أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نورالدين ايت المقدم - ثنائية الخير و الشر في الإنسان أو في الروح و الدين البشري















المزيد.....


ثنائية الخير و الشر في الإنسان أو في الروح و الدين البشري


نورالدين ايت المقدم

الحوار المتمدن-العدد: 6380 - 2019 / 10 / 15 - 02:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


توطئة:
الإنسان كائن يميل نحو المقدس، لماذا ؟ و كيف يمكن أن نفهم هذا الميل انطلاقا من أسطورة الخطيئة، كأسطورة تجمع الذاكرة الإنسانية.
الخير المطلق و الشر المطلق:
كما هو معلوم ، في علاقة الإنسان بفكرة الله ، أن الأول كان بجانب الإله ، في جنة الخلود ، أوعالم الكمال ، و منه كانت بداية الخلق للكائن الإنساني ، و هي أيضا بداية الفروقات و الاختلاف من حيث الدرجة في الروح بين الإله و الإنسان ، بحيث فكرة الإله تجسد هنا الكمال المطلق و العدل المطلق و الخير المطلق ، و الإرادة المطلقة....أي كل تلك الصفاة الخيرة و الجمالية المطلقة ، و يمكن أن نختزل هذه الصفاة بلغة "هيجل" بالعقل المطلق أو الروح المطلقة ، في مقابل الشر المطلق و الذي تمثله هنا فكرة الشيطان.
إذن ، فكرة الله ، و فكرة الشيطان تقودنا إلى بداية بروز آلية التناقض ، كمبدأ للتقدم و التطور من الوجهة الماركسية ، و كتذكير نحن أمام الخير المطلق الذي تجسده فكرة الإله ، و هو الأبدي و الأزلي و المصدر الأول للوجود أو للكون أو العالم و هو لم يتحقق بعد ، لأن مبدأ التناقض يستلزم جدلية الأطروحة و نقيضها ، و إذا ما توقفنا عند فكرة الإله قبل خلق الإنسان تجد غياب النقيض ، لذلك لابد لمبدأ التناقض أن يستخرج جدليته من فكرة الإله في حد ذاته ، و هو ما سينكشف مع بداية الخلق ، فمن فكرة الإله كفكرة سابقة وأولية ستخرج منها فكرة الشيطان التي لم تكن لتمثل نقيض الخير المطلق (الإله) إلا عندما ظهر الإنسان ، كتركيب بين الخير المطلق و الشر المطلق (الشيطان). بحيث مع ظهور الإنسان ستنكشف فكرة الإله على أنها تحتوي نقيضا في ذاتها و هي لا تعلم ، و هذه أول هزيمة لفكرة الخير و الحقيقة في ذاتها ، وهو إعلان أيضا لبداية المساواة بين الخير المطلق و الشر المطلق وإلا لما-لم ينهي الخير المطلق جذور الشر و يستأصلها من الوجود و تبقى السيادة للخير و الحقيقة فقط؟ و هذا ما يدل على أن القوة بين فكرة الإله و فكرة الشيطان في تساٍو مطلق و متواٍز ، فكلاهما يعلم أنه لن يربح المعركة ، لذلك لا بد من و فكرة أخرى يتجسد فيها هذا الصراع وهذا التناقض ليواصل الخير والشر مسار الصراع ، ولن يتجسد هذا صراع إلا في فكرة الإنسان و خصوصا في بدايته عبر امتحان عسير سيربك الإله /الخير للمرة الثانية ، فكيف ذلك ؟
إذن يمكن أن نستنتج أن فكرة الألوهية في عرشها و عالمها ، عالم الكمال و الخير و العدل ، كانت موطنا لبداية الشر و الخطأ ، و بداية بناء توازنات ستشكل حقيقة الموجود البشري .
لنعد إذن لعالم الكمال الذي كان في البداية يعبر عن الخير المطلق و قد بدأ يتلطخ بالشر عبر المساومة ، و المزايدة بين عالمي الخير و الشر ، هذا الأخير المنبثق الحديث لن يتمثل إلا في صورة الشجرة / شجرة المعرفة داخل فضاء لانهائي واسع من الخير و العدل و الطمأنينة .....
