايران، هي شرطية الامبريالية في اسيا، في عهد الشاه كما اليوم، وفي كل عهد. انها صنيعة غربية، لا تختلف عن دور اسرائيل واستراليا وروديسيا وكندا. ولكنها، تلعب مع الجميع، ضد استقرار المنطقة، ولما تزل تبتز الغرب، للحصول على شروط أفضلية، تنافس بها اسرائيل المدللة، وتتفاخر على بلدان المنطقة!، ولكنها لا تجرؤ على التمرد ضد سادتها.
لذلك لم تفكر بريطانيا في احتلال ايران، لعدم حاجتها لها أولا، وخشية استفزاز الوصاية الاميركية على ايران. بينما جاء احتلالها للعراق والشام، تنفيذا لبنود لوزان، واقتسام غنائم ال عثمان.
كانت بريطانيا متوجسة من أطماع فرنسا والمانيا وروسيا في ميراث العرب، فجاءت خطوتها بالانزال العسكري المباشر، رغم عدم دخول العراق في الحرب. وتنفيذا لمشروع كروزون بمنطقة تبعية بريطانية تمتد من الهند إلى القاهرة.


(19)
(يا الله.. نحن لم ننتظرك عبثا..)- الشاعر أحمد عبد الحسين.
أشقى الشعوب أقلُّها علمًا وأكثرها شقاقا
فأعيذ قومي منهما وأعيذ بالله العراقا-
/محمد حبيب العبيدي [1882- 1963م]

غياب الثقافة العراقية..
(1)
1-
لتيتانيك يؤسيها قصيدي............. وقد سبقت فجائعها بريدي
أسيّدة البواخر عنك تفدى..............لو اكتفت الرؤية بالمسود
وقد جمدت مجاري الدمع ذعرا...فاسخنت الدموع عن الجمود
على وعد الحبيب رقدن امنا........فنغص غمضها حول الوعيد
فاطبقت الشفاه على شفاه.........وحدبت القدود على القدود
فيا جبل الحديد وكيف تذوي على مضض مع الجبل الجليدي
وما ارتطمت جسوم في جسوم... بل ارتطمت جدود في جدود
وقد حن القرار إلى ستيد.............. كحضن الأم يهفو للوليد
أداعية السلام وقد تداعى........... عليك سلام أرواح الجنود
رقدت فأيقظتك صروف خطب... ولم تعبأ فعدتَ إلى الرقود
شديد العزم كنتَ وأنت حيّ........ فمتَّ وأنت في عزم شديد
/ علي الشرقي [1892- 1964م]- مجلة العرفان اللبنانية عدد ابريل 1912م
2-
امليكة البحر اسمعي لك اسوة.. في الارض كم ثلت عروش ملوك
انى ينجيك الحديد وما نجوا..........باشد من فولاذك المسبوك
يابابل البحر الخضم سحرتنا........سحرا ارى هاروت في تيتنيك
زعموا ضللت ولو اردت هداية........ان المحيط بنفسه هاديك
/ محمد رضا الشبيبي[1889- 1965م]- مجلة لغة العرب- عدد اب 1912م
3-
وافجع منظر اذ ذاك فيها............خشوع للرجال وللنساء
على قصد الوداع لغير عهد.........بتسليم الى حكم القضاء
بترديد البكاء ولا مجيب..سوى عكس الصدى من ذا البكاء
وصوت من لسان الحال يلقي..على الاسماع من كلم العزاء
(اتيتانيك) لا يحزنك عيش......ترنق فانقضى بعد الصفاء
فلا عيش يدوم ولا صفاء....وهل بعد الحياة سوى الفناء
/ ابراهيم منيب الباججي[ت 1948م] نشرت في ديوانه الصادر عام 1912م

ثلاثة قصائد عراقية آنية، تتصدى لحدث/ حادث في اقصى شمال المحيط الاطلسي، وخلال أيام من الواقعة. هاته القصائد الثلاثة، يزخر بها ارشيف الشعر العراقي، حول غرق سفينة (تيتانيك)، مثابل قصيدة واحدة لبقية البلاد العربية، مسجلة باسم الشاعر القروي، ومذكورة في الهامش.
المفيد من هذا أمران: أولهما: ان المثقف العراقي يتمتع بدرجة عالية من الوعي والتلاقح الانساني. وثانيهما، انه لم يكن منعزلا عن مجريات العالم.
والمعروف أيضا، ان العرب والعراقيين عموما، عاصروا وتأثروا بالافكار الاشتراكية الأوربية، وأخبار الثورة السوفيتية، وعرفوا التمييز بين ماركس ولينين، وذلك في زمن، لم تكن (دولة عصرية) ظهرت بين النهرين.
إزاء كل هذا، لا بدّ من رصد/ معرفة، قراءة المثقفين العراقيين، للسياسات الغربية، البريطانية والروسية، في منطقة الشرق العربي، وما يتعلق بمصير الدولة العثمانية.
تلك المحاولات والسياسات التي تعود للقرن الثامن عشر في أقل تقدير، وسبقتها أحداث وأزمات في شرق أوربا وشمالي البحر الأسود، فضلا عن سباق الامتيازات والمعاهدات والشركات الاجنبية العاملة في المحيط العربي.
علاقة الشاعر العراقي بتيتانيك البريطانية، هي علاقة (رثاء)/ ثيمة موت. الشاعر في تلك المناسية، يعنى بالموت، والحديث عن الموتى. وهاته ثيمة دينية: عربية وعراقية بامتياز. انه لا يتحدث عن الحياة والتطلع والامل. بل انه ينظر للسلام والانسانية من ثقب الموت الكارثي.
من منظور آخر، انه يتحدث عن الماضي، المنصرم، الميت، المنقضي، تلك القصص التي تتكرر في القرآن، وتوصف بأنها (أساطير الأولين). والادب، الوعي، الثقافة العراقية: ماضوية منصرمة، مزوقة بالموت الأبدي. موت لا يسمع ولا يعبأ ولا يعود. ولكننا نحن نذهب إليه، ونتملقه شعرا.
قصائد العراقيين عن تيتانيك، تختلف عن مضمون قصيدة رشيد سليم الخوري [1887- 1984م]، من جهة الوعي والتطلع المستقبلي؛ من جهة الانتصار، وليس الانكسار أمام الموت. هل ثمة شماتة عراقية بالحضارة الغربية، شماتة بتكنولوجيا الحديد: (جبل الحديد يصدم جبل الجليد) وينهاران سوية.
كل هذا، لا يجيب عن السؤال الاساسي، ما هي معلومات المثقف العراقي عن أطماع الغرب وسياساتهم المتحولقة حول بلدهم؟.. وكيف كان ردّ فعلهم، واستعدادهم/ تصديهم، لتلك السياسات.. أولا؛ ولواقعة الغزو العسكري في نوفمبر (1914م)؟..
هذا يتطلب مسحا صحفيا شاملا للاصدارات العراقية من القرن التاسع عشر/(دخول المطبعة العربية وظهور الصحافة والطباعة/(1869م)). ولكن توقع ذلك، هو من قبيل التفاؤل الساذج. ولا يهم في ذلك، وجود/ غياب الأدب السياسي المبكر؛ طالما لم يتبلور ذلك في موقف (وطني)، وخطط دفاعية/ دبلوماسية، تتصدى للغزو قبيل حدوثه.
وبعيدا عن الغرامشية، ما هي قيمة معرفة غير وظيفية؟.. لست براغماتيا، وأرفض مبدأ بيكون [1561- 1626م] وسبنسر [1820- 1903م]، ولكن ثقافة نظرية لا أبالية، لا تعني شيئا في صميم الواقع. ولعلّ البلدان العربية، توفرت على تضخم في عدد المتعلمين والاكاديميين والكتاب، في وقت سادت فيه سياسة الجهل والتخلف والمدّ اليميني والرجعي.
هل الثقافة انتفاخ وغرور، أم ثقافة امتلاء وتغيير. الثقافة هي التغيير بحسب ماركس [1818- 1883م]. ولا قيمة لثقافة بلا وعي. وهذا هو حال العراق الراهن. جامعات عددها أكثر من عدد محافظات العراق، يشغلها كادر عراقي بنسبة (100%). لكنها جميعا لا تساوي صفا من دار المعلمين العالية في أربعينيات القرن العشرين.
عدد محترفي الكتابة الأدبية والصحفية بأنواعها، كم مهول، ولكنه كم تابع -ثقافيا وسياسيا-. الصحافة باب ارتزاق ومحسوبية. الكتابة باب للشهرة. الشهادات ارتزاق وطفيلية. الاساتذة يسرقون عبر الترجمة، والطلبة ينسخون من بعضهم ومن أرشيف المكتبة، ويحصلون على شهادات مزورة.
مفصلية هذا السؤال، لا تقتصر على الغزو البريطاني لعام (1914م)، رغم ان العراق ليس طرفا في حرب أوربية غربية. ولكن يرتبط بكل حادثة غزو حصلت للعراق عبر التاريخ، ازاء صمت خانع، وتجاهل مقرف من الاهلين. وما حدث في الغزو الاميركي/(2003م) كان فضيحة تاريخية.
لقد تردد الاميركان ومن ورائهم الانجليز، حوالي ثلاثة عشر عاما أو قرابة (ربع قرن)، وسخروا كل السياسات والاسلحة الاقتصادية والدبلوماسية والتكنولوجية والعسكرية والمعلومات التاريخية، وجيشوا قوات من اكثر من ثلاثين بلدا، بضمنها معظم البلدان العربية، لمقاتلة بلد أعزل، غزو بلد أعزل، بلد أعطى كل ما في مكنته، وتنازل تماما عن معداته ومعلوماته السرية.
ومع ذلك افتخر الأوباش بالانتصار على العراق. العراق الذي لم يقاوم، لا في (1991م) ولا (2003م).
أما العراقيون، فقد وقفوا شامتين بحكومتهم، مهللين للعدوان الغازي، مستبشرين ببوابات الفردوس الأمريكي، بينما كانت السياسة الايرانية تسحب الأرض من تحت أقدامهم.
ان أعداد الشعراء والكتاب في العراق- كما في بلد عربي غيره-، هي سبب مأساة البلد. ركام نرجسيات مجروحة ومهزومة من داخلها. السبب الرئيس لسلسال كوارث الراهن العربي. بل ان (الجهل) بالمقارنة، أفضل من ثقافة ينقصها الوعي الوجودي والوطني. كل كاتب وشاعر عربي يعتقد أنه جاهد الجهاد الحسن، وأنه فطحل زمانه. أين ثمر الكتاب؟..
أكثر الكتاب ينتمون لعوائل متخلفة ثقافيا. ثقافتنا ثقافة برجوازية، ثقافة تقليد، ثقافة ادعاء وانتفاخ واستجداء ألقاب وجاهات مجانية. في زمن بخست فيه الجاهات وابتذلت الألقاب.
الثقافة عند العرب: مفهوم مستورد وفهم منقوص. ثقافة لا تصنع قراء ولا مبدعين أو علماء. كل ركام الشعر العربي المعاصر، لم يحفز الفرد العربي لابتكار فكرة أو تصنيع أبرة.
(2)
الثقافة والمقاومة..
لدينا شعر سياسي. شعر بلا جمهور. جمهور برجوازي مهرج. جمهور لا يميز بين الشعر/ الفكر والحالة الطربية في الاغنية الشعبية. هل أنتج شعر النواب ثورة أو فصيل ثوار؟.. هل حفز شعر محمود درويش [1941- 2008م] زيت المقاومة والثورة. أين جمهور نجيب سرور [1932- 1978م] الذي مات- قهرا وصبرا وقمعا- في مصحة عقلية.
ترى شاعرا يفتخر بأنه كتب القصيدة الفلانية.. وأنه أصدر كذا (رقم) من الدواوين، وأن أعاد طبع دواوينه كذا مرة. ثم ماذا.. هل ثمة ناشر عربي مثقف مخلص؟.. قل لي ماذا انتجت قصائده؟.. اين روح الثورة والكرامة وحب الوطن والدفاع عنه.. لست تقليديا بهذا المعنى..لقد تطوع شعراء الغرب للدفاع عن بلدانهم وأفكارهم، وخسروا حياتهم..
ألا يوجد في لا ئحة الشعر العربي غير قصيدة ابراهيم طوقان [1905- 1941م] وابي القاسم الشابي [1909- 1934م]، المترددة منذ عقود..
في الانتفاضات المصرية والسورية، كان للفنانين موقف مشهود مع الجماهير، الفنانون كفصيل ثقافي. وما يزال الفنان المصري يشارك بفعالية في الحراك والنقاش السياسي، وتقديم أفكار تجديدية وتنويرية لدفع السياسة والمجتمع للأمام.
في الحالة العراقية، كانت علاقة المثقف بالسلطة هي الحصول على وظيفة برجوازية. وكما كان المثقفون عماد البيرقراطية الثقافية الاقطاعية في البلاد العربية منذ خمسينيات القرن الماضي، حتى سقوط الانظمة العسكرية والوطنية. فأن طقم الاقطاع الثقافي العربي، كان له دور مسؤول في تخريب الدولة والمجتمع.
هل صحيح ان الحكومة تسقط وحدها، وتتحمل كل المسؤولية وحدها. هذا مناف للعقل والمنطق والواقع. كل الطاقم المحيط بها، بضمنه قواعد المجتمع والمعارضة، يشاركون في المسؤولية والانحراف/(فعل ورد فعل).
(البراءة/ النزاهة) تعبير لا وجود له إلا في النفوس الضعيفة/ المريضة، التي لا ترى غير نفسها ومصالحها/(عقدة البر الذاتي). الوظيفة جاهة للشخص ومنّة على المجتمع. عدد من عراقيي الخارج ترددوا على سلطات الاحتلال، ممنين أنفسهم ومتوسلين اصحاب الشأن، للحظوة بمنصب أو جاه.. عندما يئسوا، عادوا حانقين.
لكن الغزو الاميركي لم يسفر عن تيار أو تكتل ثقافي يدعو للمقاومة، أو يرفع شعارا وطنيا لتحجيم الاحتلال. على العكس منه، ظهرت تجمعات مثقفين عراقيين، تروج للاحتلال والخنوع وخيانة المطالب الوطنية.
في ثورة/(1979- 1882م) احمد عرابي [1841- 1911م] قام الانجليز بتجنيد مصريين، ضمن الجيش البريطاني لمقاتلة عرابي، واعتقاله ونفيه من بعد. لذلك، لم يرث المصريون روح الثورة من عرابي، وانما ورثو عقدة الخواجا من المحتل. وفي الحالة العراقية، قامت ايران بتجنيد الاسرى واللاجئين العاقيين، ضمن جيوشها، وأجبرتهم على محاربة بلدهم، لتسيقطهم أخلاقيا وضميريا، بقية حياتهم. وهؤلاء يعانون اليوم دورا مزدوجا، لا يعرفون التمييز بين انتمائهم لوطنهم الام، وخدمتهم وولائهم لبلد الاحتلال.
الولايات المتحدة الاميركية جندت عشرات الاف العراقيين والعرب ضمن قوات الاحتلال واستقدمتهم للعراق. من بين المجندين أدباء شباب، لجأوا إلى أميركا.
هل يخون الانسان مرتين، أم يسقط مرتين. إما أن يكون، وإما أن يخون، ولا وسيط بين الأثنين.
(3)
في القرن السادس عشر، كانت الاحتلالات الصفوية والعثمانية تتعاقب في ميدان العراق. وكان العراقيون يستقبلون هذا الاحتلال مرة، ثم يغيرون ثيابهم لاستقبال الاحتلال الثاني، يمالئون هذا وينافقون ذاك. ولكن، هل حصل مرة، ان سكان عراقئذ، قاوموا هذا الاحتلال وتصدوا للثاني؟..
هل توصل العقل والضمير والانتماء العراقي، لتأسس جيش تحت الأرض، يتولى حماية البلاد، أو يحمي حدوده، لمنع الأجانب من دخول البلاد، كأنها حديقتهم الخلفية، وتحت أي عنوان. أم أن العراق حالة كونية متفردة، لا سابق ولا لاحق لها.
ما هي مصادر التخريجات الخرافية التي تتردد بين العراقيين، وكأنها تنزيل سماوي. كيف يمكن التوفيق بين الغرور وانتفاخ الشخصية العراقية، وبين مذلتها وانحنائها للأجنبي، وتداول مقولات: (جي ما لي والي)، (كلمن يتزوج أمي، أكَول له عمي).
وليس أخيرا، هرطقة الأممية العراقية، هوية أممية، مواطنة أممية. من أين تم استيرادها، من لندن، أم واشنطن، أم برلين، أم موسكو. وكل هاته بلدان وثقافات قومية عنصرية، تسعى إلى صبغ العالم بلونها وثقافتها القومية، ويبقى العراق، هاربا من نعرة القومية العروبية، إلى نعرة الاممية، وفق قاعدة شيعية شيوعية!.
المباريات الايرانية العثمانية، شحذت الانتهازية العراقية والتلون والنفاق، الذي سبق شيوعها في تاريخ مسبق. وعندما تتحدث لمحام عراقي وتضعه امام الواقع، تجده يخلط بين ادعاء الوطنية والهوية العراقية، ودعاوى الطائفية والولاء الأجنبي، دون تمييز أو تفريط بينهما.
مرة ترثي لهاته الحالة، وتارة تعنف صاحبها. كيف تتعايش شخصيتان في ذات واحدة، ولا يشعر بالتناقض. كيف يفوت المحامي، التفريط والالتباس، وهو يعمل في حل القضايا أمام المحاكم، وباسم القانون. أم ان الأمر كله لا يتعدى التمثيل.
ان صفة الازدواجية التي طرحها علي الوردي [1913- 1995م]، اصطلاح شمولي يتضمن كل المتناقضات النفسجتماعية في داخله. منه اختلاط الطائفي بالوطني. ما هي الطائفة. ما هي الوطنية، ما هي القومية..
إذن ثمة تمزق وراثي، يمنع الشخصية العراقية من التطور. التطور بمعنى عبور واجتياز الموانع الطائفية والعشائرية والاثينية الى نسيج هوية وطنية ثقافية، هي المصلحة والانتماء العام للوطن الذي تعيش فيه منذ قرون.
لا تستطع أن تعيش في أوربا عقودا أو قرنا، ثم ترفض هويتهم وانتماءهم، ولا تدافع عن بلدك الاوربي في العدوان. لا تستطيع أن تكسب مكاسبهم، وتعتزل مساوئهم. الوطنية مثل الزواج المسيحي، مشاركة وتكافل في السراء والضراء، وليس صلة انتقائية، أو زواج متعة مؤقت.
يستطيع العراقي أن يزعم ما يشاء، ويكون ما يشاء. يكون عالما أو شاعرا، عالميا ويعدد جوائزه ، ولكنه ليس شيئا، من غير وعي انتمائه وشعوره الوطني الصافي. لا مكان لهوية طائفية أو اقليمية عابرة للحدود، بجانب أو بظل هوية وطنية مهلهلة.
مشكلة الشاعر العراقي، انه يرتدي أكثر من بدلة فوق بعضها. وفي مرة، يقدم نفسه وطنيا، ومرة طائفيا، ومرة انسانيا وأمميا، وهذا ما يجري في المسرح/(أراجوز). الوطن ليس مسرحا تمثيليا، ولا فندق بعشر نجوم.
(4)
في أواخر القرن التاسع عشر، نشرت الولايات المتحدة الأميركية، اعلانا، تعلن فيه الحاجة الى متطوعين في الجيش الأمريكي. وأن المتطوع الذي يقاتل دفاعا عن أميركا، يحصل على الجنسية الأميركية مباشرة.
هذا الاعلان تكرر طليعة هذا القرن، لتشجيع المتطوعين العرب للقتال ضد العراق، والحصول على الجنسية الأميركية أو الاقامة مباشرة.
ان شرط الجنسية ليس مجرد الاقامة، ولا الاقامة المتصلة، ولا حيازة عقارات وارصدة تجارية، وانما شرطية الدفاع عن البلد. عندما تقاتل باخلاص دفاعا عن العراق، تستحق الجنسية العراقية الأصلية، غير الطائفية أو المؤقتة. الشباب الانصاري الذي قاتل الى جانب الكرد في الثمانينيات، حصلوا على حقوق التقاعد بوصفهم (بيشمركَه).
أما الحياة على أرض الرافدين منذ قرون، وتقديم كذا أدلة وعقارات، من غير دالة الانتماء والولاء والدفاع عن البلد وصيانته، فلا قيمة لها، وما ينبغي لها، بغير الاخلاص والوفاء والدفاع عنه، وعدم السمسرة الوقتية والتجارية فيه.
ما أفعله هنا، هو كشف جملة عيوب ونواقص ونقائص تكتنف الحياة العراقية؛ واشكالية الوافدين عبر الزمن، من غير الاندماج في الهوية العراقية والتطوع للدفاع عن أرضه وأهله ومصالحه. فكيف القول، بمن ينسب نفسه للعراق حسب مواليده، ويحارب ضد العراق ويقاتل أبناءه، ويشارك في تصفية أهليه، ويتملق ويوالي أعداء العراق!..
هذا اللامعقول واللامنطقي، لا مكان له عندما تنجلي الأمور، والدم لا يكون ماء.
ان مساحة ايران من السعة، أن تسع المدافعين عنها والموالين لها. أما العراق فليس فندقا، تحت أي عنوان ديني وطائفي وأممي. ولو ألصقت به، اية مزاعم ورموز مستلبة، تخلط الحابل بالنبابل، بين أهل الحجاز والعجم. ليس العراق، ميدان تصفية صراعات وأحقاد وأطماع، مهزومة في داخلها.
(5)
الانتهازية والوصولية والهروبية لا تصنع وطنا ولا تنتج هوية. على من يدعي انتماءه للعراق ان يتنكب مسؤولية ما يجري فيه. ثمة سكوت ومسكوت عنه في المعادلة العراقية.
ثمة غير جهة، تفصل ثياب العراق حسب ايديولوجيتها الدخيلة. العراق ليس غانية مشتراة من سوق نخاسة.
على العراقي الحقيقي ان يفتخر بهويته التاريخية الحضارية، مثل المصري، وكما مصر الفرعونية، فأن عراق سومر واشور، أقدم من ظهور الديانات، وأقد من الغزوات الأجنبية، والنعرات السياسية المهزومة أمام نفسها.
ان ما حصل لهو حسن، لقد سمح للبثور والفقاقع أن تتباهي بنفسها، وتعيث فسادا ونهبا في الجسد. فتشخيصها في غاية السهولة. وعلاجها، لن يتأخر.
وما لم ينجح من قبل، لن يصلح من بعدُ!.
(6)
هذا السؤال الموجع والفضيح في المسالة العراقية. البلد المتهم بالثقافة تاريخيا، انما يفتقر/ يفتقد مضمونها الحقيقي. هل الثقافة في العراق، مصطلح [تغشيش/ تشويش] أم هو مجرد [قناع/ خداع] يجري توظيفه من الخارج، لتغطية وتمرير أغراض مختلفة/ مغابرة لمضمونها.
ان كثيرا من الأسئلة والأفكار والاشكاليات الشائكة في (العراق)، لا تجدها في مصر، أو بلد متوسطي آخر.. لماذا؟..
يستطيع المصري أن يتحدث بل ثقة واقتدار عن أي عنوان أو ثيمة ويجعل لها تاريخا مؤسسا ذا هوية ورموز مصرية. هل يفعل (عراقي) ذلك.. هل يريد/ يستطيع؟.. ولماذا لم يجترحه؟.. العراقي الذي يتحدث في كل شيء، ويتعولم في كل مجال، لكنه لم يرتكب أبسط الأوليات البدهية لتأسيس كيانه الثقافي والمجتمعي.
الثقافة العراقية، مثل أي شيء آخر، تفتقد التواصلية. ولما كان تاريخ العراق كثير التغير، مختلف العهود، فكل عهد يسحق سابقه ويحيله رمادا. أما إذا اعتبر حكم العباسيين، منطلقا لثقافة العراق، فما يوصف بالعهد الذهبي، هو حاضنة الشرذمة العراقية.
الهوية المشتركة لا بد منها لأيما مشروع/ حركة، خطاب/ ثقافة. والهوية المشتركة لا بد أن تنبع وتتصل بالأرض، التي يعيش عليها مدعي الثقافة ويتنفس هواءها. لا توجد ثقافة حقيقية في العالم خارج هذا المعيار. وهو معيار الثقافات غير الحقيقية.
الاحتلال الاميركي قصم القشة على قفا البعير. الدمقراطية الاميركية، رفعت للسطح كثيرا من أسئلة مكبوتة، لعل من ابرزها: هل العراق عراقي أم بريطاني؟.. ان العراق صنعته بريطانيا، مثل اسرائيل وكندا ونيوزيلنده، وبريطانيا قادرة أن تمسحه من الخريطة، هذا ما قاله مؤرخ هولندي يهودي.
هل العراق ولاية ايرانية، و(طيسفون) عاصمة صيفية لشاه ايران، ومنتجعه على دجلة؟.. العراق مجرد جزء من حضارة امبراطورية ايرانية، وما يحصل اليوم، هو عودة العراق والعراقيين، إلى حاضنتهم الأموية/(عودة الأصل للفرع)، بعد زوال الطاغية والاحتلالات.
ومن هنا تتداعى مزاعم وطروحات، تصف الحكم العثماني بالاحتلال، ومزاعم أخرى تصف الحكم البعثي بالاحتلال الفاشي، ومزاعم أخرى تصف المملكة الهاشمية، مشروعا بريطانيا، اغتصب العراق من أصله الايراني. وفي نفس السياق، لم يكن الحكم العباسي، غير اغتصاب الحركة العباسية الخوارزمية من مرجعية العجم.
فالأصل في الحكم العباسي، هو ولاية العجم، الذي ساندوا الدعوة، لاستعادة ملك كسرى قبل اكتساحه بيد الاسلام. إذهب الى المتحف العراقي، ستجد عيلام ومادي ضمن السلسال الاثاري الذي لم يؤسسه بهنام أبو الصوف [1931- 2012م]. وستجد أروقة بناية المتحف، كما المكتبة الوطنية، جزء من سوق مريدي ودلالات الأسواق المركزية، لمن يذكر كيف نبعت السوق السوداء، تلك الأيام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* للشاعر رشيد سليم الخوري [1887- 1984م]/(الشاعر القروي) قصيدة في حادثة التيتانيك/ [16 ابريل 1912م] منها:
عزوا الجبال وانذرروا الاطوادا.........ان الشواهق ينخفضن وهادا
جبلان يصطدمان من أنباكم...............ان الجليد يحطم الفولاذا
لاتستخفوا بالضعيف وحاذروا .........زمنا يصير الماء فيه جمادا
فهوى الى الاعماق يلبس لجها .........كفنا ويفترش القرار وسادا
تيتنيك سيدة البحار وطالما ..........كان القضاء مهددا من سادا
من قاع الاتلانتيك اسمع هاتفا.......قد راع في البحر الكبير روادا
يا شركة النجم اجترمت كبيرة....تركت بياض النجم منك سوادا
لو لم يكن عدد* النجاة قليلة....لحفظت أرواحا وصنت عبادا
*

(20)
انجليز في بغداد..
(1)
على مدى الحكم العثماني، بقيت روسيا الندّ اللدود للباب العالي، ولم تتوقف بينهما الحرب والمناوشات والأزمات، التي كانت تنتهي بهزيمة روسيا أمام العثمانيين؛ أو تدخّل الغرب، لوقف تجاوزات الروس، ومحاولات توسيع نفوذها. عقدة الروس الرئيسة، كانت الحصول على منفذ لها على البحر المتوسط. ويبدو أن لغة العنف أصدق أنباء من الكتب والاتفاق الدبلوماسي.
الندّ الثاني للعثمانيين، كانت نمسا الهابسبورغ التي ضمّت اليها المجر بالحيلة، وامتدت أنظارها، إلى الصرب والبوسنة، عبر الوساطة في النزاع الروسي- العثماني، واقتطاع جزء من (كيكة) الغنائم.
في (28 يونيو 1914م) اغتال ناشط قومي: غافريلو برينيسيب [1894- 1918م]- من صرب البوسنة والهرسك-، ولي عهد النمسا الارشيدوق فرانتز فرديناند [1863- 1914م] وزوجته، في سراييفو.
لم يكن الاغتيال غير نقطة في سلسلة التوتر السياسي والحاف الهابسبورغ في بسط نفوذها شرقا. وفي نفس الوقت كان قرار الارشيدق للاستعراض في يوغسلافيا أمرا في غاية التهور والحمق السياسي، دون مراعاة الاثار النفسية والسياسية لذلك، في بلد يعتدّ بذاته واستقلاليته.
سياسة شدّ الذراع بين النمسا والروس، رفعت معدّل التوتر الاقليمي، لاصدار انذار نمساوي للصرب في (23 يوليو 1914م). ردّت عليه روسيا في (25 يوليو 1914م) بقرار الاستعداد للحرب. في (28 يوليو 1914م) قامت النمسا بقصف بلغراد، وفي (30 يوليو 1914م) اعلنت روسيا النفير العام.
في (31 يوليو 1914م) انضمت المانيا الى النمسا والمجر، في مواجهة روسيا. في (1 أغسطس 1914م)، أعلنت المانيا الحرب ضد روسيا. وتبعتها النمسا والمجر في (6 أغسطس 1914م).
في هذا السياق، كان الجو مشحونا بين فرنسا والهابسبورغ، لأسباب سياسية كثيرة، كان اخرها اجتياح فرنسا أراضي النمسا، والحاقها الهزيمة فادحة بجيش الهابسبورغ في جنوبي النمسا. ولما يزل النمسويون يكرهون الفرنسيين ويزدرون بهم. وطريقة زراية الأوربيين بالأخرين، هي وصفهم بالهمج والمتوحشين.
بينا الوضع بين المانيا وفرنسا، مشحون بإرث من الخلافات حول الأرض والحدود والسيادة، بحيث عدم الاستقرار بين جارين. وبعد اعلان المانيا الحرب ضد روسيا بيوم، أعلنت فرنسا انضمامها إلى صف روسيا في (2 أغسطس 1914م).
في (3 أغسطس 1914م) أعلنت المانيا الحرب ضد فرنسا. وجعلت أولوية الحرب مهاجمة فرنسا/(احتلال عسكري)، ضمن خطتها المعروفة/(شليفن)/(مباغتة) خلال اربعة أسابيع، تنصرف بعدها للجبهة الروسية. وعندما رفضت بلجيكا السماح للالمان بالمرور في اراضيها، اضطر الالمان لاجتياح بلجيكا في صباح (3 أغسطس).
كانت بلجيكا دولة مستقلة بموجب معاهدة (لندن/ 1839م) وباعتراف ورعاية الأطراف الأوربية جميعا. مما حدا ببريطانيا اعلان الحرب ضد ألمانيا في (4 أغسطس 1914م). وفي (12 أغسطس 1914م) أعلنت كلّ من بريطانيا وفرنسا الحرب ضد امبراطورية النمسا والمجر.
وكانت لليابان اطماع في أرض جارتها الصين، وجدت الحرب الاوربية غطاء مناسبا لترجمتها، فأعلنت انضمامها لبريطانيا وفرنسا وروسيا في الحرب، في (23 أغسطس 1914م). وهكذا اكتملت دائرة الحرب، وكلّ طرف يسعى وراء أطماعه وتنفيس أزماته، تحت خيمة الحرب. وليس من أجل هدف مشترك للجميع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أحمد شوقي [1868- 1932م] شاعر مصري رائد، ادخل المسرحية الشعرية في الأدب العربي، وتناول فيها أبرز قصص التراث والتاريخ السياسي العربي. درس في فرنسا على نفقة الخديوي توفيق [1852/ 1879- 1892م]. خلال وجوده في فرنسا، ساهم في تشكيل (جمعية التقدم المصري) التي قربته من الزعيم الوطني مصطفى كامل [1874- 1908م]. ومن اعماله المسرحية: مجنون ليلى، كليوباتره، قمبيز، عنتره، أميرة الاندلس.

(2)
ما ضرّ لو جعلوا العلاقة في غدٍ..... بين الشعوب مودة وإخاءا - أحمد شوقي
القانون الدولي والدساتير الوطنية، تقوم على أساس الحوار والتفاهم والتعاون والعلاقات الدبلوماسية، ولكن ذلك مجرد ظاهرة ترفية برجوازية، لا يعترف بها أحد في ساعة الجدّ. في ساعة الجدّ تظهر الأمور على حقيقتها، وتقوم الجيوش بحسم القضايا العالقة، أو تأجيج قضايا نائمة.
اوربا الحضارة والترقي والتمدن، تلجأ أيضا لأساليب همجية ووحشية، للتعبير عن حاجاتها واحتقاناتها النفسياسية، بدل اللجوء لطاولات الحوار والتفاهم والاتفاق. ما قيمة طاولات تعقد بعد انتهاء الحرب، لاقرار نتائج الحرب الميدانية، ولا تعقد قبيل الحرب، لتجنب المجازر والكوارث ومسيل الدماء.
ولما تزل أوربا والغرب يستخدمون الجيش والأدوات العسكرية والتدميرية، لنيل أطماعهم، وفرض سياساتهم. كلّ ما حصل بعد خمسينيات القرن الماضي، ان الغرب نقل حروبه ونزاعاته خارج المحيط الأوربي، مستغلا العالم الثالث، ميدانا لتمارينه وفرضياته العسكرية، ومسرحا لاختبار الاسلحة والاعتدة الجديدة، رغم أنف العالم.
في كلّ هذا.. لم يكن للعثمانيين دور ميداني مباشر، في (إحماء) حمام الحرب، أو البحث عن أطماع وشروط جديدة، للمبارزة والسيادة في القرن الجديد. كانت مقتنعة بالحاجة، لبناء نفسها من الداخل. فيما الغرابوة ينتظرون انهيارها، والاحتفال بوليمة الغنائم.
فالدولة العثمانية [1299- 1924م]، هي الدولة الوحيدة العابرة للزمن، من عصر ما قبل النهضة، حتى أواخر العصر الحديث.
ولولا تراخي النفوذ العثماني في شرق أوربا، لما ألحّت روسيا، على الاندفاع وتوسيع أطماعها في شرق أوربا من جهة، وفي المجال السياسي العثماني ذاته. وهذا هو مركز الخلاف والصراع والتباغض بين الغرب والروس. فما كان الغرب ليسمح لأحد ما، الهيمنة على (أسيا الصغرى)، والتحكم بمصير العالم.
لقد وقفت المانيا وفرنسا وبريطانيا الى جانب الباب العالي على الدوام. من أجل الغنائم والامتيازات أولا، ولتحجيم الروس ونفيهم خارج الدائرة.
وما زال الغرب مناوئا للروس، وبكراهية واضحة في ثقافتهم الشعبية والاعلامية. فالخلاف الأوربي الروسي، ليس بسبب الاشتراكية والشيوعية، ولا بسبب صلابة بوتين القومية، ولكنها أقدم وأطول. انه صراع وجودي وفشل حضاري.
ولكن، ما صلة العراق، بصراعات الغرب وخلافاته المريضة والهمجية؟.. أين بنود مواثيق حقوق الانسان ومبادئ العدالة والسلام والمساواة، ازاء الفوقية والأفضلية الأوربية على بقية البشر.
وهنا، لابد من تنويه وتذكير، ان مواثيق حقوق الانسان، أظهرت من قبل امبراطورية الهابسبورغ، ذات المطمع/ المطمح، لحكم القارة الأوربية، تحت عنوان (قيصر/ سيزر الصليبية). وعقدوا أكبر شبكة مصاهرات ملكية، في معظم بلاد الغرب.
أما الامبراطورية الثانية المتلهفة على الانسان وحقوقه، فهي بريطانيا، التي حكمت خمس العالم، ومسحت أمما وبلدانا، وأقامت أمما وبلدانا جديدة، ببصمتها، وباستخدام مختلف أدوات الابادة الجماعية والقتل الجماعي، وتحكمها واستغلالها للهند، ليس رحمة أو متعة، ولكنها تجارة دم وامتهان واستعباد متصل منذ خمسة قرون للحظة.
أما الدعيّ الأخير لحقوق الانسان، والذي تصدر دائرة خارجيته، تقارير سنوية، توزع فيها علامات اداء والتزام الدول ببنود حقوق الانسان، فهي واشنطن. ولكن تقارير واشنطن لا تشمل اداء وممارسات الولايات المتحدة الاميركية. وتقارير لندن السنوية، لا تتضمن ممارسات بريطانيا وسياساتها العنصرية تجاه الناس والثقافات.
(3)
في منتصف أوكتوبر 1914م، انطلقت قوات بريطانية متجحفلة مع قوات هندية، من شبه جزيرة الهند، ووقفت امام ميناء أم قصر العراقي في (6 نوفمبر 1914م). وفي (نوفمبر 1914م) أعلنت الدولة العثمانية (الجهاد) ضد الامبراطورية البريطانية.
ولكن ما وقع/ صدى، النداء العثماني، و(الجهاد فرض) في العقيدة الاسلامية؟.. ما صدى النداء في جماهير العرب، مثقفين ومتدينين وغوغاء؟.. ما وقعه في نفوس المسلمين في العالم، بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم، عندما يتعلق الأمر، بحياض الإسلام؟..
وليس أخيرا.. ما صدى النداء الجهادي، في صفوف الهنود الذي كانوا مادة التجنيد والجيش البريطاني، والقوام الرئيس لقوات احتلال العراق عام (1914م)؟.. شخصيا، تستوقفني نظرة استياء/ ازدراء الهنود للعرب، بما لا تتوافق مع نفاق الهنود وخنوعهم للانجليز حتى اليوم. رغم أن عوائل هندية كثيرة، تخلفت عن الاحتلال البريطاني، واندمجت في المجتمع العراقي.
الهنود احتلوا العراق وحوض الخليج، عسكريا وتجاربا، ولكن العرب لم يحتلوا بلاد الهند. انما توقف العرب عند حدودها، وما يزال الهندوس والبوذيون والجاينه والسيخ وسواهم، غالبية سكان الهند.
لكن الهنود لا يحتقرون الانجليز الذي استعبدوهم وينهبون بلادهم منذ قرون، وقد فرضوا عليهم الانجليزية لغة للثقافة والتعليم والاعلام.
منطقيا، كان لابد لنداء الجهاد ضد بريطانيا، أن يربك ترتيبات العدو، ويوقعها في حيرة، تدفعه لاعادة تنظيم صفوفه، والبحث عن متطوعين، مجندين من الهندوس. لكن قطعات الهنود البريطانية كانت من أغلبية مسلمين وسيخ!..
لقد بلغنا ما نحن فيه، بفضل غياب الموقف الوطني والدراسات التحليلية، لمواقف ومفارز خطيرة، في التاريخ العالمي للشرق.. وغياب اعتماد رؤية شرقية اسلامية مركزية، غير متغربنة.
لقد ضاعت المركزية العثمانية، بفضل المذهبية والطائفية الايرانية والسعودية والتشظيات البلدانية، فضلا عن تيارات العلمانية اللاوطنية، في المنظور الستراتيجي العام.
لا ضير أن يتساءل الفرد، المقيم في بلاد عربية أو مسلمة، لماذا يصدر الغرب عن وحدة ثقافية مركزية وسياسات ستراتيجية، رغم تعدد تياراتهم، وتقدمهم الفكري والحضاري، بينما نركس نحن المتخلفين، في مربعات ودوائر سيفونية، كلّ فرد أو جماعة، تستقل بفهم خاص للعقيدة والانتماء والوطن.
بل أن كل فرد، يرى نفسه الها، فوق النصوص وفوق الظروف، لا تحكمه ثوابت ولا مبادئ ولا أنظمة. انما على الثوابت والمبادئ والانظمة، أن تسجد عند قدميه، ويأتي الآخرون لخدمته، واشباع نوازعه ونزعاته.
اولئك جميعا، الذين افادوا طويلا من جدار الحامية العثمانية في مواجهة الغرب، هم الاساس في اسقاط الجدار العثماني. والذين يشتمون العثمانيين اليوم، -وهذا أمر، يندر حصوله في تجارب ومجتمعات أخرى-، يصدرون عن حجم الاحباط والهزيمة الداخلية، جراء الفراغ السياسي والثقافي المحيط بهم.
فلا الاحتلال البريطاني، ولا الممالك والدول العصرية الكثيرة، ولا الثقافة الغربية وأزياؤها، عوّضت عن الفراغ السياسي العثماني، والحصانة الاسلامية التي كانت تشمل الشرق ومجتمعاته.
ان الفرنجة لم يستعلوا على الشرق، إلا بعد سقوط الاستانة، وتخلي ضباط الاتحاد والترقي، عن سلطنة الباب العالي والصدر الأعظم، بناء على املاءات بريطانية وفرنسية.
(4)
أولا: نحن الذين أسقطنا الحكم العثماني.
ثانيا: سقوط العثمانيين كان نهاية للشرق.
والسؤال، ما هو البديل الفارسي مقابل الحصانة العثمانية؟.. منذ سقوط الاستانة، تعاقبت ايران ثلاثة عهود: قجرية، بهلوية، خمينية؟.. ما فضل كلّ منها على ايران، وما فضل ايران خلالها على العرب والمسلمين؟.. وما هي الحصانة التي قدمتها في مواجهة الغرب؟..
يقول احدهم، ان الاتراك والعثمانيين همج متخلفون/(نفس الشتيمة تطلق على العرب والاسلام)؛ وان ايران وحدها المتحضرة ولها فضل على العباسيين!..
هل الكلام صادر عن وعي وانتماء، أم ردح واحتقار للذات؟.. أما إذا كان الشخص الشاتم، مهووسا بايران أو من ملّتها، فيمكنه أن يفخر، من غير شتيمة. هل الشتيمة هي مصدر الفخر الوحيد لدى اولئك، -أعانهم الله- على أنفسهم.
الشتيمة، الشتائم، وجدت لها رواجا مع سياسة السوق المفتوحة ودعوات اللبرالية والدمقراطية الغربية. سقوط الحكومات المركزية الراسخة والقوية، أنتج فراغا سياسيا ونفسيا وعاطفيا؛ جعل الهاتفين السابقين: (بالروح بالدم..)، يتحولون إلى شتامين للثوابت والرواسخ.
لقد وضح للعيان، وصار ثابتا لدى السي أي أي والامريكان، ان ثمة اغلبية معارضة سياسية للحكومات الوطنية في كذا بلد عربي. وقامت واشنطن، بدورها في تنظيف البلدان العسكرية من أنظمتها الوطنية الثورية. السؤال، لما لم تقم الاغلبية المعارضة، والمعارضات السياسية حتى النخاع، ببناء نظام سياسي بديل، يملأ فراغ النظام المخلوع؟؟..
انظر: بعد قرن من زوال العثمانيين، لم ينتج العرب نظاما يملأ الفراغ العثماني. كل ما حصل، أنظمة وحكومات تتمسح بأذيال الغرب. وعندما ظهر أردوغان [1954/ 2014م- ؟]، لاستعادة نفحة من الحصانة والاستقلالية من أثر الغرب، صنعوا تحالفا عربيا ضده، وعيّروه بصفة السلطان العثماني. هل صار (السلطان العثماني) سبّة؟.. كم سلطان عثماني أنتج الشاتمون!.
التحالف العربي، من أصدقاء الأمس، جاء تبعا، للتحالف الأوربي ضدّ تركيا التي عادت لتهديد المصالح الغربية، داخل أسيا الصغرى، وعبرها نحو الشرق. لكنه، للأسف، تحالف المهزوم والفارغ، مما لا يشبع ولا يضرّ.
حتى أمس القريب، كانت العلاقات [التركية/ السعودية/ الخليجية/ المصرية] على أفضل ما يكون. كيف انقلبت عقب سقوط (حركة الاخوان المسلمين) في مصر؟. ما هو المرجع القانوني الدولي للخلافات البينية للحكومات المسماة عربية ومسلمة؟. وما أثر المرجعية الانجلوميركية بتغيرات مواقف العرب من بعضهم؟.
ما هو السند القرآني/(أنا لا أعترف بالمدونات الاخبارية والعجمية المغرضة، عن العرب والاسلام)، لخلافات وتناحرات العرب مع بعضهم ومع أنفسهم؟..
لقد أفلح العرب فلاحا عظيما، في موقفهم العدائي من عراق البعث، بعد (اغسطس 1990م)، بعدما كانوا ملتحمين به- نفاقا- في حرب الثمانينيات، ولهم الفخر، ان كان لهم الدور المعلى، في هدم بابل العصر، ووضعهم الهزيل اليوم في مواجهة ايران!.
هل عرب اليوم، لهم الاهلية لمواجهة ايران سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا أو ثقافيا؟.. الذين أسقطوا نظام صدام، عليهم أن يتفكروا بالفراغ السياعسكري لما بعد العراق القوي.
نفس السذاجة التي قادت العرب ضد العثمانيين، بجواسيس انجليز، قادت العرب ضد نظام صدام، مدعومين، بجواسيس أميركان أمثال بول وولفيتز، الغائب عن العيان هو الآخر، حتى ظهور المنقذ!.
وبدل التحالف/ الاتحاد العربي في مواجهة التحديات الوجودبة، من جانب الغرب، وايران، والنعرات الداخلية، تتولى السعودية دورا نشيطا، في تعميق الخلافات وتمزيق المتبقي من وشائج قومية/ اسلامية. فتبث الفتن في سوريا، -الحاقا بلبنان-، وتغرق اليمن بالدماء، بذريعة محاربة الحوثيين، ولا تريد أن تذهب للحرب مباشرة مع ايران.
لقد تم تدمير ستة بلدان: [مصر الناصرية، عراق البعث، سوريا، لبنان، اليمن، السودان، القطيف]، بذريعة النيل من ايران، وكانت النتيجة تضاعف النفوذ الايراني في كلّ تلك البلدان والاقاليم، وقد أضيف اليها لاحقا: [الكويت، قطر، عمان].
فكيف يكون الدفاع عن الذات بتدمير الذات. وكيف يكون الأمن الستراتيجي، بتخريق المحيط الستراتيجي.
السعودية اليوم تقف في عزلة، وتخلي تام عن القضايا القومية العربية والاسلامية. ولاسناد استمرار عرشها، تستدعي ثلاثة قوى اقليمية: [باكستان، مصر، اسرائيل] لقاء تنازلات ومليارات غير مبررة، وغير مضمونة النتائج. بينما تدفع (أتاوات باهظة) للبلطجة الاميركية.
(5)
كان لابدّ للباب العالي، ان يتوقع هجمات عسكرية معادية على حدوده الامبراطورية، في ظلّ حرب قارية، تشارك فيها امبراطوريات نافذة. ولم تكن تلك المواجهات، تحدث للمرة الاولى.
فهل يمكن وصف موقف عسكري لدولة امبراطورية بهذا الوزن، بالسذاجة، أم الخيانة، أسوة بما حصل في حصار فيننا/(1529م، 1532م)؟.. وكيف يمكن تبرير سحب فيالق عسكرية ميدانية من اقليم ذي أهمية ستراتيجية، والاكتفاء بفرقة مشاة، بدلها.
الحرب عند الانجليز ليست غير مغامرة. مغامرة يقودها مغامرون. فليس لدى الانجليز جيش نظامي ثابت. جنرالاتها أفراد مغامرون، يتطوعون في الحرب هنا وهناك، لأغراض شخصية. ومن تلك الحروب تتكون لديهم خبرات الحرب، وخبرات التعامل مع مجتمعات مختلفة، غير أوربية.
أما الرتب العسكرية، فمصدرها الترقيات الميدانية، أو التعيينات الحكومية والمكافآت العُلوية. ومادة تلك الجيوش، هنود وأفارقة وبولاند، من مرتزقة وموالين، في صور جماعات قبلية، أثينية، دينية. كل ما يجمعها الاخلاص لقادتهم، والولاء للتاج.
من الانتقادات الموجهة للسياسة العثمانية، عدم اهتمامها المناسب بولاياتها في الأطراف. لكن الأكثر أهمية منه، عدم توفرها على مخطط عسكري ستراتيجي، يشمل مساحة البلاد، ويضمن حصاناتها الدفاعية، في حالات التهديد والحرب. ولو كانت لديها قوات كافية، ذات توطن ستراتيجي، لما أمكن اختراق البلاد من الخارج.
مسألة الامن الستراتيجي العسكري، هي أزمة الدولة العراقية. ان توزيع الجيش العراقي، منذ تأسيس المملكة العراقية/(1921م) حتى سقوط دولة البعث/(2003م)، اعتمد خريطة التوطن العسكري البريطاني في العراق.
وكل الحاميات البريطانية، هي مواضع المعسكرات العراقية التقليدية، وما أضيف اليها لاحقا من مطارات عسكرية، ومواقع دفاعية حول بغداد العاصمة.
فخريطة الدفاعات البرية والجوية والبحرية، لا غنى عنها، لتوطيد أمن البلاد من الخارج أولا، ومن الداخل ثانيا. فكلّ من الأمن الداخلي والخارجي، متعاشقان ومترابطان، على طول الوقت والجغرافيا السياسية. بل أن الدعامة الأمنية لبلد ما، تشكل عمقا لأمن البلد الجار.
ان النجاحات المتقطعة التي حققها الجيش العثماني، والتي أعاقت وعرقلت تقدم الغزو البريطاني/(حصار الكوت من ديسمبر 1915م، الى ابريل 1916م)؛ كان من المفترض تدعيمها، واستقدام قوات اسناد كافية، لتغيير خريطة الغزو، والتمكن من طرد العدو.
لكن حرص بريطانيا على استقدام تعزيزات ميدانية، لم يقابله، تعزيزات عثمانية. ولا يعرف موقف الأهلين، الستراتيجي، في تعزيز الدفاعيات، والحفاظ على الوطن.
ان السكان هم الظهير الستراتيجي لكل حالة دفاعية، عندما يكون لهم دور.
يبقى.. ان تقدم القوات البريطانية في أرض العراق كان بطيئا، بل بطيئا جدا، عند المقارنة، بين اول انزال في (6 نوفمبر 1914م) في البصرة، وبين (11 مارس 1917م) تاريخ دخول فردريك ستانلي مود [1864- 1917م] في بغداد.

(21)
تهافت التهافت..
(1)
ثمة تصريحان لبريطانيا فيما يخص احتلالها العراق في (نوفمبر 1914م)..
أولا: ان الغزو كان بقرار من شركة الهند الشرقية، التي قامت بتجييش حملة من ضباط انجليز وقوات هندية، انطلقت بين (14- 16 اكتوبر 1914م) من الهند، ودخلت المياه العراقية في (6 نوفمبر 1914م).
ثانيا: ان الغرض من نزول القوات البريطانية في العراق، كان حماية حقول النفط في عبادان، من أي انزال أجنبي/(فرنسي/ ألماني/ روسي/ عثماني)، باعتبار ان الحقول عائدة لشركة بتروليوم البريطانية.
هاتان مغالطتان مقصودتان على هامش التاريخ. ولأن التاريخ دائما، يكتب بسياق رجعي، فأنه يبدو مثل استخدام الماكياج على وجه ميتة. انه لا حاجة لتبرئة الحكومة البريطانية من جريمة احتلالها العسكري للعراق، والذي يوصف أحيانا بـ(الحملة الكبرى)، وأحيانا، يلقى في سلة الهنود.
سبق التطرق لاحتلال العراق في الاتفاقات الأوربية حول تقسيم العالم، ومنها المختصة بامتيازات بريطانيا في المضائق والموانئ الستراتيجية حول العالم، ومنها: (ميناء البصرة).
فاحتلال العراق تحديدا كان مخططا ومقررا، في حسبان السياسة الانجليزية، فضلا عن مشروع كروزون، السياسي البريطاني ونائب الملك في الهند، والمعروف بالمنطقة اليريطانية من الهند إلى القاهرة.
ويمكن القول، ان الخصوصية التي تمتعت بها بلدان الخليج العربية، وما بلغته من افاق تنمية عمرانية وتجارية وحصانة دولية في أواخر القرن العشرين، هي الجزء المتحقق من مشروع كروزن، الوزير اليريطاني المفوض في أسيا بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
أما نسبة احتلال العراق لشركة الهند الشرقية، فهو غلط مطبعي، لزوال سلطة الشركة عقب الثورة الهندية/(1858- 1860م)، ودخول الهند تحت الحكم البريطاني المباشر، باسم حكومة الهند، المرتبطة عمليا بوزراة الهند في حكومة لندن.
فالمسؤول عن الاحتلال هو حكومة الهند التابعة لوزارة الهند المرتبطة بوزارة الخارجية البريطانية. وبالتالي، لا معنى لسلسة المراوغة اللغوية والبيرقراطية هاته، وكأن بقية التاريخ البريطاني يسوسه الملائكة. ومن الطبيعي أن لا تتنفس أي ممثلية بريطانية في الخارج بغير املاءات وموافقات حكومية واضحة.
ان وظيفة شركة الهند الشرقية المؤسسة بمرسوم ملكي بخط اليزابيث الأولى/(1601م)، هو ادارة المصالح البريطانية في الخارج، وتطويرها. ومراجعة نشاط الشركة، وانعكاساتها على الدولة والاقتصاد البريطاني، سوف يكشف أن مملكة بريطانيا، من غير شركة الهند الشرقية ومغامراتها، ما كانت لتتحول إلى امبراطورية.
ان المغامرين، تجارا وعساكر وقراصنة بحر، هم الذين صنعوا الممالك والامبراطوريات الأوربية، وهم النسغ الرئيس للاقتصاد الأوربي ببلدانه المتعددة. وأن الثورة الصناعية والتكنولوجية، جاءت نتيجة لعمل القراصنة والتجار، ودورها في التجارة التبادلية، ونقل مقدرات الشعوب وتجارتها التقليدية، لتدوير عجلة التجارة والاقتصاد والعملة الأوربية.
المغامرون الأوربيون، هم اليوم، ما يدعى الشركات العابرة للحدود والقارات، والمافيات التي لا حدود ولا روادع لنفوذها وأنشطتها عبر العالم، والتي تجهد الحكومات الغربية، والمنظمات الدولية، في خدمة رغباتها وأطماعها في العالم. ومن تلك الشركات، هي المشرفة والمتحكمة في عمل شبكة النت، والتي اعلن البيت الأبيض في (2002م)، عدم مسؤوليته عن الفوضى في الشبكة الأثيرية، لعائديتها لشركات خاصة.
والبلدان والانظمة التي تعرضت للتشويه والتسقيط والتجريم، بسبب وقوفها في طريق الشركات الرأسمالية العابرة للحدود ، وعدم فتح حدودها السياسية والاخلاقية، لعبث المغامرين والمقامرين وراء تلك الشركات.
لقد انتظرت المآفيا الدولية/(الوجه الحقيقي للامبريالية الانجلوميركية)، زعيما مثل السادات [1918/ 1970- 1981م]، يعلن ثورة انفتاحية، لكل أصناف المأفيات، يجعل من بلده سوقا حرة للرائح والغادي، ويضع أبناء بلده في مواجهة اعتى المأفيات والاطماع الدولية.
مصر السادات، التي يمتدحها فقراء المصريين وحيتانها، هي نموذج عصري عولمي للمواطن العالمي، ولكن في وجهه الشيطاني البشع. ولو ان القذافي وصدام والاسد وعلي عبداله صالح والنميري وزياد بري وغيرهم، ساروا وراء (عبدالله المؤمن)، لكان العرب في وسط الربيع ، بدل الانقلابات والانتفاضات والاحتلالات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عبدالله المؤمن: لقب أطلق على الرئيس المصري محمد أنور السادات، أول من أطلق المعتلقين الاسلاميين من سجون مصر، وسمح بدخول الوهابية السعودية في بلاده. وفي العموم، تضمن مشروع انفتاح السادات، ثلاثة انفتاحات: انفتاح كامل مع واشنطن، انفتاح كامل مع اسرائيل، انفتاح كامل مع الرياض. وقد تم تحجيم وتعتيم الانفتاح مع اسرائيل جراء رفض شعبي، واستمر ما عداه لليوم.
(2)
أما تبرير احتلال العراق لحماية نفط عبادان، فهل عبادان في العراق؟.. أم عبادان في بريطانيا؟.. ولماذا لم تنزل القوات البريطانية الهندية في بوشهر الايرانية وهي أقرب للخليج، وفي ضمن الحدود السياسية التي تقع فيها عبادان.
ان نبرة الاستهانة والسخرية من العراق العربي واضحة في هذا التعبير!.
بالمنظور الغربي، دولة ايران أكثر حرمة دولية، من بلد بلا حرمة وسيادة، مثل العراق العثماني المنهار. ان الدبلوماسية/(كتعبير أدبي) زائلة/ مائعة، في هذا المجال. وان العراق اللاعثماني، هو مجرد تابع صغير لامبراطورية الهند البريطانية. وايران هي جزء من الفضاء الهندو- أوربي.
ثمة مؤشرات عدّة، تؤكد الهامش العراقي في مخططات لندن لاجتياح المنطقة:
1- شركة الملاحة البريطانية في نهري دجلة والفرات.
2- اتفاقية سايكس بيكو/(1916م) بين الحكومتين البريطانية والفرنسية على اقتسام بلاد العرب بينهما.
3- اتفاق الحكومة البريطانية وقواتها العسكرية في سيناء وشمال الحجاز، مع أمير مكة وحركة الضباط العرب للثورة/ 1916م ضد الاستانة.
4- مدّ سكك حديد اسطنبول- بغداد/(1916م) وصولا للبصرة، لتسهيل حركاتها العسكرية ونشاطها التجاري العالمي، بين لندن والهند.
5- مد خطوط البرق والبريد في انحاء العراق/(1916م) وربطها بخدمات دائرة الهند للبريد والبرق، السلكي واللاسلكي، الذي جعل العراق جزء من الامبراطورية البريطانية الهندية، برقيا وتجاريا وعسكريا وسياسيا.
فنزول القوات العسكرية في أراضي الرافدين، هو تحصيل حاصل، وحلقة استكمال سلسلة مخططاتها لاحتلال العراق، بعد احكام قبضتها على حوض الخليج وحكام نجد وامير مكة. وهذا يعني احكام نفوذها على كلّ بلاد المشرق العربي. لكن اجتياحها للعراق، خلاف بلاد المشرق الأخرى، لم يسبقه اتصال مباشر بالحكومة العراقية أو أعيان العراق. انما قام على استهانة البريطانيين بسكان العراق، حسب تعبير حنا بطاطو [1926- 2000م] في كتابه عن العراق/(1978م)، ورفضها تشغيل العراقيين في شركاتها النهرية والتجارية العاملة داخل العراق.
ولا بد من تنويه، ان احتلالها للعراق/(1914م)، كان قد سبقه سيطرة بريطانية على حوض الخليج منذ (1861م) من جهة، واتصالاتها المباشرة مع شيوخ الخليج في البحرين والكويت/(1912م)، دون اتصالها بجهات عراقية.
لكننا نجد اتصالات بريطانية مبكرة مع أمراء قبائل بني كعب، واستخدامها كورقة (لعب)، مرة في مواجهة حملات الوهّابية السعودية، وتارة ضدّ جهات ايرانية/(اسحق نقاش- شيعة العراق/ دار المدى- 1996م)، وبشكل أضرّ بسمعة كعب في محيطها العربي والاقليمي، فضلا عن اتخاذ ولاية البصرة، ميدانا للمهاترات الأجنبية.
لقد اتضح مصير الثورة العربية الشعبانية، وما انتهى اليه قائد الثورة الحسين بن علي [1854/ 1908- 1924/ 1931م] من خديعة واغتيال بيد خادمه، بعد نفيه في قبرص. ولم يتأخر عنه كثيرا رفيقه: توماس ادوارد لورنس/(1888- 1935م) المعزول عقب عودته الى بلده، دون منصب أو تكريم، كما ينتظر أمثاله، ليموت بعد مدة في حادث دراجة ملغز.
(3)
النشاط البريطاني في المنطقة، قبل (1914م)..
1861م ربط خطوط البرق بين اسطنبول- بغداد، وجنوبا نحو الفاو.
ديسمبر 1862م اتفاقية انجلوايرانية لانشاء محطة في ميناء بوشهر لربط اسلاك البرق العائدة للطرفين، وقد تم الايعاز لحاكم بوشهر /(مايو 1863م) بالسماح بانشاء المحطة البريطانية في الميناء لقاء أجر سنوي، وانشئت مبان لتخزين المعدات الملحقة لها.
سبتمبر 1864م اتفاقية انجلوعثمانية على السماح ببناء دائرة برق بريطانية في مصب شط العرب تضم خمسين عاملا بإمرة مدير محطة بريطاني. وقد اقيمت الدائرة على بقعة جافة تحيط بها مستنقعات، واقيمت بجانبها دائرة برق عثمانية.
1864م مد خط سلكي من ميناء جوادر على الشاطئ الايراني للخليج الى ميناء الفاو، وكان قد تم ربط جوادر بكراتشي وبومباي في الهند.
يناير 1865م بث أول رسالة من الهند إلى لندن بنجاح.
جزيرة هنجام: ميناء جاسك انشئت فيها محطة برق وسيطة، استخدمت لاحقا/(مايو 1905م) لربط بندر عباس بالعالم الخارجي، واقيم فيها مكتب قيادة عسكرية بريطانية في منطقة الخليج العربي، بعد أن كانت في باسيدوه/ (جزيرة قشم) حتى (1879م). ثم جعل فيها قنصل بريطاني.
يناير 1873م: وضع المقيم البريطاني في الخليج تحت الاشراف المباشر لحكومة الهند.
نوفمبر 1901م: مد خط سلكي بيبن مسقط وجاسك، وكان يدير مكتب مسقط سبعة اشخاص من ادارة البرق الهندو اوربية. وفي (1937م) فرض سلطان عُمان ايجارا رمزيا على الخط مبلغه (باوند) واحد سنويا، واستمر كذلك حتى عام (1987م).
ابريل 1908م: اقتراح المقيم السياسي البريطاني في الخليج بربط البحرين والكويت بدائرة المقيم البريطاني في بوشهر، عبر محطة البرق الكائنة فيها. وجاء في الأسباب: ربط المقيمين البريطانيين اللذين سبق تعيينهما من قبل حكومة الهند عامم (1904م) في الخليح بمثيلتهما في بوشهر، تنشيط التجارة البحرية البريطانية في الخليج وحمايتها في وجه التنافس، السيطرة على تجارة تهريب الأسلحة في المنطقة، تسهيل الحجر الصحي في الخليج.
ديسممبر 1909م: انشاء محطة لا سلكي في جاسك لمراقبة تجارة تهريب الأسلحة.
يوليو 1912م: امير الكويت في رسالة لبريطانيا يتعهد بحماية خط الاتصال لخدمة بلده والعالم، وفي (1916م) تم مد سلك برقي من الكويت إلى الزبير تحت ادارة دائرة البريد والبرق الهندية، استمر في العمل حتى استقلال الهند/(1947م).
1912م: شيخ البحرين عيسى بن علي ال خليفة، يقترح مد بلاد بخدمة الاتصالات، وفي (1935م) تم مد البحرين سلكيا بخدمة بوشهر الايراني، وفي (1939م) انقطع الخط بسبب الحرب.
يناير 1915م: انشاء محطة بوشهر.
يونيو 1916: محطة البحرين.
اكتوبر 1916م: محطة هنجام.
اكتوبر 1917م: انشاء محطة لنجة.
1932م: افتتاح محطة لاسلكي في الشارقة، بعد انشاء مطار فيها.
1947م: بعد استقلال الهند، اسندت خدمة البريد والاتصالات العاملة في الخليج والهند، لشركة كابل اند وايرليس والتي كان اسمها السابق قبل (1934م): شركة الاتصالات الامبريالية والعالمية.
(4)
عمليات الحملة البريطانية الكبرى في بلاد الرافدين، تأخرت كثيرا، وكان مسارها بطيئا جدا. ولكن ذلك كان جزء من مخطط الاحتلال، وليس جراء عوامل أخرى، مثل عمليات المقاومة الشعبية، كما يؤول البعض.
تضمن مخطط الاحتلال البريطاني، ثلاثة خطط:
- احتلال عسكري مباشر للأرض.
- دراسة الأرض والسكان، وفرز ما يناسب ولا يناسب سلطة الاحتلال.
- بناء البنى والمرتكزات التحتية والعسكرية لسلطة الاحتلال.
لذلك، زحف الاحتلال زحفا على جانب النهر، متعرفا ومستكشفا، بلدة بلدة، ومركزا مركزا، مخمنا، المراكز والنقاط التي يمكن أن تهدده، أو تخدمه ميدانيا، فضلا عن الدراسات الهندسية والعسكرية والاجتماعية للبلاد. ويذكر هنا، ان الشركة الملاحة النهرية في العراق، سبقت الاحتلال المباشر بقرون، ولها قراءات مسبقة في جغرافيا السكان.
عندما وصل الجيش الانجليزي إلى بغداد، كان لديه عمق عسكري ستراتيجي. فإذا ما تعرض لانكسار- مثلا-، فهو لا يضيع ما اكتسبه سابقا. أنه احتل جنوبي العراق، قبل أن يصل بغداد. وباحتلاله بغداد، فصل جنوبه عن شماله. وباحتلاله بغداد، أدرك عدم وجود تهديد عثماني.
قبل أن يصل إلى بغداد، كانت الشركات الهندسية، تقوم بانشاء محطات البرق والبريد ابتداء من الفاو والزبير. وفي نفس الوقت كانت الشركات المعنية بمد خطوط السكك الحديد داخل العراق، تقوم بعملها، بشكل مستقل عن الجيش ظاهرا، وبشكل متناسق تحت ادارة سلطات الاحتلال عمليا.
الضباط والساسة الانجليز في الاحتلال، هم ممن سبق لهم الخدمة الكولونيالية/ الامبريالية في بلدان عربية ومسلمة وشرقية. بدء من مصر والسودان وأنحاء أفريقيا والهند، الى العاملين السابقين في منطقة الخليج العربي، واسيا الصغرى.
لم يتوقع الاحتلال أن لا يواجه مقاومة شعبية عنيفة، لذلك وظف كل معلوماته وخبراته السابقة في احتلال وادارة بلدان أسيا وأفريقيا، في مخطط احتلاله العراق، والذي يعدّ أذكى وأعمق خططه العسكرية والستراتيجية. يضاف لها نجاحه الكبير والستراتيجي، ليس لربط العراق بالخليج وايران، وانما ربط العراق بفلسطين وقناة السويس.
(جئنا لنبقى!).. هو شعار الاحتلال الانجليزي للعراق، وهكذا كان. وهذا هو شعار كلّ حكومة تستلم حكم العراق، منذئذ.
(5)
الاحتلال الانجليزي، لعله الوحيد، الذي يعتمد ضمن مخططه، وجود عناصر خبيرة ومتمرسة، في التعرف إلى السكان، وبناء شبكة علاقات ومعارف اجتماعية، تكون سندا ستراتيجيا عميقا لسلطات الاحتلال. وكان الجنرال تشارلز تاونسند [1861- 1924م] المسؤول عن هذا الجانب. وقد سبق له العمل في مصر والسودان بإمرة تشارلز غوردن [1833- 1885م].
تشارلز تاوسند الذي وقع في الأسر خلال حصار الكوت/(1915- 1916م)، وكان مشرفا على تهريب الضباط الانجليز، وهم يرتدون ثياب بدو عرب، عبر (كوت العمارة)، كان مغامرا أكثر منه عسكريا محترفا، مختلفا عن أقرانه في كثير من الاشياء، ما خلا ولائه العسكري. ومن ذلك طموحاته الكثيرة، التي اعتمد نجاحاته العسكرية طريقا لها. ومنها حلمه.. أن يصبح حاكما للعراق. نهايته كانت الأسر والمهانة، والعودة لبلده.
أما المغامر الآخر، قائد الاحتلال بعد الكوت، فهو الجنرال فردريك ستانلي مود [1864- 1917م] صاحب الخطبة المشهورة: [جئنا محررين، لا فاتحين]، وأول من وضع له نصب شخصي كامل وهو على حصان، في ساحة الصالحية/الكرخ من بغداد؛ استبدل لاحقا بتمثال كامل للملك فيصل بن الحسين لاحقا، ومن بعده تمثال لجمال عبد الناصر [1918/ 1952- 1970م]. فقد انتهى بمرض الكوليرا بعد ستة أشهر من دخوله بغداد.
حاول العثمانيون تحديث العراق باستخدام الخبرات والتقنيات الأوربية، وذلك بشكل هادئ ومتوازن، ليشمل البلاد كافة، مع جملة المحاذير الكامنة، لعدم تكرار تجربة محمد علي باشا في مصر/(سرقة الدولة والانقلاب على الاستانة).
اختلف الانجليز في رؤياهم ومشروعهم، بتعجيل عمليات التحديث، بالاستغلال المباشر لقدراتهم وخططهم، ولكن.
المشروع الانجليزي، أمس كما اليوم، يقوم على تقسيم المجتمع إلى طبقات اجتماعية، ثم طبقات اقتصادية، ثم طبقات سياسية، ويفرز نخبا سياسية وثقافية واجتماعية بين ذلك. ولعلّ اختلاف الرؤى السياسية في المشروع، وراء موجة الاضطراب التي زعزعت ثوابت الشخصية والمجتمع العراقي، سياسيا واجتماعيا.
فلم يكن الاحتلال الانجليزي، احتلالا فحسب، وانما قلبا للتربة العراقية، وتغيير انظمة الزراعة والسقي.
الرؤية والسياسة العثمانية مختلفة عن الرؤية والسياسة الانجليزية.
اعتمد العثمانيون، على الثقافة والمنظور الفرنسي في التحديث، الذي يرفضه الانجليزي، ويناقض أسسه ومظاهره.
المنظور العثماني لا يأخذ بالنظريات المادية الطبقية، ويسعى لبناء مجتمع متوازن بلا طبقات، ولا يخلو من تفاوتات اجتماعية واقتصادية وثقافية، كتحصيل حاصل. ويمكن اعتبار ذلك هو المنظور الاسلامي التقليدي، لمجتمتع العدل والمساواة وعدم التمييز، باعتبار ان الغنى والفقر، وتفاوت الناس، أمر شاءه الله/(القرآن).
وهكذا وجد العراقي نفسه، حائرا مغلوبا على أمره، متذبذبا، بين الأرضية الفرنسية، والارضية الانجليزية؛ بين الرؤية العثمانية، وبين التصور العربي للحياة والسياسة.
حاول الملك فيصل بن الحسين [1883/ 1921- 1933م] ايجاد طريق خاص، ينتهجه سمة وهوية للعراق العصري. كما أسس محمد علي باشا [1769/ 1805- 1849م] وخديوية مصر، ملامح خصوصية مصرية لدولتهم. وما يحصل اليوم، غب (2003م) هو العودة لتقمص المشروع الانجليزي في السياسة والاقتصاد والعمران والتعليم والمجتمع.
معنى الاحتلال..
ما يريده الانجليز ليس الاحتلال المباشر والهيمنة الكاملة..
ما يريده الانجليز هو التبعية الكاملة للمجتمعات لاملاءاتهم.
انجلتره في نظر الانجليز هي (النموذج)/ (الهوية)/ (الثقافة).. وعلى أتباعهم احتذاؤهم، في التفكير، في السلوك، في طريقة الكلام، في طريقة الابتسام. يهتم الانجليزي بالصغيرة والكبيرة، منطلقا من غرور مرضي، ونزعة الهية، يريد كل شيء على هواه، وهذا يناسب الطبيعة والنزعة العراقية، المائلة للتفرد والتفرقة.
المحافظات/ المقاطعات/ المدن الانجليزية والبريطانية، مختلفة الواحدة عن أخرى. انجلتره تختلف عن ويلز، عن سكتلنده، ايرلنده، ولكن (برتش كولونيز) عبر البحار، يجب أن تنتهج وتتقمص النموذج والمثال الانجليزي في لندن. ولندن غير ادنبره وغير كاردف.
وهذا ما بغت انجلتره صنعه في الهند، وما أرادت صنعه في بغداد، وما فشلت في صنعه في القاهرة.
من هذا الباب، روجت بريطانيا في مدوناتها التاريخية، انها صنعت عراقا من العدم. وأنها الولادة الشرعية لدولة العراق ومجتمعه المتناقض، والمنقلب على ذاته. ارادت انجلتره- مثل ايران- مصادرة العراق التاريخي لنفسها-، وفرض وصايتها الابوية على العراق، الخارج من الحكم العثماني، وكل من ايران وانجلتره، اصدقاء ألداء للامبراطورية العثمانية.
لا بدّ من دراسة مقارنة لفوارق ومفارقات السياسات الايرانية، البريطانية، الأمريكية، في العراق المعاصر.
ولكن الغائب الأهم في ذلك كله، هو المنظور العراقي لنفسه ومستقبله. ومتى يظهر المشروع العراقي الوطني للوجود؟..
أم أن المشروع العراقي، هو مشروع غياب وتقمص وحلول.

(22)
اعرف نفسك..!
(1)
ما هي حكاية إبليس.. من أين جاءت.. وكيف تشكلت؟..
هل ظهر إبليس من ذاته.. هو الذي شكل صورته.. أم ثمة (آخر) صنعه على صورته؟..
هل ثمة ظروف تنتج إبليس.. هل ثمة حتمية كونية أم بشرية تقتضيه.. أم أن منطقا تاريخيا يستلزمه، لتشكيل بانوراما الوجود، وانتاج خرافة (التاريخ)..
هل إبليس مظلوم أم ظالم.. مخلوق أم خالق.. حقيقة أم وهم.. هل الوهم في الطبيعة أم العقل..
كيف التبس إبليس بالشرّ.. أين كان الشرّ قبل إبليس..
ما هو الشرّ.. هل هو الكذب.. هل هو الخوف.. أم هو الوهم..
هل إبليس هو الثقب الأسود.. الكهف المظلم.. المجهول وراء الكون المادي.. السرّ في عقل الوجود..
هل إبليس مادة أم (لامادة).. قيل أنه هواء.. لكن الهواء مادة.. والطبيعة لا تعيش بلا هواء..
قيل أنه (ظلام).. والظلام هو حاضنة النور.. ولا كون من غير نور.. النباتات تعيش بالنور.. والانسان يدرج في النهار..
لماذا تعددت أسماء إبليس في كل لغة.. ولماذا تداخلت صوره في كل فارزة حياتية..
إذن.. لا حياة من غير إبليس.. لا تطور من غير إبليس.. لا تاريخ من غير إبليس.. ولا مستقبل..
هل إبليس مخلوق أم موضوع.. هل هو كائن قبل الكون.. أم صناعة بشرية..
هل هو (الإله).. أم ظل الاله.. هل هو (المسيح).. أم ظل المسيح.. أم (ندّه)..
ما منطقية زعم.. انه كان ملاكا للرحمن، بل رئيس ملائكة/ رئيس حرس الشرف، رئيس الديوان.. وفجأة تكبّر على (الإله).. وطمع في عرشه.. (أول انقلاب قصر في الكون)..
تكبّر.. شكوى.. تزييف.. غرور.. نكاية.. طمع.. تسلّط.. سيادة.. هل هي خصائص إبليس.. أم خصائص بشرية..
أم أنها (إبليسية) تم زرعها في بني آدم.. أين كان إبليس.. عند خليقة آدم..
ما سرّ العلاقة الوثيقة بين إبليس و(آدم).. هل آدم هو إبليس المتحول، المراوغ.. المخادع.. جميل/ مسكين من خارج، ومن داخل.. عقرب/ ذئب..
أليس إبليس وراء فساد البشر وضياعهم وعبثهم الوجودي.. ولا جدوى أعمالهم/(باطل كل عمل الانسان وأفكار قلبه/ سليمان/ الجامعة)..
الانسان مادة/ تراب.. وكل مادة إلى فساد/ تفسّخ/ عودة الى فلزات ولا فلزات: غازية وسائلة وجامدة..
أين يذهب إبليس عندما يموت الانسان.. عندما يعود الجسد الى غازات وسوائل وجماد..
(2)
مما استوقفني كثرة ورود إسم إبليس في الانجيل.. كثرة تردد إسمه في كلام المسيح الذي هو ابن الله/(سواء بالحقيقة أم بالتبني).. وكيف يجرّب إبليس، المسيح ابن الله ويخدعه بالسلطة والسيادة وممالك الأرض.. ما هو سرّ سلطة إبليس على الابن الالهي، والذي سوف يهينه ويعتقله ثم يعلقه على خشبة..
لماذا لا يقهر ابن الله إبليس على الأرض.. كيف يورد إسم إبليس في الصلاة المسيحية: (لا تدخلنا في تجربة، بل نجّنا من الشرير)..
كيف يتقاسم إبليس والمسيح حكم العالم.. ثلاث سنوات ونصف يحكم إبليس.. ومثلها يحكم المسيح، وبعدها يعود إبليس للحكم.. بعدما يخرج من السجن.. وبعدما يحكم ألف عام، تحدث معركة جديدة، ينهزم فيها إبليس ويسجن في الهاوية الأبدية.. حيث نارها لا تطفأ، ودودها لا يموت..
لكن ما أثر النار على إبليس.. أليس إبليس نفسه مخلوق من نار.. من مارج من نار.. أليس هو ملك النار.. والنار تاج إبليس.. كيف تؤذي النار إبليس وهو الذي يتحكم بها.. ويسلطها على الكواكب والطبيعة والبشر.. فوجود إبليس في جهنّم، هو عودته إلى مملكته/ ملكوته الناري الأبدي.. وهناك لا يموت.. ينتظر بدء خليقة جديدة..
الأمر الأكثر غرابة .. هو عدم ورود إسم (إبليس/ الشيطان) في التوراة.. الاشارة الوحيدة حسب الانجيليين، هي اشارة رمزية ممثلة في (الحية الذكية، أحيل كائنات الفردوس)/ [وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة/ تك 3: 1].. وقال الاله للحية: [وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه/تك 3: 15]..
هل الحية الشيطانية فرد أم اخطبوط.. فكم حية ينبغي أن يسحق ابناء المرأة رأسها.. والمعروف ان الحية لا تموت.. مهما قطعتها.. تنمو كل قطعة إلى كيان حي جديد.. وكم صنف ونوع من الحيايا توجد في الطبيعة.. وكم من البشر لديهم أقدام كبيرة وأحذية رجال الاطفاء، تكفي لسحق رؤوس الحيايا..
ومن قبل ظهور ابن الله وبعده بألفي عام، الحيايا تزيد وتسود.. سواء بذاتها، أو بحلولية إبليس فيها.. والحياة لا تموت، إبليس أبدي.
أما العرب فقد اعتبروا الكلاب مثوى لإبليس.. وسيما الكلاب السود.. ولكن الكلب ليس شريرا، هو خدوم ومطيع ومشهور بالوفاء..
والحية أيضا ليست شريرة كلها.. بل هي جزء من حياة البشر، وحامية لـ(أهل البيت).. وإسمها التقليدي (حنش) باللغات الارامية والعبرية والعربية.. وكان أهلونا، يعتقدون أن لكل بيت حية مأواها تحت جدار المنزل.. وتخرج الحية ليلا وتتجول في المنزل/ تحرسه، وتعود قبل بزوغ الفجر.
وقتل (حيّة البيت) حرام وشؤم. حيث ترتفع الحماية والرعاية والبركة من ذلك البيت وتلك العائلة..
فهل هناك (إبليس صالح/ شريف).. إذن.. لماذا التطيّر والتعوذ من إسمه وذكره، طالما هو نافع وأمين وقوي ومخلص لهذا الحد.. والدليل أن الاغريق وضعوا صورته على ايقونة الحكمة.. وقد اعتبر الفراعنة الأفعى رمز الحكمة والكمال والسلامة..
هل تختلف مرموزية الحية باختلال الثقافات.. فالاغريق والفراعنة خلاف أهل التوراة.. والعكس صحيح فرضا..
(3)
الله، الانسان، إبليس..
من النصوص الطريفة والملغزة، هي قصة المناظرة بين إبليس وربّ العالمين في القرآن..
[إذ قال ربّك للملائكة، إني خالق بشرا من طين.
فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي،
فقعوا له ساجدين.
فسجد الملائكة كلّهم أجمعون.
إلا إبليس استكبر، وكان من الكافرين.
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ،
استكبرت أم كنت من العالين.
قال أنا خير منه،
خلقتني من نار، وخلقته من طين.
قال فاخرج منها، فإنك رجيم.
وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين.
قال ربّ فأنظرني إلى يوم يبعثون.
قال فأنك من المنظرين.
إلى يوم الوقت المعلوم.
قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين.
إلا عبادك منهم المخلَصين.
قال فالحقّ والحقّ أقول.
لأملأنّ جهنم منك،
وممن تبعك منهم أجمعين./ ص 38: 71- 85].
الله لا يردّ طلبا لإبليس. يعطيه كل ما طلب. بالمقابل، يتحدى إبليس الله في كل شيء، ومهما أعطاء، توعّده.
في هذه المناظرة، اثنان يتفاوضان، كل منهما يسعى لتدعيم سلطانه. ولكن المناظرة حوارية دمقراطية بلا مباطنة أو مكر. رفض إبليس مطاوعة الله في كل ما يريده، لكنه يؤمن بعظمته وجبروته المطلق. فالله أعظم من إبليس، وهو ربّ العالمين.
إبليس هو التاجر الحريص على دوام ونجاح تجارته. أنه ملك النار، ويسعى للحصول على وقود/ مواد خام لتستمر ناره الأبدية. والبشرية الجديدة فرصة جيدة، لجعلها وقود ملكوته، بدل الحشائش التي لا تصمد أمام النار.
الله لطيف ورحوم ورائق مع رئيس حراسه وخدامه السابق، لم يحكم عليه بالاعدام رغم أنه تمرد عليه وعصاه، ويسعى لتأسيس جيش معارضة ضدّه. والله لا يغضب، يمهلهم مليا، ويتوعد بحرقهم جيدا في المحشر.
بالنسبة لإبليس، عقوبة البشر لصالحه، فسوف يحصل على وقود للتدفئة.. ومن يدري، ربما يحترق الكون مرة، ويتحول إلى ثقب أسود..
إبليس -بحسب القرآن- ليس جاهلا، وهو يقرّ بوحدانية الله، ويؤمن بالبعث. لكنه رغم ذلك، خبيث، حاقد على جنس البشر الترابيين، ويجسد حقده بالانتقام منهم وخداعهم، فيحرفهم عن معرفة الله ويشكك قلوبهم ويرسلهم إلى الهاوية.
فالبشر، هم مادة إبليس، هم لعبته المفضلة، وفريسته المغرية. وهم وقود مدفأته/ مملكته القديمة.
ولعل غرور الانسان، وسعيه للتقوى والملاذ الجسدي والترابي، ما يقربه من مائدة إبليس.
فالتحدي، يحفز الاستفزاز. وكل من المسيحية والاسلام، تدعو لتحدي إبليس والدوس على رأسه.
لكن النص القرآني- متعدد الدلالات- يفيد أن إبليس هو اخطبوط، وليس مجرد فرد. انه فرد بمعنى الكثرة. ويرد في مواضع في القرآن لفظ (الشياطين) بصيغة الجمع/(جمع تكسير).
فكرة إبليس/ الشيطان لا تظهر مستقلة منفردة في النص الديني، وانما هي الوجه الآخر للملائكة الصالحين.
إبليس بحسبه، هو ملاك ولكن طالح. وأنه كان ملاكا صالحا ورئيس ملائكة، ولكنه تعرض للسقوط، نتيجة وسوسة نفسه له بالكبرياء والطمع.
[من شرّ الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنّة والناس/ الناس 114: 4- 6]
الملاك وابليس: وجهان لعملة واحدة. مثل السماء والأرض. مثل الليل والنهار. مثل الخير والشرّ. مثل الحديد والماء. ومثل كل الثنائيات الجدلية، التي لا وجود لأحدها بدون الآخر.
وفي مستهل التوراة: [كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله: ليكن نور، فكان نور/تك1: 2- 3]
فالظلمة قبل النور. الماء قبل اليابسة. شيء يولد من شيء. وفي الانجيل: (النور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه/ يو1: 5).. الظلمة هي المحيط/ الفضاء/ الكلي.. والنور هو الشعاع الضاوي وسط الكلّ.. خيط نور في دائرة مظلمة..
فالقاعدة التأسيسية للكون والوجود، بنية تركيبية مزدوجة، تصون كيانها في الصيرورة والسيرورة. وهي قائمة ازدواجية من اعلى الهرم حتى شذاذاته. ولقد تسنى للاغريق رصد ذلك بالمنطق والفيزياء، فوضعوا اصطلاحاته، وانصرفوا عائدين للنص البشري، وطرق تجويده وارتقائه بالفضيلة.
وذلك ما أخذ به زرادشت، في مثنوية أهورامزدا وأهريمان، قرني الوجود. وما على البشر إلا الانحياز لأحدهما، عبر تقليده، والعمل بوصاياه. فمن أراد النور والخير والصلاح، تقرب لملاك/إله الخير. ومن أعجب بالشر والشنار، اتبع أهريمان، وسار على خطاه.
ولم تستطع العقائد التوحيدية/ الوحدانية التي دعت لعبادة إله واحد خالق للكون وما فيه، التخلص من المثنوية، وذلك بتعديل شكلي، هو خفض قيمة المقابل، وجعله خاضعا للأكبر، ومنشقا عليه، بصلاحيات محددة.
(4)
من هو إبليس،، ومن هو معبود الناس..
الميثولوجيا الهندية أكثر بساطة ووضوحا من ميثولوجيات العالم.
الثقافات العالمية قائمة على المراوغة والعصبية والخيلاء والغرور، وكل ما يقتضيه من إفك وافتراء وتلون وتلبيس.
على غرار الزرادشتية، قالت الهندوسية بوجود إله مسؤول/ مختص بالخير والبناء هو (فشنو)، مقابل إله مسؤول/ مختص بالشرّ والدمار/(شيفو)، وهما اخوان من أب واحد. لكن الأب محايد لا يدخل في الصراع العالمي. والطريف ان توجه الهندوس في العبادة، يكون لأله الدمار والشرّ، ويدعونه: (بابا شيفو)، الذي يسترضونه بالتقدمات والصلوات الكثيرة.
وهذا يعيدنا لفكرة الالوهة الكنعانية، والممثلة بـالاله (ايل)/(البعل)- (إله الهواء/ العواصف). وقد تعبد أهل ذلك الزمان للبعل، وقدموا له قرابين دموية، هي المفضلة أو المطلوبة من قبله، ومنها قرابين بشرية وفق أساس البكر من كل شيء.
ولعل فكرة إله موسى: (ياهو/ يهوه) مستنسخة من صورة (البعل: إله الهواء والعواصف). ومعنى اسم (يهوه) في بعض المصادر: إله العواصف/ الرعد. وهي الصورة التي استعارها النص القرآني، حيث تتكرر صور: البوق، الصيحة، الرعد، البرق، الأجنحة.
من المعضلات الفكرية التي واجهت العقل البشري، سيما بعد النهضة والأنوار الأوربية، هي مغزى الشرّ في عالم، يحكم قياده والتحكم فيه: الله العادل الصالح القادر الجبار العالم العارف والمراقب لكل شيء، مهما بطن أو ظهر.
لم تقدم اليهودية أية شروح أو تفسيرات في مجال اللاهوت، قدر تركيزها على الكهنوت، والامتياز القومي لبني اسرائيل. بينما استفاضت المسيحية في عرض وشرح صفات الصلاح والنور والمحبة، فاصلة بين صفات البر وصفات الشر. لكنها لم تستطع فك التناقض بين أفكارها الصلاحية المطلقة، وبين الواقع الفاسد والشرير للعالم.
وفي خضم التناقض المسيحي العصي، بين لاهوت المسيح ولاهوت إبليس، استقى القرآن صورة مزدوجة للإله، تجمع بين ذروة القدرة والخلق والصلاح والمعرفة، وبين ذروة الدمار والمكر والتضليل. أنه الإله الأعلى فوق كل شيء، إله فوق التحديد والتأطير والفهم البشري/(ما يشاء، لا ما نشاء)/ (يهدي من يشاء، ويضل من يشاء/ فاطر 35: 8).
الله القرآن، والذي هو امتداد للأله الارامي والعبري والايراني والبابلي والهندوسي، لا يبالغ في الصلاح حدّ الغاء سلطان إبليس، كما في المسيحية. وليس الها شريرا كما في البعل لكنعاني ويهوه وشيفا الهندي، ولكنه أدنى للزرادشتية، مستبدلا المثنوية بالواحدية.
المثنوية فصلت الصالح عن الشرير، في كيانين منفصلين، وذلك هو في الزرادشتية والهندوسية والوثنية الرومانية. الله العربي هو الواحد مقابل ملاك متمرد: وكما أن الملك الناجح يجمع بين الشدة واللين، ويعرف ما يلائم كل وقت وشخص. كذلك الله يستخدم الصلاح والهدى لجماعة معينة، ويستخدم المكر والقسوة لجماعة ذات ظروف مختلفة.
وقد قدمت نصوص القرآن قراءات مفصلة لكلّ ما سبقها من ديانات وعقائد واختبارات نبوية ومجتمعية. وفي ذلك إجابة منطقية على أصل الشر في العالم. فإذا كان رب العالمين واحد، وهو صالح صلاحا مطلقا، فلا تبرير لهيمنة الشر في العالم.
كما أن المثنوية أو تعدد الالهة، لا ينسجم مع حالة التوازن والانسجام في الكون والطبيعة والأرض، وقد ناقش القرآن هاته الحيثية بتفصيل وتكرار أيضا. فتعددية الالهة غير منطقية، والمثنوية المنفصلة غير منطقية، والوحدانية الخيرية المطلقة غير ممكنة، ولا تجيب على التناقض العالمي.
لكن الانسان، هو معيار الخيرية والضرية في الوجود. الله ليس مصدر الشرور، ولا هو مصدر البر والخير. لقد أوكل كل شيء للانسان، عندما جعله خليفته في الأرض. فما يفعله الانسان الفرد، ما يفكر فيه أو يخالجه من مشاعر، ذلك ينمو ويزيد، ويجد صداه في محيطه. اعمل خيرا، ينتشر الخير. اعمل شرا، يتضاعف الشر أضعافا.
أما أن يكون الانسان قصير النظر، ضعيف العقل، فلا يعفيه من المسؤولية والحساب.
فكرة التجسد والحلولية هنا مهمة. فالعامل خيرا وصلاحا، انما يجسد جوهر الخير والصلاح، ويجعل جسده وعقله أناء لاحتواء الخير والصلاح. والعامل شرا وطمعا وأنانية وودونية، يسخر نفسه وجسده وفكره لها. وفي ذلك يؤكد القرآن: (أن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي/ يوسف 12: 53).
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ/ الروم 30: 41).
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ/ فصلت 41: 46).
(5)
أولاد إبليس..
[فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا
أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم .
لكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم
أنا أتكلم بما رأيت عند أبي ، وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم
أجابوا وقالوا له : أبونا هو إبراهيم.
قال لهم يسوع : لو كنتم أولاد إبراهيم ، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم
هذا لم يعمله إبراهيم ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني ،
وأنا إنسان قد كلّمكم بالحق الذي سمعه من الله .
أنتم تعملون أعمال أبيكم .
فقالوا له : إننا لم نولد من زنا . لنا أب واحد وهو الله
فقال لهم يسوع : لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني،
لأني خرجت من قبل الله وأتيت.
لأني لم آت من نفسي ، بل ذاك أرسلني
لماذا لا تفهمون كلامي؟
لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي
أنتم من أب هو إبليس ، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا .
ذاك كان قتالا للناس من البدء ،
ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق.
متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له،
لأنه كذاب وأبو الكذاب]- (يوحنا 8: 36- 44)
ان اعمال الفرد وأفكاره، هي بناته وأولاده. لكن النص الانجيلي يعكس المنظومة، وينسب المرء لأفكاره وما يصدر عنه. فعامل الشر هو ابن الشرّ. وعامل الخير هو ابن الخير. وبالاستعاضة، عامل البر هو ابن الله. وعامل الشرّ هو ابن إبليس.
ولكن ما الفرق بين ابن إبليس /(يرد في لغة المصريين: أولاد الأبالسه)، وبين عبودية إبليس/(عبيده)..
وكيف يميز كل امرئ نفسه على أرض الواقع..

(23)
تدافع التدافع..
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين/ البقرة 2: 251).
(1)
في (مارس 1917م) دخل الجيش الانجليزي بقيادة فردريك ستانلي مود بغداد، وفي (نوفمبر 1917م) صدر قرار بلفور في لندن بلسان الاسكتلندي: ارثر جيمس بلفور [1848- 1930م]/ زعيم حزب المحافظين ووزير الخارجية، في حكومة ديفيد لويد جورج [1863/ 1916- 1922/ - 1945م]/(ويلز) من حزب الأحرار البريطاني.
ما العلاقة إذن، بين احتلال بريطانيا للعراق، وقرارها باغتصاب فلسطين من سكانها وهويتها الثقافية؟..
احتلال بريطانيا للعراق، كان استكمالا لاحتلالها لمصر في تأريخ أسبق/(1882م)، وعندما توفرت الأرضية الغربية واستحكام قبضتها في المنطقة، جاء قرارها الخبيث في زرع (رجسة الخراب) في قلب بلاد العرب.
وهذا ينسجم مع منطق التاريخ القديم، عندما كان العراق ومصر، حواضن للجماعة اليهودية، من جهة، وأدوات ردع أنشطتها وتنامي أطماعها الاقليمية. وها هي بريطانيا تأسر مصر الفرعونية وبابل الكلدانية، في أغلالها، لتطلق العنان للخيال الصهيوني. بلفور هو كورش الثاني، ومسيح اليهود الجديد.
لكن بلفور، وحكومته بالنيابة، كانت له ثلاثة أهداف من قراره:
1- التخلص من اليهود ونفيهم خارج أوربا.
2- منع انتشارهم في شرق أوربا، وتهديدهم بلدان أوربا الغربية، ومنها بريطانيا.
3- التحكم بالجماعة اليهودية، واستخدامها لخدمة مصالحها ورغائبها، ولذلك انحازت بريطانيا لاغتصاب فلسطين، حيث موقعها الستراتيجي في قلب بلاد العرب، ومفترق المضائق والمعابر الدولية بين الشرق والغرب، ومنها، التحكم بقناة السويس وحركة الملاحة فيها.
فمنذ تلك اللحظة، لحظة استيلاء اليهودي بنيامين دزرائيلي[1804/ 1874- 1880/ 1881م] خلال رئاسته الحكومة البريطانية، على مقدرات قناة السويس/(1869م)، واستراقها من يد فرنسا، صاحبة الفكرة ومشروع التنفيذ الهندسي للقناة، رسخ في حسبان الانجليز، ضرورة تحكمها في مستقبل القناة ومقدراتها، ولأجله، كان زرع اسرائيل اللقيطة في المنطقة.
ولم تتأخر اسرائيل في احتلال سيناء في حربها/(1967م) ضدّ أهل المنطقة. وما تزال هاته القضية الساخنة، تستحضر أسبابها، تحت عنوان (أزمة/ صفقة القرن) التي تضع كيان (مصر) ومستقبلها على حافة الكارثة. ورغم أنها كانت السبب والمبرر، لظهور شخصية الجنرال عبد الفتاح السيسي/[1954/ 2013م- ؟]، وطريقة إزاحته لحكم الاخوان/(3 يوليو 2013م)، فقد عاد بنفسه، لتوقيع نفس الصفقة الخبيثة/(2019م).
ما يفرق بين صفقة السيسي وصفقة محمد مرسي، هو أن صفقة مرسي الاخواني كانت مع قطر، وصفقة السيسي العسكري كانت مع السعودية. وكل من السعودية وقطر، بغض النظر عن خلافهما المزعوم، يخدمان بالنيابة، ويعبران عن رغبة ومصالح اسرائيل، ومن ورائها الامبراطورية الانجلوميركية.
وهذا بأشدّ تلخيص، مغزى تشويه التاريخ، وتدمير المنطقة، لمجرد المبالغة في قيمة قناة السويس، الرابطة بين أوربا وبوابة أسيا. وهي مغالطة تاريخية، سوف تفقد مبرراتها وظروفها التاريخية عن قريب، سواء بتغيرات جيولوجية، أو ظهور وسائل نقل واتصال جوية، تغني عن المواصلات البرية، كما ألغت خدمة النت، الكثير من المفاهيم والانظمة التقليدية السابقة.
ان بريطانيا، بقرارها الخبيث، لم تؤسس لتفتيت النسيج العربي، فحسب، انما، قطعت الطريق على أي مطالبة فرنسية، أو محاولة استعادة دورها في القناة والمنطقة؛ وذلك بوضعها مباشرة أمام المشروع الصهيوني الامبريالي، وما يدعى (المسألة اليهودية).
ولكن، بانتظار التغير الوشيك، ستختفي الاقطاب الحالية: [انجلتره، اسرائيل، الولايات المتحدة الاميركية]، وتظهر خريطة سياسية واقتصادية وثقافية مختلفة تماما عن الغجر وأساليبهم الهمجية.
(نمتّعهم قليلا، ثم نضطرّهم إلى عذاب غليظ/ لقمان 31: 24)
وربما لمس بنو اسرائيل، هاته الثيمة غير مرة، في تاريخهم، ولم يعتبروا بها، لغلاظة أعناقهم المعهودة عنهم؛ أما المسخ البريطاني، فأدنى من ادراك جوهر التاريخ. وقد عرف أحدهم، أن يقيس أعمار الشعوب، بأعمار البشر، وفوت عليه غروره، ان شعوب بريطانيا، جزء من ذلك، لها وقت ولدت فيه، ووقت تزدهر فيه، ووقت تذبل وتنحط وتموت.
ولا ينفع الانسان غير عمله الشريف وذكره الطيب.
(2)
يهود سفاردم.. ويهود أشكناز..
المقصود بالأول هم يهود الأندلس، ويقال لهم: يهود الشرق، ودينيا: هم اليهود الأرثوذكس/ المحافظين؛ والمقصود بالثاني: يهود الغرب، ويقال لهم دينيا: الاصلاحيين، وهؤلاء، تزاوجوا خارج جنسهم، واعتنق البروتستانتية كثير منهم، من باب التقية.
هذا التفصيل المملّ، ضرورة لغرض التدقيق، وتمييز الأشياء والأشخاص، حسب توجهاتهم، وعدم الخلط واللبس على العمى.
وعندما تذكر (الصهيونية) اصطلاحا، فهذا يعني يهود الغرب/ الاشكناز، وكانوا موضع عناية وانشغال أغنياء اليهود ومنهم المسمى روتشيلد، بأذرعه الخمسة. وكلّ الدين السياسي في اليهودية واليهودية العلمانية، من منتجات الاشكناز. ولا شأن للسفاردم بالصهيونية ودولة اسرائيل وامبراطورية المنظمات الصهيونية في الغرب.
ومع انتشار السفاردم في الهند وايران وأسيا الصغرى، يمكن تسميتهم باليهود العرب/ العرب اليهود، والذين كانوا وعاشوا في بلاد العرب منذ أول ظهورهم، واستمروا حتى بلاد الاندلس والدولة العثمانية. ولما يزل بعضهم يعيش في بلاد العرب، أكثرهم في القسم الأفريقي، وأقلية في القسم الشرقي.
وقد انتهز بعضهم، ولما يزل ينتهز، شراء عقارات والمطالبة بتعويضات في بعض بلاد الشرق، وهؤلاء من يهود الغرب/ الاشكناز، ممن لا يجوز لحكومات الشرق والعرب الانخداع بهم، مهما كانت ضغوط بريطانيا وأميركا من ورائهم. ويختلف الأمر مع يهود الشرق/ السفاردم. وهؤلاء ليسوا ممن يفكرون بطرق الغرب المادية الخبيثة، علما أنهم يعيشون في الشرق، مع اختلاف البلدان.
وبالعلاقة مع العمليات البريطانية القيصرية، فأن الدعاة والمنفذين والغوغاء المستخدمين، هم من يهود الاشكناز، وهم اولئك الهاربين من غرب روسيا الى شرق أوربا. ويشكل يهود أوكرانيا وروسيا وبولنده، أغلبية المهجرين الى فلسطين، بدفع المنظمات الصهيونية، وعلى نفقات تبرعات الأغنياء الذين استأجروا لهم السفن.
ان يهود دولة اسرائيل، ليسوا من يهود الشرق، وانما من يهود الغرب، يهود روسيا وبولنده وأكرانيا، وهم من فقراء يهود الغرب. أما أغنياء اليهود الاشكناز، فقد أقاموا في أوربا الغربية، وانتقل أكثرهم إلى الولايات المتحدة الأميركية أولا، وبلاد أميركا الجنوبية ثانيا.
وعلى سبيل المثال، فأن ديفيد بن غوريون [1886- 1973م] وحاييم وايزمان [1874- 1952م] واسحق شامير [1915- 2012م] وبنيامين ناتان ياهو [1949م- ؟] هم من أول روسية وبولولونية، ومعظمهم قام بتغيير اسمه، متخذا اسماء شرقية/ توراتية قديمة، للتغطية على أسمائهم الأوربية. والمفارقة المخزية، في قصص هؤلاء، انهم أو عوائلهم، اعتنقوا البروتستانتية المسيحية، بمعنى الارتداد أو التنكر للديانة اليهودية.
وعندما يذكر ماركس [1818- 1883م] وفرويد [1856- 1939م] واينشتاين [1879- 1955م]، وكثير من يهود الغرب، فأنهم لم يعودوا يهودا، لاعتناقهم البروتستانتية، وترددهم على الكنيسة، وعمادهم وهم صغار.
لكن تصاعد النعرات الصهيونية، أعاد انتاج الثقافة اليهودية المهجنة، بأسس توراتية تلمودية، ومظاهر غربية عصرية، لمنح أنشطتها نوع من الشرعية الكتابية، والشرعية السياسية الغربية، والتي حظت بدعم من معظم الحكومات الغربية، ليس حبا وعطفا، وانما حقدا وزراية، لتسهيل تنظيف بلدانهم منهم.
وليس من الغرابة، ان يكون الامبراطور الألماني غليوم الثاني [1859/ 1888- 1918/ 1941م]، من أوائل الداعمين للصهيونية. ولوساطته، يعود الفضل في تقديم النمساوي تيودور هرتزل [1860- 1904م] للباب العالي والسلطان عبد الحميد الثاني [1842/ 1976- 1918م]. ولم تقف فرنسا مكتوفة الايدي، بما يكفي لاستفزاز غيرة لندن، لتنكب القضية، والفوز بنسبة الفضل إليها، كما في قرار بلفور الخبيث.
(3)
عدم شرعية استيطان الاشكناز في فلسطين..
كان من تهور مصطفى كمال [1881/ 1923- 1938م] القومي الاتحادي، وحقده على العثمانيين، أنه أهمل تاريخهم وتراثهم. ولولا تداعي فئة منهم، في حفظ ميراث الحكم العثماني [1299- 1922م] وأرشيفه السياسي والاداري في أقبية احد القصور، لما بقي للملأ، شيء يستأثر به، ومرجع يعاد النظر فيه.
ولا يعرف، في خضم الاهمال والفوضى، حجم الضياع والتحريف والتلف في الوثائق العثمانية القديمة.
من هذا الباب، افترى المؤرخون والكتاب المحدثون كثيرا على الحكم العثماني، وعبد الحميد الثاني تحديدا؛ فيما روجت مصادر غربية وصهيونية، منحه امتيازات وتعهدات ، تسمح باستيطان اليهود الوافدين في أرض فلسطين. بينما كان السلطان عبد الحميد حتى نهاية عهده، رافضا المطاليب الغربية والصهيونية، معترضا على ما يدعى بالهجرة اليهودية لأرض الأجداد.
ان جوهر محادثات عبد الحميد الثاني مع غليوم الثاني، تمحور حول الزيارات الدينية لبيت المقدس، لكلّ من اتباع المسيحية واليهودية، على السواء، وهو ما استفاد منه، كل من امبراطور ألمانيا مرتين، واصطحب معه فيهما هرتزل وجماعة من اليهود.
ان علاقة عبد الحميد الثاني، ورأيه في المسألة اليهودية/ (الشرقية) يحتاج إلى بحث موسع مستقل، بعيد عن التصحيف والافتراءات البريطانية والغربية، التي تزعم، موافقته على جملة السياسات الغربية في فلسطين، وفي مقدمتها، المشاريع الصهيونية والبريطانية الخبيثة، والعارية عن الصحة والصدق.
الأمر الآخر، الذي كان أولى بدراسته، هو الدور الألماني المزدوج، في حضانته وتحريضه للمطاليب الصهيونية من جهة، ودوره البديل، في استفزازهم ومساعدتهم، في وضع مطاليبهم، موضع التنفيذ/(السياسة الغربية ضد العرب والاسلام- منشورات دار التقدم). والواقع المرّ، أن ينتهي الدور الالماني الاميراطوري والجمهوري، في دعم اليهود ورعاية مطاليبهم، وذلك قبل دخول بريطانيا على الحاضر؛ أن ينتهي الأمر، بإدانة ألمانيا، ويختزل فيها اضطهاد اليهود، ودفع التعويضات، دون سواهم من أوربا.
بينما الحقيقة الطريفة، ان اليهود الذي تعرضوا للاضطهاد والطرد في بريطانيا أولا، وفي فرنسا واسبانيا وروسيا من بعد، وجدوا ملجأ لهم في ألمانيا. ولذلك كان عدد اليهود/ الاشكناز في المانيا أكثر من أي بلد أوربي. ولكن الثعلب الانجليزي، يعرف كيف يقلب المناضد والحقائق والثوابت، ويخدع بها العالم.
ان لغة اليديتش، ليست بريطانية ولا فرنسية ولا روسية، ولكنها: (عبرية ألمانية)، ولا زالت قواعدها النحوية وأصول صرفها، تعتمد على النحو والصرف في اللغة الالمانية. وهذا جانب آخر، من دور السياسة والثقافة الالمانية، في رعاية وخدمة الثقافة والعقل اليهودي، والذي أنتجت حاضنته ابرز العلماء والقادة اليهود.
وقادة الصهيونية/ أو اليهودية السياسية، نمت وتبلورت داخل الحاضنة الألمانية، ومن قبل علماء وساسة ومفكرين، من مواليد الامبراطورية الالمانية/(النمسا وألمانيا وبوهيميا)، مما يقتضي استذكاره، والاعتماد عليه في تصحيح المعلومات والحقائق التي وقعت ضحية الافتراء والتشويه البريطاني.
ورغم كراهية اليهود العامة لبريطانيا والانجليز تحديدا، وادراكهم لدورها الثعلبي الخبيث والمراوغ، وأنها ليست أهلا للثقة، حسب وصف بن غوريون [1881/ 1948- 1963/ 1973م]، لكن اليهود عموما، أدنى للبراغماتية وعبادة الانانية، من كشف الحقائق، أو احترام التاريخ، وتمييز معادن الشعوب والبشر.
ان كون يهود اسرائيل، من يهود الاشكناز ومن أصول أوربية [روسية، تشيكية، اوكرانية، بولونية]، هو عامل رئيس، في عزلة دولة اسرائيل، وعدم وجود ماضي مشترك ولغة مشتركة، مع المحيط العربي. وهذا يختلف تماما، مع اليهود الشرقيين، أو اليهود العرب، الذي لا يحظون بدور أو احترام في جدول المواطنة الاسرائيلية، التي يستأثر بها يهود أوربا.
ان الرابطة العربية العالمية للمطالبة بحقوق فلسطين الشرعية، ينبغى أن تستفيد، من مفارقة [أشكناز/ سفاردم] في اثبات عدم شرعية الهجرة اليهودية الى فلسطين منذ أيام العثمانيين لليوم. وأن الاشكناز، فضلا عن التشكيل في يهوديتهم، نتيجة مصاهرتهم غير اليهود، مما ينافي وصايا التوراة، ويخرج بهم من نسل الشعب اليهودي.
فمصاهرة اليهود للأوربيين، يسقط دعوى (أرض الأجداد) لمن لم يحترم وصايا الأجداد. ومن الجهة الثانية، فاعتناقهم البروتستانتية، وادخالهم العادات الغربية في العبادات، خرج بهم وبعبادتهم عن أصول اليهودية التوراتية، أو اليهودية الارثوذكسية.
ويستفاد من تاريخ يهود انجلتره، وعائلة روتشيلد العلمانية، وهو أول من أنشأ (فري سكولز) في لندن، منشقا على سلطة الحاخامات التي كانت تحتكر التعليم اليهودي؛ قبل أن يستدرج روتشيلد - بأمواله- عددا من رجال الدين اليهود، ويبني لهم معابد فخمة في شمال لندن، وينافس التعليم اليهودي التقليدي.
نحن بحاجة، للتعمق في هذا المجال، سواء في داخل الصراعات اليهودية بين اليهود، وبين الدين والتجارة، والعلمانيين والكهنة، أو بين اليهود ورؤسائهم، والمجتمعات الغربية وحكوماتها، وما تتضمنه من مراوغة ودسائس وصفقات، منافية للدين والاخلاق والأعراف الدولية والمجتمعية.
(4)
الحكومة الفلسطينية العربية..
حتى خلال الحكم العثماني، لم تعدم الاقاليم والولايات العربية التابعة لها، من حكومات وإدارات بلدية وإمراء وأعيان، يتولون تمثيلها ورعاية أمورها والذورد عنها إبان المعارك والأزمات والتخرصات الاقليمية والخارجية.
ان القراءات المعاصرة لتاريخ فلسطين، تكاد تعدم وجود ممثلية شرعية لفلسطين، أو أي إشارة الى وجود سكان قاطنين في أرض فلسطين التاريخية. والسؤال: من هو المسؤول على تحريف وتشويه تاريخ الجغرافيا الفلسطينية، ولماذا لم يظهر بين طبقة المتعلمين الفلسطينيين أو العرب، مؤرخون، يوثقون تاريخهم القومي من مصادر التراث والتراث الشفاهي، بدل تركه، لتلاعب الغرابوه والملفقين.
أليس من الضرورة توثيق تاريخ الاشجار والازهار الفلسطينية، كما قال محمود درويش [1941- 2008م].. أليس جديرا توثيق كلّ قرية فلسطينية قديمة وتاريخ تطورها واندثارها وتحولاتها العصرية، وأسباب تحريفها وتجريفها، بحيادية ونقاء ضمير.
ماذا فعلت اسرائيل بالجغرافيا الفلسطينية خلال القرن العشرين، وماذا جرى خلال فترة الانتداب والاغتصاب؟.. ماذا جرى في الشمال الفلسطيني، والجنوب الفلسطيني، في شرق البحر وغرب النهر، وماذا جرى في طبرية ووادي الاردن؟..
من غير الفلسطينيين، أهل الأرض، وأهل القرية والاقليم، أولى بكتابة تاريخ بلادهم، لكي يرفعونه أمام الأجانب من السياح والمتعاطفين، ولكي يفيدوا منه قريبا، حين تتغير معادلات الواقع وتنعدل ثوابت الجغرافيا.
هل فعلت بريطانيا كل هاته الأمور، من تحريف وتغييب التورايخ وقراءات الواقع، لوحدها، أم ان الخمول والخذلان العربي كان إلى جانبهم، وجانب كل عدو يتهددنا.
ان ما سجله التاريخ المدرسي عن تاريخ فلسطين، انما هو بائس وشحيح. ولقد نظرنا بأثر ذلك، وهو شأن غالبية المسلمين، إلى فلسطين، وكأنها تفتقد متطلبات (دولة) أو (شعب). وباستثناء عدد قليل من الشعراء، كان ثمة سؤال مجروح، أين الفن الفلسطيني، أين مطربو فلسطين، أين فريق الكرة الفلسطيني، أين دور المرأة الفلسطينية، أين الشعب الفلسطيني..
منذ قليل، ظهر جيل من الأغنية الفلسطينية.. السينما الفلسطينية.. الموسيقى القلسطينية.. لكننا ما نزال نفتقد تاريخ زهور فلسطين..
لا نعرف تاريخ فلسطين، قبل ظهور عرفات [1929- 2004م]، ومنظمات التحرير العشرة/(ضراير بلا نفع).. ولما لم يوجد حراك سياسي فلسطيني مستقل عن الشعارات والسمسرة، التي انتهت بصفقة مزاد، يقودها زعيم، تم استرضاؤه بربع قيمة جائزة نوبل/(19994م)، ليوضع بعدها تحت الحصار والاقامة الجبرية، ويموت في باريس في ظروف غامضة..
ان عدد كتاب فلسطين، هو عدد كبير. ونسبة الدكاترة والاكادميين، والمدرسين منهم في جامعات غربية، عدد كبير. ولكنهم، للأسف، ليسوا فلسطينيين. لو كانوا فلسطينيين بالهوية والانتماء والقضية، كما كان يهود الغرب، لتغيرت اعتبارات فلسطين والفلسطيننين، في المجالس الدولية.
ان أول من يخون القضية ، هم أهلها..
وما أشد المفارقة، بين أكاديمي فلسطين اليوم، أكاديميي الوجاهة الاعلامية، وعقدة الخواجا الغربية، وبين الادباء والمفكرين الفلسطينيين في أواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين حتى منتصفه..
فلسطين بحاجة الى دراسة أخطاء الماضي، منذ لحظة التخريص الصهيوني، بأرضها وتاريخ أشجارها وأزهارها وقراها ومدنها التاريخية..
فلسطين بحاجة لطلائع مثقفة أكادمية وأدبية وفنية ورياضية وزراعية وصناعية وصنايعية، تشكل (المجلس القومي الفلسطيني)، تأخذ على عاتقها دراسة وتوثيق كل صغيرة وكبيرة، بشكل مستقل ومحايد، وبعيد عن الاعلام والتهريج، والمزاودات، لحفظ التراث والانسان الفلسطيني أولا، وتضع مقترحات وتوصيات للواقع والمستقبل الاجتماعي الفلسطيني..
هذا المجلس يشرف على أنظمة المدارس ووضع المناهج التربوية المناسبة لبناء مجتمع ووطن ودولة متماسكة، أساسها الانسان والمجتمع والثقافة القومية، وليس العصرنة المهلهلة، والتملق الأجنبي والنفاق العربي والديني الذي يخوض فيه المحيط العربي المتردي..
استقلالية فلسطين هو أساس الانسان الفلسطيني الجديد..
الانسان الفلسطيني هو المثقف العامل المنتج.. بعيدا عن التهريج والرياء..
استقلالية الانسان/ المجتمع/ الوطن الفلسطيني، يبدأ باستقلاله من البترودولار والعروبة القوموية والاسلاموية، بنفس اقدر والمستوى، باستقلاله عن الاملاءات الغربية والتبعية العلمانية، واغراءات الدعم والرعاية والتوجيه الاعلامي..
ابناء اليوم، عليهم تجاوز تجربة منظمات الكفاح المزور والتحرير المصهين، ونبذ دعاوى المفاوضات واتفاقات السلم وترسيم الحقوق، مما هو مشكلة القائمين بالاغتصاب، وليس أهل الأرض. لقد فقد الفلسطينيون كل شيء تقريبا، على أيديى المفاوضين والسماسرة من قبل.
ولم يبق لهم غير أنفسهم، عقولهم وأرضهم، فليحافظوا عليها، ويستثموروها لإعادة بناء الوطن والمحافظة عليه، وتأهيله للمستقبل. فالمستقبل، هو من حق الشعوب الحرة، الشعوب التي لا تباع بالكلام ولغو السلام..
وانظروا وراءكم.. ماذا أثمرت الاتفاقيات والمعاهدات والجمعيات والأحزاب وخرافات الحوار والمدني، غير سقوط العرب والأنظمة والبلدان.. ألا يكفي ما حصل للعراق ولمصر ولبنان وسوريا وغيرها، غب قرن من المجاملات الكولونيالية والصهيونية.. هل من اعتبار..
(يتبع..)

(24)
(5)
(المسألة الأوربية)..
مشكلة اليهود هي مشكلة أوربية مسيحية/ اجتماعية تماما، تلاقحت مع المشكلة الجيوسياسية، وشكلت ظاهرة أوربية عامة، تنتقل من بلد إلى بلد.
عاشت الجماعات الأوربية صراعات مستميتة مع بعضها ، لتأمين وجودها وحدودها وسيادتها، بعد تهلهل الحكم الروماني. وعندما اختلت بنفسها، اكتشفت غياب/ شحة الأسس الاقتصادية والقيم المجتمعية الداعمة لبناء نسيج وطني، يدعم قضيتي الاستقلال والسيادة.
ان اوربا عموما، قارة شحيحة اقتصاديا وزراعيا، فضلا عن النظرة الخاطئة للعمل الزراعي/ العبودي من جهة، وقليل العائد المادي من جهة مقابلة. ولذا كانت القرصنة البحرية، مفتاح نجاة أوربا. وما من بلد أوربي/(بضمنها أميركا)، لم يكن اعتماده على القرصنة والغزوات البحرية، أساسا لبنائها الاقتصادي والمجتمعي.
مرت البلدانية الأوربية بعدة مراحل، منها ابتزاز الملك للسكان أولا، ومنها ابتزاز الأقطاع وملاكي الأرض للفلاحين والفقراء ثانيا، ومنها الحروب البينية، سواء داخل البلد، أو مع جيرانه، مثل حروب المائة عام، وحرب الثلاثين عام، ثالثا، ومنها اكتشاف الوجود اليهودي المتوزع بين البلدن، وقد بدأت تتراكم لديه رؤوس الأموال التي يبحث عنها الأوربيون، لتقويم استقلالهم وسيادتهم، رابعا.
وهاته هي (المسألة الشرقية)، بالتوصيف البريطاني، وأنا أسميها (المسألة الغربية)، بناء على ما تقدم.
اليهود بنظر الدول، المجتمعات، الكنائس الأوربية، هم (مشارقة)، يقطنون في الغرب ويبتزون خيراته، ويشوهون الصورة الاجتماعية والطهرانية لمجتمعاته العاجزة عن انتاج حاجاتها، والحياة بطريقة انسانية شريفة/(أي من غير نهب وعدوان)/ (وقوف المرء على ساقيه، وليس على أكتاف الأخرين).
وقد سبق التنويه، الى فارق السفاردم عن الاشكناز، والأخيرة هي المقصودة في هذا المقال، وهي التي وقعت ضحية الاضطهاد والاستغلال الأوربي والأمريكي، سياسيا ومجتمعيا. والحالة اليهودية/ صورة الشخصية اليهودية في أوربا، صاغها الفرد والمجتمع الأوربي، وانعكست عليها، مساوئ الصراعات الأوربية، ومحاولتها الاستقواء على قفا الآخرين.
وعندما تتمنطق أوربا العدل والحقوق والسلام العالمي، فعليها أن تفتح سجل معاملتها ونظرتها الشوفينية العنصرية لليهود، والتي انتهت بعد سلسلة من الاضطهادات والابتزازات، الى طردهم ونفيهم من المحيط الأوربي خارجا. سواء في أسيا وأفريقيا، أو الأمريكتين.
ولعل أفظع بلدان أوربا في ابتزاز اليهود، واذلالهم هي بريطانيا. بريطانيا التي ليست مسيحية بالمنظور الكتابي والأوربي، ولا هي علمانية بالمنظور العلماني الانساني، ولا هي شيء في أي شيء، غير التحايل والتطفل والابتزاز والفهلوه.
ولكن بريطانيا، أفضل من فهم العقلية اليهودية، واستعارها وتقمصها مع الزمن. والشخصية الانجليزية الراهنة، هي صورة هجينة للشخصية اليهودية، عقلية وطبائع وعادات وانعزال عن الاخرين وخوف من كل شيء. لذا تجده متربصا، وما يسميه البعض (مجاملة وانفتاح)، انما هو كسر حاجز الخوف، كوسيلة لتفكيك عوامل الرهبة من الغريب.
بريطانيا أول من طرد اليهود خارجها في القرن الثالث الميلادي، وأول من أسس للدعاية المعادية لليهودية، في مسرحية (يهودي مالطه)/(1589م) لكريستوفر مارلو [1564- 1593م]، ومسرحية (تاجر البندقية)/(1600م) لوليم شيكسبير [1564- 1616م]. والاثنان كانا مدعومين من البلاط والحكومة، ويدعون (رجال الملك).
(6)
بعد سقوط الاندلس/(1492م)، طردت ايزابيلا [1451- 1504م] وفرناندو[1452- 1516م] المسلمين واليهود من شبه جزيرة أيبريا. فاتجه كثيرهم نحو المغرب وتونس عبر المتوسط. وبعض اليهود تسلل الى ايطاليا ومنها الى الى فرنسا والمانيا.
اليهودي شخص عصامي، ينتج قوته بيده، ولا يركن للذلة والطفيلية. ولما نزل نذكر شخصية (اليهودي الجوّال) وهو يحمل الأقمشة والسلع المنزلية والنسائية، على قفاه ويدور في الأزقة والمحلات والقرى، لأيام معلومات خلال العام، وهو يبيع ويستبدل البضاعة بالاجل، ويعود بعد عام في نفس الوعد، دون ان ينسى مدينيه أو التوصيات والطلبات الخاصة.
هذا اليهود المكافح من أجل معيشته ووجوده، استثار انتباه الملك النورماندي في انجلتره عام (1070م) ليستقدمه من ألمانيا إلى مملكته، لقاء ضمانات ملكية بالحماية والرعاية (!)، مقابل العمل وتقديم نسبة ضرائب محددة، للبلاط، فضلا عن شروط اقتصادية أخرى.
كان اليهود، يتجولون في كل أوربا، ينتقلون من بلد لآخر بسبب المعيشة، والظروف الاجتماعية والسياسية المتبدلة بعوامل الأزمات والحروب والامراض. ولم يستقروا تماما، في البلاد الناطقة بالألمانية إلا بعد القرن السابع عشر. أما الغيتوات/ (أحياء مغلقة)، فكانت مفروضة عليهم من الخارج، المحيط الاجتماديني الرافض لمخالطتهم.
ودليلي على ذلك، نظام التوطين الانجليزي السائد لليوم، بالنسبة للأجانب الوافدين. ففضلا عن توزيع جغرافي للباكستانيين في برمنغهام، والهنود في مانشستر...الخ، وقطاعات خاصة بالترك والايرانيين والصينيين والعرب في محيط لندن. فثمة أحياء مغلقة بكل جماعة أثينية/ بلدانية، في المدن المتعددة دمغرافيا. فالبنجاب لهم أحياء مغلقة، والبنغال لهم أحياء مغلقة.
فالأحياء المغلقة/ (غيتوز) هي تصميم أمني انجليزي، لتسهيل السيطرة عليهم وصيدهم عند الحاجة. ومنعا لاختلاطهم مع سكان البلاد الأصليين، وهذا ينعكس على تشكيلات المدارس والصحة ومختلف الخدمات والأنشطة البلدية والثقافية.
فالغيتو، الملتصق اسمه باليهود، ليس يهوديا في أصله، وانما كاثوليكيا أولا، يعود لأسس الصراع والتمييز الديني بينهما، واستمرار اتهام اليهود بالسحر والهرطقة وقتل المسيح، وعدم الاعتراف بيسوع الكنائس. وكانت مناهج المدارس الأوربية تعلم التلاميذ جملة الاتهامات الدينية والعنصرية الموجهة لليهود حتى عام (1962م).
السبب الدافع لاستقدام اليهود للبلاد، كان العجز في الميزانية/(الخزانة)، وعدم قدرتها على تغطية نفقات الملك ومشاريعه وحروبه. في وقت كان ملوك انجلتره النورمنديون، يقودون حملة بناء واصلاح الدولة، بينما يواجهون حركة عصيان وتمرد ومعارضة من قبل أمراء المقاطعات وملاكي الأرض.
فاليهود المستقدمون، كانوا العنصر الثالث بين الملك الأجنبي والسكان؛ والبديل الاقتصادي ازاء تململ السكان من دفع الضرائب.
لكن السؤال، هو كيف يضمن الملك سلامة اليهود ورعايتهم، في وقت يواجه بعصيان سكان البلاد، ورؤسائهم. وقد استمرت تلك الازمات والاضطرابات الداخلية، حتى توقيع ما يعرف بالماجنا كارتا/(1215م) الضامنة لحقوق الاقطاع والنبلاء ومالكي الأرض، فضلا عن تنظيم العلاقة بين البلاط والسكان.
كانت الماجنا كارتا، حلا وسيطا لضمان حقوق النبلاء وحرياتهم، مقابل تحديد حقوق الملك وصلاحياته، ومقابل لاشيء للفرد البسيط. لكن الماجنا كارتا، وبما أنها كانت نتيجة لعصيان السكان وتمردهم ضدّ الملك الأجنبي. فقد شكلت أرضية لتنامي الروح الاستقلالية والوطنية في البلاد، ليس ضد الملك الأجنبي، وانما جملة الأجانب، وأتباع الملك.
فلا غرو، ان ينال اليهود في انجلتره، حيف كبير، جراء ذلك، انتهي بهم للنفي والطرد خارج الحدود، من غير تعويضات. وبعضهم اختفى عن الانظار، لبرهة، بانتظار جلاء الغمة.
الأدبيات التي تقول، ان اليهود طردوا من انجلتره، لكنه سمح لهم بالعودة بعد زمن. الواقع انهم لم يعود قبل مضي قرنين على طردهم، ولم يعودوا بنفس الضمانات والأعداد. ولكن أين هي الضمانات الملكية بالحماية والرعاية؟..
عدد اليهود في أفضل أوقاتهم لم يتجاوز [1- 1,25] مليون من اجمالي السكان. لكنهم تراجعوا إلى ثلاثمائة ألف بين الحربين/ وحدود مائة ألف في خيسنيات القرن العشرين، معظمهم من فقراء اليهود يقيمون شمال لندن.
لم يكن اليهود مخيرين في القدوم الى انجلتره. لقد كانوا ينتقلون من بلد تعيس، إلى بلد أتعس. ويبدو أنهم، كانوا يعتقدون بالعقاب الالهي لهم بالشتات والشقاء.. انتظارا لظهور المنقذ!.
السجلات الأوربية أيضا، ومنها تدوينات النت والغوغل، لا تأتي على نزعة العنصرية الأوربية ضد اليهود، والاحتقانات الكنسية ضد التلمود وأتباعه؛ وانما تنسب الأزمة إلى طبيعة الضحية، ونزعاتهم الاستقلالية في حركات نحميا وعزرا [536 ق. م.]، والثورة الحشمونية [140- 63 ق. م.]، والتمرد اليهودي خلال (67- 70م).
فالمشكلة هي عقدة اليهود الاستقلالية، وميلهم للادارة الذاتية لحياتهم، دون تدخل الأخرين.
أليست هاته نفسها عقدة الانجليز التي استعارها وتقمصها هنري الثامن، حتى لو كان ثمنها مروقه من الدين، وتحمله وزره ووزر المملكة إلى يوم اليدن. من يتحمل وزر الانجليانية الوثنية، وكل التحريف والتصحيف الذي أدخلته الملكية الانجليزية على الكنيسة وتعاليمها وكتابها المقدس؟..
(فإن كنت لا تدري، فتلك مصيبة.. وإن كنت تدري، فالمصيبة اعظمُ) - ابن قيم الجوزية [1292- 1350م]
ماذا عن طرد فرنسا لليهود، عقب اكتشاف بئر ماء مسمومة، اتهم البهود بتسميمها، وفد توالى طردهم من كل بلد أوربي، عقب أي اضطراب، اتهم اليهود بالوقوف وراءه. فضلا عن اتهام اليهود بأعمال السحر والشعوذة، التي كانت تنسب لها الأوبئة وكوارث الأمراض التي تجتاح أوربا من حين لآخر، ويتهم اليهود بها.
علما ان قصة اتهام اليهود في أوربا، تعود لأيام الاغريق، قبل ظهور الرومان، وأوربا الحديثة، ومنه مقولة الاغريق: أي مشكلة: صغيرة أو كبيرة، تحدث في أي مكان من العالم، لابدّ أن وراءها يهودي، بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومن يقرأ الانجيل جيدا، وسيما اعمال الرسل، يجد اتهام اليهود بمسؤولية جملة الاضطهاد في القرون الثلاثة الاولى للكنيسة. ان أول فرنكشتاين صنعته أوربا، بالاشتراك مع الكنيسة، هو (اليهودي). وما يزال فرانكشتاين العالمي مستخدما في الغرب، في صورة الحكومة الخفية والماسونية، وكارتل الرأسمال المكون من بضعة يهود، أو عائلة روتشيلدز.
ان الشيطان لا يمكن أن يوجد بغير ضحية، يلقي عليها لبوسه، ليأخذ هو صورة الملاك. وهذا هو الملاك الأوربي/ الرأسمالي، وقد سرّب كل آثامه ونجاساته، إلى (ثور) عزائيل!.
أوربا هي البريئة/ النقية/ الطاهرة/ الفاضلة/ العاقلة والعقلانية/ الكريمة والانسانية/ مثال القيم والخلق والفضيلة والتنوير المجاني.
وهؤلاء نحن، الشياطين، الابالسة، المتخلفين، النجسين، العالة، العنيفين، العنيدين، غير المتحضرين، الارهابيين، الدمويين، المفروض تجريدنا من كلّ شيء، وفصلنا عن نسائنا وأطفالنا، وارسالنا الى الجحيم والهمجية، حسب تعليمات النبي بوش الصغير، ووصيفه الملاك ترامب.
وعلى العالم، كل العالم، أن يتسع للفردوس الأوربي، الرأسمالي، العادل والطاهر، والحافل بكل انواع الحقوق المثيرة والمغرية، بضمنها حقوق الفردية المطلقة، والمثلية الشاملة، وكسر دابر العائلة والصداقة والمشاركة الاجتماعية، ما خلا شراكة الفيس والتويت المضادة للمس والحقيقة.
يوجد أوربا واحدة، تمثل الحرية والعدل والتنوير والحضارة والهيمنة المطلقة، بفتوى اله العالم الغربي. وكلّ البشرية ما خلا أوربا، تنقسم إلى حاشية وكومبارس وعبيد. وبطرد اليهود جغرافيا خارج المحيط الأوربي، صار واضحا، ان اليهود ليسوا من ضمن الحضارة والشخصية والجغرافيا الأوربية.
اليهود والهنود والعرب والافارقة والأمازيغ والجنس الأصفر والروس، كلّ هؤلاء، في الطبقة السفلية من الهرم الذي يتسيده الانجلوميركان. هكذا وليس سواه.. مضمون الميثاق الأوربي للحقوق والحريات والعدل الدمقراطي. ومن لم يكن أوربيا، فليرمها بحجر!.
أوربا كيان وهوية جيوثقافية، جيوسياسية، جيودينية واحدة موحدة، لا مكان لغير الجيوحضاري فيها.
وأنت تسطيع أن تكون أوربيا، علمانيا، تنويريريا، متحضرا حتى النخاع، لكنك -جغرافيا- تبقى خارج الجغرافيا الأوربية. تستطيع أن تكون عمدة لندن وواشنطن في وقت واحد؛ أكثر منه تكون رئيس الحكومة البريطانية على نحو عبدالله دزرائيلي [1804/ 1874- 1880/ 1881م]. لكنك تبقى أجنبيا، بدالة سحنتك وعروقك، وما يجري فيها من دماء غير زرقاء.
ان تكون عمدة أو وزير أو رئيس وزراء، فأنت عبد في خدمة المملكة والجالس على العرش. مجرد عبد/ خادم/ أجير. لا تجد وصفا لبنيامين دزرائيلي أنه انجليزي، لكنه بريطاني، والهندي والأفريقي وكل حامل جنسية بريطانية من الدرجة (عشرين)، هو بريطاني.
ولكن من هو الانجليزي رقم واحد. والانجليزي عموما أرقى في كلّ شيء من البريطاني الذي يشمل غير الانجليز. كل ما فعل دزرائيلي وأبوه، لا يساوي قلامة آظفر، من خدمات جندي انجليزي، خدم التاج في نقل الاسلحة على الحمير. لقد كان دزرائيلي يهودي الأصل، كما أن عمدة لندن مسلم بالاسم.
(7)
لماذا فلسطين..
لماذا لم يعين وطن لليهود في زاوية من أوكرانيا أو بولونيا، وهي من البلدان الهشة المستحدثة بفعل حروب ومنازعات أوربية أخيرة. ماذا كان ذلك سيضر الموازنات الأوربية، علما ان معظم اليهود المعانين والمقصود تهجيرهم، كانوا من أوكرانيا وبولونيا وروسيا.
وقد كانت أوكرانيا منطقة مشتركة للعب روسي- بريطاني، وهي اليوم منطقة لعب أمريكي- روسي، كما كانت وما زالت بولونيا، ميدان لعب ألماني- بريطاني.
إذا كانت حكومة بريطانيا معنية باليهود هكذا، فالأولى أن تجعلهم قريبين منها، ولا نقصد أن تمنحهم أحدى جزرها الكثيرة في بحر الشمال مثلا.
إذا كانت معنية بالفعل بقضيتهم، وليس لغرض سوء، لماذا تطردهم خارج حدودها الوطنية والامبراطورية والاوربية، ثم تنسب لنفسها فضيلة. كيف تصادر بلادا، وتطرد أهلها الشرعيين والقدماء قبل التاريخ، لتدفع تعويضا للجماعة اليهودية، أو لشخص ليونيل دي روتشيلد [1868- 1937م]، لقاء ديونه على بنك انجلتره والحكومة البريطانية.
لا هرتزل [1860- 1904م] ولا الحركة الصهيونية جاء على ذكر فلسطين. بل أن اشارة هرتزل العامة اتجهت الى أوغنده. ولم يكن تحديد الارض واردا، وكانت ثمة أراضي خالية يومذاك، كافية لاقتطاع موطن لليهود فيها. لكن نوايا بريطانيا المسبقة والمغرضة، اتجهت وعيّنت فلسطين، لأكثر من غرض.
زار هرتزل روتشيلد ثلاث مرات، كما زار بلدان أخرى للقاء أعيان اليهود وأثريائهم، وفي لندن انعقد المؤتمر اليهودي الرابع/(1900م). وقد أكدت الحركة الصهيونية أنها ليست حركة قومية علمانية، وليست حركة دينية.
وكل من فلسطين والقدس ثيمات دينية توراتية. وما يسوقه اليمين الاسرائيلي الحاكم اليوم، انما يمثل اتجاها يمينيا دينيا، يتعارض مع علمانية المؤسسين الأوائل. كما يتعارض مع الهوية العلمانية لواشنطن، عندما تتداعى لنقل سفارتها للقدس، بل أن تركيز بن غوريون [1886- 1973م]، كان على (النقب) والجزء التالي من سيناء.
بينما يظهر من محادثات السلطان عبد الحميد الثاني مع غليوم الثاني، وفي حضور هرتزل، أن عبد الحميد، اقتراح توطين اليهود في جنوبي العراق. ولم يكشف الكثير في هذا المجال، لكن هرتزل رفض الفكرة.
وعموما، كانت ثمة هجرات متعددة لليهود خارج أوربا، وليست هجرة واحدة. وهي..
1- موجة هجرة إلى الأرجنتين.
2- موجة هجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية.
3- موجة هجرة الى أوغنده والقرن الأفريقي.
4- موجة هجرة إلى فلسطين، وهي الأضعف.
وهذا يعني رفض اليهود أساسا القدوم إلى فلسطين. ولكن نسبة الهجرة تصاعدت مع الوقت، وبدفع وضغط من الجماعات الصهيونية ووكالات الدعاية والمافيات الصهيونية، التي لم تترك لليهود مجالا للاختيار، فضلا عن عدم اكتلاك اليهود تكاليف سفرهم، مما جعلهم ضحية لتحكم الصهاينة بهم.
كما أن روسيا، قامت بدور فاعل، في دفع اليهود للهجرة إلى فلسطين. وهي أول دولة اعترفت بقيام دولة اسرائيل.
مع العلم، ان الادبيات الغربية، تنسب نشوء المشكلة للضغوط الروسية ومعاملتهم السيئة في العمل والمعيشة، مما دفعهم للهجرة نحو أوربا، وظهور طبقة المثقفين الذي تبنوا القضية.
أما الدور الالماني المزدوج، في دعم اليهود وتمويل هجرتهم إلى فلسطين، وانشاء مراكز اعتقال وتصفية ومحارق لهم، فهو أمر يفوق احتمالات التصور.
مصدر المعلومات التي تتهم المخابرات الالمانية باحتواء المشكلة اليهودية، ورعايتها وتأسيس رابطة خاصة لتمويل احتياجات اليهود، ودائرة خاصة في المخابرات خاصة باحصاء اليهود وتجميعهم في أماكن محددة، وحمايتهم من أية اعتداءات تتهددهم، هو مصدر روسي
لكن المصدر الذي تناول اضطهاد المانيا لليهود، وأعاد الاتهامات والممارسات لتاريخ أسبق، يتهم مارتن لوثر [1483- 1546م] وراءها، وصولا للمعتقلات والمحارق النازية، فيقف وراءها البريطانيون والأمريكان. وكل من روسيا وبريطانيا واميركا كانوا ضمن (قوات الحلفاء)؛ معادين للألمان ضمن قوات (المحور).
ان التاريخ المكتوب والرائج اليوم، هو من انتاج بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. وكل ما تنتجه طهرانية الامبريالية الدكتاتورية، هو بمثابة مفاتيح الجنان، التي بموجبها يتم دخول الفردوس من الباب الخلفية. والبلدان هما مصدر معلومات ذاكرة غوغل.
أما موقف العرب من اغتصاب فلسطين، فكان منقسما كالعادة باتجاهين..
- فريق مؤيد للحلفاء، وشارك في الحرب ضد الدولة العثمانية، إلى جانب جيش الاحتلال البريطاني، وتحت راية اللنبي.
- فريق مؤيد للمحور، وله اتصالات مباشرة ببرلين.
والفريقان انتهيا عمليا، ولم يكن لأي منهما دور حقيقي فاعل، سوء الانشغال والتسلي، بيبنما يجري نحر الأضاحي، وتوزيع الغنائم، ليخرج الطرفان بخفي حنين. فريق لورنس واللنبي انتهى بائسا، مهانا. وفريق المحور، انتهى مع سقوط برلين. ولم يبق منهم غير الاتهامات، التي يكيلها لهم أتباع روسيا وبريطانيا.
الفريقان، اندفعا نحو السراب، ولسان حالهما يقول للسلطان العثماني: إذهب وربك فقاتلا: انا هنا منتظرون.
لا شيء عن الأرض. لا شيء عن الدفاع عن الأرض. ولا شيء عن الوطن. كلهم يحلم بالكيكة، وينتظر الكيكة. ليس أمس، ليس اليوم، وانما كل زمان. وكما وصف شكري القوتلي [1891/ 1955- 1958/ 1967م] شعبه لعبد الناصر [1918/ 1952- 1970م] في مستهل الوحدة: اقدم لك شعبا، نصفه وزراء خارجية، والنصف الثاني يحلم أن يكون رئيسا للجمهورية!.
القوتلي نفسه استقال من الرئاسة، بسبب هاته الصورة طبعا، وليس لأجل زعامة عبد الناصر، الذي فشل أخيرا في ادارة دولة الوحدة. وكل زعماء العرب فاشلون في ادارة شعوبهم. ربما حبا بالعيون الزرق، والدماء الزرق.
والغرب، يدرك جيدا، طبيعة العرب، وتناقضاتهم الاشكالية بين القول والفعل، وبين الحكم المباشر، والحكم بالنيابة.
لقد أهملت/ تجاهلت بريطانيا، وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وهي تصادره وأرضه، عطفا لمعاناة يهود أوكرانيا وبولنده وروسيا. وبعد نصف قرن منه، نشرت تنويها، فحواه، انه كان ينبغي مراجعة أهل الأرض في الموضوع. وبعد قرن على وعد بلفور/(2017م): نشرت أنها تعتذر عن عدم استفتاء أهل الأرض في الموضوع.
بريطانيا لا تعتذر عن الجريمة، لا تعتذر عن قرار حكومي سابق، انما تعتذر عن خلل فني، رافق تنفيذ الجريمة. بريطانيا لا تخطئ. وإذا أخطأت، لا تعتذر. على الضحية أن يخادع نفسه، ويعتذر للقاتل.
(يتبع..)

(25)
(لو كنتم عميانا، لما كانت لكم خطية؛ ولكنكم الآن تقولون: أننا نبصر، فخطيتكم باقية/(يو 9: 41)).
الشيوعية.. الصهيونية.. الامبريالية، وما بينهما..
(8)
بين المؤتمر الصهيوني الأولي في بال/ سويسرا/(1897م) وصدور وعد بلفور/(1917م) عشرون عاما. ولم يصدر وعد بلفور إلا بعد احتلال الانجليز لبغداد بتسعة أشهر. وباحتلال العراق، سيطر الانجليز على الاقليم الجغرافي الممتد من وادي الرافدين حتى وادي النيل.
لكن حدثا آخر حصل ذلك العام، لا يجوز التغاضي عنه، وهو نجاح الثورة الاشتراكية في موسكو/ (اكتوبر 1917م)؛ وذلك بقيادة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التي ضمت أثني عشر عضوا (تسعة منهم يهود)، بضمنهم فلاديمير لينين [1870/ 1917- 1924م]: المنظر الاشتراكي الماركسي وقائد الحزب والثورة والدولة.
ما هي الصلة العضوية بين تينك الأحداث الثلاثة، وهي أحداث تاريخية عالمية، مؤسسة لمستقبل العالم والمنطقة العربية تحديدا.
لقد بررت المدونة الغربية الامبريالية، قضية اليهود واضطهادهم، بممارسات روسية/(1882م)، دفعت مليونين ونصف يهودي روسي للهجرة غربا وجنوبا. بينما شكل اليهود طليعة الحركة الثورية الروسية، والمحرك الأساس لقلب الحكم القيصري، وبناء الاشتراكية السوفيتية. كم هي نسبة اليهود في روسيا؟!..
وفي نفس السياق، تستمر الصلة بين الانجليز والروس، بمثابة (العدو الحميم). ولا تنام لندن، إلا واحدى عينيها تراقب ما يجري في موسكو.
في خضم هاته التغيرات والأحداث العاصفة، في ظل ظروف الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية، كانت المنطقة العربية تشهد حركات واتصالات حثيثة، سيكون من نتائجها، ظهور جمعيات ومنظمات وأحزاب اشتراكية وشيوعية، ومسميات أخرى، لمضمون واحد.
ما هي الصلة بين الاحتلال الانجليزي للمنطقة العربية ونشأة الأحزاب الشيوعية في المجتمع العربي؟.. وكيف تتسق تلك الظاهرة، مع الظاهر على السطح، من عداء الشيوعية للامبريالية الرأسمالية والرجعية الدينية؟.. وقد نشأت التنظيمات الشيوعية في العالم العربي، في وقت مسلسل زمني وحقبة واحدة/(عقد العشرينيات من القرن العشرين)؟..
ان التاريخ، يشبه متحفا جميلا، على درجة من التنسيق والتواؤم والاعتبار، ولكنه لا يتصل بالواقع. لسبب بسيط، ان الواقع بشع، منفر ووحشي. ومتاحف العالم جميلة، بدء بتصاميم القصور التي تتضمن معروضات تاريخ مزعوم.
مشكلة التاريخ، انه يصنع لاحقا/ (تاريخ رجعي)، يدبجه كتبة الملوك، حسب هوى الملوك، وتلبية نزعاتهم النفسية البطولية والطهورية.
صلة الوصل بين الاشتراكية والرأسمالية هي اليهودية الاشكنازية. صلة الوصل بين الشيوعية والامبريالية الغربية هي شخصية اليهودي الاشكنازي. تلك الشخصية التي جرى التعتيم عليها وعلى نشاطها، في الحراك الاشتراكي العالمي والشيوعيات البلدانية، كما في الخدمات الامبراطورية/ الامبريالية، لبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية تحديدا.
بل أن العناصر اليهودية، كانت في صدارة الوظائف الامبريالية للاحتلال البريطاني لبلاد العرب، وفي المقدمة منهم برسي زكريا كوكس [1864- 1937م]، المندوب السامي البريطاني في ايران [1918- 1920م]، الذي نقلت مهامه إلى بغداد بعد عام (1920- 1923م).
عمل كوكس في الهند [1864- 1890م] وفي منطقة الخليج [1893- 1903م]، ساهم في الثورة العربية الشعبانية مع الحسين بن علي/(1916م)، ودخل بغداد مع الجنرال ستانلي مود/(مارس 1917م). ويعتبر مهندس مشروع الاحتلال البريطاني للعراق، على غرار قرينه اليهودي الامريكي من (أصل بولوني) بول وولفيتز/(مواليد 1943م) مهندس مشروع الاحتلال الأميركي للعراق/(2003م).
نخلص من ذلك إلى مجسم هندسي مثلث، تتوزع رؤوسه بين[لندن- موسكو- بغداد]، وشفرته (الشيوعية)!
(9)
قبل الاستغراق في تفاصيل اللغات والمصطلحات والمفاهيم والنظريات، ما كانت الأفكار الاجتماعية والاشتراكية والشيوعية اختراعات مسجلة باسماء أشخاص أو فئات؛ وانما كانت الهيئة الاجتماعية التي يدرج البشر فيها، وتتطور حياتهم ومنظوماتهم المجتمعية.
وفي اعتقادي، ان (المشاعية/ التكافلية) هي النظام الجتمقتصادسياسي الأول الذي عرفته الجماعة البشرية قبل التاريخ. ولم تكن يومها قد ظهرت أفكار السلطة والسيادة والملكية والدين. ولذلك لم تعرف تلك الحقبة من طفولة البشرية، ماهية الحرب والصراعات وسفك الدم، التي أوردتها التوراة والكتب البرهمية لأول مرة.
كما تعتبر قصة يوسف التوراتية وطريقة معالجته للسنين السبع العجاف، أو تأسيس عملي مسجل لنظام اقتصادي اشتراكي، قائم على الملكية والادارة العامة للأرض وأدوات الانتاج/(تك41).
ولم تُدرَس اقتصاديات كنعان والرافدين دراسة وافية مفصلة، للوقوف على مناهجها وأنظمتها السياسية والاقتصاجتماعية، بدل الأفكار السلبية العامة والنظرات العدائية الجاهزة التي وضعها الاستشراق بين يدي العالم. ولكن الشرق عموما، عرف التطبيقات والاساليب الاجتماعية التكافلية والمشاعية القديمة، ولم يتعارفوا العملة والحيازة والسلطة. وهي المعالم الثلاثة، التي تنتظر مشاعية ماركس التخلص منها ذات يوم، بينما يعمل الفريق المناوئ على ترسيخها وتضخيمها وادخالها في مل منافذ الحياة والبشرية، بدل الماء والهواء، ومن غير اعتراض أو مقاومة.
الغرب الشحيح، لو لم ينتزع وازعه الأخلاقي، كان أولى به، التعرف إلى التكافل الاجتماعي، الذي سبقه الشرق فيه، وعرفته غيتوات اليهود، وبشر به الانجيل في أعمال الرسل (4: 32): [وكان لجمهور الذين آمنوا، قلب واحد ونفس واحدة. ولم يكن أحد يقول: ان شيئا مما يملك هو له. بل كان لهم كلّ شيء مشتركا].
لكن عصر النهضة الاوربية وما تضمنه وأسفر عنه، قام على القرصنة الفكرية والتاريخية، على كلّ ما سبقه، وألغى أي دور للسابقين من غير الأوربيين، في حركة الفكر والحضارة. لذلك صدرت كتب التاريخ وهي تبتدي بالاغريق ثم الرومان ثم عصر النهضة الأوربية والعصر الحديث.
وذلك بالغاء تام، للعصر الاندلسي [711- 1492م] وقرصنة توما الاكويني [1225- 1274م] على كتابات ابن رشد [1126- 1198م] وأفكاره، واختزال تاريخ الاسلام والعرب، في صورة العدو الهمجي المهدد للحضارة والمدنية الغربية، دون تساؤل، أين كان الغرب عندما كانت المدنية والحضارة وحركة العلوم والمعارف واللغة والرياضيات والهندسة، تنبلج في وديان النيل والفرات.
بل أين تتلمذ فيثاغورس [570- 495 ق. م.] وافلاطون [427- 347 ق. م.] وغيرهم من عباقرة الاغريق، قبل أن يشتهروا، ويضعوا أعمالهم الخالدة، بتطوير وتنسيق أفكار المشرق القديم.
فلا غرو أن تظهر الاشارات الاشتراكية الاولى في كتاب (يوتوبيا)/(1516م) للمفكر والمستشار الانجليزي توماس مور [1478- 1535م] الذي أعدمه هنري الثامن، لمعارضته في: قانون السيادة، وقضية طلاقه من زوجته كاترين اراغون، ورئاسته البشرية للكنيسة في انجلتره. وفي كتابه (يوتوبيا) يعرض توماس مور، لمجتمع قائم على الملكية العامة للأرض وأدوات الانتاج.
أما مصطلح (اشتراكية) بالمفهوم المعاصر، فقد ورد لأول مرة في كتاب (مشروع جماعة فلسفية)/(1777م) للمفكر الفرنسي يوسف الكسندر فكتور دهوباي [1746- 1818م، الذي وصف نفسه في عام (1785م) كمؤلف مشاعيّ، وكان اول منظر للمشاعية العصرية، وهو تاريخ يسبق الثورة الفرنسية/(1789م).
وكان لدهوباي اسهام فاعل في المناقشات الفكرية والتنظيمية لما بعد الثورة الفرنسية، وكانت له مراسلات مع ميرابو [1749- 1791م] والنباتي الفرنسي بيرناردين دي بيير[1737- 1814م]. والمفارقة، ان يصادف عام وفاة دهوباي (1818م)، ميلاد الاشتراكي الالماني كارل ماركس [1818- 1883م].
ومن الاشتراكيين الرواد: البريطاني/(ويلز) روبرت أوين [1771- 1858م] الذي أنشأ مستوطنة مشاعية في انديانا باسم (التناغم الجديد)/(1825م)، والفيلسوف الفرنسي شارل فوريه [1772- 1837م] الذي بني عدة مستوطنات مشاعية في الولايات المتحدة الاميركية مثل مزرعة بروك/[1841- 1847م].
ويعتبر أوين مصلحا اجتماعيا، بدأ بالاصلاح من نفسه ومن واقعه الشخصي، إذ بدأ عاملا في سن مبكرة، حتى صار شريكا في المعمل، وطبق أفكاره الاجتماعية الاصلاحية في معمله، متخذا لذلك عنوان (الاشتراكية). وقام بنشر أفكاره وتطبيقها في أنحاء ويلز وسكتلندا وانجلتره، حتى عبر البحار. وقد اعتمد العمل التعاوني الجماعي طريقا للاصلاح.
قام اوين بخفض ساعات العمل من (17- 10) ساعة في اليوم، وامتنع عن تشغيل الأطفال تحت سن العاشرة، وامتنع عن نظام الغرامات التي كان ارباب العمل يفرضونها على العمال. كما أنشأ مدارس قريبة من المعامل لأبناء العمال. قام بدعم الورش الصغيرة، بدل المعامل الكبيرة. وفي وقت لاحق اتصل بالحكومات وحثها على استصدار عدة تشريعات اصلاحية لصالح العمال والطبقات الفقيرة.
محور اهتمام أوين هو (الانسان: ذلك الفرد)، وليس (التاريخ) أو (السيادة) مما التبست بهما العقدة الأوربية. وهو في ذلك يتمثل الهم الأساسي لفكر التنوير الفرنسي، داعيا للعناية بالبيئة الاجتماعية الحاضنة لنشأة الفرد. وبحسبه، ان الانسان ليس شريرا، ولكنه يتطبع بمؤثرات بيئته وملامحها، فتنطبع في ذاته وسلوكه.
فالبيئة الطبيعة المشذبة، النزيهة من الأغراض والأطماع والنعرات الايديولوجية، تتكفل ببناء شخصية بريئة مستقلة من البصمات والسياط الفكرية لآلهة أرضيين، يفرضون وصاياتهم على الناس رغما عنهم، دون ترك حرية الاختيار للفرد في ممارسة حياته المستقلة.
اولئك الذين الغوا (الله) ووصاياه الاخلاقية، ليضعوا أنفسهم في محله، وينظروا للبشرية ما يجب وما ينبغي، ونسوا في خضم ذلك، انهم بتعاليمهم الشوفينية، ركسوا البشرية في خانة العبيد، خانة (البشر القاصرين عقليا ونفسيا)، عن صناعة حياتهم واختطاط سبلهم، والتمتع بالحرية الطبيعية التي هي حق مقدس لكلّ فرد.
الحرية بالمفهوم الحقيقي الطبيعي، وليس بالمفهوم المادي النسبي البرجوازي، الذي يجعل الحرية (مكافأة) يكفلها النظام السياسي والحزبي، لمن يطيع وصاياه وتعليماته. ولقد أدرك روسو [1712- 1778م] وفوريه وأمثالهم، أهمية الانسان كطاقة هائلة حرة في الوجود، وليس كمادة خام تقوم الأقلية/الطليعة باستغلالها وتوجيهها، حسب هواها وأغراضها، مختزلة انسانيته واخلاقياته، ليكون مجرد (عبد مسلوب) أو (ماكنة/ روبوت).
ولأجل ذلك، رفض اوين مبدأ (الربح) الذي هو أساس المتاجرة، معتبرا (التجارة) أساس الشرّ والفساد في العالم. ان الربح الذي يضيفه المنتج/ التاجر لرفع (سعر السلعة) هو (جريمة اقتصادية/ اجتماعية)، تولد أرضية لشبكة جرائم بشعة، من نتائجها اشتساع مساحة الفقر بين الناس، وتركز القوة الاقتصادية في فئة قليلة من اللصوص والمرضى نفسيا وعقليا.
وهذه هي الكارثة التي يعيشها العالم الرأسمالي اليوم، وتنعكس شروره على البشرية، عبر شبكة سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذي يغالي في الارباح والديون وفوائد الديون، ليجعل من عموم البشرية ومجتمعاتها، قطعان عبيد تخدم (رأس المال) وتعبد (الدولار الأمريكي).
عبادة المال وتأليهه، وراء كل الاسفاف والانحطاط، والجفاف الاجتماعي والانهيار الاخلاقي العام، الآخذ في الانتشار في كل البلدان الخاضعة لديانة المادة وعبودية القروض الدولية وضرائبها التصاعدية. ولو أخذ العالم العاقل بمبدأ روبرت أوين في (حظر الربح) والبنك اللاربوي الشريف/(غير الملتوي)، لاختزل الكثير من ملامح وضاعة عصرنا الراهن.
حظر الربح يعني ايضا تحديد الانتاج حسب حاجة المجتمع: [العرض = الطلب]. لكن الطمع والجشع/(غياب الاخلاق والقيم)، يدفع المنتجين لاغراق السوق بالسلع، مستخدمين وسائل الاعلان والجاذبية غير الاخلاقية، لخداع المستهلك؛ (بضمنهم الأطفال والنساء)، لتوريطهم في شراء أشياء غير ضرورية، تتحول إلى نفايات منزلية وشيكا.
ان تغول الاقتصاد الاستهلاكي، قاد إلى مزيد من تغول المنتجين والمستهلكين، وفي سباق مسعور، للحصول على درجة السبق والأرقام القياسية، في المبيعات والمشتريات، وبالشكل الذي قاد العالم للخروج عن سويته البشرية. ولعلّ مناسبة عيد الميلاد من امثلة السقوط الاخلاقي للاقتصاد السياسي الغربي.
يبدأ سعار (كرسمس) في الغرب من أواخر سبتمبر ويتم تزويق المحلات والشوارع والأسواق، ونشر الاعلانات واللافتات وطباعة كتب الدعاية والتنزيلات، مجللة بحبال من الاكاذيب وأساليب النصب والفهلوه. وما أن ينبلج شهر يناير، تتداعى وسائل الاعلام لنشر نتائج السعار التجاري، وبيانات الشركة والسوق، الذي حقق أكبر مبيعات وحجم ارباحه المذهلة.
في الأعوام الأخيرة، فقدت أعياد الميلاد جاذبيتها وقيمها الاخلاقية، ومعناها الديني من جهة، ومن جهة أخرى، صار الناس أكثر وعيا بأفلام التفاهة التي تسوقها الشركات الاستهلاكية مدعومة باقطاعيات الحكومة. لكن المهزل، ان تبتلع الدعايات المجتمعات غير الأوربية وغير المسيحية في السعار التجاري اللاأخلاقي لعيد الميلاد.
وسواء في أسواق لندن أو العواصم العربية، تروج موجات استهلاكية، في حالة غير عادية من غياب الوعي والعقل، واختزال القيم الدينية والخلقية، لتهريب الأرصدة الوطنية من المال والعملة الصعبة خارج الحدود، ولزيادة الشق بين الأغنياء جدا، والفقراء جدا.
ان العالم اليوم لهو أحوج لعودة للمبادئ الأخلاقية للاقتصاد الوطني، وحظر كلّ وسائل التجارة والاعلان والتهافت المادي، ذلك إذ اراد بلد ما ومجتمع ما، أن يخرج من مستنقع الرأسمال والعبودية البنكية للصندوق الأمريكي.
ومن مؤلفات روبرت أوين: محاولات في تشكيل الطبع البشري/(1812م)، العالم الاخلاقي الجديد/(1845م)، ثورة في وعي ونشاط الجنس البشري/(1849م)، سيرة ذاتية/(1857م).
من الاشتراكيين الرواد: الفرنسي شارل فوريه [1772- 1837م] الذي دعا لاشتراكية تقوم على المشاركة الاختيارية، يتطوع فيها الفرد بمحض اراداته وحريته، ويقوم فيها بالعمل الذي يختاره بنفسه، ويتقاعد في سن (28 عاما) ليقوم بأدوار اجتماعية وتربوية، ويأنس بقية حياته.
من ملامح نظرية فوريه، عدم اشتراطه الغاء الملكية، ولكنه يركز على التشاركية في أدوات العمل والاستهلاك والمعيشة. ولكونه من المؤمنين بالقيم الخلقية، اقترح على أشراف الموسرين، تبني المشروع، وبناء مجتمعات قائمة علىالجمعيات التعاونية المساهمة، كل بحسب قدرته وحاجته.
ففي حين رفض لروبرت أوين مبدأ (الربح) باعتبارها اداة استغلال ودمار المجتمع؛ رفض شارل فوريه فكرة (التجارة) واعتبرها أساس الشرّ والفساد في العالم. ومن حكم العرب القديمة: (كثرة البيع والشراء، تنقص الحياء).
وفي القرن السابع عشر، رفضت طائفة البيوريتان/ الطهوريين المسيحية، مبدأ الملكية الخاصة، في تعاليمها التنظيمية. وقد اشار الماركسي الالماني اليهودي ادوارد بيرنشتاين [1850- 1932م] لذلك في كتابه: (كرومويل والمشاعية)/ (1895م) لموقف طائفة البيوريتان المعروفين بالحفارين، بأنهم من رواد المشاعية.
كان بيرنشتاين عضوا في الحزب الاشتراكي الالماني منذ (1772م)/(حزب العمال الاشتراكي الدمقراطي-برنامج أيسيناخ). كما اعتبر بيرنشتاين منظرا ماركسيا اشتراكيا، لكنه انتقد النظرية المادية في التاريخ، كما رفض اجزاء من الماركسية القائمة على الميتافيزيقا الهيجلية، فضلا عن رفضه ديالكتيك هيجل.
وقد مايز بيرنشتاين بين الافكار المبكرة لماركس المتلبسة بالعنف كما في (البيان الشيوعي)/(1848م)، والمرحلة المتأخرة/ (الناضجة) من أفكاره، التي ترى امكانية تحقيق الاشتراكية بوسائل سلمية.
(10)
آراء وليم كار [1895- 1959م]..
وليم كار من مواليد انجلتره/لانكشاير. في الرابعة عشرة من عمره، عمل في البحرية البريطانية ومارس وظائف عدّة، شارك في الحربين: العالمية الأولي والثانية. كما عمل في وزارة المعلومات والاستخبارات والمكتب الصهيوني. زار المنطقة العربية ودرس في الجامعة العبرية والكندية.
يتميز وليم جاي كار بأفكار ورؤى واستنتاجات مختلفة، وغريبة نوعا ما عن محيطه الثقافي الانجليزي واليهودي، وهو لا يخفي ولعه بالشهرة وركوب التاريخ، مما يقتضي التملي والحذر في التعامل مع مزاعمه، ودعاواه الفاضلة. ويبقى أنه صاحب ما يعرف بـ(نظرية المؤامرة)، وفرضية الحروب العالمية الثلاثة/(ثري وورلد وورز)، التي تحققت منها اثنتان، والثالثة على وشك ترامب.
ويعتمد ذلك على بحث وضع مخطط قائم على مزاعم وافتراءات، تكون أساسا لتأجيج السعار بين طرفين، مع انشاء تحالفات وتكتلات يدعم كل منها احد أطراف النزاع. وتذكر هاته الفكرة، بما ينسب لبول وولفيتز في فكرة تطوير (التهديدات الوهمية) واعتمادها أساسا لسباق التسلح واطلاق الحروب.
ويعرف أن سياسة الحرب الباردة، وسباق التسلح والفضاء بين موسكو وواشنطن، كانت من نتائجها الكارثية. كما كانت أزمات الشرق العربي وتوترات الخليج، التي تكللت بسلسلة الحروب المتتالية ضد العراق، وصولا إلى الاحتلال الشامل للعراق، من تطبيقاتها العملية. ولا ننسى، اعلان بوش الصغير الشهير بعد اسبوع من الاحتلال، تكذيب اتهاماته بامتلاك العراق للسلاح النووي.
رأى وليم جاي كار، ان الغاية من الحرب العالمية الاولى، كانت تمكين الشيوعيين من قلب الحكم القيصري، وجعل روسيا مركزا الالحاد العالمي. ولذلك انسحبت روسيا من الحرب، فور نجاح خطتها. وبعد الحرب، وضعت مخططها في (تصدير الثورة) للبلاد الأخرى، بنشر ممثليها وأشياعها، وترويج أفكارها الالحادية والتخريبية، وصولا لقلب الأنظمة واشاعة الفوضى الاناركية حول العالم.
وإذا كانت الحرب العالمية الأولى [1914- 1918م] نجحت في شق العالم إلى [شرق- غرب]، [رأسمالية- اشتراكية]؛ فأن هدف الحرب العالمية الثانية، تكلل بفصل الجنس العبري عن الجنس الاري، واستعدائهما ضدّ بعضهما البعض، وبشكل وفر أرضية منطقية لتأسيس الدولة الصهيونية في فلسطين.
ومن المفارقة، أن يترتب على الحربين العالميتين، انتشار اليهود وتنامي دور الصهيونية في السياسة الدولية، جنبا إلى جنب، انتشار الأفكار والأحزاب الشيوعية في العالم، وفي بلدان الغرب تخصيصا. وبضمنها بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.
ولعلّ ادراك ما ورائية المخطط الماسوني/ الصهيوني/ الشيوعي، ما استفز الهوية الاصولية المسيحية في كلّ من بريطانيا والولايات المتحدة الاميركية وألمانيا، كحصانة أخلاقية وردّ فعل تنامي النزعات المادية الالحادية واللااخلاقية. تلك التي وجدت روجها وسوقها المفتوحة، مع تيار العولمة.
فلا غرو.. ان يكون (الدين) هو محور الحرب العالمية الثالثة، وبالشكل الذي تردد في عهد الجمهوريين الأمريكان: ريغان [1911/ 1981- 1989/ 2004م] والبوشين: الأب [1924/ 1989- 1993/ 2018م] والابن [1946/ 2001- 2009م/ ؟] وترامب [1946/ 2017م- ؟] الحالي.
وقد استخدم وليم كار المصطلحات والمفاتيح التوراتية والمسيحية، لتأويل وتفسير مجريات العالم، وسلسلة الافكار التي تتقمص البشر، وتنتج منها تيارات وموجات، عابرة للحدود والثقافات بشكل متتابع، ولكن صعب على التفسير المنطقي.
ومراجعة بانوراما التيارات الاجتماعية والدينية والقومية عبر القرن العشرين، يجد خليطا غريبا، وجد حاضنة خصبة بين مجتمعات الغرب والشرق، بما فيها التي تتناقض معها في أسبابها ومبادئها. ويمثل العالم العربي وما ماج على سطحه، من أوضح تلك الأمثلة.
بحيث أفرز انزياحات فكرية وأخلاقية كبيرة، بين عرب بداية القرن العشرين، وعرب بداية القرن الواحد والعشرين. ومع ذلك، يصف البعض العرب بالجمود والتخلف. بيد أن ما حصل على أرض الواقع، لا صلة له بالتطور والعقل، قدر ما هو الضياع، والتشبث بنهاية العجلة.
أصدر وليم كار عدة كتب لشرح أفكاره، منها (أحجار على رقعة شطرنج)/(1955م). والاحجار هي البلدان والمجتمعات، التي تلهو بها المنظمات السرية العالمية، وتتحكم بحركتها واتجاهاتها من خلال نشر إشاعات وأوهام ومزاعم، يتم ترويجها في أكثر من مكان وعبر أكثر من مصدر، وبشكل يؤكد أحدها الآخر، حتى ينطلي أمرها على الناس.
ولعل الطريف، ان مشاهير ساسة الغرب منذ القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين، هم بيادق وأحجار، وقعوا تحت نفوذ المنظمات السرية: ومنها الـ(نورانيون)/(1776م) والمحافل الماسونية. والهدف العام للمنظمات السرية هو تدمير العالم أو إضعافه، بحيث يسهل السيطرة والتحكم فيه، تحت يدهم.
ويبدو أن العولمة، ومبادئها القائمة، على تدمير الثوابت والتحلل من القيم، والغاء الحدود السياسية والأخلاقية والدينية والثقافية، وجعل الالحاد والكفر والفساد والشر والابتذال مظاهر عادية وطبائع عامة، وأمثلة نموذجية للاقتداء بها عبر شاشات السياسات الاعلامية والاعلانية، والتي يسيطر على شبكاتها الرئيسة ثلة من اثرياء الصهاينة، أو التابعين الخاضعين لهم.
وهذا ما يقتضي من الفرد أن يكون سيد نفسه، ويتجنب التقليد والانسياق في موجات وتيارات، قد تبدو مثيرة ظاهرا، وتلتقي مع نزعاته المراهقة في التمرد والانانية ولكنها تنتهي به، لما تبلغه جلسات (الكيف) والتدخين والتحشيش الأعمى.
التقليد والموضة وشارات التحضر والعصرنة والعلمنة والتطور والاشتراكية والانسانية والشيوعية والالحاد، وقائمة طويلة من التزوير والتدجيل، التي جرى نقلها من الغرب الى الشرق المنغلق، هي أدوات الشر واللعنة، التي تلقفها شبيبة الشرق على عماء، وأورثوها ذويهم ودوائر علاقاتهم، فكان عليهم وزرها ووزر من عمل بها.
ومن مؤلفات وليم كار: صنع عالم واحد: سرقة أمة/(1952م)، الأمم المتحدة، بيادق في اللعبة/ 1955م، الشيطان أمير هذا العالم، ضباب أحمر يعلو سماء أميركا، مؤامرة تدمير الدول والأديان.
ان افكار وليم جاي كار، تشكل أرضية خضبة لبناء السياسات الأمريكية والبريطانية والسوفيتية/ الروسية، وقد ظهرت أجيال متحاقبة من باحثين ومنظرين غربيين، نهلوا منها في تصوراتهم وتخميناتهم لمسقبل العالم، وكيف ينبغى أن يتم التصدي له.
(يتبع..)

(26)
تعددية التاريخ.. تعددية التأويل..
(11)
لماذا ينبغي أن يكون ثمة تاريخ واحد؟..
إذا كان لكلّ شيء مادّي أكثر من وجه، فهل يحتمل الالمام بكل وجوهه؟.. ومن هو ذا العارف الشمولي الذي يجيد ذلك، ولا يعتوره الخطأ؟..
إذا كان الأمر هو ذلك مع (المادة) المنقسمة إلى فيزياء وكيمياء، فأن الأمر مختلف تماما مع (الانسان)، بله، الكائن الحي، الذي ينقسم الى بيولوجيا ونفسية واجتماع وأشياء أخر..
وهل الوعي والادراك والفكر والتعبير، هو نسخة موحدة جامدة، مثل السلعة على رفّ المتجر؟..
فاثنان يشهدان فيلما واحدة، أو مباراة رياضية، أو حادث طريق؛ لكن تقرير كلّ منهما ورأيه في المادة المنظورة مختلف، وقد يصل الاختلاف درجة التناقض. مأساة الواقع، مأساة البشر، هي السلطة. والسلطة هي التي تنتقي صنفا محددا من القمصان، تسميه (قميصا)، وتبخس كلّ ما عداه.
ان البشرية هي ضحية التبخيس. ضحية رأي مستبد، يتم تحويله إلى ديموغاجيا التاريخ. هاته الواحدية/ التوحيدية/ الأحدية في القراءة والنظر، هي أساس تمرغ الجماعة البشرية في الوحل. وهذا هو حال الدين، حال المدرسة، حال الدولة، حال القبيلة، وحال العائلة.
فلان هو القاتل، رغم عدم كفاية الادلة. ما لم يناقشه القضاة ورجال القانون؛ أن تينك (الأدلة غير الكافية) يمكن أن تنطبق على نصف السكان، وليس على بائس الحظ الذي دعي متهما، لمجهولية الحادث، أو لجهالة النظام الأمني والقانوني في البلاد.
عندما ننظر للتاريخ من هذا المنظور، فأننا نفكك كلّ أسس ومبادئ المعرفة المتراكمة، التي قامت عليها المعتقدات والاراء والنظريات والنظم. ومن غاية الحمق، تقسيم الأنظمة الاجتماعية إلى (سلع جاهزة)، ونؤسس التوصيفات/(باسم العلم والتطور)، كمفاهيم جاهزة، لا ينالها الشك أو الاختلاف من قريب أو بعيد. وفي ذلك كثير من التصنيم والتأليه والتجمبد.
لكن المسؤول وراء ذلك هو الفرد، الفرد الذي يتخلى عن عقله ويضعه تحت سكين القصّاب.
من هو الحرّ/ المستقلّ، هذا اليوم!.
من هو سيد ذاته؟..
أين هي الارادة الحرّة بعد قرون من جان جاك روسو [1712- 1778م]، أو عمر ابن الخطاب [584- 644م]؟..
معظم بشرية اليوم، مصنفون في خانات. معظمهم يحمل ألقابا مجانية، أو ينتسب إلى مسميات، ويخضع لمؤسسة أو أشخاص، يسميهم قادة، أئمة، رفاق، علماء، شيوخ، زعماء.. أي شيء غير جدير بذاته. النبي والامام والشيخ الكبر والزعيم والرفيق القائد والمنظر ، كلهم يتمتعون بدرجة من المعصومية والقداسة والمقام فوق البشري.
البشرية لم تتحرر من العبودية. العبيد الذين أفرج عنهم، وأسقطت عنهم الأغلال، رجعوا للبحث عن أغلال يركسون فيها حبا للسلامة، وامعانا في الطفيلية والاتكالية.
هذا ما حدث تماما في عام (1925م) في السودان، عندما ألغت السلطات البريطانية (الرقّ) في السودان، عانى كثير من العبيد حالة ضياع لافتقاد المسكن والمأكل، وهرب كثير منهم للغابات، لعجزهم عن ممارسة الحياة العادية الحرة الخالية من الأوامر والتوجيه والأغلال، داخل مجتمع المدينة.
وكانت النتيجة، ان بعض العبيد، أخذوا دور (السيد/ الاقطاعي/ النخاس)، واحتضنوا زملاءهم العاجزين عن ممارسة الحياة والتفكير والاختيار الحر. ان غالبية أبناء اليوم، من هذا القبيل. انهم أبناء قطعان. وعندما يجد أحدهم نفسه خارج القطيع، يشعر بالضياع، ويستجدي على الفور قطيعا جاهزا، يكون حاضنة جديدة للمعز التائه.
الوعي والحرية والاختيار، أكبر تحديات في حياة الانسان، والكثيرون لا يطيقونها، أو يجيدونها.
فقط عندما تكون حرا، واعيا، مجتهدا، يمكن أن ترى الأشياء أدنى للحقيقة، وأدنى إلى ذاتك. عندما تكون مستقلا عن اي ارتباط أو تبعية أو اطار تسلطي.
لكن.. لأجل ذلك، ينبغي تغيير وظيفة المؤسسات الفكرية والاجتماعية، وتجريدها من سلطاتها وخصائصها السلطوية. هل هذا معقول.. هل يمكن تحييد (الدين)، القبيلة، (الطائفة)، (الحزب)، (السلطة)؟..
لكن، بغير انجاز هذا، لن يمكن البدء ببناء مجتمع مدني حضاري، بالمعنى الحقيقي، وليس المعنى الاعلامي الاستهلاكي المسموم، الذي تروجه الامبريالية الأميركية، ومن ورائها طوابير الغوغاء.
هذا السؤال، يعيدنا إلى جوهر [النهضة- التنوير- الحداثة].. المشروع الذي جرى الالتفاف عليه، وحرفه عن اتجاهه، أو تشويهه بمشاريع حكومات بلدانية شمولية، ذات غطاء قانوني دمقراطي مزيف، يصادر المفاهيم، لصالح دكتاتور غير مسمى، ولا ضير، ان يكون الدكتاتور، (جمعيا)، هو المأفيا الاقتصادية/ الحكومة الخفية، والأصابع التي تحرك الحكومات والانظمة، مثل مسرحيات (خيال الظل)، وأفلام هوليوود.
لكن الانسان المأخوذ بالخرافات، وصناعة (طرزانات)، يصر على نسبة الاحداث إلى شخص واحد، حاكم سلطوي مستبد، ولا تعترف بأن الحاكم= (محكوم). وأنه حتى الملوك، خاضعون منذ طفولتهم، لدهاقنة البلاط، وتعليمات البلاط، وأتيكيت الكلام والطعام والثياب والمنام والتجهم والابتسام. فضلا عن املاءات الخارج. فليسوا غير ممثلين. والممثل الناجح، -كما في المسرح- هو البطل الدرامي الذي يصفق له الجمهور طويلا، ويعبده بعد انتهاء دوره.
الانسان، بعد اربعة ملايين عام من ظهوره على سطح الأرض، لما يزل طفلا. لما يزل يحن ويحتاج للأم والحاضنة وزجاجة الحليب/(علف التلقين)، والتربيت على خدّه أو ظهره أو مؤخرته. الانسان يكبر حجما، وينمو بيولوجيا، ولكن عقله، لا يتجاوز سن الطفولة/(بين السابعة والعاشرة من السنوات).
والوعي لا ينفصل عن العقل، والعقل هو أساس تشكل (الذات).
جمال الأجسام، والكمال الجسماني، وكل عروض امراء وملوك واميرات وملكات الجمال، لا علاقة لها بالعقل والوعي والذات. انها نسخة عصرية من أسواق النخاسة العباسية. مبيعات البشر، بطرق ومسميات مزوقة.
هؤلاء هم منتجات القنانة المؤسساتية التي تدرج فيها البشر، من أصغر جماعة القبيلة والدين والطائفة، في عهد وسيط، الى الاحزاب والتكتلات والجمعيات والتيارات راهنا. وثمة، فأن هناك الحاف واصرار، على بقاء البشر في طور الطفولة الطفيلية والعبودية السوقية.
أما الأفظع في ذلك، فهو الانتقال من (خانة) إلى (خانة)، من (حزب) إلى (حزب)، من (دين) إلى (دين)، ومن (طائفة) إلى (طائفة). ويعتبر عصرنا الحالي، الألفيني، اكبر مهرجان لهاته الظواهر المشوهة، والتي تدخل تحت عنوان واحد: (الضياع).
مسلمون تحولوا للمسيحية أو اليهودية، وبالعكس. شيوعيون تحولوا للقومية أو السلفية الدينية، والعكس أيضا. حزبيون ومتدينون يتحولون للبرالية السحرية. قليل منهم تحدثوا عن تجربتهم وقناعاتهم قبل وبعد التغيير، لتلمس مدى انتماء تحولاتهم للعقل والوعي، وليس للمصلحة الطفيلية والتغيرات الخارجية/(والد كارل ماركس تحول عن معتقده الديني، ليسمح له بممارسة وظيفته كمحامي!).
لماذا أريد للشرق العربي أن يكون/ يبقى مجتمعا قطيعيا. المجتمعات الدينية تحوّلت إلى مستقعات حزبية وأيديولوجية، وتكتلات طبقية مؤدلجة ضد بعضها البعض، مخالفة للتيار العام للمجتمع والتقاليد وعجلة الدولة. هكذا بدأ تشويه مفاهيم (الحداثة) و(التنوير) و(النهضة).
بدل الانعتاق والحرية واستعادة الارادة المستلَبة، وجد أبناء المجتمع أنفسهم داخل كانتونات فكرية واجتماعية عقيمة جامدة، تحل الايدولوجيا الدينية، محل العقيدة الدينية، وفي جميع الحالات، ثمة دوغمائية عمياء جامدة.
أول تلك الظواهر التي دخلت الشرق، هي المنظمات والحزبيات الاشتراكية والشيوعية، بأسمائها الصريحة، أو المغلفة بغبار اللغة والمفردات. وتاليها هي الأفكار والايدلوجيات والتحزبات القومية اللاوطنية واللااجتماعية، وثالثة الاثافي، هي الدين السياسي والمدّ الاصولي المنافق والمتهريئ.
بكلمة واحدة، لقد زادت هاته الظواهر من تدمير البشر، وتشويه طبائعهم، وتدجينهم في حقول الدوغما. ومن جهة، نجح هؤلاء- (السماسرة العصريون)، في تدمير أسس النهضة العربية، وتغشيش مفاهيم الحداثة وطرقها. وجعل أكثر التجمعات جمودها وتخلفا، يتنكبون خطاب التنوير، والمتاجرة به، كبديل سياسي، للمستقبل.
ما من حزب، جمعية، تيار، دين أو طائفة، فتح أبواب النقاش والمراجعة، أعاد النظر في شعاراته وعقيدته والمفاهيم المجانية التي يجترها منذ قرن من الزمان، ويعلف بها الاعلام والغوغاء، دون أثر أو تغيير عملي، ما خلا المزيد من الخراب والانحطاط السائد. وكل جهة تبرئ نفسها من مسؤليته.
عرب اليوم، هم أولئك العبيد السودانيون، الذين مقتوا حريتهم، واستعبدوا أنفسهم، في قيود وأغلال جديدة. عرب اليوم، هم ضحايا اللغة والمفاهيم والشعارات وفنون البلاغة والتزويق اللفظي.
العلمانيون يعيبون المتدينين، على ولههم باللغة وفن الكلام والعقائد الحجرية. ونسوا، أنهم يقلدونهم، وينسجون على منوالهم. كل من اوغست كومت [1798- 1857م] وهربرت سبنسر [1820- 1903م]، عندما تهيأ لهم، أنهم نسفوا قواعد الكاثوليكية، بدأوا التفكير في الفراغ الروحي والفكري الذي يتهدّد الناس. فعمل كومتى على تكوين (دين) على أسس علمانية، قديسوه من العلماء والفلاسفة ورموز التنوير، جاعلا من نفسه (النبي) الجديد، وعاد سبنسر لاعتناق الكاثوليكية.
البشرية تدور في حلقة مفرغة. رائد التنوير يبتني دينا، ويسمي نفسه (نبيا ورسولا).
أين التطور، اين التنوير.. كم من ببغاوات الديانات والاحزاب والنظم البالية والمحدثة، يجدون أنفسهم في المربع (صفر). وان الشعارات لا تجعل منهم طليعة ولا أحرارا، بل أنهم وراء تخلف عجلة التاريخ، وتحجر المجتمعات، وانتصار الشرّ.
بكلمة، ان كلّ الشعارات والفهلوات اللغوية والسياسية، كذبت، ومقصدها يعاكس معانيها.
الانسان ، الضعيف، وشقيقه، الشرير، الطماع، كلاهما غارق في الحاجة الغريزية، وفي الطمع والطفيلية، ضيق الأفق وكره الذات.
(12)
الانسان عدوّ نفسه..
من بين ملايين الأعراق والأصناف والجماعات البشرية الدارجة على سطح الأرض، لم تكن ثمة جماعة مضطربة، متأشكلة، عديمة الاستقرار والسلام الذاتي، مثل التي توصف بالعبرانيين أو اليهود أو أي سمة أو تسمية أخرى.
تلك الجماعة البدوية الهامشية المضطربة، التي لم تسجل مكانا أو زمانا يخصها؛ نسخت الأثر الرافديني القديم، والأول من نوعه حتى اليوم، في جملة روايات شفاهية، استقرت على يد أحدهم، في الكتاب المدعو اليوم (تاناك)، ويضمّ عددا مختلفا فيه، من أسفار منسوبة لأشخاص غير معروفين.
ويبدو أن الكتاب المدوَّن في حدود القرن الخامس قبل الميلاد، لم يشبع جائحة الجماعة، فجرى اصدار كتاب التلمود، واتخذ مرجعا أساسا، لحياة الجماعة العبرانية وموقفها من الآخرين، في كل صغيرة وكبيرة. هذا الكتابان، والمنظومة السافرة عنهما، جعلا أساسا لظهور الفكرة البراهمية المتوسطية، -(فصلا عن البراهمية الهندية)-، الواحدية التوحيدية، هزيلة الأسس والتعابير.
أن ما يفند كل النصوص الدينية- الموصوفة بالمقدسة-، هو عدم وجود النصوص الدينية الأقدم منها، والعائدة للأقوام والمجتمعات السابقة للتهافت الديني والطائفي المعاصر. وإذا كان العبرانيون قد جاسوا في اور وبابل ومصر الفرعونية، ولم يكن لهم إذذاك ديانة أو نبي، فأين هي كتب اور وبابل والفراعنة الدينية، وأين هم رسلهم وأنبياؤهم.
ان اتلاف تلك المصادر والأصول: تشويه صور تلك المدنيات والحضرات التي آوت العبرانيين، هو أشنع دليل يفند كل الدعاوى العبرانية ومصادرها. ومن قيبل القول، ان (الآكل من الصحن، لا يبصق فيه). فلماذا تنكر العبرانيون وأدانوا وأهانوا مجتمعات الشرق القديم، ليمتدحوا أنفسهم، وهم العالة المتطفلة عليهم.
ورغم حركة النقد الديني العارمة ، لرموز التنوير وعصر النهضة، والتي تولت حراثة الظروف والنصوص البايبلية، والمتوجة بالبروتستانتية الانجيلية، فقد التزم اتباع التاناك صمتا مريبا، حتى لو صدرت النقود والاحتجاجات من أوساط يهودية اشكنازية.
ان ما أسفرت عنه القرون الوسطى وعصر النهضة الأوربية، هو مزيد من التقوقع والتحجر العقيدي العبراني، حيث راجت التيارات الاصولية المتطرفة في روسيا القيصرية والولايات المتحدة الأميركية لاحقا، أعيد النفخ في اخوية (كابالاه) والماسونية والصهيونية، ومسميات باطنية أدنى صيتا.
أما التيار الاصلاحي، الموصوف بالمدارس الحرة/(فري سكولز) أو العلمانية، فلم تقدم شيئا، سوى ترويض العقيدة لمزيد من التسيس الاجتماعي، ومرونة التعامل الميكافيللي مع الآخرين، بغية تحقيق أهداف محددة.
ان الحركات الماسونية والصهيونية واليهودية المصلَحة، هي التي نقلت التعليم الكتابي إلى منهج سياسي له هدف أرضي محدد، هو (انشاء دولة صهيونية)، تجسد الرؤية البشرية لعقيدة التوراة وسيما [تكوين، خروج، يوشع].
لقد منح الاصلاحيون اليهود العلمانيون، الاشكنازية، هوية سياسية ثقافية واضحة من جهة، ومن جهة أخرى، جعلوا لها عقيدة دينية عملية/ (مادية) شوفونية. وبذلك نجحوا في شق اليهودية عن نفسها، والحد من الشتات اليهودي ذي المفهوم والافق الكتابي.
ورغم اعتراضات حاخامات الشرق/(سفاردم) المتواصلة، وموقفهم المعلن والرافض لانشاء (اسرائيل) بيد بشر؛ باعتبار أن عودة اليهود /(الميعاد، أرض الموعد)، هو أمر الهي، ويخضع لنواميس سماوية، لم يحن موعدها، فأن تلك الأصوات، لم تجد صدى عالميا/(أوربيا).
ماذا عن يهود الشرق/ العرب/ الاندلسيين/ السفاردم/ العثمانيين، هل يذوبون ويتحللون ويتحولون إلى أقلية مهمشة مجددا، من قبل الاشكنازية المصلَحة هاته المرة. ان كلّ قادة الصهيونية هم من الاشكناز. ومعظم قادة دولة اسرائيل من الاشكناز.
ولم يحظ يهود الشرق من المتصهينين، سوى بمراكز حكومية وادارية محدودة، غير أساسية. وحسب تعبير ايلي عامر [مواليد بغداد 1937م] الاكاديمي والأديب ومدير مكتب رابين- في حينه-، فأن يهود الشرق والعرب، هم مواطنون مهمشون في دولة اسرائيل. ويتم تمييزهم اجتماعيا في مستوطنات خارج المدن الرئيسة وعلى الأطراف.
كما يتم تمييزهم سياسيا وثقافيا، وعدم تعيينهم في مراكز قيادية أو حساسة في الدولة. وكان من أثر تمييز العبرانيين بعضهم عن بعض، ان كثيرا من يهود الشرق، هجروا الدولة الغربية المسخ، ويتوزعون اليوم بين البلاد العربية والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.
الاشكناز، رجال المال والاعمال، وفقراء بولونيا وأوكرانيا وأطراف روسيا/(الايدي العاملة الرخيصة)، هم قوام دولة اسرائيل. الأغنياء لهم السلطة والتنظير، والفقراء عليهم البناء والخدمة العسكرية، وتشغيل المستوطنات الكولونيالية، كحشو بشري، وحراس وجدار عازل عن أهل الأرض والسكان الأصليين.
إذا كان يهود التاريخ محكومين بلعنات عقيدية واردة في أسفارهم، فماوجه رجحانهم على الأمم، وما مبرر تعاليهم الشوفينية على الآخرين ونعتهم بـ(الكلاب)؟.. أليس الكلاب لها أوطان ومجتمعات مستقرة، ومستمرة منذ الالف السنين؟.. لقد حكم عليهم الههم، أن يتوزعوا ويعانوا بين البلدان، ويعتاشوا على أرز الاخرين وأمنهم وسلامهم.
عاشوا في الشرق القديم والشرق الوسيط والمعاصر. وعاشوا في الغرب المسيحي والعلماني. فكيف كان أداؤهم، وكيف لم يميز أداؤهم، بين مغزى النفي والطرد الغربي لأشكنازهم في السياسة الغربية، وبين تحقيق مآربهم الاصولية والصهيونية، في الخروج عن النص الكتابي، وتأسيس عقيدة سياسية عملية، تحتفظ بنفس الاسس الكتابية، ولكن باطار علماني.
معنى هذا، ان اطلاق صفة (اليهودية) على الحالة الاسرائيلية في فلسطين، هو خطأ جوهري، ومخالفة للنصوص الكتابية التوراتية التي يعتقد بها النصارى والمسلمون حسب كتبهم. وأن تحويل صورة الأزمة المتوسطية، إلى خلاف/ صراع يهودي- عربي، أو توراتي- اسلامي، هو تلفيق أوربي/ بريطاني، يفتقد الأسس والمبررات التاريخية والكتابية.
فلم يكن اليهود والعرب أعداء لبعضهم البعض تاريخيا، أو دينيا. وكلّ ما كان بينهم، هو خلافات فكرية وظرفية، هي الطابع العام، لكل المتجاورات التاريخية، والسيرورات الاجتماعية. وأزمات الأوربين مع اليهود وبسببهم، أكثر عمقا وشيوعا ووجعا، ولكنها تخضع للاختزال والاحتواء والدفن والتزوير، طالما أمكن تفريغها وتصديرها خارج الجغرافيا الغربية،و طالما كان كتبة التاريخ، أوربيين.
ان قيام دولة اسرائيل الاشكنازية، وضع حدّا لليهودية التاريخية، جراء اختزال العبرانية الشرقية وتهميشها اقليميا وعالميا من جهة، وبداية تاريخ زمني، يجعل من الاشكنازية، أساسا لليهودية العصرية والمعاصرة. أما الآخر والمتحقق عمليا، فهو انتقال اليهودية المصلَحة/ (روتشيلد والصهيونية)، إلى أشكنازية أصولية شوفونية سياسية، عبر كتلة الليكود المتشدد والمتحالف مع جماعات التطرف الاسرائيلية.
الاشكناز ليسوا يهود التوراة، ولا يهود الدين، انما هم يهود أوربا المتزاوجين معهم، ذوي الهوية المزدوجة الاغترابية، والذين اتخدوا الاصلاحية العلمانية، غطاء، للتحول من عقيدة الدين، إلى عقيدة السياسة. فاسرائيل كيان سياسي وليس ديني، كيان استيطاني كولونيالي، انجبته بريطانيا الامبريالية ودعمته اميركا الامبريالية، وليس كيانا تاريخيا.
الاشكناز، هم انشقاق وانحراف، قاده هجين الاشكناز والبروتستانت المتحولين، وليسوا امتدادا لليهودية التاريخية الممتدة من بابل حتى الاندلس. وقد رفضت أوربا يهود الاندلس خارج حدودها عمليا.
الاصولية الاشكنازية، تلتقي مع الأصولية الصليبية، المحاولات الأولى للسيطرة على شرق المتوسط بذريعة استعادة بيت المقدس/(يهمسيحية). وقد انتهت تلك الحملات الشوفينية خلال قرنين من الزمان، إلى فشل ذريع من داخلها. من خلال تمرد امراء وملوك أوربا على طاعة فتاوي البابا السياسية.
الأصولية الصليبية الحديثة، أفرزت نفسها، عبر هجرة الجماعات الكنسية المقموعة في انجلتره، والمضطهَدة من قبل قوانين الكنيسة والسيادة والخيانة وطاعة الملك، لتجد في القارة الجديدة فضاء خاليا للتمدد والرواج عبر شعارات (فتح كنعان)/(الأرض الجديدة/ الموعودة/ المقدسة).
كل هاتيك الدعوات والاجتهادات والبدع، تحولت من مسيحية صهيونية/(بروتستانتية متأخرة)، إلى صهيونية مسيحية، يجمعهما التطرف الأصولي، وينتهي بهما، للانتقال من (كنعان الامريكية) إلى (كنعان الجيوتاريخية) الكتابية. وهاته هي الأرضية التي ظهرت من خلالها دعاوى الصهيونية التي ستتحول إلى صهيونية سياسية على يد هرتزل [1860- 1904م] وزعماء المؤتمرات الصهيونية الأولى، والذين أكدوا باستمرار، على مبادئهم العلمانية، ونبذهم الأسس الدينية التوراتية.
ولابدّ للمتداخل في الأمر، مراجعة الأدبيات التاريخية، لكلّ من العناوين السابقة، فضلا عن كتابات ماركس وفرويد ويونغ وغيرهم، حول المسألة اليهودية.
ورغم تشوش المفاهيم والمصطلحات جراء المشاريع المضادة والانحرافية لما عرفناه بالنهضة والتنوير والحداثة والعصرنة، فأن السياسات العملية للبلدانية الأوربية، والتيارات الملتصقة بها، قد انتهت لتفتيت قواعد وثوابت عالم الشرق التاريخي والقديم.
ومن ذلك، هو التصدي المباشر وغير المباشر، وبوسائل وأدوات متنوعة، لتفتيت العقائد والنظم البراهمية الدينية المتوارثة، اليهودية التوراتية، المسيحية التقليدية، العقيدة الاسلامية؛ وإحلال عقائد ونظم مختلفة تحت عنوان التحديث والعصرنة، وهاته هي: الاشكنازية/ (يهودية مصلَحة وأصولية)، البروتستانتية والكنائس الانجلية المتطرفة والدعوتية، الحرب العالمية الصليبية المعادية للاسلام ورموزه ونظمه.
وما يزال البحث والجهد جاريا، لابتداع اسلام ضد الاسلام، نسخة غربية عصرونية مشوّهة، يتم احلالها محل العقيدة الاسلامية التاريخية والمتوارثة، وهي ما يتم العمل عليها في الجامعات الغربية، على اختلاف بلدانها، اسلام ايطالي، اسلام فرنسي، اسلام ألماني، اسلامات انجليزية، اسلام اميركي.
ومن وقت لآخر، يتم التركيز على مسميات أشخاص مسلمين، بطائلة التحديث والتجديد، في داخل البلاد العربية، أو المهاجر الغربية، ينحو كل منهم لتقديم مفاهيم مختلفة عن السائد والموروث، معلمها الأبرز التقارب من الكنائس الأميركية واليهودية المصلَحة، وبضمنها كيان اسرائيل السياسي، وصولا إلى نوع من علمنة الاسلام ونزع جلده السياجتماعي عنه.
(13)
عالم جديد ونظام عالمي مصنوع..
(جوّع كلبك، يتبعك) مبدأ سياسي معروف. تطبقه مدارس الكلاب الغربية، لترويضها واجبارها على اتباع اوامر سادتها.
هذا المقول وأخوه :(فرّق تَسُدْ)، كثر ما تكررا على أسماع العرب، سواء في المدارس أو العائلة والشارع. ولكن قلما كانتا موضوعا للتفكر والمقارنة العملية.
استخدمتها الدعاية البريطانية ضد العثمانيين، واستخدمها القوميون لفضح السياسة البريطانية، واستخدمها المناوئون لعربات الحكم، لفضح الدكتاتورية والحكومات الكومبرادورية. ولكنهما اليوم يُطبَّقان حرفيا، في بلدان العرب ومجتمعاتهم، لتمرير المشاريع المعادية للشرق، وترويض الشرق لسياسات الغرب.
العراق الوطني تم شرذمته إلى عراقات متناحرة، وليبيا تحولت إلى ليبيات متصارعة، وكذلك اليمن وسوريا، ومن قبلها مصر، واليوم تحتدم الرحى في السودان والجزائر، لتشربا الكأس، التي شربها الاشقاء من قبل؛ وغدا، سيشربها البقية، الذين شمتوا ويشمتون بأخوتهم، وغدا، لغير ناظره، لقريب.
أول حَمَلَة المعاول، كانت بريطانيا، في سياسة احتلالها للشرق وبلاد العرب. ومن بعدها كان التحديث، المجلات والكتب الحاملة للافكار الاشتراكية، ثم عناصر اشكناز يهودية، تروج للاشتراكية والشيوعية عقب الحرب العالمية الأولى، منذ العشرينيات.
ولا غرابة، ان زعماء ما يوصف بثورة العشرين في العراق، يراسلون موسكو. وحزب الوفد المصري، يتسع لجناح من طلبة يساريين، سرعان ما شكلت أقلامهم الطابع العام لجريدة الوفد، ومنهم طه حسين [1889- 1973م] ومحمد مندور [1907- 1965م].
حتى اليوم، لن يستوعب كثيرون، أن تلتقي تلك التيارات المختلفة إلى حدّ التناقض، في هدف واحد، هو (فرق تسد).
كل أولئك المثقفون العرب، ذوي الأفكار الاجتماعية اليسارية، يسعون لتنمية المجتمع واخراجه من خانة التخلف إلى سدّة المدنية، بالثياب والأطعمة والصحافة اللبرالية، والمفردات والمصطلحات والشعارات، ذات المذاق المثير والطعم اللذيذ.
ولم يتأخر الوقت كثيرا، حتى نالت قضية الفلاح المظلوم والاقطاعي الفرعوني، حجما أكبر من الواقع بكثير. وكأنها المطلب الوطني الأول، الذي يرفع المجتمعات إلى الفردوس. ولم تجد الحكومات العسكرية الوطنية، غير انفاذ مطلب الجماهير، والقفز عماء في حفرة المستنقع.
قانون الاصلاح الزراعي، هو الأغبي اقتصاجتماعيا، مما قامت به مصر ومن بعدها البقية، الذي كان من التدمير الشمولي بشكل، جعل الفلاح يتمرد على الأرض وصاحب الأرض، ويتحول إلى عطالة وعمالة خام أسست عشوائيات تدميرية، على حواف العاصمة والمدن الكبيرة.
قانون الاصلاح الزراعي، التقدمي من الخارج، التدميري الامبريالي في جوهره، كان مفتاح الشرور، والباب المخلوع الذي أودى بثوابت الدولة والمجتمع، والاجتماع الفكري العربي، ووضعها تحت أقدام المهيمنات الامبريالية الغربية.
لقد تعطلت الزراعة. تشرخ الاقتصاد، وفقد نظامه الطبيعي التطوري، وصار الذين روجوا للاصلاح الزراعي وقادوا ركابه، أول من يعيّر الدولة بالاقتصاد الريعي، ويتهم الانظمة الوطنية القومية، بتدمير الاقتصاد والمجتمع. وهاته في مقدمة الأهداف الماسونية، لتفتيت قوى المجتمعات والبلدان، أو اخراجها من مسيرة التنمية والتطور والبناء.
هكذا أصبحت عصبة الضباط نخبة وطنية اشتراكية، تقود حركة اليسار الوطني، وتتحدث باسم الجماهير الكادحة والمسحوقة، متصدية للمستغِلين و لصوص الوطن. كيف أصبح الضباط الأحرار والقوميون العرب، يساريين وماركسيين بجرة قلم. الاشتراكيون والشيوعيون ينظرون ويروجون لليسار، والحكومات ونخبها السياسية تنفذ.
ولم يرد الاسلامويون البقاء خارج لعبة الحكم والسياسة، سواء في استخدامهم نعت (طاغوت، فرعون) للحكام والطبقة البرجوازية، أو اطلاق الخميني [1902- 1989م] وصف (المُستضعَفين) على أبناء الطبقات الكادحة. ولكن ماذا قدّم نظام الخميني للمستضعَفين غير العمائم والخيوط الخضر، والمزيد من الانحناء، على أقدام وأيدي الاقطاع الديني والرأسمالية الدينية، المتعاظمة في ايران منذ أربعة عقود.
ولم يتردد الياس فرح [1927- 2013م] في نعت الاشتراكية العربية بأنها (اشتراكية علمية)، بحسب توصيف كارل ماركس لأفكاره. بل أندفع أكثر، في محاولته التقريب بين الايديولوجية العربية الثورية، والمقومات الرئيسة لليسار الماركسي.
القرن العشرون العربي كان مقرونا بثلاثة ظواهر عدائية تدميرية..
أولا: الاحتلال البريطاني المباشر للوطن العربي من النيل إلى الفرات.
ثانيا: الغزو الفكري الاشكنازي الشيوعي للوطن العربي من النيل إلى الفرات.
ثالثا: التوطن الاشكنازي الصهيوني في فلسطين، والهادف للتوسع الاقليمي من النيل إلى الفرات.
وقد عملت هاته الظواهر الدخيلة الثلاثة، بعضا مع بعض في جوهرها، لتحقيق أهداف مشتركة، ضد راهن ومستقبل المنطقة، فيما كانت تبدو للبعض، وكأنها متناقضة ومناوئة لبعضها.
هاته العوامل الثلاثة التي تصاهرت في مقدمة القرن العشرين، ونجحت في رسالتها مع أواخر القرن العشرين؛ هي نفسها اليوم، وبقوة أشدّ وأوسع نفوذا،، منتقلة من تفتيت المجتمع والدولة العربية، إلى تفتيت العروبة والفكرة القومية والعقيدة الاسلامية.
فالأحزاب الشيوعية التي تتجمل بنعوت مجانية: كأحزاب وطنية تقدمية يسارية، كانت رأس حربة في تدمير الوطنية والتقدمية واليسارية، بوصفها مصالح الطبقات الكادحة في البلاد. والصحيح ان أي حزب أو جماعة شيوعية/ اشتراكية، هي جماعة برجوازية، تؤمن بأن (الرأسمال) هو الذي يسحب عربة (الطبقة الكادحة والفقيرة).
كثيرون تساءلوا، وبشعور لا يخلو من احباط، عن عدم ظهور بوادر تنمية اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية في عراق الاحتلال. وفاتهم قبل التساؤل، أن يفتحوا عيونهم على هويات وشخصيات الحكم المفترض بها قيادة حركة التنمية. بل فاتهم، أركان الاخطبوط الحاكم(مجلس بريمر)، الذي لا يشبه بعضه بعضا، رغم أنه نتاج نسيج واحد: نسيج تاريخي سقيم، وعاجز عن معالجة نفسه، وكأنه (مريض يداوي الناس وهو مريض)!..
شعارات وتصريحات ووسائل اعلامية كثيرة، وضحك على العقول والذقون بالطول والعرض، تخالف وصية النبي بوش: (إعادة العراق للعصر الهمجي)..
(يا بو الخيرات.. ليش تفيض خيرات.. عله الجيران.. وعيالك مساكين..
حيطانك صِفَتْ.. بس للشعارات.. هوايه احزاب.. وشويه الحياطين) - غناء: الفنان ملحم زين
(صمت.. ظلام.. ضجيج وراء الكواليس)..

(27)
تج- وال.. تج- ارة..
(14)
جَوَلان في الأرض..
ما تنفكّ السيرة العبراانية، عن التجوال في الأرض. التجوال سيرة البدوّ، والغجر. وللتجوال أسباب: بدائية، اقتصادية، امنية. والتراث الشفاهي حافل بقصص وسواليف تتعرض لسيرة التجوال، حذر الاستقرار والتشبث في المكان الواحد، والتشابه المقيت. ولهاته الفئة ينتسب العبرانيون الأوائل.
لفط (عبراني/ عبري) مشتق من (عابر/ عبور)، ومختلف في تأويله. (عابر) هو أحد اجداد البشر من بني نوح ابن آدم: (عابر أبو (فالج) ابن شالح ابن ارفكشاد ابن سام ابن نوح/(تك 11: 10- 16)).
(فالج) من (فلج): بمعنى (انفلاج: انقسام: انفصال) الأرض، وعدم كونها بسيطة واحدة. هذا الانقسام/ الانفلاج يقصد به وادي الفرات. والمعتقد أن نقطة: [فالوجه/ فلّوجة] هي رمز لنقطة الانقسام/ الانفلاج، حيث ينحرف مجرى نهر الفرات جنوبا عندها.
والفلّوجة العراقية، مدينة وأثر وتاريخ وأصالة، لذلك كانت من نقاط استهداف المشروع الأميركي بتدميرها ومحو تاريخها وتفتيت اجتماعها السكاني، وهي اليوم في عداد هيروشيما ونكازاكي، منطقة ملوّثة كيمياويا ونوويا، بعض مناطقها ما زالت ممنوعة من التداخل، وبعضها الآخر يشهد استحالات بيولوجية مشوهة بين الحيوانات والبشر، مما يخرج عن السوية البشرية والحيوانية التي فطرها الله.
والثلاثة يقفون وراء ذلك، ويسألون عنها في الدنيا والأخرة: الأميركان والاسرائيليون وحزب المالكي. وليس عشوا، ان تكون (الفلّوجة) أول وكر للمجاهدين الأفغان/(الأفغان العرب)، إذ استقر فيها أبو مصعب الزرقاوي [1966- 2006م]، غب نقلهم من أفغانستان إلى العراق، عبر بوابة ايران، وبرعاية كل من المخابرات الأميركية والايرانية.
ويذكر أن الهجوم والحصار والقصف الامر-مالكي بدأ العام (2004م) عقب انتهاء مدة حكم بريمر [ابريل 2003- ماية 2004م الانتقالية، واستلام جهات عراقية مزوّرة، لعجلة الحكم. ابتدأ القصف والمناوشات بشكل تدريجي، ليشهد ذروته في (2006- 2010م)، لتعقبها موجة الاحتجاجات والتظاهرات السلمية والعصيان المدني في انحاء الأنبار وكركوك وصلاح الدين، التي قمعها المالكي بكلّ وحشيّة وعنصرية، وصولا إلى ظهور شخصية أبي بكر البغدادي ونقل ميدان الصراع شمالا، في منطقة هي امتداد جيوثقافي سكاني، يشمل [الموصل والرمادي] العراقية، وامتداها الجيوبوليتيكي في سوريا.
الفالوجة، فلجت الأرض وأهلها، بالمنظور التوراتي القديم، وفالجة العراق والعروبة والاسلام، في مشروع الاحتلال الأمريكي ودهاقينه.
من الفالوجة عبر ابرام بن تارح مع عائلته، محاذيا الطريق الميسمي المقابل لمجري الفرات إلى (حاران) كنعان/ السورية/(تك 11: 31). ومنها انطلق جنوبا/(يحدّ الأرض- بلغة مساحي الطابو) حتى وادي الأرض، حيث ينفصل عن ابن أخيه (لوط بن هاران بن تارح)، وهذا هو التقسيم السياسي المتجسد، بين شرق الأردن وبين غرب وادي الأردن. [اختار لوط لنفسه كلّ دائرة الاردن، وارتحل شرقا، فانفصل الواحد عن الآخر/(تك 13: 11)]. ولابد لقارئ التوراة أن يلحظ سياق الحديث، وكأن الأرض قفر، خلو من السكان، وهي قلب العالم، وأكثرها استيطانا وتحضرا وزحاما.
تجوّل ابرام في أرض كنعان، ومضى إلى سيناء ونزل في بئر سبع، وتركها إلى مصر/(تك 12: 10- 20)، ومنها عاد الى أرض النقب/(تك 13: 1) وصعد الى ممرا/(تك 18: 1)، ثم عاد إلى النقب/(تك 20: 1) عند ديار أبي مالك: ملك جرار.
في جرار النقب حدث أمران: أولهما: قيام ابراهيم وسارة بطرد هاجر وابنها اسماعيل، حسب أمر إلهه:[اطرد هذه الأمة وابنها. لأن ابن هذه الأمة، لن يرث مع ابني اسحق/(تك 21: 10)]. وسوف تقطن هاجر وابنها في برية فاران/(تك 21: 21) وتتخذ لابنها اسماعيل زوجة من مصر.
وثانيهما: طلب ابيمالك من ابرام : [أحلف لي بالله، انك لا تخونني، ولا تخون نسلي وعقبي. كاللطف الحبّي الذي صنعت اليك، تصنع إليّ، وإلى الأرض التي تغرّبت فيها. فقال ابرام: (أحلف!)/ تك 21: 23- 24]، لكن ابراهيم وعقبه لم يبرّوا بالحلف، وهو مقدس لدى أهل اللأرض يومذاك، كما هو اليوم، في البادية.
هل الاشكناز هم أولاد ابراهيم؟.. أم اليهود من بني ابراهيم.. الجواب في التوراة والانجيل، وبلسان السيد المسيح.
وليس غريبا على السرد التوراتي أن ينسخ الأبن سيرة أبيه، فيقفو اسحق نفس خارطة الطريق البراهمية بين كنعان ومصر، وما هو ينسخه يعقوب ابن اسحاق، وولد يعقوب. لم يألف هؤلاء الاستقرار والقناعة بالموجود. لكنهم يولغون في التجوال والجولان، دون افصاح حقيقي عن المغزى.
المغزى هو (التجارة) المشتقة والمقترنة بـالـ(تجوال). التجوال والتجارة، أمرا مقترنان، انها تجارة التوصيل الفوري. التاجر يأتيك حتى عتبة دارك. وليس ذهابك أنت إلى السوق، للحصول على السلعة. ان تجارة التوصيل/[لييفرونك/ ديليفري] هي ابتداع عبراني، إن لم يكونوا اقتنصوه من سابق.
عندما كانت الحضارة والمدنية والامبراطورية العالمية بين النيل والفرات، كان تجوال العبرانيين، بين النيل والفرات، للتجارة والتطفل والقرصنة، واحتكار كتابة التاريخ، اسوة باحتكار السلعة والبضاعة والتجارة. وفيما يورد التاريخ أن (الأراميين) تسيّدوا حركة التجارة طيلة ألفين عام قبل الميلاد، لا نجد سندا أو رواية، أو كتاب غير مقدس، يتضمن بطولات الآراميين ومظالمهم، اسوة بالمثال العبراني.
ان محورية الجولان والتجارة والتجوال والاقتناص والتطفل العبراني على مدى الزمن، يفند مزاعم السبي البابلي والاشوري، طالما كان العبرانيون ضيوفا وشهودا مجانيين في مركز كل مدنية وامبراطورية، تظهر للوجود، منذ امبراطوريات الكلدانيين والفراعنة قديما، الى الامبراطوريات الرومانية والبيزنطية والاندلسية والعثمانية، وليس انتهاء بالممالك الاوربية والغربية المعاصرة، واحدة واحدة انتهاء بالجيرمان والانجليز والأميركان.
وخلافا لدعاوى الشعب الصغير/(القطيع الصغير)، فقد توزعت جاليات عبرانية كبيرة العدد، جاء مرموزها في المدن العشر وراء النيل/(ما يقابل صحراء الامازيغ اليوم) حيث توجد أكبر جالية يهودية، تمتد من القرن الأفريقي حتى الاطلسي.
وترد مرموزية المدن العشر حول بحيرة طبرية/(جنيسارت) التي كانت مركز كرازة السيد المسيح وتلاميذه. وفي شنعار/(جنوبي بابل) مستوطنات يهودية كبيرة، رفضت الهجرة مع نحميا وعزرا، فضلت البقاء والاندماج في السكان وثقافة المنطقة، التي تعددت عليها وفود الثقافات من كل اتجاه.
ان مناطق التمركزات العبرانية في القارات الثلاثة، يبين ظهور اتجاه تطوري داخل العقلية والطبيعة العبرانية، تميل للاستقرار والاندماج الوطني. وهذا يعني ان مكونات العرب والامازيغ والايرانيين والترك والكرد، تتضمن وتشتمل أصولا عبرانية، توطنت واندمجت، وساهمت في تكوين الثقافة والهوية السكانية الجديدة للمنطقة.
ان حاصل الازاحات العبرانية عبر الزمن، هي موجات محدودة، اندفعت غربا، مع ظهور الامبراطورية الرومانية وما تلاها، من انتقال المركزية الامبراطورية والحضارية إلى المحيط الأوربي. وفي المحيط الأوربي، سوف تتميز موجتان: شرقية وغربية. الشرقية هي المتبقي من أصول شرقية أسيوية : عربية وعثمانية؛ والغربية، اولئك المندفعون في حدود روسيا القيصرة والممالك الأوربية الشرقية والغربية.
يحدثنا الانجيل عن انتشار جماعات عبرانية في شمالي طبرية وجنوبي لبنان وامتدادا مع ساحل المتوسط حتى انطاكية وعموم فضاء الأناضول، سيما شواطئه المتوسطية والايجية، وعبورا نحو شرق أوربا. فانتشار العبرانيين هذا، لم يرتبط باضطهادات أو ملاحقات أو غزوات أو سبي. لأن المضطهَد والمسبي لا يعين في مناصب الدولة العليا، ويتم تقريبه من بلاط الحاكم، ولا يمنح الحرية للتجوال والتجارة في البلاد.
فالانتشار والتجوال وعدم الاستقرار، نابع من طبيعة الشخصية اليهودية، المسكونة بالاضطراب والقلق والخوف/ (غياب السلام الداخلي)، وليس بعوامل محيطية خارجية. وليس من المعقول، ان عوامل الاضطهاد والملاحقة والغزو، تتابعهم من أرض لأرض، ومن بلد لبلد، في الشرق والغرب. ولم لم يحدث هذا مع سواهم.
ولكن هذا من منتجات الطبيعة التجارية للاستعطاف والابتزاز والمبالغة في المظلومية، للتغرير بالناس وسحب البساط من تحت أقدام الأهلين.
حال اليهود أمس هو حال الاميركان اليوم، يغزون ويقصفون بالقنابل ، ثم يتباكون ويشكون تهديد الامن القومي الأميركي.
هل يخشى مالك المعامل النووية والصورايخ العابرة للفضاء من حملة العصي والخناجر؟.. أم تخشى اسرائيل النووية الفاشستية من أطفال الجارة، وتقوم بحملات طوارئ وحرب دولية، جراء حجارة فشخت جبين شرطي اسرائيلي دلّوع، لا تشبع أمنه جيوش الناتو والاتحاد الاوربي، وكل ترسانة الغرب العسكرية والنووية الحديثة.
العالم مجنون، لا يستوعب أسئلة العقل!.
(15)
أثينا الدولة والمملكة، لم تتبين ملامحها قبل أن تنهزم عسكريا. لم يتبلور نظامها السياسي والدمقراطي قبل أن تعترف بعجزها، أن تتجاوز حدودها السياسية عسكريا، بل أنها تجازف بخسارة كل وجودها وكيانها على الخريطة، إن لم تمل للعقل. الميل للعقل كان معناه (تجارة البحر).
الجنود والضباط الأغارقة تحولوا إلى صيادين وقراصنة وتجار شواطئ وموانئ بحرية، ينقلون سلع الخارج إلى الداخل، وينقلون سلع الداخل إلى موانئ الخارج/(تبادل تجاري). ومع السلع والمنتجات المادية، كانت تجارة الرقيق والأفكار والمعتقدات/(حركة الأفراد والأفكار).
حضارة الاغريق كانت فكرية معرفية فلسفية، وهاته ما كانت بغير ارتياد التجارة البحرية والتبادل مع الأمم. والتجارة التبادلية، ما كانت لتحصل وتزدهر، لولا وضع الأسلحة جانبا، ونبذ العنف، والتعلم على حياة السلم والحوار والعلاقات السلمية والندية مع الآخرين.
من هذا المنطلق، بدأ سكان روما في مناجزة الأغريق، والتوسع في تجارة البحر، من اقصى المتوسط حتى اقصى شواطئ البحر الأسود. تجارة روما حجمت تجارة الاغريق، وسرقت الماء من تحت مراكبهم، فنكصت أثينا وقامت مملكة روما الامبراطورية الممتدة شرقا وغربا.
امبراطورية روما ومن ضمنها بيزنطه المسيحية، شهدت تنامي دور فينيسيا التجارة/(أول جمهورية تجارية مستقلة[697- 1797م]). احتلت التجارة قائمة أولوياتها، وبنت جيشا قويا، كانت قطعاته ترافق سفنها التجارية. استندت سياستها الى اتفاقات ومعاهدات وأحلاف، ولم تخضع لولاية أو مبايعة سياسية.
فينيسيا وميلانو وأثينا والاندلس، اعتمدت التجارة بين أسيا وأوربا اكسيرا لوجودها وازدهارها واستمرارها. تلك التجارة اعتمدت (الندّية) والتكافؤ بين الطرفين، البائع والمشتري. لأنك لا تشتري سلعة غير ذات اعتبار وقيمة. وصانع السلعة المعتبرة، هو شخص وثقافة ذات اعتبار، تجد ترجمتها وتمثيلها في السلعة التبادلية القابلة للمنافسة.
دخول البلدانيات الأوربية مجال التجارة العالمية، افتقد مظاهر الشرف والمصداقية والانسانية. وكان أبرز مؤسسي الخبث و الشرّ، هم الانجليز، وباعترافهم. وذلك يوقوفهم على ضفاف الحسد والغيرة ثم الطمع الممثلة في الثقافة والاقتصاد الصيني: البلد الكبير وملايينه الكبيرة، يعيشون بسلام واكتفاء داخل حدودهم، فيما يعجز بضعة الفايكنغ وانجلن عن توفير قوتهم بأيديهم.
وكان أول منجز انجليزي حضاري، هو تمرير (الحشيشة) للفلاح الصيني، مقابل سرقة نبتة الشاي من الصين. ( الحشيشة كانت ممنوعة في الصين، وغير واردة في ثقافتهم الاجتماعية التاوية. ولكن الممنوع في التاوية الوثنية، هو مباح ورائج في الثقافة الأوربية المسيحية والبروتستانتية)، وذلك لتعطيل العقول والأذهان، وتدمير كيان البشرية.
هاته المراجعة البسيطة والسريعة، تلقي ضوء على الفوارق بين البلدان والثقافات والتسلكات، التي تم اسباغ غطاء/ قناع معاكس عليها، منذ احتكار الغرابوة لاليات التاريخ والسياسة والتبادلات العالمية.
لا تنتظر أن يأتي يوم تعيش انجلتره معتمدة على ذاتها مكتفية بنفسها. وهي لم تكن بغير الحشيشة ونهب الهند، ولن تكون. وعندما شعرت بحدود استمرار ابتزازها لأوربا، ووقوعها تحت هيمنة واشنطن والبنك الدولي، أولت قفاها لهم، وعادت لاستحثاث موارد العالم الشرقي الهندي والاسلامي.
من شبّ على شيء، شاب عليه. وعندما ترى الانجليزي الفرد في الشارع، تجده يشحذ ويستعطي.
يتجمع الانجليز حول الأجنبي، لابتزاز عناصر الأخوة والطيبة والنخوة والعطف واللامادية المكونة لثقافته، فيسهل خداعهم أو ابتزازهم أو سرقتهم، وهو يشعر بسعادة الفوز، ولا يشعر بالعار لتاريخ بلده السياسي المبتذل والمنافي للأخلاق.
تحتكر انجلتره كتابة التاريخ لتزوير ماضيها، وفي كتب مؤرخيها، حيث يعدم أن تجد سياسيا أو موظفا حكوميا، طماحه الشهرة والتملق، لا يكتب تاريخا مزورا، يبرر فيه خطايا بلده، بدل أن يعترف ويعتذر كما تدعو أدبيات الكنيسة غير الانجليانية.
أول ما فعله ابليس في حديثه مع حواء، حسب القصة التوراتية التي يتعلمها الأوربيون ومنهم الانجليز، في ثقافتهم العائلية والكنسية، أول ما فعله ابليس هو (الكذب). كذب + تزوير + مبالغة= وهذا ما يفعله الانجليزي تحديدا. أكثر من ورث مآثر اليهودية، وفنون فهلوتها هم الانجليز.
حتى سياسات الحكومة واداؤها الداخلي والخارجي مبني على الكذب والفهلوة والرقاعة. والحكومة الانجليزية، من أوائل الدول، التي قامت بتوزيع اعمالها الحكومية على شركات تتعهد بانجاز خططها، بكل ما يمنكنها من حرية ومراوغة وتزوير.
ولذا تقتصر وظيفة الوزارة على التنظير والتصريحات الاعلامية، بينما وظائفها تدار من قبل شركات خارجية. وبذلك تتبرأ الحكومة من سيئات سياساتها. والقائمون بالتنفيذ، شباب صغار من رومان وبولند، ابرياء من المسؤولية. لهاته الدرجة بلغ الضحك على الناس والقانون والمجتمع الدولي.
ما وجه شرعية حكومة كاذبة؟.. ما وجه شرعية قانون، تستخدم وسائل منافية للاخلاق والقيم في تنفيذه؟.. ان ما يسمى بدول وحكومات وقوانين اليوم، غرضها الابتزاز والاستعباد والسرقة والتسلط.
لقد ماتت الدولة. سقط النظام. فسد القانون.
وكل النظم والسياقات والمفاهيم تعرضت للتزوير والتشويه. الدولة والقانون والشرعية من إرث القرن العشرين. سقوط الاتحاد السوفيتي لم يكن سقوطا مجردا، لقد أسقط معه كل بينان العالم. وها هو العالم، منجرد فضائحي، لا يستحي من عريه وسقوط ورقة التوت!
(16)
اليهودية الوظيفية..
على مكاتب توريد البضائع وتفريغها، نشأت الحاجة لبوليصات التأمين، وظهرت البوادر الأولى لولادة (عملة نقدية).
وكان لليهود، صلة مباشرة في تلك الفاصلة التاريخية.
اليهود، منذ زمن قديم، يتركزون حيث مصادر الأعمال. علاقة اليهودي بالعمل واحتكاره، ظاهرة جديرة بالدراسة. لم يعمل اليهود بالمعرفة، اكتفوا من الدين بحرفيات السحر والطلاسم. وعلى السطح، تلك الرابطة الحميمية بالعمل المادي والاكتناز.
في الشرق عملوا في التجارة الفردية ثم الجملة لاحقا. لم يعملوا في قطاع الحرف الذي يشغله ايرانيون وباكستانيون وكرد وهنود؛ أو مجال الطب والترجمة والرياضيات والفلك الذي يشغله نصارى ومندائيون. مع انتقالهم إلى أوربا. جمعوا إلى جانب التجارة، جملة الوظائف والاعمال الملحقة بالتجارة، كالادارة والمراقبة والصيرفة والخزن.
بالنتيجة، فأن أول مكاتب/ شركات الصيرفة والتأمين، انطلقت من تحت أيدي يهود ميلانو. واليوم، لا توجد قرية أوربية ليس فيها بنك وشركة تأمين. لا يوجد فرد في الغرب لا يتعامل مباشرة مع البنك والتأمين. وكل منهما يعتمد على العمولة وفائض القيمة.
وكان للعملة والتأمين، دور رئيس في ازدهار عمليات التجارة وعوائدها. وصار من الضرورة ان يكون لكل تاجر مكتبه الصيرفي والبنكي الذي يتولى عنه استلام وتسليم وتصريف البضاعة، وتحويل حاصلها النقدي للتاجر. وحتى اليوم، تتولى شركات التأمين والبنوك، ادارة التجارة والمبادلات الدولية حول العالم.
فاليهود، هم الذي أسسوا الاقتصاد الأوربي، وأول من أسس الثقافة المادية في العقل الأوربي.
ليس في حياة الاوربيين وتاريخهم شيء، ليس أساسه في اليهودية والدور اليهودي التاريخي. سواء في السياسة، التجارة، الاقتصاد، الاجتماع، التقنيات الدينمية، التنظيم المؤسساتي والشبكة المؤسساتية، وصولا للمركزية الغربية، المشتقة، من المركزية العبرانية الكتابية.
اليهود صنعوا أوربا، وأوربا طردتهم وسلمتهم للمحارق، ثم أرسلتهم إلى مكان إشكالي مضطرب، يفتقد الأمن والاستقرار. وكان أولى، ان يكون الوطن القومي ليهود أوربا داخل الجغرافيا الأوربية، وفي بلدانهم الأم: أوكرانيا، بولنده، روسيا. ولكن هدف الانجليز كان نفي اليهود بعيدا، حيث النار لا تنطفئ، والدود لا يموت.
بن غوريون، خلاف وايزمان، كان يستنكف من الانجليز ولا يعتبرهم أهلا للثقة أو المصداقية. لكنه وسواه، بلع السنارة الانجليزية المسمومة. وفاته، وهو البولوني الروسي ان وطنه القومي ينبغي أن يكون في مركز تركز اليهود في الامبراطورية الروسية التي ضمت بولونيا يومها، وبقيت اوكرانيا تحت النزاع.
يقول حكام اسرائيل أن اليهود جزء من الثقافة الأوربية. اسرائيل حضارة أوربية في منطقة اسيوية غير متحضرة. أليس من المفترض والمنطق إذن، أن تقترن الحضارة بالجغرافيا. فتكون دولة اسرائيل، جيو حضارية اوربية، وليس دولة (أوفر سيز) بالتعبير الانجليزي.
لكن بريطانيا خشيت وقوع (ديمقراطياتها)، تحت هيمنة أو تأثير فرنسا أو ألمانيا أو روسيا، أو أي جهة منافسة لها. اعتقدت، لحمق ما، أن دولة اسرائيل، على غرار الهند واستراليا وكندا، ستكون اقليما تحت نفوذ التاج. وما تزال لها ولع، بصناعة البلدان، لتأكيد مركزيتها التاريخية.
وقد سبق التنويه إلى دور اليهود الاشكناز في صناعة رأس المال البريطاني والتأسيس للاقتصاد البريطاني، قبل ولادة أدم سمث [1723- 1790م] وستيوارت ميل [1806- 1873م]. ولكنهم تعرضوا للطرد، بعد انتهاء صلاحيتهم الوظيفية. ومن أصل مليون وربع، فعددهم اليوم، بضعة الاف، معظمهم من الفقراء. بينما هاجر كثير منهم غربا.
وما يصدق على يهود بريطانيا، يصدق على يهود اوربا الأخرين. وهنا نترك ملاحظيتين..
1- أن أهل الشرق لم يستفيدوا من خصائص الشخصية اليهودية وامكاناتها.
2- ان اليهود لم يبذلوا تنازلات في تاريخهم، قبل ظهور أوربا النهضة وما بعدها، ولم يسيق لهم تغيير دياناتهم، بدافع المجاملة وتأمين المعيشة والسلم الاجتماعي، في غير أوربا. ومع ذلك، فكلّ شيء كان بلا طائل. ولم ينقذهم من الطرد والاضطهاد والنفي.
بالنتيجة، ليس حال اليهود اليوم أفضل مما سبق. وفي أوربا نفسها، يعانون من عزلة ووحشية اليمين وحليقي الرؤوس المتطرفين. وشتان، بين تصريحات سياسيين كذبة، وواقع يومي ونفسي، مسكون بالرعب والقلق الوجودي.
(يتبع..)

(28)
التاريخ سيناريوهات جاهزة..
(17)
هل العالم حرّ.. ما هي حدود الحرية والحياد في الطبيعة ، لكي يمكن التكلم عن حرية الارادة والوعي المستقل..
من هو إبليس.. وكيف تفهم نوازع الطمع والحسد والغيرة والجشع وحب الذات وكراهتها.. وبعد خرافة التقدم العلمي واكتشافات الفضاء وعلم النفس، ما هو حال حريات الارادة والتفكير والرأي والسلوك. واقع الحال، ان الأغلال والأصفاد تضاعفت جراء تطور المعارف والأنظمة التكنولوجية، وما يسمى بالدمقراطيات الكولونيالية الراهنة.
لا يقتصر ذلك على تسليع الماء والهواء، واستغلالها لكسر قفا الناس؛ وانما هاته الشبكة العنكبوتية المسمومة، المحكومة من قبل (سلطان الهواء)، والمدارة من قبل روبوتات ممسوخة، لا ترى ولا يمكن الوصول إليها، أو تحديدها فيزياويا، ولكنها، تحتكر الدخول في حياتك ومنزلك وعقلك، وتتدخل في أفكارك ومشاعرك، وتحجز بينك وبين أدق تفاصيل نشاطك الانساني.
وكلّ هذا يتم من قبل الدمقراطيات الكبرى، التي وضع أسسها الانجليز، وانحط بها الأميركان، إلى أقصى درجات الوحشية والاأخلاقية. وعندما نتحدث هنا، عن الدور المزعوم لأفراد وعوائل وجماعات يهودية/(وظيفية)، لا بدّ من تنويه إلى حصان جديد، يدير حلبة الانحطاط العالمي منذ حين.
لقد نجح يهود روسيا في السيطرة على مشروع النهضة والتنوير والحداثة، واخضاعها لهيمنتهم العرقية أولا، وللمركزية الغربية لاحقا. وهؤلاء هم الاشكناز، أضعف حلقات اليهودية أصالة، وأكثرها عداء للبشرية. تلك الصلة الخفية بين تجار مالطه والبندقية، ومسرحية مولير:(عدو البشر).
سقوط الاتحاد السوفيتي/(1989م)، والذي يضاهي في خطورته طوفان نوح، وانهيار سد مأرب، الذي هو انهيار جدار برلين/ (1991م)؛ كان بمثابة الجزء الثاني من بداية تاريخ حديث. في القرن السادس والسابع عشر، أنتجت روسيا القيصرية، ظاهرة الاشكناز والحاسيدم، وأطلقتها في وجه غرب أوربا، ونسف مشروعها النهضوي الحداثي.
سقوط الاتحاد السوفيتي وجدار برلين ومنظومة الكوميكون، أطلقت زرافات من جماعات أوربا الشرقية، لتصفع بهم وجه مجتمعات أوربا الغربية ، ويقوم الغرب باحتوائها وتسخيرها، ليصفع بهم وجه العالم مجددا، وذلك في تكرار (جماعات وظيفية)، تكرر دور الاشكنازية قبل ثلاثة قرون.
ابناء وبنات أوربا الشرقية، ومن مختلف أقاليمها الهشة والممسوحة الهوية والضمير، هم أدوات جهادية ، تسخرهم الحكومة الانجليزية، في أدارة أجهزة ومؤسسات تدميرية، من وراء الكواليس. كما تستخدمها الولايات المتحدة في تفاصيل دوائر مخابراتها الدولية، وادارة الشبكة الالكترونية وتقنياتها التجسسية، من وراء الكواليس.
خلال الحروب الأمريكية لتفتيت الدولة التيتوية، كان اليوغسلاف أكبر جالية أجنبية في نمسا التسعينيات، يليهم الترك. وصفة اليوغسلاف الأغلبية، تضم داخلها كافة الأصول الأوربية الشرقية، كالرومان والبولند والألبان وسواهم. لكن اليوغسلاف وأقرانهم، لم يكونوا لاجئين أو هاربين من حرب، انما كانوا أقرب للسياح، منه.
ذلك النهم المادي، والجوع الوحشي لمظاهر الحياة الغربية والأمريكية، والانغماس في حياة الليل والنوادي والمقامرة، بينما هم يقيمون في مجمعات اللاجئين الضيقة والقذرة. أولئك السياح، الزوار، كان ذهنهم مشغولا بشيء واحد، النمسا مجرد محطة، ينتظرون فيها القطارات، التي تقلهم للعالم الجديد.
لم تكن أوربا الغربية، ضالة مهاجري أوربا الشرقية، وانما ضالتهم: (الولايات المتحدة الأميركية).
ومع انتهاء التسعينيات، ودخول الألفية، فأن جماهير الشباب والشابات الأوربيات الشرقيات، اخترقن واجهات المجتمع الأميركي الراهن، وما ميلانيا ترامب/(سلوفينيا/1970م)، عارضة الأزياء اليوغسلافية، والتي صارت سيدة البيت البيض والمجتمع الأميركي/(2017م)، غير دالة بسيطة، على المشروع الانجلوميركي، في تسخير جاليات أوربا الشرقية المتمردة، في تنفيذ سياساتها، وإحلالها محل الاشكناز والبروتستانت الاشكنازي السابق.
لقد قام اليهود بوظائف تاريخية كبرى ، كخدام أمبرياليين/ امبراطوريين، في بريطانيا وبقية بلدان أوربا الغربية. ومنذ خمسينيات القرن العشرين، كانوا المادة الرئيسة لوظائف البيت الأبيض وودوائره الاستشارية، بالوراثة. وكانت حقيبة الخارجية والامن القومي، حكرا على الاشكناز الأوربي والصهاينة الأصوليين.
لقد انتهى هذا الدور الاشكنازي الصهيوني في الادارة الامبريالية الأميركية، وسيعودون قريبا، إلى أروقة الجامعات الأميركية، ليعطوا فرصة لتلاميذهم ، الجيل الجديد من شبيبة شرق أوربا.. الامبريالية المتأمركة، أكثر من الامريكان.
هذا يعني ان الظاهرة (الاشكنازية) كانت جزء من منظومة الحداثة الاوربية التقليدية، ما بين القرنين السابع عشر والعشرين؛ وأنها صارت في عداد الارشيف السياسي للغرب، في عصر العولمة وما بعد الحداثة. وثمة قوى وعروض بشرية، تقتحم سوق العولمة والطاقم الامبريالي الأميركي وشبكته العنكبوتية.
وفي طقم الرئيس الاميركي الحالي، ولأول مرة، تراجع الحضور اليهودي الاشكنازي، أي تراجع دورهم السياسي العالمي، سواء ارتبط بالماسونية أو الصهيونية أو الشيوعية الباطنية؛ فهل يبلغ الأمر بهؤلاء، إلى اسقاط الامبراطورية الأميركية/اسوة بالقيصرية الروسية قبل قرن، وإعلان طراز جديد وأكثر وضوحا، من اشتراكية أميركية، تضيف دماء مختلفة في أفكار ماركس.
ما مغزى الثورة الشيوعية العالمية، التي يجري طبخها في كواليس الغرب، لاستعادة روح (1848م) ودينمية (اكتوبر 1917م)؟..
هل سقطت الاشتراكية وانتهت حقا؟.. هل انتصرت الرأسمالية المشعوذة فعلا، لتعيد انتاج تاريخ جديد، حسب الياباني فوكوياما؟.. هل يبدأ التاريخ في مكان آخر/(خارج المحيط الغربي)، أم يبدأ استحالة جديدة داخل الغرب؟..
ان الوضع العالمي غير مستقر.. الاوضاع الداخلية للبلدان غير مستقرة.. المجتمعات تعيش حالات اضطرابات وعواصف وانهيار منظومات وقيم وثوابت.. انها مرحلة انتقالية، أثبتت فشل النظام العالمي السابق، وفشل المشروع الأميركي في الاستحواذ على العالم، ولجم شكيمته..
هل تستعيد أوربا/(الاتحاد الأوربي) مركزيتها مجددا من أيدي الهمجية الأميركية؟.. هل تستعيد جماهير أوربا الشرقية مركزيتها البيزنطية وتعيد بناء بيزنطه الجديدة؟.. تلك النبودؤة التي أطلقها وزير خارجية رومانيا في التسعينيات!.. وما هو دور بوتين الصموت، في الاستحالة الأوربية العالمية الوشيكة؟..
هل هم جيل جديد من الاشكناز، ممن لم يهاجروا إلى اسرائيل أو الغرب، أم هم جيل جديد من أصولية مسيحية صهيونية، هذا تحت البحث. لكن المتعارف، ان الروس وشرق أوربا يدينون للكنيسة الارثوذكسية، وقد تحوّل قسم منهم للكنائس البروتستانتية الاميركية التي غزتهم، بعد سقوط ورقة التوت.
لقد هالني خلال التسعينيات، خلال حديث مع شخص روماني في المعمل، أن يتكشف عن حقد كمين ضد العرب والعراق، وإدانتهم بسبب صراعهم ضد اسرائيل: هاته الدولة الصغيرة المسالمة- حسب وصفه. وعندما حاولت تبيان وجهة نظري، وجدته يجيبني، وكأنه يقرأ جريدة (واشنطن بوست) الأميركية.
كيف تم تلقين هذا الروماني الشرقي، بنسخة تقليدية من الثقافة الامبريالية، وكنا نحتسبهم حتى ما يقل من العقد، رفاقا ومناضلين، ضد الفاشية الرأسمالية. هاته الهشاشة الإجتماعية والثقافية، لأيتام النظم الاشتراكية والشيوعية، تكشف ضحالة قيم الانتماء والمواطنة لديها، مقابل انبهارها الأعمى، بالحياة الغربية وكلّ ما يتصل بها.
فالحديث عن اليهود، ذو مغزى تاريخي، يؤكد عودتهم للهامش العالمي، واستحلال أقرانهم السابقين، سكان أوربا الشرقية، كجيش مستحدث، في خدمة النظام الامبراطوري الامبريالي العالمي، ومن باب السّخرة ليس إلا. وهكذا يتمّ تمييع المسؤوليات والمجازر ضد الانسانية، وتبرئة الانجلوميركان من أوزارها.
ولا بدّ أن عراقيي القرن العشرين، يذكرون القطعات البولندية في الجيش البريطاني المحتل للعراق. ويحفظون قصصا عنهم. وقد استوطن غير قليل منهم، أسوة بالهنود، بين ظهراني العراقيين، واندمجوا فيهم. فبريطانيا سبقت واشنطن في توظيف شبيبة أوربا الشرقية في مؤسساتها الامبريالية.
من يلعب على من؟.. من يخادع من؟.. وهل تنجح ملانيا في سرقة شعلة وإعادتها إلى الشرق؟.. أم أنها ستصبح الرئيسة المقبلة للامبراطورية الأميركية؟..
من المؤكد أن شبيبة شرق أوربا يتنكبون مشروعا ما، غير بعديد عن اليسار الأوربي.. وقد كانت ثورة السترات الصفر، التي هزت عروش الغرب بعنف، محاولة تجريبية لشرارة جديدة، تستعيد عنف الثورة الفرنسية الأم/(1789م) التي ولدت المدنيات الأوربية..
والثورة الفرنسية الصفراء لم تنته.. انها تتهيأ لانظلاقة أوربية شاملة، (الثورة العالمية الاشتراكية)..
(18)
(قوة عالمية خفيّة)..
رغم قناعتي بدور (الفرد) في صنع التاريخ. وما التاريخ، إلا تاريخ أفراد مميزين بأفكارهم وأدوارهم، خيرا أو شرّا؛ لكني لا استسيغ دعاوى تنسب كلّ شيء لشخص، أو بضعة أشخاص، وفق مبدأ فرانكشتاين.
وقد كان لأفراد من اليهود، أدوار تاريخية في مجال عولمة (الديانة) و(التجارة)، في ظروف زمنية محددة. لكن المبالغة في ذلك، هو من تخريج التأليب الأوربي، لتحميل تبعات العالم، على قفا الفئة الضعيفة والمستهجنة في أوربا الحديثة.
فبينما كانت الفاتيكان، تحرض الدعاية المضادة لليهود وتلمودهم؛ لعبت قوى اجتماعية وثقافية وحكومية، أدوارا في مهاجمة الجاليات اليهودية في الغرب، ولكن بصيغ وأساليب مباشرة وغير مباشرة. اتجاهات تبدو متناقضة في الظاهر، ولكن أهدافها تصبّ في نقطة هدف مؤسساتي مركزي مشترك. ومنه قرار نفي اليهود من أوربا، المعروف بقرار بلفور/(نوفمبر1917م).
ولكون المستجدات لا تظهر من عدم، ومن غير أرضيات ممهده، فأن الحملة الكاثوليكية المضادة للتلمود واليهودية والاشكناز، كان لها دور، في استحثاث طليعة المثقفين اليهود، لبناء مشروع حركة قومية دفاعية من جهة، وذات هدف مستقل يختزل تراكمات التاريخ. ولكن الغول الأوربي، نجح في تحييد نفسه، ودفع شرور المشروع الصهيوني خارج حدوده. وقد اختار قادة الصهيونية الاحتمال الأسهل والمدعوم من من مطابخ الانجليز والألمان. ولو كانوا في مركز قوي، كما تزعم الادبيات الماسونية، لاختاروا وطنهم داخل المحيط الأوربي.
ولدى قراءة المغالاة في دور اليهود ودعمهم لثورة لينين، تتساؤل عن مبررات ذلك.. هل ساعد اليهود الروس بلا غرض يستحق الضحية؟.. ألم يكن البديل، ضمان وطن يهودي داخل حدود/ نفوذ روسيا؟.. لماذا انقلب الروس على اليهود، ودفعوا هرتزل ووايزمان إلى لندن، بعد شهر من الحركة الروسية؟..
في هاته النقطة تجتمع، عدّة مصطلحات، كلّ منها أشدّ غموضا وتشويشا من الآخر، منها: ماسونية، نوارانية، صهيونية، اشتراكية، شيوعية.
وقد وجد جيل المدوّنين/(الكهنة تاريخيا)، في شخص أمشيل/ ماجير أمشيل/ ماير أمشيل [1744- 1812م]، مادة ومركزا تلتقي عنده خيوط كلّ المفاهيم والحركات ذات المحاور اليهودية المتطرفة.
لا بأس من إحالة فكرة تنظيم بنوك الاقراض لأمشيل، وكان التجار اليهود يمارسون الاقراض والرهن في بلادنا قبل امشيل بقرون، وبطرق بسيطة ونظيفة، رغم عمولة الرّبا المعروفة. ولكن ربط أمشيل بالماسونية والصهيونية وجماعة الانوار المغششة، تحميل فوق اللازم.
ليونيل روتشيلد [1868- 1037م] البريطاني ودوره في استخراج وعد بلفور، أمر له محكماته الظرفية. لكنه لم يفعل ذلك، من قبل نفسه، وانما بدفع من وايزمان [1874- 1952م] وهرتزل [1860- 1904م] اللذين زاراه مرارا في منزله المعروف في البيكاديلي/لندن.
وكان السياسي البريطاني ارثر بلفور [1848- 1930م] رئيس الحكومة الأسبق [1902- 1905م] ووزير الخارجية [1916- 1919م] يومها، يلتقيه في منزله ايضا.
لقد كان ثريا، ذا أثر في الخزانة والحكومة البريطانية، وفي نفس الوقت، كان رئيس الجالية اليهودية في انجلتره، ولابد ان يقصده زعماء الحركة الصهيونية، لتمويل حركتهم وتسهيل أغراضها. وقد التقى معهم بمحض الرابطة الدينية والأثينية، وهو من الناشطين الاجتماعيين لدعم بني جلدته، قبل اتصال الصهاينة به.
وربما تبنى/ موّل انعقاد المؤتمر الصهيوني الرابع في لندن، لكن وضعه بين قادة الحركة الصهيونية، يحتاج لبحث واقرار عملي مسنود، وهو ما ينطبق على صلته بزعامة الماسونية، وهو أمر مستبعد. فلقد كان للأخيرة تنظيم معقد وسري، مركزه في اسكتلنده. وكان كثير من المشاهير والأدباء والساسة، من أعضائها، ومنهم عرب، لكنهم أقرب لعضوية الشرف، وليسوا من منظريها وقادتها الفاعلين. ويومها، كانت النظرة اليهم كـ(بنائين أحرار)، يقومون بمشاريع وخدمات خيرية للمجتمعات.
هناك روايات كثيرة للأمريكي دان براون [1964م- ؟]، مخصصة للطعن في مؤسسة الفاتيكان ودورها العنكبوتي العالمي، وما وراءها من دسائس ومجازر وحروب. لا تختلف النسخة اليهودية لمنظور براون، عن وليم جاي كار [1895- 1959م]. والروايتان لهما نفس النسيج والسياق والأغراض.
أحدهما اختص بالكاثوليكية الأوربية وأبلستها، والثاني اختص بأبلسة الأشكنازية وتحميلها أوزار العالم. وكان لا بدّ، لغرض استكمال المخطط البروتستانتي الفاشي، ظهور نسخة اسلامية من روايات كار وبروان، تتولى تحميل الاسلام ورموزه، مسؤولية الشرّ والانحراف العالمي.
من الغريب أن لا يظهر داعية اعلامية برواية محبكة ضد الاسلام ومجازره. ولعلّ غياب هكذا راوية، وراء تنكب البروتستانتي العنصري فالويل لحرب صليبية جديدة ضدّ الاسلام، ونجاحه في اعداد شبكة متعددة الاجنحة والوعاظ ووسائل الاعلام، لهذا الغرض.
محفل النورانيين..
يميل البعض للربط بين النورانيين، وبيبن الماسون، ويعتبرونها الجيل الثاني منهم.
ينسب ظهور التنظيم الأول إلى عام (43م)/(عام انشاء مدينة لندن الرومانية) وذلك على يد حاكم روماني يدعى (يورودس أكريبا)*، بمساعدة من اليهودي (حيران ابيورد) نائب الرئيس، واليهودي (مواد لامي). سوغت الجمعية اعتماد أسماء وإشارات رمزية ووهمية، لحفظ الطابع السري للجماعة وأعضائها، والتمويه على أعمالها.
وفي ذلك يقول الحاخام لاكويز: [الماسونية يهودية في تاريخها، ودرجاتها وتعاليمها، وفي كلمات السرّ فيها، وفي ايضاحاتها، يهودية من البداية إلى النهاية]. وكان هدفها الأولي، التنكيل بالمسيحية وأتباعها، ومنع انتشارها.
وفي عام (1770م) ظهر الجيل المعاصر من الماسونية تحت مسمّى (النورانية)* على يد الملحد الألماني آدم وايز هوايت [؟ - 1830م]، الذي وضع مخططا للسيطرة العالم، انتهى منه العام (1776م). وفي العام التالي أنشأ محفلا خاصا به تحت مسمى (النوراني)، الذي يرمز به لـ(إبليس) الذي يستهدون به وبسلطانه.
وبنفس الطريقة، جاء ربط التنظيم المزعوم، بالثري اليهودي الالماني أمشيل/ روتشيلد، ونسب له التنظيم والتمويل والاشراف، ووقوفه على رأس الحكومة العالمية الخفية؛ ومخططاتها لهدم وقيام انظمة وحكومات وحركات فكرية وسياسية، تجعل منه العقل الكوني البديل، للعقل الالهي المتحكم بالتاريخ.
تقوم عقيدتهم على تقويض الأديان، والبلدان، والثقافات، والمفاهيم، وتفكيك الأطر الوطنية والقومية، واسقاط الانظمة السياسية، والاجتماعية، والمنظومات الفكرية والأخلاقية. ومن أدواتهم نشر الفتن والاشاعات المغرضة والتمهيد لحروب واضطرابات وكوارث، داخل البلدان أو بين البلدان المتجاورة.
وحسب وليم كار، يتم ترجمة الاغراض في سيناريو مشروع شبكي منظم..
أولا: تدمير جميع الحكومات الشرعية، وتدمير وتقويض جميع الأديان السماوية
ثانيا: تقسيم (العالم) إلى معسكرات متناقضة، تتصارع فيما بينها بشكل دائم حول عدد من المشاكل، تتولى المؤامرة توليدها وإثارتها باستمرار، مهيأة لها أسباباً اقتصادية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو عنصرية
ثالثا: تسليح هذه المعسكرات، وبشكل متفاوت، فيكون من نتيجته أن ينقض طرف على الآخر.
رابعا: بث سموم الشقاق والنزاع داخل البلد الواحد، وتمزيقه إلى فئات متناحرة، وإشاعة عقلية الحقد والبغضاء فيه.
خامسا: تحطيم الحكومات الشرعية، والأنظمة الاجتماعية السليمة، وتهديم المبادئ الدينية الأخلاقية، والفكرية والكيانات القائمة عليها؛ تمهيداً لنشر الفوضى والإرهاب، والإلحاد
وبموجب دعاوى (نظرية المؤامرة) المنسوبة للماسون والنورانيين، حقا أو من قبيل الاتهام، جرى تعظيم أهميتها ودورها ومسؤوليتها وراء أحداث عالمية تاريخية ، منها: الثورة الفرنسية وظهور الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والصهيونية والقومية الاشتراكية والحروب العالمية الاولى والثانية وحرب فيتنام واحداث سبتمبر وغزو العراق ونشأة ميثاق حقوق الانسان والامم المتحدة وأمراض الايدز والفيروسات الملغزة، ودورها في قيام وسقوط دول وحكومات وأحزاب وتيارات فكرية وموضات اجتماعية، ويلحظ ان هاته كلها، مما تتهم به الحركة الماسونية.
ولكن جوابا عمليا واضحا يؤكد وجود الماسونية والنورانية ، لم يتحقق للآن، فكيف بدورها العنكبوتي المزعوم.
ومن الظواهر الملغزة، التي تكاد تنسف مصداقية الادعاء؛ نسبة أعداد كبيرة من كبار شخصيات البشرية على مدى التاريخ، ومن مختلف قطاعات الحياة والمعرفة والعلوم والدين، كأعضاء في الجماعات والأخويات الماسونية والنورانية، وهو أمر، يراد به تدعيم نفوذها وحقيقة وجودها. ولكني أرى العكس، سيما وأن معظم المعروفين من المعروفين بالاستقلال والحياد، أو المناوئين للالحاد والصهيونية واليهودية.
ومن المتهمين بعضوية المحافل الماسونية، الشيخ محمد عبده وجمال عبد الناصر. فما الغاية وراء ذلك. ربما كان الاجدر زج اسم (حسن البنا) ببينهم، وهو صاحب التنظيم التخريبي، والمناوئ للسياسة المصرية وخط العالم والمفتى محمد عبده.
أما الآخر، فليس في سيرة الرئيس جمال عبد الناصر [1918/ 1952- 1970م] ما يشير الى اسناد خارجي له. وبغض النظر عن نشاط المخابرات الأمريكية في موجة الانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية والبلاد العربية، لانشاء انظمة موالية للسياتسة الأميركية، عموما.
فقد واجه حكم عبد الناصر ضغوطا وتحديات، كان أحرى بالحكومة الماسونية، تسهيل الظروف لحكمه وتدعيمه، ليكون ذا دور وطني واقليمي وعالمي، مما يسجل للماسون، بدل الاحباطات والانتكاسات التي لاحقته، واغتياله بالسم من قبل خليفته.
ورغم ان السادات [1918/ 1970- 1981م] ذهب بعيدا في خدمة المشاريع الأمريكية والصهيونية والوهّابية، فلم يحظ بدعم أو حماية من الجهات الدولية والجمعيات السرية، ومات هو الآخر مقتولا. فما فضل الماسونية على أمثال هؤلاء الحكام؟.
واقع الحال، ان الاشاعات المجانية وراء تلك المزاعم، وذلك بغية اتهامها بالعمالة للخارج، وتشويه/ تسقيط الشخصيات، وطعنهم في مركز انتمائهم ووطنيتهم، مما يعتبر هدفا للمعارضة السياسية والقوى التخريبية في المنطقة.
ولا تجد احدا غير الشخصيات الوطنية والقومية المناوئة للخط الأميركي، ينالها الاتهام، بينما يتم حفظ آخرين، لعدم توفر عنصر العداء تجاههم. فلم يتهم عبد الكريم قاسم بالماسونية مثلا، ولكن أورد اسم صدام حسين ضمن أعضاء الماسونية وعملاء المخابرات الأميركية. ولكنه انتهى لمصيره الوحشي، بقرار خارجي، يفند مزاعم دعمه من الحكومة العالمية الخفية.
والسؤال هو: من هي الجهة المصدرة للاشاعات في المحيط العربي، والمستفيدة من تشويه صور حكام العرب المناوئين للغرب والصهيونية، وما صلتهم بالمشروع الصهيوني الأميركي. وهذا يكشف باطنية تلك الجهات وخبثها.
واليوم يعمل الجميع ضمن المشروع الصهيوني الأميركي ، الهادف لتدمير البلدان والاقتصادات والانظمة الشريفة. فكيف يبررون لأنفسهم، سيحانهم في الخطوط العدوانية العالمية والاقليمية والطائفية.. هاته هي خاصية الشطرنج، انها تنظف الرقعة، ولا تترك غطاء للأكاذيب والبيادق الرخيصة.
ان ما يضعف هاته الاقاويل والفبركات، أنها تتهم الاشخاص بصلتهم بها، بعد أن يكونوا قد ماتوا، وقد انقطع الطريق أمام التحقق من ذلك، منهم شخصيا. ولقد استغربت شخصيا اتهام روسو وفولتير وغوته بالماسونية، واستثناء الانجليز: وليم شيكسبير ومارلو وفرانس بيكون، وهم أكثر قربا الى المحفل السكوتلندي الرئيس في العالم، وأعظم شهرة انجليزية من سواهم. أم أن الاشاعات الانجليزية هي وراء اتهام الآخرين، والحفاظ على نزاهتها الطهورية والمعصومية، خارج اللعبة.
من لوائح الاتهام المفبركة، الاتهام الموجه لمؤسس الاشتراكية العلمية، والقطب الأعلى للحركة الشيوعية العالمية، بكونه مع رفيقه فردريك انجلز، من أقطاب ومديري الماسونية السرية، وتكليفهم من قبل المحفل النوراني بوضع كراسة البيان الشيوعي، والثورة العمالية الكادحة عام (1848م).
لا اعتقد أن فيلسوفا ومنظرا من وزن كارل ماركس، يجبن عن قول الحقيقة وراء جهودهم، وشخصيته الحقيقية، تاركا نفسه، مثل خروف الفقصح، تتلاعب به مصادر دعائية مفلسة، تجرد العلماء والزعماء من قيمة ومسؤولية منجزاتهم، وتسترقها بسهولة صبيانية.
وأخيرا.. بغض النظر عن الطروحات التوراتية والتلمودية، المعادية للانسانية، والمفتراة على الذات الالهية، فلو صدقت وجود جمعيات يهودية خفية، ذات دور تخريبي شيطاني في العالم، ومنذ قرون؛ فلماذا يعتبر القصاص من الجماعات اليهودية اعتداء، ولا يسمى دفاعا عن النفس، وردا للشرّ، وحربا على ملكوت ابليس وزبانيته. وهذا سند شرعي، أولى من مزاعم بوش الصغير، في الحرب ضد الارهاب. والارهاب الحقيقي هو ومن وراءه!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*https://www.ta3lime.com/showthread.php?t=26865
* وليم كار- (اليهود وراء كل جريمة)/ (1982م)- دار الكتاب العربي- شرح وتعليق خيرالله طلفاح/عن: صحيفة المسيرة- يمن بريس.

(19)
اليهود وثورة اكتوبر 1917م..
في عام 1830م توفي آدم وايزهاويت الرأس المفكر للماسونية النورانية، والمخطط الأعظم لأعمالهم بعد حياة طويلة سخر خلالها عبقريته الشريرة لخدمة أتباع الشيطان.
فعمد النورانيون إلى (بايك) بمهمة التخطيط، وعيّنوا له مقراً في (ليتل روك) الامريكية للعمل. وفي هذه البلدة اعتكف (بايك) في قصر هادئ للفترةبين [1859- 1871م]. وفي خلال هذه الأعوام قام بدراسة مخططات (وايزهاويت)، ثم وضع مخططاته الجديدة على ضوئها. ومنها أنه أقرَّ ونظم تبني النورانيين لحركات التخريب العالمية الثلاث المبنية على الإلحاد وهي: [الشيوعية، الفاشستية، الصهيونية]*. وهاته الثلاثة ذات طبيعة باطنية/ سرية، واليات ومزاعم متشابهة.
فالأولى: الشيوعية: تهدف للإطاحة بالحكم الملكي في روسيا، وبعد الإطاحة بالحكم تجعل هذه المنطقة من العالم هي العقل المركزي للحركة الشيوعية الإلحادية، تم تأتي بعد ذلك مرحلة الانطلاق بالشيوعية إلى كل أرجاء العالم، بغية تدمير المعتقدات الدينية والأخلاقية.
والثانية: الفاشستية: تُؤَمِّن حروبا عالمية، تمهّد لاجتياح الحركة الشيوعية لنصف العالم، مما يهيئ للمرحلة القادمة، وهي إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين.
والثالثة: الصهيونية: تتصدى للزعماء الإسلاميين، وتشن حرباً على الإسلام، الذي يعد القوة الأخيرة المجابهة للقوة الخفية - الماسونية -، وصولا إلى تدمير العالم وعقائده
وأنشئت، في تلك السبيل، جمعيّات سرّية؛ منها جمعية أطلق عليها (فرقة تحرير العمل)/ (1883م): مهمتها نشر أفكار كارل ماركس وآرائه/(عام وفاة ماركس). كما قامت منظمة (اتحاد العمال اليهود) بنشاطات واسعة في تأجيج الثورة ضد القيصرية، وبالاتصال بكبار أصحاب الأموال في العالم لتمويل أنشطتهم..
في عام (1893م) ذهب لينين إلى (بطرسبرغ) فأقام فيها، وأنشأ حلقة ماركسية انضم إليها عدد واسع من اليهود، ثم قام بمهمة توحيد الحلقات الماركسية في المدينة، وكان يزيد عددها على العشرين، فجمعها في (اتحاد النضال لتحرير الطبقة العاملة). وظل الاتحاد يعمل بقيادة لينين حتى اعتقاله عام (1895م)..
وفي الولايات الغربية من روسيا واصل اليهود مسيرة لينين، فأنشأوا حزب (البوند)/(الاتحاد العام للحزب الاشتراكي اليهودي)، ولم يحضر لينين هذا المؤتمر بسبب نفيه إلى سيبيريا.
وفي عام (1903م) انعقد في بروكسل/ بلجيكا، مؤتمر (التوحيد)، بهدف توحيد الحركات الماركسية كلّها في (حزب العمال الاشتراكي). وكان برنامج الحزب الموضوع من قبل لينين، هو (الثورة الاشتراكية)، وقلب سلطة الرأسمالية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا
وفي نيسان عام (1917م) عاد إلى موسكو قادة المنظمات اليهودية الماركسية؛ فعاد لينين من سويسرا، وعاد ستالين من سيبيريا، وعاد تروتسكي من نيويورك مع مئات الشيوعيين اليهود الحمر.
وفي نفس الشهر، اجتمع البلاشفة/(الأغلبية)، برئاسة لينين، ووضعوا مخططاً لتحويل الثورة لمصلحتهم. وفي تشرين من عام (1917م) نجح البلاشفة في الاستيلاء على السلطة المؤقتة.
بعد الثورة، كشف المليونير اليهودي جاكوب شيف، دور دعمه المالي في نجاح الثورة. وأنه عمل مع تروتسكي في التحضير لها..
وفي استكهولم كان اليهودي (ماكس واربورج) ينفق بسخاء على هدم النظام القيصري، ثم انضم إلى مجموعة أصحاب الملايين اليهود - (والف اشبورغ) (وجيفولوفسكي) الذي تزوج ابنة (تروتسكي)
وقالت الصحيفة الفرنسية القديمة الصادرة في عددها 115 عام (1919م)، ان المعروف أن الحركة البلشفية ليست سوى حركة يهودية سرية، يربطها ويوجهها التمويل اليهودي، فضلاً عن القيادات اليهودية فكراً وتنظيماً
وتساءلت الصحيفة كيف يتفق أصحاب رؤوس الأموال في العالم، مع دعوة (البروليتاريا)/ الطبقة الفقيرة؟. أيكون هذا دعاية من الدعايات التي تطلقها الدول الرأسمالية ضد النظام الشيوعي وأتباعه؟
إن الصحيفة الفرنسية تحسم هذه التكهنات والتناقضات بقولها: إن الهدف من تمويل الثورة الشيوعية من قبل الرأسمالية اليهودية، هو إقامة دولة إسرائيل في فلسطين!
وما يؤيد ما قالته الصحيفة الفرنسية، أن من أول القرارات التي أصدرها لينين عقب توليه السلطة: هو قراره المعروف بتأييد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
والعجيب في الأمر أن قرار لينين هذا/(اكتوبر 1917م) تزامن مع وعد بلفور الإنجليزي/(نوفمبر 1917م) لهذا الغرض.
واقع الحال، ان السوفيت، سمحوا بإقامة دولة اليهود السوفيت في بيروبيجان ، ويسميها الدكتور أسعد السحمراني/(مواليد 1953م في عكار/ لبنان): (اسرائيل الأولى)/(كتابه: اسرائيل الأولى: بيروبيجان)-ط2- دار النفائس/ 2004م.
(تلقى يهود والحركة الصهيونية مشروع (بيروبيجان) بالقبول على أن يكون محطة وتجربة من أجل أن الوطن المستقل لهم هو فلسطين المنوي اغتصابها، وقد عبر عن هذا الموقف لحظة إعلان القرار السوفيتي زمن ستالين عام 1928 م، رئيس المنظمة الصهيونية يومها حاييم وايزمان الذي قال: نبارك هذا المشروع ونحييه، ليس بديلاً عن التفكير/(الجنوني الإجرامي)، في إقامة وطن قومي ليهود في فلسطين، بل باعتباره تجربة أولى لفكرة الوطن القومي اليهودي).
والسؤال هنا: من هو صاحب اخراج هذا العمل، المحذوف اسمه وراء الكواليس، وهو المستفيد الأكبر، منه. المحذوف من الذكر، والمنزه والمعصوم في اسفار التاريخ، هو (الجن القابع في لندن)/(عرش إبليس)/ (عدوّ البشر).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* وليم كار- (اليهود وراء كل جريمة)/ (1982م)- دار الكتاب العربي- شرح وتعليق خيرالله طلفاح/عن: صحيفة المسيرة- يمن بريس.
*https://dorar.net/mazahib/1027/
* https://sudaneseonline.com/board/472/msg/مؤسسوا-الأحزاب-الشيوعية-في-الوطن-العربي-يهود-1398695830.html- مكتبة عمر صديق
(يتبع..)

(29)
العرب أمة عظيمة..
(20)
فكر باطني تخريبي منافق..
يقول بيان لمحفل المشرق الماسوني الفرنسي لعام (1904م)/ ص237: ان الماركسية واللاقومية هما وليدتا الماسونية، وكل من كارل ماركس وفردريك أنجلز، هما من ماسونيي الدرجة الحادية والثلاثين، ومن منتسبي المحفل الانجليزي، وقد أدارا الماسونية السرية، وأصدرا البيان الشيوعي العالمي*.
كيف ينظر ماركس للماسونية؟.. كيف يمكن فهم شخصية ماركس؟.. هل هو ديني أم ملحد؟.. هل اليهودية، عنده كما عند غيره، دين أم ثقافة أم عرق؟.. هل هو أوربي أم أشكناز؟.. جده كان حاخاما، وأبوه بروتستانتيا من أصل يهودي، فأين يكون هو؟.. يهودي يعيش في أوربا، وألماني يعيش في لندن، ويفكر في نيويورك.. من عائلة غنية ومتزوج من بارونيس، مدير الماسونية السرية، ويعيش عيشة كفاف وشحاذة على نفقه رفيقه ابن الصناعي.. شبكة حروف متقاطعة لا تتشابه.. مثل طلسم.. ما مبرر غموض معقد، لشخص يريد تغيير العالم..
وإذا كان وراء الماسونية أشخاص عاديون، وهي تضم ملوكا وحكاما بين أعضائها، فهل خضع الزعماء لها، أم الماسونية وقعت تحت هيمنة الملوك والزعماء.. وكيف ينضوون تحتها، وأهدافها الدفينة، هي قلب أنظمة حكمها ونشر الاضطرابات في مجتمعاتها.
الماسونية فرية، أو وهم، اختلقها الغرب، لاسناد مقولة الاغريق: (اليهود وراء كلّ جريمة!). وفي أحسن الأحوال، تكون مؤسسة (قناع)، يعمل من ورائها منظرو الفاشية في تخريب العالم، والهيمنة عليه.
ولم يعتد اليهود الردّ على مهاجميهم أو يكيلون لهم الاتهامات، لذلك لم يصدر ما يفند أو يدعم جملة الدعاوى المنسوبة للماسونية أو اليهود، بما فيه عائلة روتشيلد.
يقول المؤرخ الانجليزي، طعنا في شخصية ماركس، وتفنيدا للدعاوى الشيوعية: أن معظم مؤسسي المنظمات والتنظيمات الشيوعية وقياداتها التاريخية هم من اليهود. منهم ماركس وانجلز ولينين.
عندما اصدر لينين صحيفة اسكرا/ شرارة/(1900م)، كان أربعة من أصل ستة، في إدارتها من اليهود.
في مؤتمر بروكسل /(1903م) للمنظمات والاتحادات العمالية والاشتراكية، كان أغلبية الحضور [43 من أصل ستين] من اليهود.
وعند تاسيس الحزب الشيوعي الروسي، كان (371 من أصل 388) يهودا.
وفي أول مجلس شيوعي يتشكل بعد نجاح ثورة اكتوبر/(1917م)، كان [447 من أصل 547] يهودا. وفي عام (1951م) كان المجلس الشيوعي يتكون من سبعة عشر عضوا، بينهم اربعة عشر من اليهود.
في الثورة الألمانية لعام (1918م) كان الدور البارز للشيوعية روزا لوكسمبورغ [1870- 1919م]. والثورة الشيوعية في هنغاريا عام (1919م) كانت بقيادة اليهودي بيلاكون. وفي رومانيا كانت سكرتيرة الحزب الشيوعي يهودية/(انا باوكر). وفي بولندا قاد الحركة الشيوعية أربعة يهود [مينك، سكريزفسكي، مودزيلفسكي، برمان].
الحزب الشيوعي الفلسطيني، لدى تأسيسه/(1919م)، أسسه جاك شابيليف وروزا كارنبورغ/(ابراهيم الشريفي: الشيوعية المحلية)، كل أعضائه من اليهود الروس المهاجرين.
وفي تأسيس الحزب الشيوعي لسوريا ولبنان/(1924م) كان لليهودي البولوني جوزيف بيرغر واليهودي الليتواني الياهو تيبر دور في التأسيس الحزبي والتنظيمي.
في الحزب الشيوعي العراقي كان أمين المكتب السياسي اليهودي يهودا صديق. وكان اليهودي يوسف زلوف مسؤولا عن عمال بغداد، قبل أن يصبح مسؤول التنظيم في البصرة. ومن المسؤولين اليهود في الحزب الشيوعي العراقي: [حزقيل صديق، موشي مراد كوهين، يوسف زلخه، ساسون دلال، موشي مختار، ابراهيم شاؤول].
وفي مصر تشكلت الحلقات الشيوعية الأولى بيد يهود روس: [أفجيدرو، ناداب]. وتأسست الحركة المصرية للتحرر الوطني/(حدتو: واجهة شيوعية) من قبل اليهودي الايطالي هنري كورييل. وأسس اليهوديان: هيلل شفارتس وايلي شوارتز منظمة ايسكرا الشيوعية. وفي (1920م) تأسس الحزب الشيوعي من قبل اليهوديين: جوزيف روزنتال وهنري كوريل.
وفي العراق نشرت صحيفة القاعدة السرية/(ع11- 1953م): [ان الشعب العراقي يرفض بإباء، أن يحارب الشعب الاسرائيلي الشقيق]. وكتب الشيوعي العراقي الكلداني فهد/(يوسف سلمان يوسف)/[1901- 1949م]: [مرحبا بانشاء دولتين عربية ويهودية في فلسطين. واشترط لهما الاشتراكية والتحالف ضد الرجعية الدينية العربية].
وفي كتاب (أضواء على القضية الفلسطينية) اصدره شيوعيون عراقيون، ورد في اخره: [فلتسقط الحرب بين العرب واليهود في فلسطين. فليحيا التعاون والتحالف بين الوطنيين والدمقراطيين العرب واليهود، لاحباط خطط الاستعمار والرجعية. ولتحيا الصداقة العربية اليهودية].
وحول حرب (1948م) اعتبرها الحزب الشيوعي السوري اللبناني: [مؤامرة رجعية دينية استعمارية، هدفها بذر الخصومة والعداء بين الشعبين العربي واليهودي].
وعند تنصيب خالد بكداش [1912- 1995م] على رأس الحزب الشيوعي السوري اللبناني، ارسل فرج الله الحلو الى تل أبيب للتنسيق، واستقدم اليهودي ليخمان ليفنسكي كمستشار للقيادة.
وفي المغرب ظهر زعيم الحزب الشيوعي علي يعته [طنجه/ 1920- 1997م] في عيد رأس السنة لعام (1994م) وهو في محفل يهودي، يستمع للحبر اليهودي الكبير، مرتديا طاقية الرأس اليهودي التقليدية.
نقولا حداد [1878- 1954م] ا لكاتب اللبناني/ المصري، يميز اليهود الى ساميين واريين، كناية عن اليهودي الشرقي واليهودي الغربي. ويرى ان: [الصهيونية اخت الشيوعية، بل أمها. لأن اليهود الذي قلبوا الحكم القيصري كانوا كلهم يهودا ما عدا لينين]*. وأن ستالين فطن لمحاولة اليهود السيطرة على البلاد، فوضع حدا لهم، امثال: غروميكو وفتشنسكي.
ويتساءل الكاتب: هل يعرف الامريكان أنهم يناهضون الشيوعية، ويخدمونها بتأييد تل أبيب؟.
ويرى الكاتب السوري كرم خليل*: ان تسعة من أصل اثني عشرفي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي أيام لينين هم يهود. وأن أم لينين وزوجته يهوديتان. وفي عام (1936م) ضمت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (56 من أصل 59) يهودا. وبقية الثلاثة كانوا متزوجين من يهوديات، ومنهم ستالين نفسه.
كانت روسيا من أوائل الدول اعترفت بقيام دولة اسرائيل، وأبدت استعدادها للتدخل لحمايتها، معلنة أن اسرائيل وجدت لتبقى. وترفض بحث أي فكرة تتعرض للكيان الاسرائيلي. ولذا تتدخل لحفظ التوازن في شرق المتوسط. ويرى كرم خليل ان اليهود طوّروا اليهودية من (دين) إلى (منظمة سرية). وان الصهيونية تتكون من (82%) اشكناز أوربيين/(غير ساميين).
ويرفض الشيوعي العربي الاسرائيلي عصام مخول*مصطلح (اليسار الصهيوني)، لكون الصهيونية حركة يمينية رجعية ولدت من رحم الامبريالية. ويرى :التقت الحركة الصهيونية بكل تياراتها على ثلاث فرضيات تتناقض مع كل ما هو يساري وعلمي ومع التحليل المادي التاريخي للمسألة اليهودية:
فرضية وجود شعب يهودي عالمي. أمة عالمية واحدة فريدة! لا تسري عليها القوانين الموضوعية أو التعريفات المختلفة.
وفرضية أن اللاسامية واضطهاد اليهود على أساسها تشكل ظاهرة ابدية، خالدة، ولا تاريخية، ناتجة عن مجرد وجود اليهود بين الأغيار من الشعوب الاخرى، ولذلك لن يتحقق اندماجهم بالشعوب التي يعيشون بينها.
وفرضية ان حل المسألة اليهودية، يكون بسلخ اليهود عن مجتمعاتهم، وتركيزهم في دولة يهودية في فلسطين، على اعتبار أن فلسطين كانت إقليم الدولة العبرية القديمة . وهي مهمة تاريخية تؤديها (حركة تحرر قومي عالمية) عابرة للحدود والدول، متمثلة بالصهيونية المعاصرة/(أميل توما)*..
مؤكدا ان اليسار المناهض للصهيونية رفض دائما هذه الفرضيات جميعها ودحض أسسها، وفنّد منطقها، وفضح طابعها الرجعي، ودورها التضليلي، ومنهجها غير العلمي و اللاتاريخي. ويؤيد المفكر الماركسي اللينيني وولف إيرليخ في كتابه "قوة الفكرة" أن النشاط الصهيوني يشكل جزءا لا يتجزّأ من الاستراتيجية الامبريالية الكونية.
وممن أكدوا دور اليهود في تأسيس الشيوعية العربية: فؤاد كرم، الرفيق رائد صاحب كتاب (اعترافات شيوعي عراقي)/(ص45)، وفي (ص72): ان اللجنة المركزية لحزبنا تتسلم المخصصات الشهرية من اسرائيل والاتحاد السوفيتي. وفي (ص9) يقول: ان اسرائيل تعمل على تدعين حزبنا، أكثر مما يعمل الحزب نفسه!/ (سودانيز اونلاين).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمود حسن جناحي- الصلة بين اليهود والشيوعية.. حقائق وأرقام- موقع شخصي على الشبكة:http://maqalati.com/56.htm
*https://sudaneseonline.com/board/472/msg/مؤسسوا-الأحزاب-الشيوعية-في-الوطن-العربي-يهود-1398695830.html مكتبة عمر صديق-
* نقولا حداد- مجلة الرسالة ع 799- مقال: (اليهودية، الصهيونية، الشيوعية)..
* كرم خليل- الحوار المتمدن- ع5477 في 31 مارس 2017م- (الشيوعية والصهيونية.. الولادة من خاصرة اليهودية).
*عصام مخول- الحوار المتمدن-ع 4167- في 28 يوليو 2017م.
* عصام مخول: مواليد حيفا (1952م)، عضو الحزب الشيوعي الاسرائيلي، وعضو البرلمان الاسرائيلي/(كنيست) عن (حدش) للفترة [1999- 2006م]، اكاديمي متخصص في علم الاجتماع، ويعمل على تطوير العلاقات بين (حدش) والاحزاب الشيوعية في الخارج.
* أميل توما [1919- 1885م] من مواليد حيفا، ناشط سياسي، أسس نادي (شعاع الأمل)، و(اتحاد نقابات وجمعيات العمال العرب) الذي تحول إلى نواة (مؤتمر العمال العرب). في (1943م) اسس (عصبة التحرر الوطني) بالمشاركة مع توفق طوبي وأميل حبيبي، وانتخب توما امين السر. في (1944م) اصدر اتحاد نقابات العمال العرب في حيفا جريدة (الاتحاد) المستمرة في الصدور، وكان اميل توما صاحبها ومحررها المسؤول. في (1947م) حضر في مؤتمر الأحزاب الشيوعية في بلدان التبعية البريطانية في لندن، مندوبا عن عصبة التحرر الوطني. عارض قيام دولة اسرائيل واعتبره مشروعا امبرياليا، لضرب حركات التحرر الوطنية العربية. وعارض قرار الامم المتحدة رقم (188) في (29 نوفمبر 1947م) لتقسيم فلسطين. في نكبة (1948م) تعرض للتهجير الى لبنان، لكنه تمكن من العودة إلى حيفا لاحقا وانتظم في الحزب الشيوعي الاسرائيلي عام (نوفمبر 1948م)، لكنه عوقب بالتجميد حتى عام (1965م) نتيجة مواقفه المناوئة لاسرائيل والتقسيم. شارك في معهد الاستشراق الروسي [1965- 1968م] في قسم التاريخ، برسالته الموسومة (مسيرة الشعوب العربية ومشاكل الوحدة العربية). في (1971م) أسس رابطة الاكادميين العرب. في (1975م) كان سكرتير لجنة الدفاع عن الأراضي العربية، إلى جانب صليبا خميس. في (1984م) شارك في جنيف، في اللقاء الدولي حول القضية الفلسطينية للمنظمات غير الحكومية، بدعوة من الامم المتحدة، وانتخب في لجنة التنسيق الدولية. كان اميل توما عضوا في المكتب السياسيللحزب الشيوعي الاسرائيلي، وعضو في الامانة العامة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة. في (1986م) أنشأ الحزب الشيوعي الاسرائيلي معهد اميل توما للدراسات الفلسطينية/ الاسرائيلية. في (2004م) اطلقت بلدية حيفا اسم (اميل توما) على شارع في (حي النسناس). صدرت مؤلفاته الكاملة في اربعة عشر جزء. ورأيه في القضية الفلسطينية يقومم على بنود: انسحاب اسرائيل لما قبل حدود 67. اقامة دولة عربية فلسطينية في اراضي (1967م) عاضمتها القدس الشرقية. حق عودة اللاجئين، حق تعويض لمن لا يعود لفلسطين. ضمان السلام لحدود اسرائيل، وقد تم تبنيه لاحقا من عدة اطراف اقليمية.

(21)
خنجر مسموم في قلب العروبة..
بعض المصادر ، تعتبر المصلح الالماني مارتن لوثر [1483- 1546م] أول من طرح فكرة تجميع اليهود في فلسطين. ثم تجددت الدعوات في عهد آرثور كرومويل عام (1655م): الذي وعد اليهود بمنحهم وطنا قوميا. وتقول ريجينا شريف في كتابها (الصهيونية غير اليهودية.. جذورها في التاريخ الغربي)، إن البدايات المبكرة لطرح فكرة (تجميع اليهود في فلسطين)، تعود إلى عام 1649، على لسان عدد من المبشرين، ومنهم الليدي أستر سترانهوف، التي دعت وبشرت بالوطن اليهودي ما بين [1804-1819م].
وأثناء عقد مؤتمر الدول الأوروبية في لندن عام (1840م) قدم اللورد شافتسبري [1801- 1885م] مشروعا إلى بالمرستون [1784- 1865م] أطلق عليه (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض). وقد (اقترن هذا الشعار بالكاتب الإنجليزي يسرائيل زنغويل/ [1864- 1926م)؛ داعيًا إلى أن تتبنى لندن، إعادة اليهود إلى فلسطين، وإقامة دولة خاصة بهم. وتبنى بالمرستون خلال المؤتمر مشروعًا يهدف إلى (خلق كومنولث يهودي في النصف الجنوبي من سوريا): أي المساحة التي شغلتها فلسطين التوراتية.
وفي عام (1844م) ألف البرلمان الإنجليزي (لجنة إعادة أمة اليهود إلى فلسطين). وفي العام نفسه تألفت في لندن (الجمعية البريطانية والأجنبية للعمل في سبيل إرجاع الأمة اليهودية إلى فلسطين). وألح رئيسها القس كريباس على الحكومة البريطانية كي تبادر للحصول على فلسطين كلها، من الفرات إلى النيل، ومن المتوسط إلى الصحراء.
وفي عام (1845م) قدم إدوارد ميتفورد، الذي كان من أنصار بالمرستون، مذكرة إلى الحكومة البريطانية يطلب فيها (إعادة توطين اليهود في فلسطين بأي ثمن، وإقامة دولة خاصة بهم تحت الحماية البريطاني). وفي عام (1880م) تبنّى الأسقف الإنجليكاني في فيَنّا وليم هشلر [1845- 1931م]، نظرية تقول: [إن المشروع الصهيوني هو مشروع إلهي، وإن العمل على تحقيقه يستجيب للتعاليم التوراتية].
وألف هشلر كتابا عام (1882م) بعنوان: عودة اليهود إلى فلسطين حسب النبوءات. وفي عام (1887م) أسس بلايستون في شيكاغو منظمة (البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل) لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين. ولا تزال هذه البعثة قائمة باسم الزمالة الأميركية المسيحية.
تلك المواقف أسهمت في تجسيد فكرة الصهيونية اليهودية السياسية الرسمية في أواخر القرن التاسع عشر، من خلال المؤتمر الصهيوني اليهودي الأول الذي عقد في بال في سويسرا عام 1897 برئاسة ثيودور هرتزل، والذي في إطاره تم خلق صلة ما بين أفكار الصهيونية المسيحية والمصالح الإستراتيجية لبريطانيا، ثم تتابعت مواقف الصهيونية المسيحية لتصل إلى آرثر جيمس بلفور الذي خطّ اللمسات الأخيرة على المشروع بإستصدار (وعد بلفور 1917م) ليضع الأسس العامة لعودة اليهود لفلسطين كتمهيد لعودة المسيح، وخدمة المصالح البريطانية في المنطقة.
وتذكر المصادر التاريخية، أن نابليون بونابرت [1769- 1821م] كان من أوائل السياسيين الأوروبيين الذين نادوا علانية بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين، عبر ندائه الشهير الموجه لليهود (ورثة أرض إسرائيل الشرعيين)/(أبريل 1799م). وسرعان ما تلقف الرئيس الأميركي جون آدامز [1735/ 1797- 1801/ 1826م] الفكرة، فدعا في عام (1818م) إلى استعادة اليهود لفلسطين وإقامة حكومة مستقلة لهم.
ظهر الاهتمام البريطاني بفلسطين مبكرا، فافتتحت أول قنصلية لها بالقدس في ظل الحكم العثماني عام (1838م) تحت ذريعة العناية باليهود، حيث كانت حماية الأقليات الدينية ذريعة للدول الكبرى لبسط نفوذها في المنطقة، فقد تبنت فرنسا الموارنة، فيما تبنت روسيا الأرثوذوكس، ولأنه لم يكن في المنطقة العربية مسيحيين بروتستنانت فقد لجأت بريطانيا لليهود/ عبد الغني سلامه- المقدمات التاريخية والسياسية لوعد بلفور- الحوار المتمدن- ع 5686- 2 نوفمبر 2017م.
رئيس وزراء بريطانيا اللورد بالمرستون الفكرة، فقام بتعيين وليام يونغ أول قنصل بريطاني في القدس عام (1838م)، وتكليفه بمنح الحماية الرسمية لليهود في فلسطين. كما طلب من السفير البريطاني في القسطنطينية بالتدخل لدى السلطان العثماني للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين.
السلطان عبد الحميد [1842/ 1876- 1909/ 1918م] كان السد المنيع الذي وقف في وجه التهديدات والإغراءات الصهيونية، رافضا التنازل عن شبر من فلسطين. لكن، في واقع الأمر، شهد عهده ذروة النشاطات التأسيسية للحركة الصهيونية، حيث تضاعف عدد اليهود في فلسطين ثلاث مرات، من أربعة وعشرين ألف عام (1882م) إلى ثمانين ألف عام (1908م)، وازداد عدد المستعمرات من مستعمرة واحدة (بتاح تكفا) عام (1878م)، حتى 33 مستعمرة إلى جانب (68) مستعمرة زراعية وتجارية في العام (1908م).
كما تواصلت الاستثمارات اليهودية في فلسطين وازدادت كمّا ونوعا، وتواصلت عمليات تسريب ملكية الأراضي لليهود، حتى تجاوزت الأربعمائة ألف دونم في نفس العام. وهذه المنجزات والأرقام كانت في غاية الأهمية بالنسبة للمشروع الصهيوني، وقد شكلت الأساس المادي له. ولا شك أن السلطان كان متابعا لأدق التفاصيل لما يحصل في فلسطين،
1881م: غرب روسيا: ضغوط متزايدة على اليهود، دفعت مليونين ونصف منهم للهجرة تجاه غرب أوربا والولايات المتحدة الاميركية.
1882م: تشكيل جمعية أحباء صهيون، برئاسة ليون بنسكر [1821- 1891م]، ومهمتها مساعدة اليهود المقيمين في الشام وفلسطين، وتشجيع هجرة اليهود الى فلسطين.
اثرياء اليهود: لترون موريس دي هيرش [1831- 1896م]، تبرع بانشاء مستعمرات في الأرجنتين. بارون ادوند دي روتشيلد تبرع بانشاء مستوطنات في جنوب فلسطين.
روما والقدس/ منتصف القرن التاسع عشر- كتاب لليهودي الفرنسي موسى هس [1812- 1875م]، شخص مشكلة اليهود في عدم وجود وطن قومي لهم..
المسألة اليهودية/ 1896م- تأليف النمساوي تيودور هرتزل [1860- 1904م]، تضمن أسس حل مشكلة اليهود.
1893م: ظهور مصطلح الصهيونية لاول مرة بقلم الصحفي النمساوي اليهودي ناثان برنباوم [1864- 1937م].
مؤتمرات صهيونية برئاسة هرتزل: 1897/ بازل، 1898/ بازل، 1899/بازل، 1900/ لندن. والاخير ركز على الدعاية الصهيونية.
الصندوق القومي اليهودي/ 1901م. البنك الانجلوفلسطيني/ 1903م
1903م: عرض هرتزل بانشاء وطن قومي في اوغندا، عارضه الروس..
مؤتمر بانورمان [1906- 1907م]..
مؤتمر سري عُقد في لندن في الفترة ما بين (1905- 1907م)، بمشاركة بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا، عرف بمؤتمر بانرمان؛ والذي افتتحه رئيس وزراء بريطانيا هنري كامبل بانرمان [1836/ 1905- 1908م] بهذه الكلمات: إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حدٍّ ما، ثم تنحل رويدًا رويدًا، ثم تزول، والتاريخ مليء بمثل هذه التحولات، وهو لا يتغير بالنسبة لكل نهضة ولكل أمة، فهناك إمبراطوريات روما، أثينا، الهند، الصين، وقبلها بابل وآشور والفراعنة وغيرهم. فهل لديكم أسباب أو وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوروبي وانهياره أو تؤخر مصيره؟.. فقد بلغت أوروبا الآن الذروة، وأصبحت قارة قديمة استنفدت مواردها وشاخت مصالحها، بينما لا يزال العالم الآخر في صرح شبابه يتطلع إلى المزيد من العلم والتنظيم والرفاهية، هذه هي مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وسيطرتنا.
وفي عام (1908م) قدّم الوزير البريطاني هربرت صاموئيل [1870- 1963م]، وهو سياسي بريطاني يهودي، وأول مندوب سامي بريطاني في فلسطين، مذكرة اقترح فيها تأسيس دولة يهودية في فلسطين تحت إشراف بريطانيا، شارحاً ما ستجنيه بريطانيا من فوائد من قيام هذه الدولة في قلب العالم العربي، والقريبة من قناة السويس.
نشر حاييم وايزمان [1874/ 1849- 1952م] مقالة في تشرين الثاني من العام (1915م) في صحيفة (مانشستر غارديان)، قال فيها: إذا دخلت فلسطين ضمن منطقة النفوذ البريطاني، ووافقت الحكومة البريطانية على تشجيع إسكان اليهود فيها، فإنه يمكن أن يصير لنا فيها خلال عشرين أو ثلاثين عاماً نحو مليون يهودي، أو ربما أكثر من ذلك فيشكلون حراسة عملية قوية لقناة السويس.
وتذكر بعض المصادر أن اللورد ليونيل روتشيلد [1868-1937م]: زعيم الطائفة اليهودية في إنجلترا، قد تقرب إليه كل من حاييم وايزمان - أول رئيس لإسرائيل فيما بعد- وناحوم سوكولوف، ونجحا في إقناعه في السعي لدى حكومة بريطانيا لمساعدة اليهود في بناء وطن قومي لهم في فلسطين. ولم يتردد روتشيلد في ذلك، بل سعى بالإضافة لاستصدار وعد بلفور إلى إنشاء فيلق يهودي داخل الجيش البريطاني خلال الحرب العالية الأولى.
بتاريخ 2 نوفمبر عام (1917م) رسالة مُوَجَّهَةٌ من وزير خارجيّة المملكة المتحدة آرثر بلفور [1848- 1930م] إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد [1868- 1937م] أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، و ذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى و إيرلندا. نُشر نص الوعد (أو الإعلان) في الصحافة في 9 نوفمبر عام (1917م).
أول مفاوضات على مستوىً عالٍ بين البريطانيين والصهيونيِين كانت في مؤتمرٍ عقد في [7 فبراير عام 1917م]، شارك فيه السير مارك سايكس [1879- 1919م] و القيادة الصهيونية. قادت النقاشات التي تلت هذا المؤتمر إلى طلب بلفور في 19 يونيو/حزيران من روتشيلد و حاييم وايزمان أن يقدما مشروع إعلان عام.
نُوقشت مشاريع و اقتراحات أُخرى، من قِبل مجلس وزراء بريطانيا خلال سبتمبر و أكتوبر، مع مُدخلات صهيونيّة و مُعادية للصهيونيّة، و لكن دون أي تمثيل للسكان المحليين لفلسطين. أُذن بالإفراج عن الإعلان النهائيّ بحلول [31 أكتوبر 1917م].
معركة بئر السبع/ (31 أكتوبر 1917م)
. وقعت عندما هاجمت قوة مشاة المصرية (اي اي اف)، واستولت على حامية جيش مجموعة يلدريم في بئر السبع.
شملت القوة القتالية: 47.500 مقاتل، 15 ألف بندقية، 60 رشاشة الية، 28 مدفع ميداني. خسائر بشرية 171 جندي. جرحى ألف جندي. أسير 1.974.
اجتمع الأمير فيصل بن الحسين [1883- 1933م] مع الصهيوني وايزمان، بوساطة بريطانيا. وحسبما هو ثابت في محاضر اللقاء تعهد فيصل بتوثيق التعاون مع الحركة الصهيونية وفتح باب الهجرة أمام اليهود، واعترافه بوعد بلفور.
وفي تصريح لونستون تشرشل [1874/ 1940- 1945/ 1965م] في (11 يوليو 1922)/(كان آنذاك وزيراً للمستعمرات): أن فلسطين كانت مستثناة من تعهدات الحكومة البريطانية للعرب بالاستقلال، وادعى بأن فيصل بن الشريف حسين كان قد اتفق أثناء مباحثاته مع البريطانيين عام 1921 على ذلك.
في عام (1939م): اعترفت الحكومة البريطانيّة أنه كان من المفترض أخذ آراء السكان المحليين بعين الاعتبار. وفي عام (2017م): اعترفت أنه كان ينبغي أن يدعو الإعلان لحماية الحقوق السياسيّة لعرب فلسطين.
من التقسيم إلى الانتداب..
بعد تقسيم بلاد الشام حسب اتفاقية سايكس بيكو، كانت منطقة فلسطين (من بئر السبع جنوبا إلى عكا شمالا) منطقة دولية، ولكن بعد انتهاء الحرب رغبت بريطانيا بتغيير هذا المبدأ من الاتفاقية؛ إذ أرادت إنشاء معبر متواصل بين الخليج العربي وميناء حيفا. فاجتمع في إبريل 1920 مندوبي الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى في مدينة (سان ريمو) الإيطالية، ليقرروا الشكل النهائي لتقسيم الأراضي العربية التي سقطت من قبضة الدولة العثمانية.
في هذا المؤتمر اتفقت الأطراف على منح منطقة فلسطين لبريطانيا (رغم أن هذا يتعارض مع ما تم الاتفاق عليه سابقاً)، وتم التوقيع على معاهدة (سان ريمو)، التي حددت مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية في المشرق العربي؛ بحيث تكون سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين والأردن تحت الانتداب البريطاني، بالإضافة إلى العراق، (مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور).
فلسطين تحت الإنتداب البريطاني للفترة: [مايو 1921م- مايو 1948م].
لم تتشكل أحزاب فلسطينية إلا في مرحلة متأخرة نسبيا؛ حيث تأسس حزب (الاستقلال) العربي سنة (1932م)، حزب (الدفاع الوطني)/ (1934م)، الحزب (العربي الفلسطيني)/ (1935م)، حزب (الإصلاح)/ (1935م). وهذه الأحزاب تأسست في القدس، أما حزب (الكتلة الوطنية)، فتأسس في نابلس سنة (1935م).
ربما يكون الحزب الشيوعي الفلسطيني هو الأقدم، إذ تأسس عام 1919، لكنه كان بقيادة مشتركة بين العرب ويهود يساريين. عموما، كانت هذه الأحزاب ذات قيادات تغلب عليها النزعة القبلية، ولا تحظى بقاعدة شعبية عريضة (باستثناء حزب المفتي الحاج أمين الحسيني[1895- 1974م]).
وكذلك تأخّرت نسبيا ردّات الفعل الشعبية، والتي جاءت على شكل هبّات وانتفاضات جماهيرية. كان أولها هبّة (1920م)، ثم (1921م)، ثم هبّة البراق/ (1929م)، ثم الإضراب الكبير/(1936م)، والذي تبعته ثورة شعبية استمرت حتى العام (1939م).
كما تأخرت ردّات الفعل الشعبية المسلحة والمنظمة، فمثلا حركة الشيخ عز الدين القسام [1882/1920/ 1930- 1935م] ظهرت عام (1935م)، ثم ظهر في مرحلة لاحقة جيش الجهاد المقدس بزعامة عبد القادر الحسيني [1907/ 1936/ 1947- 1948م]، وحسن سلامه [1910/ 1936/1947- 1948م].
روسيا والصهيونية..
شارك الاتحاد السوفياتي وجميع الدول الاشتراكية الأوروبية التي تعيش في كنفه في أعمال المؤتمر الصهيوني العالمي المنعقد في أمستردام مؤخر صيف (1966م(/ (كتاب موسكو واسرائيل-ص415).
- في الوقت الذي أقرت واشنطن الوصاية الدولية على فلسطين، ألحت موسكو على التقسيم والاعتراف بإسرائيل/(ابراهيم الشريقي- دور الدول الاشتراكية في بناء اسرائيل-ص42- 53)
ناور السوفيت لحمل الأمم المتحدة على الاعتراف بإسرائيل/(عزيز الحاج- صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية في العراق بين [1958- 1969م]/ ط1- 1981م- المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ص (298- 305)
في الوقت الذي تراجعت فيه أمريكا عن تقسيم فلسطين وطالبت بإلغائه، ناضل السوفيت من أجله/(داود سنقرط-اليهود في المعسكر الشرقي/ص 49-ط1- 1983- دار الفرقان للنشر).
[14]). يقول عزيز الحاج، وهو من قادة الحزب الشيوعي العراقي السابقين في ذلك: [وفي آذار 1948 اتخذت الولايات المتحدة موقفاً جديداً مفاجئاً بالمطالبة بالعدول عن قرار التقسيم، ووضع فلسطين تحت الوصاية الدولية المؤقتة، غير أن الدول الاشتراكية عارضت ذلك بشدة/(داود سنقرط- اليهود في المعسكر الشرقي/ص(47- 53).
وفي جلسة مجلس الأمن في 30 آذار (1947م) قال غروميكو: إن رجوع حكومة الولايات المتحدة عن موقفها المؤيد لقرار التقسيم قد خلق وضعاً جديداً للقضية الفلسطينية، يوجب على الوفد السوفيتي استنكاره أشد الاستنكار. فموقف السوفيت نحو التقسيم هو موقف المؤيد له والمناصر والعازم على تنفيذه.
إن الولايات المتحدة في موقفها الجديد لا تكتفي بمعارضة مشروع التقسيم فحسب، بل تريد الإبقاء على وحدة فلسطين. وترفض إرغام المعارضين (العرب) على قبول أي حل آخر. إن أمريكا بموقفها هذا إنما تعارض إرادة الأمم المتحدة التي أقرت التقسيم، وأقرت معونة اليهود على خلق وطن قومي لهم في ديارهم بفلسطين]/(عزيز الحاج- صفحات..ص(300- 301).
وقد لخص عزيز الحاج تصريحات غروميكو وغيره من مندوبي الدول الاشتراكية في الأمم المتحدة في عام (1947م)، المعبرة عن المواقف الشيوعية المتآمرة على القضية الفلسطينية/(كتابه: صفحات ص(298- 305).
وقد أورد كذلك الكاتب نهاد الغادري قصة التأييد السوفياتي لقيام إسرائل وقرار التقسيم في كتابه: (التاريخ السري للعلاقات الشيوعية الصهيونية).
وفي الوقت الذي حاولت فيه بريطانيا منع الدول الاشتراكية.. (من مساعدة إسرائيل على القيام في فلسطين، والحدّ من هجرة اليهود إليها، قامت الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية بهذا الدور)/(منحيم بيغن- كتاب (الثورة)- ت: سمير صنبر- دار الجامعين- ص29)
وذكر ميناحيم بيجن [1913/ 1977- 1983/ 1992م] الدور المهم الذي لعبته دول أوروبا الشرقية (الاشتراكية) في المساهمة في هجرة اليهود إلى فلسطين رغم أنف بريطانيا/(الثورة- ص29)..
أما عن دور روسيا الاشتراكية، في تهجير اليهود إلى فلسطين راجع ما ذكره الدكتور عمر حليق بهذا الخصوص/ ملف(تهجير الاشتراكية لليهود إلى فلسطين)، ذكر فيه أعداد المهاجرين اليهود من كل دولة اشتراكية، ساهمت في دعم قيام إسرائيل/(موسكو واسرائيل- ص(411- 465))..
وفي ديسمبر 1947 نظم الحزب الشيوعي العراقي مظاهرات صاخبة ضمت كل أعضائه وأنصاره وطافت المظاهرات في شوارع بغداد وغيرها من كبريات المدن العراقية معلنة تأييدها لقرار تقسيم فلسطين ومؤيدة لفكرة إقامة دولة يهودية، وفي مقدمة كبرى هذه المظاهرات سار عضوان بالحزب الشيوعي العراقي، أحدهما مسلم والآخر يهودي وقد تشابك ساعداهما كرمز للصداقة والمعايشة التي يدعو لها-منذ ذلك اليوم فقط-الحزب الشيوعي العراقي ويباركها/(طارق حجي- موقعه في الحوار المتمدن).
(22)
نحن أمة عظيمة..
(وماذا تسمين هذا التفتت.. هذا التشرد.. هذا الضياع الطويلا..
وكيف تكون الخيانة حلا.. وكيف يكون النفاق جميلا..) -الفنان كاظم الساهر
لما كان كلّ هؤلاء الموتى والمنتظرين، وما وراءهم من دول ومؤسسات وحركات وأحزاب ورساميل، اجتمعوا ضدّ كيان الأمة العربية، فلا بدّ أن أمتنا من العظمة والدينمية والأهمية، بحيث يجعل الآخرين يتخرصون ويرتعبون من صمتنا، بل من فقرنا وطيبتنا التي تتجاوز حدّ الغباء.
فإذا كانت إمارة بني الأحمر في طرف من شبه جزيرة أيبريا، ورثت كلّ المشاريع والغزوات المستمرة حتى نهاية الزمان، فماذا كان يحدث، لو احتلّ العرب فرنسا وألمانيا وعموم قارة اوربا، عودا إلى شبه جزيرة الأناضول. ولم يفتهم غزو الجزر البريطانية، واسر الزاكسن والفايكنغ، وعرض نماذج منهم في سوق نخاسة دمشق وبيغداد والاسكندرية.
هل هؤلاء ورثة الملكوت وأتباع القائل: (أحبّوا أعداءكم، وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم/مت 5: 44). أي تطبيق أخلاقي والتزام روحي يسمون به أنفسهم، ليلتحقوا بأسلافهم اليهود، مستبدلين: (البنوّة الالهية)، بـ(البنوة أب-ليسية) التي وصف بها السيد المسيح كهنة اليهود.
اسرائيل: هاته الصنيعة المسخ ، من منتجات توربينات البخار والثورة الصناعية، هي بذرة انتقام تاريخي، لدولة الأندلس [710- 1492م]، التي أخرجت أوربا من الظلام إلى النور. ووظيفة اسرائيل ومن وراءها، أعادة العرب والمسلمين من النور إلى الظلام. هه. وقد فات الصهيونية أن الاندلس كانت مأوى وحاضنة لهم، قبل وقوعهم تحت الاضطهاد والنفي الغربي.
ان تجتمع عقول أوربا، بروتستانها وأشكنازها، علمانيوها وملحدوها، لتدمير الكيان العربي وتفريغ ثقافتهم وحشوها بالترهات الغربية، أمر يدعونا للفخر، والشعور بقيمة اعادة اكتشاف تاريخنا وأصولنا الحضارية، ومكامن الثورة والقوة في تقاليدنا وإسلامنا، وفي سيقان جمالنا وأعمدة قصائدنا..
ان تجتمع الكولونيالية والفاشية، والصهيونية والشيوعية، ويتم تجنيد فيالق العلماء والفلاسفة والساسة والرأسمالية، مع فيالق الغوغاء من مرتزقة أوربا وديماغوجيا التخريب بين ظهرانينا، فذلك يعني أننا ضحايا هجمة ابليسية عارمة من الغرب وعبر البحار، وأننا قاعدون في بلادنا، ومنتظرون، منتجات الحضارة والتطور والتمدن، مما نراه في أيامنا، وانبطاحنا.. لكن.. كم من فئة قليلة.. وإما الزبد فيذهب جفاء..
فاليوم.. لا عذر ولا اعتذار.. (بل الانسان على نفسه بصيرة/ القيامة 75: 14).
سواء كان (الله)/(يهوه)، أو (التاريخ)، هو الذي حكم على اليهود/(أمة كهنة وقديسين)، بالشتات والتياه الأبدي في الأرض؛ فمن ذا يقاوم (الله) أو يتمرد على (التاريخ). هذا ما يقوله حاخامات اليهودية. ولا مفرّ من عقاب الله. أو استفزاز عقوبات وأحكام جديدة أصعب من الأولى.
ولتتصور وضع اليهود الحالي، ومنه وضع (دولة اسرائيل) وممارستها، من غير شبكة الرعاية والحماية الغربية لها؛ بل كيف تؤول الأمور، عندما تنعدم هاته الرعاية والحماية ذات يوم. والعلاقات بين أوربا واسرائيل، بلغت حدّ القرف، لعدم احترام اسرائيل للمواثيق الدولية، والسياسات الأوربية المتعلقة بالتوازن والسلام في المنطقة والعالم.
ليس سوى أميركا، ومشروعها التدميري لبلدان الشرق الأورسط، تدعم اسرائيل بالمطلق: ظالما أو مظلوما. وبعد أن بلغ مشروعها مراحل متقدمة من تفتيت العرب وتدمير عناصر قوتهم، ووقوعهم تحت السيطرة التامة، لن تعود بحاجة لممالئة اسرائيل المتمردة والطاغية منذ البدء.
الولايات المتحدة الأميركية نفسها، حصرت نفسها في زاوية ميتة عمياء، كالعدو العالمي الأول للبشرية والعالم. وهي تعلل خيبتها بعدم الحاجة -لأصدقاء-، وتكتفي بتحالفات ظرفية؛ أية تحالفات؟!!.. تحالفات أم احتلالات؟.. اضعف مخلوق في العراق وغيره من فرائس الوحشية الامبريالية، يقول: ان الانجليز كانوا أذكى وأفضل من الاميركان، بالعلاقة معهم.
الاحتلال الناعم، والسياسات الوسطية، أفضل من مظاهر العنجهية والاسفاف الأخلاقي، لبلد، يدين (80%) من سكانه بالبروتستانتية المتشددة. عقدة الاميركان بالشعور بالنقص والخوف، أعجزتهم عن التخلص من شخصية الكابوي. وما زالت البلد الوحيد، الذي يسلح كل مواطن، بما فيه أطفال المدارس، لقتل عقدة الخوف.
أية دمقراطية واستقرار اجتماعي، وتطور تكنولوجي لا أخلاقي، تعيشه مملكة إبليس وعرش الشيطان؟..
استعجال ظهور المخلص السماوي: عودة المسيح لانقاذ شعبه في العقيدة اليهودية، واجتذاب المؤمنين به حسب العقيدة البروتستانتية، وفي صدارتهم، الأميركان. أين هي مواعيد الله إذن؟.. هل يعمل الله بمحض أمره، أم بأعمال الشعوذة والسحر الأسود، التي تستنقع فيه المسيحية الصهيونية؟..
تحديان للذات الالهية، يضاف لهما التحدي الأخطر: فكرة نقض الله، وسحب البساط من يده، باعتباره صانعا للتاريخ ، وتعيين طبقة العمال المعدمين، كقوة صانعة وخالقة للتاريخ، المعدم الذي لا يجد قوته، ويعجز عن ايواء جسده، هو الذي يصنع التاريخ ويحكم مستقبل البشرية، باسم (دكتاتورية البروليتاريا)، وهاته هي عظمة الرفيق ماركس.
ماركس الذي لم تعرف عنه روح النكتة، عرف كيف يمرر سخريته من (العبيد)، ويجعل نفسه (قائدا) لجيش العمال، يقودهم لفردوس غير الهي وغير سماوي. ذلك ما حلم به (سبارتكوس) في ظل الامبراطورية الرومانية، حلم به ماركس في ظل الامبريالية الصناعية.
استخدم ماركس العمال للثورة على أصحاب رأس المال. والعامل لا يعتاش على غير فضلة صاحب العمل. ومن غير الرأسمالي لا توجد (طبقة عاملة). من غير طبقة رأسمالية، لا توجد طبقة عاملة، ولا توجد بروليتاريا ثورية. وهو وضع كتابه باسم (رأس المال)، وليس (بروليتاريا)، أو (البؤساء)/(1862م)- رواية فكتور هوغو[1802- 1885م].
ما علاقة البروليتاريا بالالحاد؟. هل عبادة المال، شرط أساسي لصناعة البروليتاريا، ولهاثها المستميت وراء ورقة البنكنوت؟.
أما كان أولى بالعقل الماركسي، -لوكان جادا في أفكاره-، نبذ فكرة العملة المصنوعة لأغراض تبادلية، والدعوة لمجتمع انساني، واقتصادي انساني بلا عملة والحاد، ومن غير ابتذال وإغراق في الماديات.
ما علاقة الاشتراكية والتاريخ، وهما من المجالات الانسانية بالعلم. هل يوجد علم تاريخ، أم علم اشتراكية. إذا كان (الاقتصاد) نفسه من مجالات البحث والاجتهاد المستمر، تبعا للظروف والمستجدات والأهداف السياسية للبلد، فكيف يكون ما يستحيل تقنينه واستدراك مستقبله، بصفة العلم.
ان مفردة العلم نفسها، تنقصها العلمية، وما زالت علوم الفيزياء، تنقض بعضها البعض، وكذلك هي بقية قطاعات البحث المادي، فماذا عن حياتهم البشر وأساليبهم البدائية والوحشية لاكتساب الغذاء وتوافه المعيشة.
المبالغة في تقنين الظواهر، وهي نزعة حداثية، تميز بها الانجليز، لا يجعل من ظاهرة ما علما. تجميد الظواهر والحالات والتصورات، ينافي تعددية الاحتمالات التي تخضع لها النوازع البشرية. ليس كل الناس يطبخون (الرز) بنفس الطريقة، ولا توجد طريقة واحدة لاعداد الحساء أو البيض أو تقطيع وتبهير اللحوم.
لكن ماركس نفسه، لما يعلم بالسقوط. ولا علم أن العمال صاروا يمتلكون بيوتا وسيارات فارهة، وأبناؤهم أطباء ومهندسون. لأنه لا يوجد عامل أبدي، ولا بروليتاريا أبدية، تعيش على هامش المجتمع، وتقتات فضلات المعمل، من أجل عيون ماركس وأنجلز.
العمال أيضا يذهبون إلى المدرسة، ويشاهدون التلفزيون، وبعضهم، افتتح لنفسه مشروعه الخاص، وصارت له ورشة أو مطعم، وتحت امرته عدد من العمال. ان مفهوم القوى العاملة، لا ينفصل عن السوية البشرية، وسنة التطور.
اليهود ليسوا بروليتاريا، وما قام به روتشيلد، كان درسا أكثر عمقا من اجتهادات ماركس. بنى روتشيلد فنادق رخيصة لليهود الوافدين لانجلتره، وساعدهم في العثور على عمل والاتكال على أنفسهم، وبعد أعوام، يصبح اليهودي المعدم صاحب متجر ومسكن، ويرسل ابناءه للمارس الحرة التي أنشأها روتشيلد نفسه.
المعدم لا يبقى معدما، والعامل الكادح لا يبقى كادحا، والمهاجر لا يبقى مهاجرا، إلا العاجز عن المراقي، أو المريض بالطفيلية والاتكالية.
بغرور جامد، رسم فرضياته (العلمية)، متأثر بالنعرة الفوقية الانجليزية، متحدثا عن حركة الحياة من جانب واحد، بعين واحدة، متناسيا أن اطرافا أخرى تساهم في حركة الوجود وصناعة الحياة. والراسمالي والاقطاعي والسياسي البرجوازي، لا يقفون وقفاهم إلى الحائط، منتظرين، دوران حلقات ومراحل ماركس النبوية.
حتى عبيد الهندوس وطبقة المنبوذين، تمردوا على النظام الاجتماعي، ويعيشون حياة حرة اليوم، سواء في المهجر، أو غيره. من هو العامل الذي يعمل ثلاثين/ خمسين عاملا، ولا يتدرج في العمل، وفي المستوى الاقتصادي، والترف الاجتماعي.
وهذا يعني أن افكار روبرت أوين أنجع من خرافات ماركس. لكن أوين لم ينشئ أحزابا وتنظيمات تروج لعقيدته الجامدة، يتعامل بالحاضر، ولا يحلم بمستقبل بعد ألاف السنين.
ماركس مثل كومت وسبنسر، انكر شيئا، ثم استنسخ نسة منه، وفرضها على أتباعه. اشتراكية ماركس الشيوعية، مجرد استنساخ مشوى لسفر (رؤيا يوحنا)، وهو أضعف أسفار الانجيل، برأي علماء اللاهوت. فماذا تكون رؤيا ماركس الخرافية، القائمة على الغاء الله والديانات. لا تلغِ ديانة، لتنشئ ديانة مادّية شخصية، فهاته نكتة.
لم يعد ماركس منظرا اشتراكيا، ولا صلة له بها. فهو منظر امبريالي صهيوني رأسمالي، نشأ في بيئة انجليزية فاسدة، وجوده فيها أبرز اتهام يوجه له. وانتماؤه لتقاليدها الفكرية، يجعلة ضمن لهاث اليهود وراء لندن ومغرياتها السياسية. الحداثة تجسدت في فرنسا، والثورة الفرنسية أكبر منجز حداثي ثوري. لكنه هجر باريس، هرب منها للعالم التقليدي القديم، لامبراطورية فكتوريا، التي تمنت أن تكون رجلا لتقود الحرب ضد روسيا.
ان علينا كعرب: سكان شرق المتوسط، أن نفكر أكثر من مرة، في أبعاد التآمر والتحالف الماركسي الشيوعي بعلكة اشتراكية وهمية موعودة، مع الصهيونية ومسخها (اسرائيل)، لتمييز البشر والايديولوجيات، ولكن لتوعية مبادئنا الاخلاقية، وطيبتنا وكرمنا وتسامحنا، الذي بلغ بنا أن نحتضن الجواسيس والمخربين والفاسدين بين ظهرانينا، ونحن نتحدث عن العدو والاحتلال الخارجي.
عدوّنا في الداخل، في داخل عقولنا وعواطفنا الغبية. ولا غرابة أبدا. أن يتنافح العرب، لرفع شعارات الدفاع عن اسرائيل،وتبني مبادئ الصهيونية، والترويج للمشروع الأميركي لتخريب الشرق الأوسط، لفرد نفوذ اسرائيل.
تلك الروائح العجيبة الغريبة، التي تلبست بها عقول كثير من وسائل الاعلام العربية وكتابها المجانيين، الراقصين للفالس الأميركي والصهيوني، وكان أكرم لهم، لو رقصوا لحكوماتهم الوطنية، بدل الفخر بمعاداتها. أي مجتمع يتقبل هؤلاء، ليس على سويّة، ولا ينتسب أو يتصل لمفاهيم الوطن والوطنية والانتماء.
غزو اميركي، غزو طائفي، غزو صهيوني، غزو شيوعي، شعارات فضفاضة.. يجعل من تاريخ القرن الحادي والعشرين، نكتة مبتذلة.
أنت غير مأمون داخل جلدك. كثيرون يبلطون جلدك بالترهات. وكثيرون يفصلون بينك وبين جلدك. تأكد، إذا كا جلدك هذا، هو جلدك الحقيقي الذي ولدت فيه. أم أنك الآن شخص آخر، غريب، مغترب، تكره نفسك حتى القرف.
اسرائيل بلغت سبعينها، وهذا ليس مجال الحديث في ذلك. والشيوعية، بحسب ما تقدم، هي (كتائب حرس اسرائيل) وعسسها، داخل المجتمعات العربية المحيطة باسرائيل، من النيل إلى الفرات. تلك الأحزاب والتيارات والجمعيات والواجهات النقابية والثقافية والمهنية المزورة، لعبت لعبة تساوي كلّ وجودها، وقيمة شعاراتها.
العهد الملكي كان يصف الشيوعيين بالمخربين، وهي الصفة والتهمة المثبتة في محاضر الشرطة. العهد الجمهوري دعاهم بالفوضويين. فالملكية والجمهورية يدركان تاما حقيقة التنظيمات الشيوعية وما وراءها، ولكنهما لم يفضحاها على الملأ، ولم يمنعاها من الاستمرار، وذلك خضوعا لاملاءات سرية بريطانية وروسية وأميركية.
مصر الناصرية وحدها، نجحت في حدّ نفوذهم، لكن العراق بقي مهلهلا وساذجا وقصير النفس، في القيام بعمله. العراق في عهوده لم يدفع الشيوعية للابتذال والمهانة التي يجدون أنفسهم فيها باسم الدمقراطية الأميركية الرأسمالية، ويتحالفون مع الطائفية الرجعية والعميلة، بحثا عن (القوامة).
لكن الأحداث المتأخرة التي طالت مقرات الحزب وواجهاته النقابية والحزبية، كشفت غياب حصانته الدستورية أو الطائفية. ولا أمل في أن يكشف الحكم الطائفي، حقيقة التنظيمات الشيوعية ومصادرها الخارجية المعادية للأمة والبلاد. لماذا لم يكشف العهد الملكي والحكم العارفي والحكم البعثي، المتهم بمصادرة أرشيف الحزب وكشف أسراره، لماذا لم يكشفها للملأ؟..
بينما لم يعترف هؤلاء للحكومة، عدم عرض ارشيفها في وسائل الاعلام.
من غير المبرر ذاك الهجوم الشيوعي المستمر لليوم، على الدولة العراقية في القرن الماضي، وهي التي سمحت له بالوجود والاستمرار، والتحفظ على صهينته. هل ينكر الحزب ذلك، ما هي الأدلة..
إذا كانت الصهيونية واسرائيل لم تقدح في تراث العرب والاسلام، ولم تنفع خمسة قرون في ثلمهما، فماذا ينتظر الغوغاء أن يخرجوا به؟..
بلاد العرب صارت سوقا.. سوق بلا انتاج ولا بضاعة.. بضاعتها الناس وسوقها افكار مجانية لحقن عقول العصافير..
المستقبل لن يصنعه الاميركان، وبالتأكيد ليس ماركس وأتباعه ومريدوه.. ولا الصهيونية: توراتية ام علمانية.. للمستقبل مفتاح آخر، وموعد قدح آخر.. عندها يظهر أبطال التاريخ وفرسانه..
(لا اقسم بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوّامة. هل يحسب الانسان ألّن نجمع عظامه. بلى قادرين على أن نسوّي بنانه)- (القيامة 75: 1- 6).

(30)
بانوراما: عرقستان..
(هنالك خمس دقائق.. كي أطمئن عليك قليلا
وأشكو إليك همومي قليلا..
وأشتم فيها الزمان قليلا..
هنالك خمس دقائق.. فيها تقلبين حياتي قليلا..
قولي.. قولي.. قولي..
ماذا تسمين هذا التشتت.. هذا التمزق.. هذا الضياع الطويلا..
وكيف تكون الخيانة حلا.. وكيف يكون النفاق جميلا..) -شعر: نزار قباني/ غناء: كاظم الساهر
(1)
في البدء كان الانسان.. الانسان الفرد أساس تكوين الجماعة.. الجماعة أساس تكوين وصياغة المجتمع.
من غير مجتمع واعي متوازن ناضح، ذي تراكم اجتماعي/ فكري/ سياسي/ ثقافي، لا ينوجد شعب، ولا تتشكل (أمّة)..
الاسقاطات النظرية والحزبية والدينية لا تصنع مجتمعا ولا شعبا ولا أمّة.. ولا وطنا.
لا يوجد شيء أسمه: صناعة شعب، أو صناعة وطن!.. الانسان والجماعة والمجتمع والشعب والأمة والوطن، من انتاج الطبيعة. دور البشر فيها التطوير والتهذيب، أو الفساد والتخريب!.
ومعظم العالم العربي هو من انتاج وتشكيل وصياغة الطبيعة. لا يوجد مكان جاء منه العرب إلى هاته الأرض التي تحمل أسمهم. ولا يعرف مكان آخر نبعت فيه لغتهم واشتقت منه عاداتهم ومعتقداتهم. ولا يرد في ثقافاتهم الشفاهية، موضوع الرحيل إلى مكان آخر خارج أرضهم.
فالعرب واحدة من أقدم الأمم التي تعيش على أرضها المعروفة رسميا عبر الاف السنين، بشكل متصل، ويمارسون اسلوب معيشتهم المتعاشق مع عاداتهم الاجتماعية ونظمهم المجتمعية، بما يتآلف مع خصائص بيئاتهم وطبائعهم وأطباعهم، وبشكل مستقر ومتأصل، حتى اليوم.
ولم يسبق للعرب، الخروج من أرضهم، أو التجاوز على جوارهم الجيوتاريخي، إلا ما ندر، وتبعا ظروف وأسباب وقتية واضحة، أو ردا على عدوان.
اعتزاز العرب بالأرض ثيمة نفسية وعقائدية، تؤكدها كثير من قصص الأيام والمغازي، التي تمثل تاريخهم التراثي/ القومي.
كلّ هاتيك المآثر، أنتجت منظومة قيمية قومية تاريخية، هي العامل المشترك الذي يجمع أشتات العرب، ويشكل النواة الفكرية والمجتمعية، التي قامت عليها الثقافة والعقيدة والحضارة والتواصلية العصرية بين العرب والزمن والعالم.
العرب تاريخيا، نصف منغلقين على أنفسهم، وهذا مصدر اعتزازهم بعاداتهم التي تصل حدّ التقديس.
نصف الانغلاق، يسمح لهم بانتقاء ما يناسبهم من ملامح ثقافية وفكرية ومعيشية من العالم، ولكنهم لا يتقبلون أن يجري فرضها عليهم. والعرب لا يرفضون من يفد للمعيشة والاقامة بينهم، شريطة قبول نظامهم الاجتماعي والثقافي من جهة، ومن جهة ثانية، شريطة المحافظة على اعتزالهم، ولا يندمج فيهم اجتماعيا.
والعرب في ذلك، يتميزون بدرجة عالية من التسامح والطيبة والكرم والنخوة والايثار وحب الاحسان والسلم والتصالح والمساواة والكرامة للجميع، إلى جنب قيم الحرية الاباء والتفاخر والكبرياء. والتفاخر العربي يعادل الاعتزاز بالذات والعادات والانتماء للأرض والقبيلة والعروبة، وعدم السماح بالقدح فيها أو التجاوز عليها.
ويؤمن العرب بمبدأ المعاملة بالمثل، في الخير والشرّ، أفرادا أو جماعات. فمن أحسن إليهم، قابلوه بمزيد من الاحسان، ومن أساء إليهم، كالوا له الصاع صاعين. ومن عاداتهم، استعجال الخير، والحلم في الشرّ.
وهذا ما التزم به العرب عند زحفهم نحو أقوام مختلفة، حيث أقاموا حضائرهم على مسافة من أهل الأرض، ولم يختلطوا بهم، وما تزال تلك الحدود الثقافية والمجتمعية، ظاهرة في شمال الجزيرة وبلاد المغرب.
وجماع كل هاته القيم والعادات والنزعات والمآثر، هي أيقونة الشعور القومي والاعتزاز والتفاخر بالأنا القومية ومحتواها النفسي والاجتماعي والفكري. وهو الملاحظ في دقائق تفكيرهم وتفاصيل حياتهم ومعيشتهم، والمشهور من قصيدهم..
وما أنا، إلا من غزية، إن غزتْ، غزيتُ، وإن تقعد غزيةُ أقعد - دريد بن الصمّة [530- 630م]
أبا هند فلا تعجلْ علينا.. وأنظرنا نخبرْك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا.. ونصدرهنّ حمرا قد روينا
وأيام لنا غرّ طوال.. عصينا الملك فيها أن ندينا
وسيّد معشر قد توّجوه.. بتاج الملك يحمي المُحجرينا
تركن الخيل عاصفة عليه.. مقلّدة أعنّتها صفونا
وأنزلنا البيوت بذي طلوح.. إلى الشامات ننفي الموعدينا
وقد هرّت كلاب الحيّ منا.. وشذّبنا قتادة من يلينا
متى ننقلْ إلى قوم رحانا.. يكونو في اللقاء لها طحينا
يكون ثقالها شرقيَّ نجدٍ.. ولهوتها قضاعة أجمعينا
نزلتم منزل الأضياف منا.. فعجّلنا القِرى أن تشتمونا
نعمّ أناسنا ونعفّ عنهم.. ونحمل عنهمو ما حمّلونا
نطاعن ما تراخى الناس عنا.. ونضرب بالسيوف إذا غشينا
ورثنا المجد قد علمت معدّ.. نطاعن دونه حتى يبينا
ونحن إذا عماد الحيّ خرّت.. عن الأخفاض نمنع من يلينا
وهي المعلّقة الخامسة للشاعر عمرو بن كلثوم التغلبي(ت: 584م).
وكان أولى بأجيال الحداثة القومية، اتخاذها نشيدا قوميا، يحفظ الاباء العربي من الانحطاط والتلوث تحت عدوان وخداع المغيرين.
ان الاختلاف في واقع الاجتماع العربي المعاصر، يعود لعاملين جيوتاريخيين.. احدهما يتمثل في الاحتكاك بينهم وبين أقوام الجوار؛ والعامل الثاني: يتمثل في الغزوات التي غشت العرب، وتركت أثارها الاجتمثقافية في حياة العرب وأنظمتهم السياسية.
ان أصل العرب وخصائص العروبة، يتوطن مركز شبه جزيرة العرابيا ومحيطها الدائري التقريبي، والذي ساعد في تحصين العرب مائيا، عن الاختلاط والاندماج/ الذوبان، مع الجوار الجغرافي. ولما يزل، من اليسر تمييز انتقالات الأفراد الوافدة لأغراض المعيشة والعمل.
لكن الاشكالية الكبرى التي افترت على العروبة، كانت في نقاط التماس الحدودية في شمال العرابيا: [سوريا والعراق] من جهة، ونقاط التماس الحضارية في الجانب الأفريقي، من جهة أخرى. وقد مايز النسابة القدماء بين العرب (العاربة)/(سكان شبه جزيرة العرب)، وبين العرب (المستعربة)/(سكان سوريا والعراق).
واقع الحال، ان كل منتسبي العروبة خارج شبه جزيرة العرابيا، هم من (المستعربة)، سواء في التصنيف التراثي القديم، أو التصنيف الثقافي المراهن. ويستبان ذلك في مبلغ الهجنة العرقية والفصام الثقافي، وشيوع اللحن في لسانهم. وهو أمر غائب عن ادراك المؤرخين والمثقفين، إذ يجري الطعن في العروبة عشوائيا ومن غير تدقيق.
في الواقع النمساوي مثلا. ليس جميع السكان من أصل نمساوي أو أصل مشترك. وانما تجمعهم خبرة اجتماع سياسي منذ (1920م)، عندما جرى ترسيم الحدود يومها. والغالبية من السكان، سيما في المناطق الحدودية، يعرفون تفاصيل الانتماء والأصول الوطنية والقومية ، لسكان كل منطقة.
ومنه، ان اللهجات الألمانية في النمسا، تختلف من قرية إلى قرية. ومع وجود لغة ألمانية نمساوية رسمية، لكن السائد اليومي هو لهجات مميزة لكل مقاطعة، لكل مدينة، لكل قرية. ولذلك أثر في الأغاني والحكاوي والمناسبات التراثية، التي تشمل العادات والثيلب والأطعمة واللسان.
والمعروف ان اللغة المانية في النمسا، تختلف عنها في جنوبي ألمانيا، وتختلف عما في شمالي ألمانيا، وتختلف عن ألمانية سويسرا، وألمانية بوهيميا، وسوى ذلك. فالوعي الثقافي التراثي والسياسي، عامل مهم في المجتمعات الأوربية.
والجدير بالذكر، اليوم، اهتمام وتركيز مبالغ فيه، على تأكيد ملامح التراثية المحلية لكل قرية ومنطقة بلدية. وذلك في ردّ وطني حضاري، على سياسات الاتحاد الأوربي من جهة، وبرامج العولمة الأمريكية بالمقابل. ورغم ارتفاع اسعار الثياب القومية: (رجالة ونسائية)، إلا أنها تطرح مرّتين في العالم، وتحظى بشعبية واسعة، يتم التظاهر بها أواخر الاسبوع والمناسبات.
ومثل ذلك يحدث في بلدان أوربية أخرى، تحتفي بتراثها ومظاهرها القومية باعتزاز، بينما يشيع في الاعلام العربي، السخرية والطعن في الفكر القومي والقومية العربية والوطنيات البلدانية، وكلّ ما يتصل بالعروبة والاسلام والوطن والتراث.
ويكشف هذا مبلغ التناقض في نقطتين: فمن جهة، تعتبر أوربا هي الأكثر تطورا، والعرب أكثر تخلفا، ولكن يراد للعرب الغاء مشاعر القومية والوطنية، والتحول إلى مجمعات (أممية) عشوائية، تتلاعب بها الأرياح الغريبة الطارئة، عقب زوال الأنظمة العربية القوية، وشيوع الفساد والفوضى والاحتلالات الأجنبية.
ومن جهة أخرى، فأن أصحاب الدعوات الهجينة، يتبسون قمصان الحداثة، ويقلدون مظاهر الحياة والأفكار الغربية، ولكنهم، ينتقون الأسواء للعالم العربي، ويغضون عيونهم عن محاسن التجارب والوطنية الغربية، ومعظمهم يقيمون في المهاجر.
مرونة العرب الاجتماثقافية، وسذاجة انظمتهم السياسية، ترتب عليها نشوء طوابير من الخونة والجواسيس المعاودين للمجتمعات والبلدان المقيمين فيها، ورغم سلوكهم المخالف للاخلاق والقانون العرفي والمدني، - حيث تنعدم هاته الظاهرة في الغرب، وتخضع للتجريم قانونا-، فهم يمنحون أنفسهم الوصاية والأفضلية في البلاد، على حساب السكان الأصليين، الموالين للأرض والثقافة التراثية والوطن السياسي.
في هذا المجال، وقع المجتمع العربي ضحية آفتين هدّامتين، أحداهما عبر التاريخ، والأخرى، عبر الحداثة الغربية. وكلاهما ارتببط بالغزو الأجنبي.
الظاهرة التاريخية، اقترنت بمفصلية الاسلام، وقيام الدولة الامبراطورية العربسلامية، التي شملت عديد أقوام غير عربية، استكانت واستكمنت حتى تمكنت في ايام العباسيين، الذين اعتمدوا على العناصر الايرانية لسرقة الحكم من الامويين.
وكان لقلب ظهر المجن، اثر سلبي في دفع الفرس للانتقام، وتهييج حركات سرية غير عربية في نسيج الاسلام السياسي، نشرت أفكارها ودعاواها في المحيط العربي من المشرق الى المغرب. وكان لها ولغيرها من عوامل، أثر في اضعاف الحكم العباسي وتقويضه تدريجيا.
علما أن الحكم العباسي، اعتمد اعتمادا مبالغا فيه، وعلى درجة غالبة من الحمق، على العنصر الفارسي والمجوسي، بدء بالرضاعة والوصاية على بيوتهم وتربية أطفالهم/(البرامكة)، وليس انتهاء بتليمهم أمور الدين والدراسات الدينية في المدارس المستنصرية والنظامية، وطاقم الانتلجنسيا العباسية، التي تولت أمر التدوين في مجالات الدين والسياسة والتاريخ.
ان نسبة اختراق الاجتماع العربي، باسم الاسلام ومنذ سنيه الأولى، كما يتمثل بسلمان الفارسي وعبدالله بن سبأ، حتىانتشاء ظاهرة الاسلام المناوئ، أو الثورة المضادة في الاسلام بقيادة فارس، والتي تعيش ذروتها اليوم،منذ عشرة قرون.
ومراقبة مظاهر التفريس في المحيط الجغرافي للعرابيا، ستغرب دقة التخطيط المناوئ وبعد نظره، في اختزال العروبة والمركزية الاسلامية. ولا غروا، ان يكون العراق واليمن وسوريا و الخليج، أكثر البلدان تهرية وتشظيا، وعرضة للضياع، بسبب ضعفها القومي، وتخلل مجتمعاتها طوابير فاعلة من الموالين للفرس، والطعن في الاسلام والعروبة.
فلا غرو أن تلتقي طوابير التاريخ بطوابير أجيال الحداثة، بل تتصدر استقبال الحداثة وترويجها، وتوجيهها في سياقها التاريخي التخريبي، فيجتمع فيها تيارات: تيار ديني متطرف، مخالف مذهبيا للمركزية العربسلامية، وتيار علماني الحادي، يتخذ من مخاريق الغربنة رموزا مقدسة، ويرفع أفكارهم، مواضع، تفصل الشباب العربي عن الدين اطلاقا، والمقصود منه، الاسلام تحديدا، وهو الموضوع الأدسم لديهم.
شتان، بين أور ذات الأسوار، وبين عراق ممسوح الحدود.
شتان بين عقلية جلجامش الملك: باني الأسوار المجيد، وبين عقلية حكام العراق: هادمي الأسوار والحصانة الوطنية، وسماسرة القوى الأجنبية المعادية.
ولكن، بالمقابل، عند النظر من أسفل القاعدة، ومن الجانب المقابل، ثمة تسطح في الوعي السياسي، وسذاجة تقارف الحمق، في تفضيل الأهواء والنزعات الغريزية الشخصية، على المصالح العامة للمجتمع والوطن، اللذين لم يشارفا النضج السياسي، الذي يمثل بداية ظهور الدولة.
(2)
القبائل: صياع وانصياع..
منذ احتلال الفرس/(يهمجوسية) لبابل/(538م)، لم ينسحبوا منها، وانما نقلوا زرافات وأفواجا من سكان جنوب وشرق ايران، إلى مستوطنات كبيرة داخل العراق. وكان لأولئك المستوطنين ثلاث وظائف:
1- التغيير ديمغرافيا السكان والهوية الثقافية.
2- السيطرة على اقتصاديات البلد واحتكار محاورها.
3- تشكيل عمق ستراتيجي للتبعية والولاء الأجنبي، ومركز للتجسس وجباية البلاد.
وفي سياق تلك السياسات، وهشاشة الوعي السياسي لسكان العراق الاصليين:[مندائيين، اشوريين، كلدانيين]، قام ملوك العجم ببناء عاصمة ثانية لهم بين النهرين، وبالنتيجة، اصبح بلد النهرين ولاية تابعة ومكمّلة لبلاد ايران التي تزيد مساحتها، مساحة العراق بثلاث مرّات.
وقد اعترف الرومان وبيزنطه يومذاك، باحتلال الفرس للعراق، واتفق الطرفات على جعل وادي نهر الفرات، خط الحدود الرسمية بين الشرق والغرب. فالامبراطورية الفارسية تحوز ما هو شرق وادي الفرات، والامبراطورية الرومانية تحوز ما غرب وادي الفرات.
وقد استمر هذا الحال، حتى ظهور القوة العربسلامية التي قلبت خريطة العالم، وتسيّدت قلبها منذ القرن السابع الميلادي حتى اليوم. ولم يظهر خلال ذلك، أي انتفاضة أو مقاومة أو ثورة عراقية ضدّ الغزاة، وهو ما جعل العثمانيين- وسطيين- ازاء الوجود الايراني المتشعب الرؤوس في الدمغرافيا العراقية/ (أهل البلد أولى بأمرهم)!.
المشروع العربسلامي هو الوحيد الذي أطفأ النعرات الاقليمية المتصابية ضد بعضها البعض، وقام بتفكيك أصولها ، لكن المشروع الاسلامي السياسي، لم يتهيأ له بناء (شعب/ أمة)، تحمل ناصية المشروع عبر الزمن. فمن جهة استمرت القبائلية الاناركية/(الأعراب)، ولم تتطور اجتماعيا أو عقائديا، إلى مفهوم (شعب/ أمة) ذات سيادة.
ان مفهوم الأمة الاسلامية/ (شعب عربي)، هو مفهوم انشائي لغوي رومانسي أكثر منه واقعيا سياسيا صلبا. والأمر الآخر، ان البلدان خارج العرابيا التقليدية، لم تتشكل وتتبلور وتتهيكل، لتأخذ صورة شعوب أو قوميات بلدانية، داخل النسيج السياسي للدولة الامبراطورية.
من الممكن القول، ان الدولة الامبراطورية العربسلامية، كانت إطارا سياسيا/ عسكريا مهلهلا من الداخل. ولم يرتفع الوعي الاجتماعي الوجداني، إلى المستوى السياسي. ان فكرة الوطن:(أولا، وفوق كلّ شيء)، لم تظهر حتى اليوم في المحيط العربي.
الانسان / القبيلة/ المجتمع: العربي، ما زال في طور الغريزة والحاجات الذاتية، ومحورية الاهتمام بالمعيشة والأمن والرفاه الاجتماعي/(ثياب وسكن ومظاهر بروازية صغيرة). ان ثقافة الغريزة أساس ثقافة الاتكالية والطفيلية والانتهازية، المتعاكسة والنقيضة، لمفهوم السيادة والاعتماد على الذات.
الملاحظة الرئيسية، ان العرب:(سكان الأراضي بين الخليج والمحيط)، لم يدخلوا أية معركة حقيقية شديدة في الدفاع عن أرضهم. والدول كانت تتشكل في قمة الرم، وتنهار من رأس السلطة، والمجتمعات نائمة، لا يهمها غير مؤونة الطعام والثياب، والقليل من الأمن والسكن.
ويفتخر العراقيون إذ يصفون تحولات السلطة السياسية بأنها: (بيان رقم واحد في الراديو). هذا يكشف درجة لامبالاة وهشاشة هؤلاء، ولكنه لا يشي بدور المشاركة الشعبية/(مع/ ضدّ). وذلك هو ما تكرر طيلة الفوارز السياسية للقرن العشرين.
أين هو دور العراقيين في الاحتلال الانجليزي، بناء الدولة، تشكيل الوزارات، الانقلابات العسكرية، صراعات الضباط والاحزاب والتكتلات السياسية، حركة (41) التحررية، اغتيال غازي، وصاية عبد الاله، اعلا الجمهورية/(1958م)، تحولات الجمهورية وقياداتها، حكم البعث واستحالاته العنيفة، الاحتلال الأمريكي والهيمنة الايرانية على أرض العراق ومقدراته الاقتصادية والسياسية؟..
فراغ هائل، يدعم الفرضية الانجليزية، التي تصف بلاد العرب: (أرض بلا شعب). فسكان العرابيا، (مقيمون ما أقام عسيب)، يعتاشون على الأرض ويتطفلون على مواردها وثمارها، ولكنهم لا يبالون في الدفاع والحماية عنها.
ان القبائل الهاربة/ المبعَدة نحو بلاد الاطراف في العهود العمرية، كررت منوالها، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى بواكير العشرين، وهي تهرب أمام الزحف الوهابي، وكتائب فيصل الدويتش، نحو العراق والشام، بحثا عن مأوى وسكني يخلو من العنف والمهددات الوجودية.
ولكن المأخذ على القبائل الهاربة نحو بلاد الأطراف، أنها وقعت تحت هيمنة فارس سياسيا ومذهبيا، أولا، وسلمت نفسها لسياسات الانجليز ومشاريعهم، ثانيا. وكان لاتحاد قبائل كعب وغيرها دور في تمرير السياسات الانجليزية منذ القرن السابع عشر، ومن غير انقطاع. ولكن ماذا كسب بنو كعب وأمثالهم من الانجليز؟..
الحالة العراقية، لا تختلف في مصر، التي خضعت لسلسلة طويلة من الاحتلالات الأجنبية، من عهد الاغريق والرومان وبيزنطه، حتى العهود العربسلامية والدولة الطائفية، وصولا إلى غزوات نابليون والانجليز والامريكان حتى الانفتاح الساداتي المدمر، دون أن يكون للمجتمع المصري دور مشاركة/(سلبية/ ايجابية). ولذا نالت الانتفاضة الشبابية/[2010- 2013م] أكثر من حجمها في التناول والاستهلاك الاعلامي والشعبي.
بعبارة: ان مفهوم القبيلة كمجتمع قتالي منظم، يضع الأرض والقبيلة والسيادة فوق كلّ شيء، ويموت من أجلها، تراجع وتبخر وتهلهل عبر الزمن. وبعدما كانت القبائل تفتخر بحواديت (المغازي)، صارات جولاتها المعاصرة وفتوحاتها الكبرى تتعلق بالنساء ومبالغ (الديّات)، والارتباطات المذلة بوكلاء الحكم والقوى النافذة.
لقد انهارت القبيلة الحقيقية، قبل أن تتطور إلى مفهوم شعب وأمة، كما في الغرب، وحسب دراسات فلاسفتها امثال هيجل وأنجلز. هل هي اشكالية وعي؟.. هل هي إشكالية وجود؟.. هل هي مسألة طبيعة خانعة تنقصها الارادة الثورية في الأمل.
ان اللياقة القتالية لدى القبيلة العربية، هي لياقة مشوّهة، لا تناسب (فزعة) القبيلة الاعلامية الاستهلاكية. وذلك لأمور، على كل قبيلة وفرد التوقف لديهما ومراجعة تاريخها..
1- ان كل صراعات قبائل العرب ومغازيهم، كانت فيما بينهم، وهم في الأصل اشقاء وأخوة، ومن بطن واحد.
2- ان صراعات العرب البينية، كانت نسبية ومحدودة، ولم تبلغ مستوى هزيمة (الأخر) النهائية.
3- ان القبائل العربية، لم تدخل في صراع مباشر مع (الأجنبي)، غازيا أو طامعا. أما معركة (ذيقار)، فارتبطت بقصة شخصية استثارت نخوة بعض العرب، انتهت بظرفها الزمني، ولم تكن معركة سياسية قومية، تدفع العرب لمراجعة حياتهم وإعادة توزيع وهيكلة تنظيماتهم القبلية في اتحادات وتحالفات صارمة وقومية.
4- هشاشة الوعي الثقافي والسياسي لدى زعامات القبيلة، وضعف ارتباطها بمجتمع القبيلة ومفاهيم الأرض والانتاج والسيادة. ويلحظ اليوم، ان توزع أفراد القبيلة داخل وخارج البلدان، يخضع لأمور المعيشة، والتجاذبات الاجتماعية، ولا يوجد تركز/ توطن قبلي في منطقة اقليمية محددة، تجعل القبيلة نسيجا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا فاعلا.
وعملت الدولة، على كسر شوكة القبيلة، وتضنيفها إلى (موالٍ، مناوئ)، ومن أساليبها، تشتيت مجتمع القبيلة وشرذمتها بين الشمال والجنوب، أو زرعها ببذور الفتنة والتناحر الداخلي. وفي النتيجة، خروج القبيلة عن سياسقاتها الأصلية، وتعطيل دورها السياسي والدفاعي عن الأرض والوجود والسيادة، التي حكمت بداياتها الأولى.
اساس القبيلة العربية، أنها كتيبة رجالية قتالية دفاعية عن الأرض والسكان والسيادة. وكان خروجها من خيمة اليمن، للتوزع في أنحاء شبه الجزيرة، خاضعا لخرائط واملاءات عسكرية، لملء الآفاق وسدّ الثغور،وذلك في أول وأقدم ترسيم للحدود السياسية العريقة، وهو ما يلحظ من التوزع الاصلي للقبائل الحدودية، سواء داخل شبه جزيرة العرب، أو داخل المحيط الاقليمي العربي، المحكوم بعوامل جيوتضاريسية معروفة منذ القدم.
ان تفتت العرب، أساسه تفتت القبيلة وتراجع أداء دورها الحقيقي، مجتمعا وزعامة. وفي خضم ظروف وعوامل كثيرة ومتشابكة، فأن القبيلة التي كانت تأنف من سكنى المدينة/ (الحضر)، وتتخذ من البوادي مواطنها، فقد تعرضت لأمرين: أما أن مواطنها البدوية، تحولت إلى حواضر ومدن عصرية؛ أو أن أفرادها تسللوا لمجتمعات المدن والعواصم، واندمجوا في ثقافاتها، وهنا يلزم مراجعة أفكار ابن خلدون.
ان الحكومة لا تصنع أمة ولا شعبا. لكن الأمة/ الشعب/ القبيلة هي التي تصنع دولة وحكومة. وهذا لم يتحقق في الحال العربية. ان الوعي السياسي لم يعرف أو يتطور، الى مستوى [وطنية/ قومية]. وهم ما يزالون في مرحلة بدائية من هذا المنظور. الاستكانة لحاجات المعيشة، وبخس قيم الدفاع والقتال والجهاد، تتنافى مع قيم الوجود والسيادة والكرامة.
(3)
محنة عبد العزيز الدوري..
في عمله القيّم : موجز (تاريخ العراق الاقتصادي)/(1942م)، يتناول الدكتور عبد العزيز الدوري [1919- 2010م]، ملامح الحياة الاقتصادية والحرفية في عراق القرن الرابع الهجري، المصادف لما بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وهي ذروة الحكم العباسي [750- 1258م].
الفترة التي تناولها الدوري، تمثل انطفاء جذوة الحكم العربي العباسي، وتحول مقاليد الأمور الى البويهيين [956- 1055م] والسلاجقة [1037- 1194م]، من أصول غير عربية تنكبت شعارات الاسلام، مطيّة للحكم والسيادة، والتسلط على العرب.
الحكم البويهي لم يكن بداية المدّ العجمي، وانما نتيجة له. وقد أحسن إذ بدأ من نقطة الجنوب/ (عربستان) المجروح، وزحف شمالا عكس تيار دجلة إلى بغداد العاصمة، ليدعو نفسه (حامي الخلافة)/(من سخريات القدر). وفي نفس الوقت، كان هذ اعلانا عن أطماع فارس الغربية. وهو أمر لا يتصل بالغزو العربسىلامي لفارس، لأن فارس غزت العراق واليمن، قبل ظهور الاسلام والقوة العربية.
القرن الرابع يعني بلوغ الاستيطان الايراني وتخلله الاجتماع الرافديني مستوى بالغ الخطورة، بحيث صار له دور في نسج سلطة الحكم. وقد سبق ذلك هيمنة العنصر العجمي على محاور الاقتصاد العراقي وتقسيماته الادارية. ومنذئذ جرى تخاذ العراق عمقا اقتصاديا واجتمسياسيا للدولة الايرانية بمختلف أحقابها، حتى عراقستان الراهن.
دور البويهيين، حماة الخلافة البغدادية، هو إضفاء صفة (شرعية دينية) على الهواء الفارسي في العراق، واليهم يرجع التطرف الطائفي المنشق على الاسلام المحمّدي. وهذا يعني اجتماع محاور الاقتصاد/ الدين/ السياسة، بيد حماة الخلافة، الممثلة بشخص (أمير المؤمنين)، أي المرجع الاسلامي الأعلى.
عبد العزيز الدوري، إلى جانب جواد علي [1907- 1987م]، الوحيدان اللذان تنكبا التصدّي لأخطر تحديات العروبة عبر التاريخ. وبغض النظر عن النتائج المتحققة عن مشروعيهما، فلا أحد اليوم، يريد أن يأتي عليهما. مات جواد علي محبَطا في بغداده. وهرب منها عبد العزيز، لائذا بما تبقى من عروبة شرق الأردن. وكان سؤال الدائم، إذ التقيته في الجامعة الأردنية: (شلونهه أخبار بغداد!).
بحث الدوري تصنيفات الحرف والحرفيين البغدادية، وأسس تشكلها وصلتها بحاجات السكان من جهة، وبتنامي الحاجات، أسوة بالزيادة السكانية من جهة، والتطور العمراني والحضاري من جهة ثانية. ان اعتماد الدوري للعامل الاقتصادي محورا لعجلة التاريخ، يجعله يلتقي مع منظور كل من فيليب حتيته [1886- 1978م] والبرت حوراني [1915- 1993م] وحنا بطاطو [1926- 2000م].
فما الذي دفع القومي العربي، لاستخدام المنظور الماركسي للتاريخ، في جامعة انجليزية: (1940- 1942م). لا خلاف في ترجيح احتمالية كون ثالوث: [اقتصاد/ دين/ قبيلة]، هو العصب المحرك للتاريخ الاسلامي، لكن الثلاثة لا تعمل بنفس القدر والاتجاه والانسجام المطوب.
هاته العناصر الثلاثة، لا تخرج في أصلها عن فضاء علم الاجتماع العربي والعربسلامي. وهو المنظور الأكثر حداثة وأصولية منهجية، في دراسات التاريخ. وبحسبه، فأن العنصر الأهم في حركة التاريخ هو (الانسان)، وليس (الاقتصاد) غير جزء محدود من حاجة ونشاط الانسان.
لقد حاول الدوري، تحجيم العامل الاقتصادي/(المنظور الماركسي)، بإضافة عنصر (الدين)، وهو العنصر الرئيس في المنظور القومي العروبي المعاصر/(خلاف منظور الياس فرح/البعثي الأرثوذكسي)، أما عنصر العصبية، فهو ارتداد للمنظور الخلدوني [1332- 1406م] في مقدمة كتابه (العمران) و(نظرية العصبية).
وهذا ما دفع الدوري لاستكمال بحثه الأساسي في (تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري)/(1942م)، بكتابيه: (مقدمة في تاريخ صدر الاسلام)/(1945م)، و(مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي)/(1949م).
انني أضع الدوري في مقابل جواد علي في سعيهما الموحد، لتقديم صورة تاريخية عصرية جادة ومهذبة، لتاريخ الأمة العربية في صالون العصر، مع اختلافهما في الاجتهاد والثقافة التراكمية. وقد أعاد جواد علي كتابة (تاريخ العرب) مضيفا ومعدلا ومهذبا، بتشجيع وعناية من العلامة محمد بهجت الأثري [1904- 1996م] من تلاميذ المدرسة الالوسية البغدادية.
لكن الدوري لم يقتصر على ثالوثه المؤسس، وانما واصل تبيان مفهومه ورؤيته في سلسلة مؤلفات، هي حلقات متعددة لمحور واحد. وتلك هي: العصر العباسي الأول/(1945م)، دراسات في العصور العباسية المتأخرة/(1945م)، النظم الاسلامية/(1950م)، موجز تاريخ الحضارة العربية/(1952م)/(مشاركة مع ناجي معروف)، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب/(1960م)، الجذور التاريخية للأمة العربية/(1960م)، الجذور التاريخية للشعوبية/(1962م)، التكوين التاريخي للامة العربية/(1983م).
محنة الدوري هي اكتشافه، ان (الانسان) وليس (الصنعة/ الحرفة) هي المعيار الفاعل في المجتمع. الانسان قد يغير مهنته غير مرة، وقد يتقن غير واحدة منها. فالمهنة تتغير وتختلف، ولكن الانسان نفسه لا يتغير. الانسان هو الهوية الثقافية والسياسية لوجوده وصلته بالعالم.
وما يعني الامة في نشأتها هي أصالة أبنائها واخلاصهم لها ولثقافتها، وليس حاصل الناتج الاقتصادي، أو جماع التراكم الرأسمالي كما في الغرب. اصالة الأمة فيما يبني أبناءها ويجمعهم، ويجعلهم فردا واحدا وكتلة واحدة، وليس فيما يوزعهم في هويات وأحزاب وعناوين، وبلدان ومهاجر واتجاهات، بلا حدود.
الاقتصاد في الغرب/(انحلتره مثلا): جاء لاحقا ومتأخرا عن نشأة الدولة والسيادة والهوية، المقننة بالدستور والسلطات السياسية/[الملك الحكومة/ البرلمان]. فالاقتصاد ولد مقننا مؤدلجا موجها، في خدمة التاجّ، وسياسات الحكومة وسيطرة البرلمان.
أما في الحال العربية، فلم تتبلور آليات الدولة والسيادة وقواعدها الدستورية الثابتة حتى اليوم، ولن تتأسس قريبا. السلطة عند العرب كانت ولما تزل، تختزل نفسها، في شخص الحاكم. هو الحكم والدستور والبرلمان، وعندما يترك السلطة، تصبح السلطة والقانون في مهبّ الريح.
ولذلك بقيت الحياة العربية الاجتماعية والسياسية، عشوائية عمياء بلا اتجاه ولآ طريق، تتلاعب بها الأهواء الاقليمية والدولية، وكما تتلاعب بمجتمعاتها وطلائعها ونخبها الثقافية السياسية.
من هنا ينكشف سر مواقف الاعداء والاصدقاء، في التصدي لظهور شخصية سياسية قوية في البلد العربي، من جهة، والخوف من امكانية توريث الحكم، داخل عائلة حاكمة قوية. والأمران ينطبقان حكام العراق ومصر وسوريا. وقد ذهب العراق ضحية التحالف الشوفيني الشيطاني ضد حكم صدام والخشية من توريث الحكم لابنه عُديّ.
ولذلك جاءت محاولة اغتيال عدي /(12 ديسمبر 1996م) منعا لتوليته الحكم، فضلا عن الحملة الاعلامية الرخيصة لتشويه صورة عدي. وكانت تلك العملية الثانية بعد اغتيال باسل الاسد/(21 يناير 1994م) في سوريا. والتوريث هو المهماز وراء اندلاع الانتفاضة المصرية [25 يناير 2010م] ضد نظام مبارك، ولكن جهات أخرى، استغلت الانتفاضة نحو مطالب جديدة، لم تكن مطروحة في أذهان طليعتها الأولى.
لكن مبارك كانت أكثر ذكاء من مناوئيها، وحفظت حقها في الحياة والوجود، ولا يستبعد أن تنهار أوضاع مصر، وتعود للتشبث بأوراقها القديمة، وإعادة تنصيب جمال أو علاء أو أحد أحفاد مبارك، وهذا يصح كذلك في الحالة العراقية الميئوس منها، ويتجلى في تردد اشاعات حول عودة البعث/ صدام للحكم.
فهل كان الخوف من الوراثة والتوريث، وراء اغتيال أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسين بن عليّ؟.. وما علاقة ذلك بمجزرة العائلة الهاشمية في بغداد (صبيحة 14 يوليو 1958م)، التي تنصل الجميع من مسؤوليتها، وحمل النقيب عبد الستار العبوسي/ (ت 1970م) وزرها الأعظم..
ان نظر الدراسات والمعاهد الغربية، تستند إلى رؤاها ومناهجها النبعة من بيئتها وواقعها المحلي، غير المؤسسة في الحياة العربية، والغريبة عنها. مما وضع الدوري ازاء المفارقة البحثية، فاستدرك عليها، بما ينسجم مع رؤيته ومنظوره الفكري الاجتماعي.
لكن مسعى عبد العزيز الدوري، وعمله في استدراك جوانب مشروعه العربي القومي، صادف مفارقة سياسية أخرى، بعد موت عبد الناصر/(1970م)، هي تراجع العمل القومي العربي، ومنظور الرؤية العربية القومية، للسقوط في البلدانية والاستغراق في القطرية، واختلاف المنظور البعثي/(سوريا والعراق)، عن المنظور القومي الاسلامي الذي مثله الدوري.
وبينما كانت الوحدة الثقافية، ديدن المشروع العربي السياسي في النصف الأول من القرن العشرين، شكلت المناهج الناصرية والبعثية، تفتتا عن النواة الأصلية، للعروبة القومية التاريخية، وجعلها عقيرة لسلطة الاستبداد الشخصي والعائلي.
أما المفارقة الثالثة التي استعصت على مشروع الدوري، فهي (الشعوبية): المصطلح الذي أطلقه التراثيون القدماء، على اختراق المجتمعات العربية، من قبل عناصر شللية معادية للعرب والعروبة، وتعرف اليوم بالطائفية التي تدرجت من ارضية دينية مذهبية، إلى مستوى سياسي منحرف ومناوئ لنهج العروبة والوطنية والقومية، ممالئا لمذهبية وقومية معادية للعروبة والاسلام.
وقد شهدت الخميسينيات وبداية الستينيات تصاعد الاتهامات والنعرات القومية والشعوبية، وكان من نتائجها المجازر والتصفيات الحزبية لأنصار عبد الكريم قاس ومناوئيه، ودفع العراقيون فواتيرها من دمائهم وحياتهم.
فلا غرو ان تكون هجرة الدوري، باتجاه واحد وبلا عودة، تعبيرا عن مبلغ يأسه واحباطه، من بلده وموضع أماله وتصوّراته. واقع الحال، ان الدوري لم يكن هاشميا، ولا ملكيا يوما ما، وكان خروجه الأول إلى بيروت، وهناك استجاب لدعوة من صديق له في عمّان.
ماذا تغير في العراق من بعد الدوري. وكم عراقي اليوم، يستذكر أيام الدوري وأفكاره، ويقدر جهوده من أجل وطنه وتنمية حياة مجتعه ووعيهم الثقافي. كم هم من أمثال الدوري، ماتوا في الداخل أو تشردوا في الخارج، تضيع جهودهم الفكرية بلا طائل، ببنما جيوش الغوغاء، تلهث وراء الأغرب والغرباء، من تجار السياسة والدين، من طوابير الخيانة.
(4)
كراهة الذات.. الحزبية.. العنف الباطني..
في بيزنطه القديمة، كان يسود الحياة السياسية حزبان: الأزرق والأخضر. الازرق: يمثل أنصار الملك، والأخضر: يمثل أنصار الشعب. وفي أوربا المعاصرة يوجد حزبان: المحافظ والعمل. المحافظ: يؤيد الملك، والعمل: يؤيد الشعب. في الولايات المتحدة يوجد الجمهوري والدمقراطي. الجمهوري: يمثل الأغنياء وطبقة الحكم الرأسمالية، والدمقراطي: يمثل فقراء الشعب.
ومن ضمن منتجاته الكثيرة، عرف العهد العباسي [750- 1258م]، الحزبية والمنظمات السرية الثورية، كما عرف حركة الحشاشين الباطنية، التي تولت القيام بعمليات اغتيالات، لشخصيات مناوئة تهدد عقائدهم المنحرفة، وفي ظروف تامة السرّيّة.
وقد انتقى الغرابوة مصطح (حشاشين)، وجعلوها (أساسين) تعبيرا للعنف التصفوي في اغتيال وتصفية الشخصيات، وهي من مفردات الانجليزية. وقد انشئ منه مصطلح (ساراسين)، في تعبير مختزل عن الجماعة (العرب)، أو (المسلمين)، ومعناه لديهم: (عبيد سارة)، كناية عن (هاجر)، وصيفة سارة زوجة ابراهيم.
لكن دواوين بني العباس، لم تتضمن سجلات اكتتاب تلك الجماعات والجمعيات، ومن وراءها وما وراءها، كما يوجد اليوم في تسجيلات أثينا وروما وبيزنطه. وإذا وجدت، فما أحراها بالتخريب والتلف والحرق بيد الغوغاء، الذين طال عبثهم العباد والبلاد والعمران والمكتبات. وكما يتكرر في تاريخ العراق المعاصر، كلما اضطربت الأوضاع.
ان السؤال الحاضر، ماهية الترف الذي تعيشه جماعات من السكان، لا ينقصهم فيها، غير انتساب لجماعات ومنظمات سرية وباطنية، وتكريس جهودهم وامكاناتهم في سبيلها، وفي سبيل أعمال تخريب واغتيال.
ما علاقة الحزبية والعمل السري بالتخريب؟.. وهل التخريب هو الجهاد، في لغة الدينوية، أم كفاح ونضال في لغة العلمنة؟.. أم التخريب هو الفساد والكذب وسفك الدماء، وكلها من أعمال ابليس؟..
الحزبية: جناية على الحداثة ولغة العصر، ليست سوى بدعة، هرطقة، زندقة، طائفية سياسية. سواء كانت في السلطة، أو معادية. يفتخر الطائفيون بمعاداتهم للدولة والحكومات المتتالية، ويفرحون لموالاتهما العدوّ الأجنبي، في تخريب بلد يعيشون فيه، ويعبثون بمقدراته.
هناك ثلاثة أنواع من الحزبيات التي شهدها القرن العشرون: احزاب عربية قومية، طالبت بالحقوق السياسية والثقافية للعرب في ظل الحكم العثماني، وقد تحللت تلك الأحزاب بعد قيام دول عربية، عقب مساهمتها في ثورة الشريف حسين/(1916م) ضد العثمانيين.
والصنف الثاني هي الاحزاب الشيوعية التي دخلت بلاد العرب، مع الغزو الانجليزي ، وعرفت عقب ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى. ومن تلك الأحزاب، الحركات والمنظمات الشيوعية، التي توزعت نسخ منها في المحيط العربي لفلسطين، والغريب أن تكون تحت اشراف وتوجيه أفراد وعناصر يهودية اشكنازية وشرق اوربية.
الشيوعية: عقيدة وتنظيما، تقنية واسلوبا، هي كيانات سياسية تنسخ العقيدة اليهودية. البناء الحديدي الجامد والالتزام الأعمى، والتبعية المطلقة، والتضحية حتى الموت في سبيل العقيدة والطاعة العمياء للكاهن أو القائد الحزبي.
اليهودية ديانة باطنية غامضة، تستخدم رموز وشفرات وأسماء بديلة غطاء تتحصن وراءه، لتضليل الآخرين. واليهودية تحتقر البشرية، من غير أتباعها، وتسميهم بالكلاب، بلا تمييز. والحزب الشيوعي هو رديف لها في الباطنية والسرّية،والتعويل على رموز وأسماء بديلة وشفرات ملمزة، غطاء لها وعنوانا خارجيا، لا يجوز تعريفها أو كشفها من قبلهم، أو حتى التلويح بوجودها.
لكن ما يمايز الشيوعية السياسية عن اليهودية المذهبية، هو مزاعم الالحاد ونكران وجود (إله) خالق للكون والطبيعة والبشرية. رغم أن كشف دارون (النظرية البيولجية) ظهر عام (1857م)، أي بعد عقد من ظهور البيان الشيوعي تقريبا. وليست للشيوعية عقيدة ثابتة معروفة، سوى الاشتراكية الماركسية/ اللينينية، أو عقيدة (الاشتراكية العلمية) الجامدة، وهي النص المقدس للشيوعية، منذ ظهورها.
لكن الشيوعية هي يهودية وظيفية، مكلفة بتنفيذ أنشطة ومهمات تنظمها القيادة الحزبية المركزية، جوهرها نشر الاشاعات التخريبية للبلاد والسكان، أو القيام بعمليات توزيع مناشير ومنشورات تروج للدعاوي الحزبية والاشتراكية، المتضمنة مفردات العدالة والمساواة والاشتراكية، والمنددة بالظلم والاستغلال، ومعظمها من برامج الثورة الفرنسية/ (1789م).
اشكالية الشيوعية هب المغالاة في موضوع (السرّيّة) و(التنظيم الحديدي)، وموضوع (طاعة القيادة)/(مركزية لا دمقراطية)، وبشكل يجعل كلّ منتم للحزب الشيوعي عبدا مجردا من ارادته وكيانه ورأيه الانساني. عليه أن ينفذ ولا يناقش. وتؤكد ادبيات الشيوعية الأساسية رفضها للدمقراطية، باعتبارها مفهوما ولعبة رأسمالية.
تختار الشيوعية بيئات سكانية مضطربة اجتماعيا، لنشر افكارها، واقناع أفرادها بأحلام العدالة والمساواة والاشتراكية المطلقة، والتي سوف تتحقق قريبا، بتكاتف الجهود ضد الرأسمالية والرجعية والامبريالية. وهاته الكليشة تتكرر منذ العشرينات حتى نهاية الزمان. وأنصارها لا يتعبون من الاجترار.
والعراق، بتشكيلاته الفسيفسائية المضطربة، أفضل سوق لترويج الماركسية، ولا غرابة، أن تجد (النجف)/(ايرانية شيعية) المركز الرئيس للنشاط الشيوعي في العراق، بينما يشكل العراق الجنوبي، ميدان حركته ورواجه.
وعلى العموم، ينشط الشيوعيون في صفوف الأقليات الأثينية والطائفية، فيما يتخذ من الأغلبيات السكانية الوطنية، عدوا برجوازيا وشوفونيا لمعتقداته وبرامجه.
لا يسعى الحزب الشيوعي للسلطة/(في نسخته التقليدية)، ولا يعتبر نفسه حزبا ثوريا/(رغم أنه يستخدم العنف السري والتصفوي داخله)، وينسب نفسه لحركات الاصلاح والحداثة والتنوير، ودعم الفئات المظلومة والمستغَلة.
عموما، تلتف الحركات الشيوعية بخيوط متداخلة من حبال وحرير ومزوقات لفظية وأغطية متعددة من الأسرار والباطنية، فلم يعرف عنها نشاط حزبي علني أو مؤتمر حزبي مفتوح، وكل شعاراتها وبرامجها مراوغة للواقع السياسي والمجتمعي.
ويبدو أنه حتى كوادرها العليا، لا تعرف حقيقة ما يجري ويدور في القيادة العليا، أو (ذهن الزعيم) الذي يحظى بقناع من الستر والتقية، يشبه قيادات الماسونية وأسرارها.
سواء كان التنظيم الصارم، يقارن بالماسونية أو المآفيا، فأن عضوية الشيوعية باتجاه واحد، ولا خروج له طوعا، ولا تقبل الاستقالة. والطرد الحزبي هو بمثابة اتهام العضو بالخيانة، مما يجعل المعني يعيش حالة قلق ورعب مما يمكن أن يحيق به.
لكن هذا لا يعني شيوع الفساد والاتكالية والتواكلية والمحسوبية والشللية بين المنتسبين اليه. ولقد كان للشيوعية دور ويد في كل برامج الخراب والدمار الوطني، ولا يسجل لها التاريخ مأثرة وطنية أو قومية. فكان عدوا مع الاعداء، ومحايدا مع الاصدقاء.
للحزب موقف واضح ومعتم من القضية الفلسطينية، وهو يعتبر نفسه شقيقا لحزب راكاح الاسرائيلي. وبالتالي، لا يجمعه شيء مع مطاليب وحقوق الشعب العربي الفلسطيني. ومن المؤسف أن يتحدث البعض عن حزب شيوعي فلسطيني، يمثل البرجوازية والارستقراطية الفلسطينية، ضدّ مطاليب ومعاناة الطبقات الفلسطينية الكادحة.
الصنف الثالث من الحزبية، هو المعروف بالتيارات القومية. ومنها حركة البعث العربي ، في فترة ما بين الحربين، والتيارات الناصرية، الموالية لكارزما الرئيس جمال عبد الناصر [1918/ 1952- 1970م]، ودعواته للوحدة العربية وتوحيد العرب.
وكلتا الحركتين قامتا على جوهر عقيدة واحدة، تعتبر القضية الفلسطينية: محور القضية العربية الثورية، من جهة؛ ومن جهة أخرى، كان ظهورها في الأساس، للحدّ من تمدد الحركة الشيوعية في المحيط العربي.
وقد تخذت الناصرية والبعثية من مكافحة الحركة والافكار الشيوعية هدفا تنفيذيا لها، في مجال نفوذها السياسي.
ولكن الحركات القومية والوطنية، البعثية والناصرية والقومية العربية، تراجعت واختفت في غالبية بلاد العرب، فيما عادت الشيوعية ومعظم الحركات التخريبية والجمعيات السرية المعروفة وغير المعروفة، للنشاط في بلاد العرب، في ظل الهيمنة الأميركية، والحكومات الممالئة لها.
وبدل أن تتخذ الحركات الشيوعية مواقف معارضة ومناهضة للرجعية الدينية والسياسات الامبريالية والرأسمالية المتوحشة، حسب شعاراتها القديمة؛ فقد اندمجت في العملية السياسية في العراق، كما تقاربت مع جماعات دينية أخرى، وكأنها تستغل سياسات التكتيك إلى اقصى ممكناتها، وتنتهج ميكافيللية، تضيفها لما في أرشيفها من مثالب ومآخذ وأسرار، جعلتها حارسا دوليا لكل من الصهيونية والامبريالية والرجعية الدينية المناوئة للوحدة والتنمية الوطنية ومشروع التقارب العربي الاقليمي.
والسؤال، ماذا يبتغي الناس من وراء انتسابهم للحزبيات، وكأنهم تحرروا من روابط القبيلة والعشيرة والمذهب والطائفة والجماعة الدينية؟.. أم أنهم ينتقلون ويلتصقون بكلّ ما يتوسمون فيه الدّسم، وضمن لهم سلّما للصعود الى السلطة، واكتساب المنافع والفرص المادية والوظيفية..
هل الانسان كائن غريزي طفيلي، أم هو كائن سياسي انتهازي؟..

(31)
السّلطة.. المطبخ..
(1)
المرأة الأمّ..
من القصص المتكررة في التاريخ السياسي، تولية أمراء قاصرين الحكم، تحت وصاية أمهاتهم. وغالبا ما يشهد حكم القاصرين نجاحات ومنجزات عظيمة. بل أن الملك القاصر، يقود معارك عسكرية أو سياسية ويتولى اصدار تشريعات أساسية وحاسمة، تؤسس لعهد من السلام والنجاح والاسقرار الطويل.
تفسير ذلك هو عامل مضاعَف، يتجسّد في شخص الأمّ.
ان وقوف الأم إلى يمين ابنها، يمنحه خصائص رجولية ناضجة، حتى لو كان دون ذلك بيولوجيا. هذا من جانب الملك. أما من جانب الأم، فأنها تصدر عن عقلية وطبيعة وخبرة أمومية متراكمة، بكلّ اخلاص واتقان، لتضعها في يد ابنها.
الرجل يتحدث مع ابنه، حديث رجل لرجل، كما لو كانا في ساحة حرب. الأم تتحدث مع ابنها، حديث أمّ مع وليدها. صحيح أنها لا تأخذه في حضنها، أو تستلقي إلى جانبه؛ لكنها تتحدث معه وهي تقدم له شاي الصباح أو تغطيه عند ذهابه للنوم، أو حين تتفقده آناء الليل والنهار، لتستطلع مزاجه.
حديث الأمّ هو حديث امرأة في الأصل؛ لكن الأم ليست أيّ امرأة: انها بضعة منه، وهو بضعة منها. هي الكلّ عنده، وهو الجزء المشتاق دائما للالتحام بأصله. لا شك أن كلا منا، كل فرد، لديه هذا الحنين العضوي النفسي والروحي والفكري الدائم، للعودة إلى الهيولي الذي نفاه خارجا.
هذا الحنين الذي تترجمه العاطفة الانسانية، و[العاطفة = مشاعر + عطف]، وما ترتب عليها من انتاج أدبي وثقافي. والانسان دائم التذكر لأمه، حتى لو كانت قاسية أو سيئة، في صورة ما. وكما أن الأم ترى ابنها في شق القمر، يرى الأبن أمه أجمل الجميلات وأرهف الحبيبات. ذلك هو اصدار العقل الباطن، وليس الخيار الارادي.
قد يعامل المرء زوجه بطريقة رسمية، لكنه لا يستطيع معاملة أمّه، إلا بطريقة حميمة يسودها الشعور والعاطفة. الأم جزء من العالم/ التكوين الداخلي للشخصية. أنها السكنى والملجأ الآمن، الذي يدخله الشخص آمنا مستسلما، دخول الفردوس. يشكّ المرء في العال كلّه، كلّ ما هو خارجي، إلا الأمّ.
وفي اللحظة التي تتعثر العلاقة بين الأبن وأمّه، تنقلب شخصية الأبن، ويضطرب النظام العام والمنظومة الداخلية للملك. كما حصل مع نيرو [37/ 54- 68م]، أو عقدة أوديب/(429 ق. م.)*. وتلك الخصوصية التي طبعت حكاما تميزوا بالقوة أو النجاح أو القسوة المتطرفة.
وفي منطوقنا الشعبي يقال: (يا بعد عمري، يا بعد أبوي)، لكن لا يقال (يا بعد أمي)!. فالأم لها منزلة روحية سماوية، لا يمكن تعويضها أو استحلالها أو استبدالها بآخر. وفي الحديث: [أماك ثم أمك ثم أمك، ثم أبوك]. سريرة كلّ رجل،الاخلاص لأمّه، وأن يحظى بامرأة، لها صفات أمّه.
فكرة الزواج، ليست المعنى والسياق السائد، انما، استكمال دور الأمّ من خلال الزوجة. والأصل في الزواج، أن يتمّ قبل نهاية سن المراهقة. فالمراهقة، هي مرحلة انتقالية، من رعاية الأم، إلى رعاية الزوجة. أما تأخر زواج الرجل، فتترتب عليه تبعات نفسية وجسمية وفكرية، تنعكس سلبا على حياة الفرد وعلاقاته بالاخرين.
وما الفوضى والاضطرابات المتزايدة، غير آثار انحراف العلاقة الاموية/ الزوجية.
ولكي لا يرسل الكلام عفوا، فأين هي المرأة التي تستحق/ تستطيع أن تاخذ مكانة الأمّ الكبيرة. أي امرأة تقبل أن تكون مرآة سواها.. ان الزوجة تأنف من تقمص دور، أو تكون مجرد قائمة أعمال. وفي مثل ذلك يقول الحكيم سليمان: (بين ألف من الرجال وجدت واحدا، وبين كلّ النساء لم أجد واحدة. المرأة الفاضلة أين تجدها!.. ان ثمنها يفوق اللآلئ والكنوز).
هذا الغرور بالحياة العصرية، والعلاقات المدنية والمرأة المتحررة، وكل طائلة الحقوق والشعارات والمفاهيم، الأوربية والغربوية المتزايدة والمتطرفة اليوم، هو صنابير سقوط البشرية، وانتهاء مجتمعات التمدن والتحضر الحقيقي.
حضارتنا هي ضدّ الحضارة الحقيقية. وتمدننا هو ضدّ المدنية الحقيقية. ثقافتنا لا تستحق أن تدعى ثقافة. وحاضرنا ليس امتدادا شرعيا ومنطقيا، لحياة أجدادنا وأسلافنا. ومستقبلنا هو الجحيم الموصوف بيوم القيامة.
لكن الانسان الفرد، جرى الاستفراد به، تحت هيمنة أنظمة التعليم والمناهج التربوية السياسية المؤدلجة من قبل، والمعولمة اليوم. حيث بجبر الاطفال على ابتلاع أدوية وعقاقير وأغذية وأعاصير وقصص ومناهج وطرائق تربية وتعليم وتحشيش ذهني ونفسي، في سن غير قادرة على حماية أنفسهم، أو التعبير عن إرادتهم في الاختيار.
علينا أن نصحو وننتبه، كآباء ومرشدين وأفراد، نتهم أنفسنا بالوعي والثقافة والمسؤولية الاجتماعية والتاريخية؛ أن أطفالنا ليسوا أطفالنا/(جبران)؛ أن أطفالنا هم أطفال المؤسسة التربوية، والمناهج التعليمية الرسمية، التي تضعها الدولة والحزب والايديولوجيا، بما يجعل منهم موظفين ومنفذين، وحرس وعساكر ومستشارين عبيد، في خدمة الملكة/الدولة.
بكلمة واحدة، ضعف والتغاء علاقة الوالدين بالطفل، في المنظور الغربي للتربية. فمنذ سني الروضة، يتم تلقين الطفل أنه كائن مستقل، ولا يحق لأحد أن يتدخل، في أموره أو يفرض عليه شيئا. بل هو مستقل عن والديه، ولا يفترض أن يقلدهما فيما يعملانه، أو ينهجان فيه، إذا كان مخالفا لمنهج المدرسة.
وأحيانا، تتخذ المدرسة ذريعة سهلة لفصل الطفل عن والديه، هي تهمة ضعف استيعاب الطفل للدروس، أو ضعف مستواه في تعلم لغة البلاد الرسمية، أو ضبط مخارج حروفها.
والسبب في نظرهم، ان ازدواجية اللغة، تعرقل الذهن وتششته عن الاستيعاب. والحلّ، توقف الوالدين عن التحدث مع الطفل بلغتهما الوطنية، واستخدام اللغة الاجنبية في محادثة الطفل. وأحيانا يتم الايعاز بمنع المحادثة أمام الطفل باللغة القومية، حتى يتحسن وضع االطفل الدراسي والنفسي.
ان الطفل المفصول عن شخصية ذويه، وعاطفة والدته القومية، ينشأ متوترا، يعيش نقصا عاطفيا ونفسيا في داخله. وقد يكون هذا الداخل هو لاوعيه/(وعيه الباطني). والنقص الداخلي هو حاضنة العنف والجفاف والانانية ومختلف الأمراض النفسية والسلوكية.
العلاج الغربي هو تعويض النقص العائلي بالعمل. الوظيفة هي العائلة وهي الجوّ العائلي، بل هي أهمّ شيء في ترببة الفرد الرأسمالي. وهذا الحديث موثق بالقانون وقانون العقوبات. فالمخالفة تعني إحالة ملف الطفل للبلدية، القسم المختص بالتعليم أو الرعاية الاجتماعية، وهو مسمى يناقض جوهره.
وعندها، تتولى دائرة رعاية البلدية، التكفل بحضانة الطفل والاشراف على حياته ودراسته، وتأشير نقاط سلبية في سجل الوالدين، بحيث يصعب استعادته، عندما يكبر ويتجاوز تلك المرحلة. فضلا عما يترتب على نفسية الطفل ومشاعره، وما يخالجه من حقد، سواء ضدّ والديه، أو عائلته الجديدة.
والأصل الذي نعنيه هنا، هو أصالة التفاعلية الأموية في حياة الطفل، والتي تكفل له التفوق والنجاح، والحظ أيضا.
ان حياة عائلية وتنشئة أسرية صحيّة لائقة، بالمنظور الطبيعي والمنطقي، غير متيسّرة حاليا، في ضوء التشريعات الغربية الحديثة، والتي تهدد مفاهيم وأوضاع العائلة وعلاقاتها الأسرية السليمة. والعلاج في أبسط تعبير، العودة إلى النظام الاجتماعي القديم، واستعادة مفاهيم العائلة وقدسية الروابط الأسرية ، وهي الأساس الحقيقي/(غير المزوّر) لبناء مجتمع وطني/ انساني سليم.
أما رأس البلاء، فهو ظهور ثقافة الحداثة والمدنية الأوربية، التي سخرت كلّ شيء، البلاد والعباد، المادة والبشر، من أجل دولة الملك، وهذا هو جوهر وإطار النظام/ المنظومة الرأسمالية، التي تقدس إلها، يدعى (المال)!.
فليحيا الانسان....
ويسقط المال ورأس المال، وكلّ ما وراءهما!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أوديب ملكا- مسرحية اغريقية من تأليف سوفوكليس [496- 405 ق. م.]، وهي أحد سبعة أعمال خلدت من أصل (123) مسرحية كتبها خلال حياته. سوفوكليس كان أحد ثلاثة/(أوسطهم تاريخا)، بين أسخيلوس ويوربيدس، من عظماء التراجيديا الاثنية والعالمية على الاطلاق. فضلا عن الشعر والمسرح، كان سوفوكليس مفكرا، خطيبا فيلسوفا، معاصرا لأيام سقراط وأفلاطون وهيرودت وارسطوفانيس. كما شغل مناصب سياسية وعسكرية عليا في الدولة منها وزير الخزانة وقائد الجيش، كما كان تقيا مخلصا، وقد جعل بيته، مركزا للعبادة. من مسرحياته الأخرى: انتيجون، الكترا،

(2)
المطبخ..
المطبخ أساس البيت، وأهم أركانه. بل المطبخ ركن أساسي في كل شركة ومصنع ودائرة ومتجر.
فالوضع السليم، ان كلّ مكان فوق الأرض، ينبغي أن يعتمد نموذج (البيت العائلي)، أساسا وإطارا، لتوفير حياة ونظام عمل اجتماعي ناجح ومنتج. ومن غير نظام اجتماعي سليم ومتكامل داخل المدرسة، الدائرة، الشركة، لن يخلو جوّ العمل من الارتباك والتلوث والأزمات.
المطبخ ليس مكانا، الطبخ ذهنية/ عقلية/ طريقة تفكير شمولية وعملية في آن. كيف تفكر في الحاضر، ولا تنسى المستقبل. كيف تفكر في الداخل، ولا تنسى الخارج. كيف تفكر في الضرورات، ولا تنسى الطوارئ. كيف تفكر في الحسنات، ولا تنسى السيئات......الخ.
البعض يعتبر الحداثة نموذجا في كل شيء جيد وصحيح. ويسمي خلافها بالتقليدي أو الشرقي ـ السلفي!.. وهو حكم جنائي مغرور وموتور، وقد توفرت البشرية على اختبارات كثيرة وكافية، لتدرك خطله. مآسينا وكوارثنا الراهنة، هي نتائج مباشرة للنزعة التدميرية واسس التفكير المشوّهة، لما عرف بالحداثة.
مشكلة الحداثة، هو وقوعها تحت هيمنة الدولة/(الملك)، كما في بريطانيا. مشكلة الحداثة، هو في وقوعها تحت هيمنة الرأسمالية/الامبريالية، كما في الولايات المتحدة الأميركية.
ومن غرائب التغريب، أن يخلط كتاب اليوم، بين الحداثة الفرنسية والحداثة الأميركية، بين الحداثة الالمانية والحداثة الانجليزية، بين الحداثة الغربية والحداثة الروسية. ان كل حداثة مشروع قائم بذاته. الحداثة ارتطمت بتنامي دور الدولة الأوربية، وغالبا، وقعت ضحيتها. الحداثة يقودها ويصنعها الفلاسفة والمفكرون الأحرار، وليس الساسة ورجال الدين والمال.
فكما يوجد تقسيم اقطاعي/ شعبي، عقلي/ ديني، صالح/ طالح، علينا حماية العقل العقلي والانساني بيد الفلاسفة. بيكون نفسه قال: نحتاج فيلسوفا يكون ملكا، ولا نحتاج ملكا يصادر الفلسفة. الفلسفة التي وضع أسسها افلاطون في جمهوريته، ينبغي أن تبقى، وتستمر، وتصان. الفلسفة هي أساس السلطة ومستقبل المجتمع، وليس العكس.
عندما توضع الفلسفة والفكر والعقل، عند أقدام الملوك والزعماء، لا تبقى فلسفة ولا دولة ولا مجتمع، وانما تتحول إلى مغامرة ومزاودة وانحطاط. في كل تاريخ روما كان ثمة امبراطور واحد ، يوصف بالفيلسوف*/(على مدى خمسة عشر قرنا).
تاريخيا، أسست المرأة فكرة (التوطن) و(السكنى). وتجهيز التوطن والسكنى، بما يحتاجه من عناصر القوت والمعيشة والنظافة والنظام والأمن. المرأة: (ستّ البيت)*، هي الشخصية التي تقود سفينة العائلة، هي ربّة الاقتصاد المنزلي، وربّة الاقتصاد المنزلي، وهي ربّة الاقتصاد الوطني.
يختلف عمل المطبخ عن أي عمل آخر، ذلك إذا عرفنا أن وظيفة المطبخ ليست الطبخ فحسب. وأنما هي داينمو البيت/ العائلة، ومعيار تفاضلهما من عدمهما. العائلة الناجحة والبيت الناجح، أساسه : أدارة مطبخية ناجحة.
المطبخ المنظم يعني بيتا منظما. الادارة المطبخية الصائبة، تعني ادارة منزلية موفقة. التكامل المطبخي الغذائي والتقني والذوقي، يعني المنزل المثالي الشمولي. ان جزء من صيرورة الانحراف البشري، هو انتقال السلطة من يد المرأة، إلى يد الرجل، مهما كانت المبررات.
وأنا لا آخذ بعقدة النظام الأبوي*/ الذكوري/ الاقطاعي، التي أفرزتها ثقافة عصر النهضة الأوربية، للتكفير عن عقدة احتقار الانثى ومحارق النساء الكنسية، التي ربطت الانثى بالشيطان. والضدّ يولد الضدّ. فانحاز أعداء الكنيسة لتبجيل الانثى بشكل متطرف، حدّ تجريم الرجل. ووصفه بالاقطاعي المتسلط، والذكر المغرور بفحولته.
لهذا ينبفي علينا، كشرق، أن نكون حذرين، فلا نحمّل أنفسنا أوزار الآخرين، ولا نفرض على حواسنا، تسويغ روائح المطبخ الغربي، المختلف في أسسه وتطوره التاريخي وأغراضه. الشرق هو وريث المطبخ النباتي، والغرب وريث المطبخ الحيواني. الأوربي يفطر لحم وسجق، ويتغدى ويتعشى بها، أو بصنف آخر من اللحوم.
أما نحن فلا نتقبل اللحم الكثير في الطعام، ولا نستغني عن الخبز والرز. فاللحم ليس من أركان الطبخ الشرقي. وكان دخوله من خلال المناسبات الدينية وفي أوقات متباعدة من العام. وما زالت مناسباتنا الدينية والوطنية، تشهد ولائم عامة/ شعبية، يشترك فيها الناس في تناول اللحوم/(لغرض الأجر والثواب)، لكنها لم تعرف منزليا في الأصل. وعندما تطبعها الناس، بقيت في حدود المناسبات والمواعيد الدورية.
الطعام له أثر بيولوجي نفسي وذهني، في تشكيل طبائع الأفراد وتسلكاتهم الغريزية والاجتماعية. فضلا عن الأعراض المرضية، وما يتخللها من مضاهر نفسية وذهنية. وبتلخيص مفيد: تحفز أطعمة اللحوم، النزعات والغرائز الشريرة والعدوانية لدى الفرد.
وكلما زاد الشخص نهما وشراهة لحمية، ازداد عنفا وعدوانية، وهو ما يميز الجماعات الأوربية، ونزعتها العدوانية المتأججة، واندفاعهم في كلّ صوب، تنفيسا للعنف الداخلي. ومن الطبيعي، أن تتحذ من الجماعات البدائية والضعيفة، عديمة الدول والجيوش، عدوّا وهميا، تفرغ فيها وحشيتها.
فقد تجنب الغرب الأوربي الصدام العسكري المباشر، مع الروس والصين واليابان وحتى العثمانيين. فيما بالغ وامتط وتمطى، في احتلال استراليا ونيوزيلنده وعموم جنوبي شرق أسيا والعالم العربي، وصولا إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية. فامبراطورية فكتوريا العظيمة، قامت على محاربة طواحين الهواء، فزاد الانجليز انتفاخا.
ولذا أدعو العدوان الأوربي والغربي، بالعدوان الجبان. وهو ينطبق -ايضا- على الجيش الأمريكي، الذي يهاجم البلدان بالطائرات والصواريخ/(عن بعد/ من فوق)، كما فعل في اليابان وفيتنام وكوريا والعراق.
المطبخ ليس ميدان المرأة وووطنها، وانما هو محور انشغالها الدائم. المطبخ هو أرشيف مكتبة متكاملة، تضمّ كلّ ما يمكن احتياجه خلال عمليات الطبخ، سواء لتلبية الغذاء الأساسي، أو متطلبات الراحة والهدوء، عند مشاهدة التلفاز، أو استضافة أصدقاء، أو الجلوس في الحديقة.
المسؤول عن توفير تلك المتطلبات، على المدى البعيد، هي الأمّ، أمّ العائلة وأم البيت، وأمّ المطبخ. المرأة في البيت، تعمل لوحدها بمثابة خلية نحل متكاملة. ولا يفتكر أحد أعضاء البيت في وجود شيء من عدمه. لكنه يسعى للطعام عند عودته من المدرية أو العمل.
المرأة العاملة/ الموظفة ، تقوم بإعداد الطعام قبل خروجها للعمل. وعند عودتها تتجه لمتابعة نظام البيت ونظافة المطبخ، واستكمال الاحتياجات. فالبيت، ليس أقل من معمل أو دائرة، بما تقتضيه من إدارة وتنظيم واقتصاد وعمل ومتابعة، وتفكير شامل به طيلة النهار، فضلا عن احتياجات الغد، والتهيؤ لمتطلبات المناسبات.
لهذا يختلف تفكير المرأة عن تفكير الرجل. تختلف طريقة تفكير المرأة عنها لدى الرجل. تختلف اهتمامات المرأة عن اهتمامات الرجل. وهذا ما يعود إلى صلة الدولة بالمطبخ. أهمية فن إدارة المطبخ في طرق إدارة الدولة والحكومة.
على رئيس الدولة/ الحكومة أن يعرف كيف يفكر بعقلية أمّ المطبخ.
الدولة لا توجد للحظة، ولا تراد لمواجهة موقف بعينه، ولا هي تخص فردا أو جماعة محددة؛ لا، انها توجد لتبقى، وتكون قوية ومتكاملة في كلّ ظرف وموقف، ولصالح كلّ المجتمع والمحيط الاقليمي والعالمي. وهذا يتطلب امكانية التفكير في أكثر من اتجاه وموضوع وطريقة في وقت واحد.
ان السلطة القوية والمتينة، ليس قوية بجيشها، أو حكومتها، أو زعيمها. انما هي قوية بطاقم مطبخها المتكامل والمتوفر على كلّ الامكانات والخبرات، وتقنيات الحركة والتصرف المناسب.
قبل انشاء دولة، تحتاج إلى دائرة معلومات وتغذية شمولية مستمرة. لا تحتاج إلى موظفين وعمال وجنود ومستشارين قيد الخدمة. تحتاج لطاقم خبير ومتخصص ومتنوع الامكانات وطرائق التفكير، على أهبة الاستعداد/(في طور الاحتياط)، يراقب ما يجري داخليا وخارجيا، ويعد خططه ولوازمه وستراتيجياته الكاملة، ويعرضها أمام جهة معنية في البرلمان، أو مجلس الأمن القومي.
وعندما تطرأ أزمة، تغفل عنها الحكومة، أو يسيئ أحد التصرف، يكون التصرف البديل حاضرا، ويتولى تجاوز العيب الطارئ. عندما تفشل وجبة الرز، ثمة (المعكرونا) الجاهزة. عندما يذهب وفد للتفاوض مع طرف في الغرب، يكون ثمة وفد يقوم بنفس المهمة مع طرف مختلف، وبطريقة تختلف، ولنفس الغرض الستراتيجي.
عندما ينجح الوفد الأول، فثمة عمل يسنده ويطوره. وعندما يفشل الوفد الأول، ثمة عمل يعوضه. لا تضع بيضك في (سلّة واحدة). لا تذهب إلى المفاوضات، كأنك ذاهب للقاء فتاة معجبة بك،
في مفاوضة واحدة، ترسل ثلاثة وفود في ثلاثة اتجاهات، للحصول على حق مناقصة واحدة، واحرص أن لا تتشابه الاتجاهات ولا يجمع بينها شيء، وتجنب في ذلك كبار السماسرة والمهرجين منهم. الصين أفضل من روسيا، وألمانيا أفضل من فرنسا، وانجلتره افضل من الولايات المتحدة.
مواجهة قط صغير أفضل من ابتلاعك من قبل حوت، لا يترك لك بصيص أمل.
من قال أن أسلحتك يجب أن تكون أميركية كلها؟.
ألا تعرف أن الرشاشة التشيكية أفضل من الأميركية، والطائرات الفرنسية أفضل من الأمريكية.
والمؤكد أن أسلحة هندية أو باكستانية، أفضل من الغربية.
ما ينطبق على الأسلحة يصحّ على الأطعمة والعجلات. وما يصحّ على المواد يصحّ على الأفكار والتقنيات والأساليب.
كل البلاد العربية تجترّ هاته الأخطاء، وهي مستعدة لاستيراد الحليب من شيكاغو، والخبز من تكساس.
وبعدما أتخمت مخازنها من السلاح والغذاء الأمريكي، تحولت إلى محمية أميركية ذليلة، والحليم بالاشارة يفهم.
ألا توجد دولة مجاورة أقرب من المريخ، تزودك باكسسوارات الأفلام. لماذا لا تشجع مصر فلاحي المغرب؟.. ولماذا لا يدعم الخليج محيطه الاقليمي العربي؟..
ماذا عن تكاليف النقل والتسويق ووكالات الاعلان والترجمة. التعامل الاقتصادي الداخلي/(العربي) سيخفض التكاليف إلى النصف، وسيوطد شعبية المنتوج العربي، وبالنتيجة سوف ستتوطد الاقتصادات المحلية العربية، ويتوطد الموقع السياسي للحكومات، وسوف تتحسن العلاقات السياسيية بين العرب، لدخول الاقتصاد والثقافة كعوامل داعمة.
لتتعلم الحكومات العربية من مشاوير المرأة في التسوق، والتجهيز للمناسبات. معقولية الاسعار مع رخص تكاليف الرحلة. استهدام الباص في المشاوير البعيدة، أفضل من العربة الخاصة، أو ايجار تاكسي، في تبضع حاجات كمالية. للمرأة حكمة اقتصادية في التعامل في الماديات وحاجات المنزل والتعقل في العملة، أفضل من الرجل.
بامكان السعودية تغذية السوق اليمنية بالسلع الغذائية والتقنية التي يحتاجها أهل اليمن، وتشتي بالمقابل منتجات اليمن، وبأسعار مدعومة، لتأسيس علاقات تجارية بين البلدين، تكون قاعدة لعلاقات دبلوماسية وشعبية أخوية، توطد الأمن الاقليمي والوحدة الاجتماعية الثقافية، وليس العكس.
العربي لا يهزم عربيا، حتى في كرة القدم. وكلّ هزيمة هزيمة للجميع، بضمنهم المنتصر ميدانيا. وكلّ حرب، هي كارثة عربية اقليمية، حتى لو كان البلد الفلاني، خارج الدائرة، أو ضمن الغانمين. انظر كيف تفكر أوربا بعقل مشترك. كلّ بلد يشمل الآخرين في جواره الاقليمي.
حروب العراق لم تكن حروبا عراقية، وانما حروبا عربية قومية. حتى حرب الكويت، بغض النظر عن تفاضيلها الغامضة، هي حرب قومية. لكن الاداء العربي كان مضطربا، بعضه ضدّ البعض. ورغم وقوف العرب ضدّ العراق، فالمهزوم هم العرب. غياب العراق، خسارة للعرب. وهذا ما يكشفه اضطراب أوضاع الشرق العربي، وتفكك الأمن والوحدة الخليجية.
وايران والغرب اللذان كانا يهددان العراق/(جبهة الصمود)، يهددان اليوم منطقة الخليج والسعودية، على أرض عارية، وبلا غطاء. اميركا على البعد، تبتزّ العرب، والغرب يسمسر ببيع انواع الأسلحة المستهلكة، وايران ترسل وطاويطها في بلاد العرب، وتنشر التشيع والتفريس، وسط انشغال العرب بأزمات غياب الحكمة.
واليوم، كل بلد عربي منقسم إلى أكثر من رأي وأكثر من قيادة وأكثر من حكومة، تناقض كل منها الأخرى، وتنافق الواحدة منها الثانية. وعندما كان طارق عزيز يفاوض بيكر في جنيف، كان الجواسيس العراقيون يقفون إلى جانب أميركا في قضية الحصار والعقوبات وفرق التفتيش.
عندما كان العراق في حرب ضد تصدير الثورة الايرانية، كانت طوابير عراقية تهرب من العراق ومن الجيش وتلتحق بالجيش الشعبي الايراني، الذي يقوده الملالي وضباط المخابرات، ويحاربون ضدّ وطنهم وأبناء وطنهم، تحت عنوان معارضة النظام. هكذا تكون المعارضة التخريبية، وإلا فلا. واليوم، هؤلاء في الحكم، نكاية بالعراق وأهل العراق. انهم فرحون بسقوط العراق ونظام شوكته وانكسار مجتمعه، لتقوية أمن وحصانة اسرائيل.
انظر لهم يحتفلون ويعيثون نهبا وسلبا في بلد هو بلدهم الأم، قبل خيانتهم له. يخدعون أنفسهم بترهات المزاعم، ويتسلحون بفتاوي الملالي، ولا يعرفون أن العالم يراقبهم، وان العالم يعزلهم خارج لياقته، وأنهم لم يغنموا العراق، لا في حرب الثمانينيات، ولا في سقوط حكم البعث، ولا في تحرير داعش.
اذا كان سقوط صدام ونظامه، سقوطا عراقيا؛ فأن سقوط العراق، ليس سقوطا للعراقيين، فحسب، انما سقوط المنافقين الذين حفروا لسقوطه. العراق عندما يسقط، يسقط الجميع. وعندما يزدهر، يزهو الجميع. معادلة لم يدركها المحيط الاقليمي.
الوحيد الخاسر في سباق المهاترات السياسية، هم الناس، المجتمعات. أولئك المتخَذين ذريعة، ومادة للسمسرة والرياء السياسي، باسم الفقراء والمستضعَفين والكادحين.
المطبخ، يجب أن مطبخا وطنيا: مصريا. عراقيا. سوريا. لبنانيا. فلسطينيا... الخ. لماذا تطبخ سوريا للبنان؟.. وتطبخ ايران للعراق؟.. وتطبخ السعودية لليمن وسوريا؟.. ولماذا تطبخ مصر لليبيا والسودان؟..
مطبخك في بيتك. والشاطر هو من يشبع بطنه وشعبه، دون القرصنة على مخازن جيرانه، أو المتاجرة بالعرب ومصالحهم في لقاءات البيت الأبيض، فالسمسرة والنفاق، هو الشيء المتبقي للعرب من زوار البيت الأبيض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الامبراطور ماركوس أورليوس [121/ 161- 180م] امبراطور روماني قام بأعمال عظيمة، وهو آخر الاباطرة الجيدين الذين حكموا روما [96- 180م]، ومن أعماله: فرض الاستقرار في الشرق، وردّ النفوذ البارثي من سوريا، وفرض نفوذه على منطقة الخليج في عام (166م)، وارساله وفودا إلى الصين، وفي أوربا أبعد القبائل الجيرمانية على ضفاف الدانوب، نحو بلاد الغال. وهو ممن أرسل سفراء إلى بلاد الصين، وتوثيق الروابط بين أطراف العالم. وفي طرابلس العاصمة الليبية، ثمة (قوس ماركوس أوريليوس في حي باب البحر/ منطقة (ويات)، فضلا عن آثار رومانية أخرى في [شحات، صبراته، لبدة الكبرى]. قام ببيع ممتلكاته الخاصة، وتقليص انفاقه، لتخفيف محنة الشعب في مواجهة المجاعة، والتوسع في بناء المستسفيات ودور الرعاية. وهو في غيره، فيلسوف رواقي يعتقد بوجود (قوة كونية خيّرة) تحكم العالم، أفكار الرواقية في تناسق القوانين الطبيعية والأخلاقية، والعلاقة المتبادلة بين السماء والأرض. ما بين [170- 18م] كتب أورليوس (تأملات ماركوس أورليوس)، في أمور الحكم والادارة. وله مؤلف ضخم (تأملات) يضم (12) كتابا، يتضمن مفاهيم أخلاقية رواقية. ومن أفكار اوريليوس وتأملاته في الكون والحياة:
أن الفلسفة ليست وصفاً نظرياً للانهاية، بل هي مدرسة لتعليم الفضيلة وطريقة للحياة.
قلّما كان يشغل باله في البحث عن حقيقة الله، ولكنه يتحدث أحياناً كما يتحدث اللا أدريون..
فيعترف أنه لا يعرف، ولكنه بعد أن يعترف على نفسه، يقبل دين آبائه وأجداده بتقوى الرجل الساذج.
يسأل نفسه قائلاً: وماذا يعود علىّ من حياتي في عالم خالٍ من الآلهة ومن قوة تصرف شئونه؟.
وكان إذا تحدث عن (الله) تحدّث عنه تارةً بصيغة المفرد، وتارةً بصيغة الجمع.
يصلي ويقرّب القرابين للآلهة القدامى، ولكنه في خبيئة نفسه يؤمن بألوهية الكون، ويتأثر أشد التأثر بنظام العالم وكلمة الله فيه.
ويدرك كما الهندوس، ان الكون والإنسان، يعتمد كلّ منهما على الآخر.
يثير عجبه نمو الطفل من بذرة صغيرة، لا تلبث أن تتشكل فتكون لها أعضاء، وقوة، وعقل، وأماني، وكلّ ذلك بقليل من الطعام.
ويرى: أننا لو استطعنا أن نفهم الكون على حقيقته، لوجدنا فيه كلّ ما في الإنسان، من قوة خالقة مبدعة.
فيقول: إن الأشياء جميعها متشابكة بعضها ببعض، والرابطة التي بينها رابطة مقدسة....
وفي الأشياء العاقلة كلّها عقل مشترك، وثمة إله واحد، ومادة واحدة، وقانون واحد، وحقيقة واحدة، تسري في كلّ شيء... وهل يمكن أن يكون فيك أنت نظام واضح، وفي الكون كله اضطراب واختلال؟.
يعترف الفيلسوف بما يواجه الإنسان من صعوبة في التوفيق، بين الشر والألم والشقاء..
الذي يرى أن الإنسان لا يستحقه، وبين وجود قوة مدبرة خيّرة.
ولكنه يعقّب عليه بقوله: إننا لا نستطيع أن نحكم على موضع عنصر أو حادثة في نظام الأشياء..
إلا إذا رأينا هذه الأشياء كلها.
ومنذا الذي يدّعي أنه أوتي القدرة على أن ينظر إلى الأشياء هذه النظرة الجامعة؛ ويدرك علاقتها بعضها ببعض؟..
ولهذا يبدو من السخف والوقاحة، أن نحكم على العالم؛ إنما (الحكمة): في الاعتراف بعجزنا.
وفي العمل على أن نكون، أجزاء متناسقة مع النظام العام للكون. وأن نحاول استشفاف ما وراء فيزياء العالم من عقل.. وأن نتعاون معه راضين مختارين..
ومتى أدرك الإنسان هذه الفكرة، أدرك: أن العدل هو في كلّ ما يحدث!.
أي أنه يحدث بحسب منهج الطبيعة، ولا يمكن أن يحدث شيء بحسب منهج الطبيعة شراً.
كلّ شيء طبيعي جميل، في نظر من يفهم؛ وكلّ شيء يقرّه العقل العالمي العام، أي المنطق الكامن في جميع الأشياء..
وعلى كلّ جزء أن يرحب، في رضاء وابتهاج، بنصيبه المتواضع وبمصيره/(القناعة الشخصية).
و(الاتزان): هو: أن يقبل الإنسان طائعاً مختاراً، كلّ ما تحدّده طبيعة المجموع كله.).
كلّ ما يوائمني يوائمك.. أيّها الكون.
وليس شيء يحدث في الوقت الذي يناسبك، يحدث لي مبكراً عن موعده أو متأخراً عنه.
كلّ شيء تأتي به فصولك أيتها الطبيعة.. ثمرة ناضجة لي. كلّ الأشياء تصدر منك..
وكلّ الأشياء مستقرة فيك، وكلّ الأشياء عائدة إليك.
كلّ ما للمعرفة من قيمة، أنها أداة للحياة الصالحة.
ما الذي يرشد الإنسان ويهديه إذن؟.. لا شيء إلا الفلسفة..
-على أن لا تكون منطقاً أو علماً؛ بل تدريباً متصلاً على السّموّ الخلُقي دائماً: كنْ مستقيماً.. وإلا فلتُقوّم!.
ولقد وهب الله الإنسان ديموناً أو روحاً داخلية: هي عقله. والفضيلة هي حياة العقل.
تلك هي مباديء النفس العاقلة، وهي تسري في الكون كلّه.
تشرف على شكله، وتمتد إلى الأبدية، وتحتضن التجدّد الدّوري لجميع الأشياء.
وتدرك أن من سيخلفوننا، لن يروا شيئاً جديداً، وأن من سبقونا لم يروا أكثر مما رأينا.
بل إن من في الأربعين من عمره، إذا كان لديه شيء من الادراك..
قد رأى بطريقة ما، وبفضل هذه الوحدة المتناسقة، كلّ ما كان وما سيكون!.).
أن (مقدمات) ماركوس: تضطرّه أن يكون من المتزمتين، فيقول: (ليست اللذة طيبة أو نافعة).
وهو ينبذ الجسم وكلّ أعماله.
ألا فانظروا إلى حقارة الأشياء وسرعة فنائها.
إن ما كان بالأمس قطعة صغيرة، سيصبح غداً جثة أو رماداً....
وما أكثر شقاء الجسم الذي يجوز فيها!...
قلِّبها ظهراً لبطن تر أية حياة هي!.
والعقل في رأيه يجب أن يكون حصناً محرراً من الشهوات الجسمية، والغضب، والحقد..
ويجب أن يكون منهمكاً في عمله انهماكاً، لا يكاد يلحظ معه، تقلبات الحظوظ أو سهام العداوات.
إن قيمة كلّ إنسان تعدل بالضبط، قيمة ما يشغل به نفسه من الأشياء.
وهو يُسَلِّم كارهاً، بأنّ في هذا العالم أشراراً.
إن الطريقة التي يجب أن يتبعها الإنسان معهم، هي أن يذكر أنهم أيضاً بشر..
وأنهم ضحايا مهزومون ازاء أخطائهم التي ارتكبوها، مدفوعين بجبرية الحوادث والظروف.+++++++
وإذا أساء إليك إنسان، فالضرر واقع عليه، ومن واجبك أن تعفو عنه.
وإذا أحزنك وجود الأشرار من الناس، ففكّر في العدد الكثير من الأخبار الذين إلتقيت بهم..
وفيما يمتزج في الأخلاق غير الكاملة من فضائل كثيرة..
الناس كلّهم إخوة، أخياراً كانوا أو أشراراً، وكلّهم (أبناء الله): ينتسبون إليه.
الهمجي البشع نفسه، مواطن في الوطن العام، الذي ننتمي كلنا له.
فأنا بوصفي أورليوس تكون روما وطني، وبوصفي انساناً يكون وطني هو العالم كله..
تُرى.. هل هذه فلسفة خيالية غير عملية؟.. كلا. إن الأمر على عكس هذا تماماً..
ولا شيء أقوى أو أشدّ متعة من الفطرة الطيبة، إذا لازمها الاخلاص.
إن الرجل الصالح حقاً، لا تؤثر فيه مصائب الدهر. ومهما يُصِبْهُ من الشر لا يفصله عن نفسه.
هل هذا (الشر) الذي أصابك يمنعك أن تكون عادلاً، كريماً، معتدلاً، حصيف الرأي... متواضعاً، حراً؟...
ولنفرض أن الناس قد لعنوك، أو قتلوك، أو مزقوك إرباً!
فماذا تستطيع هذه الأشياء أن تفعل، لتمنع عقلك أن يبقى طاهراً، حكيماً، متزناً، عادلاً؟
وإذا وقف الإنسان بجوار نبع رائق صاف.. ولعنه، فهل يتوقف النبع عن إرسال الماء النظيف؟..
وإذا دنا منه أو رمى فيه الأقذار، فسرعان ما يلقى بها إلى خارجها، ولا يتدنس بها مرةً أخرى...
ولا تنس.. كلّما أصابتك كريهة، أن تطبق المبدأ القائل: إن ذلك ليس شقاء حلّ بك، بلْ إن الصّبر عليه صبر الكرام، هو السعادة بعينها...
ألا.. ما أقلّ الأشياء التي، إذا حصل عليها الإنسان، استطاع أن يحيا حياة هادئة مطمئنة، تشبه حياة الأرباب.
أن تبدّل الأجسام وانحلالها، يفسحان المكان لأجسام أخرى، كتب عليها الولادة.
كذلك تتبدل الأرواح التي تنتقل إلى الهواء وتتبدد... وتتوزع في عقل العالم الأصلي، لتخلي مكانها لأرواح جديدة...



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَعَاَ في حَديقةٍ..
- المئوية الأولى لثورة العشرين العراقية..
- الوجودُ.. قرارٌ (و) إختيارٌ/2
- الوجودُ.. قرارٌ (و) إختيارٌ/1
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/27
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/26
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/25
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/24
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/23
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/22
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/21
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/20
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/19
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/18
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/17
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/16
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/ 15
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/ 14
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/13
- ديوانُ السّبْعينيّاتِ/12


المزيد.....




- قبل أن يفقس من البيضة.. إليكم تقنية متطورة تسمح برؤية الطائر ...
- كاميرا مخفية بدار مسنين تكشف ما فعلته عاملة مع أم بعمر 93 عا ...
- متأثرا بجروحه.. وفاة أمريكي أضرم النار في جسده خارج قاعة محا ...
- طهران: لن نرد على هجوم أصفهان لكن سنرد فورا عند تضرر مصالحنا ...
- حزب الله يستهدف 3 مواقع إسرائيلية وغارات في عيتا الشعب وكفرك ...
- باشينيان: عناصر حرس الحدود الروسي سيتركون مواقعهم في مقاطعة ...
- أردوغان يبحث مع هنية في اسطنبول الأوضاع في غزة
- الآثار المصرية تكشف حقيقة اختفاء سرير فضي من قاعات قصر الأمي ...
- شاهد.. رشقات صاروخية لسرايا القدس وكتائب الشهيد أبو علي مصطف ...
- عقوبات أميركية على شركات أجنبية تدعم برنامج الصواريخ الباليس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع العبيدي - تفكيك العنف وأدواته.. (قراءة سوسيولوجية عراقية سياسية)/ الكتاب كاملا