فالشيطان كفكرة للشر ستتحدى لأول مرة الإله في المجال و المكان ، و هي قضية ضرورية من حيث نسق قانون مبدأ التناقض الماركسي ، و سيفرض الشر قوته عبر صورة الشجرة . وهي تمثل في قراءتنا شجرة الشر. و التي لن تتطلب مجالا أو مكانا واسعا لوجودها ، فمنظورنا للشجرة الشريرة و الوحيدة في المجال جد صغيرة بالمقارنة مع مجال أشجار الخير و امتيازاتها اللامتناهية و لذلك فشجرة الشر التي تمثل دوما فكرة الشيطان ، في المنطق العام لا تمثل قوة بالمقارنة مع أشجار الخير المتنوعة غير المحدودة ( فكرة الإله) ...
لكن الحدث سيقلب الموازين لصالح الشر على حساب الخير ولصالح الخطأ على حساب الصواب .
إذن فكرة الإله ستفتح لأول مرة مجال لقيام فكرة الشر والمتجسدة في الشيطان، والضحية سيكون الانسان كفكرة ثالثة ، تجمع بين الفكرتين : الأولى/ الخير والثانية/ الشر ، ومنه أيضا يكتمل قانون التناقض الذي لابد له وأن يستكمل رحلته الجدلية ، فكيف ذلك؟
مع ظهور الانسان كإرادة إلاهية ظهر الشر وأفسح عن نفسه بعد ما كان مخفيا في الروح الإلاهية باعتبار فكرة الشيطان كفكرة للشر في ما بعد ، هي في جوهرها إلاهية ، ولن يظهر الشر وينبثق مع فكرة الشيطان إلا مع ولادة وظهور الانسان . فمع ظهور الانسان انقسم الخير بذاته إلى عالمين : عالم الشر وعالم الخير.
واعتبارا منا أن فكرة الشيطان خرجت من عالم الإله ، أو قل عالم الشر خرج من عالم الخير، ومن داخل ماهيته ، تطرح بعض التساؤلات الميتافيزيقية : هل الإله كفكرة للخلق وكجوهر وكعلة العلل سيعلم بالأحداث البعدية ؟
سواء كان الجواب بنعم أم لا ، فالأمر هنا لا يهمنا لأن القضية في حقيقتها تتعلق بالإنسان ككائن متجسد في الواقع ، فهو الوحيد القادر عن طريق تحليل ثنائية الخير والشر المتجسدة فيه أن تقودنا فقط إلى فهم بعض الثنايا الميتافيزيقية لمسألة السؤال الميتافيزيقي السالف الذكر .
فمع ظهور الانسان كتركيب لفكرتي الإله والشيطان والصراع قائم بين الفكرتين بشكل أو بآخر، سينتصر الشر للمرة الثانية على الخير ،بعبارة أخرى سينتصر الشيطان على الإله و للمرة الثانية على التوالي ( الهزيمة الأولى هي أن فكرة الشر خرجت من فكرة الإله والثانية هي أن الانسان سيتجاوز أوامر الإله ) ، وهذه المسألة لها معاني ودلالات كثيرة حسب السياق والمرجعية ، ودلالاتنا نحن في هذا الباب تحمل بعدا فلسفيا أنطروبولوجيا .
فالإنسان وهو في العالم بلغة هايدكر ، إذا ما تمعنا النظر في كيانه فهو يحمل ازدواجية ، سنسميها " ازدواجية ذاتية إنسية" تتصارعان باستمرار. الأولى تلك الذات البشرية الواقعية واليومية المهمومة بقضاياها الاجتماعية من صراعات وتفاعلات داخل وضعها البشري ، وهذه الذات البشرية لا تستقر على حال فهي دوما في أزمات ، وصراعات ، واحباطات ، ومحاولات لتجاوز الاحباط والفشل نحو النجاح وتحقيقي ما تصبو إليه ...
والثانية ، هي تلك الذات الانسانية المثالية ،غير الواقعية ، والتي تتجاوز باستمرار الذات البشرية الواقعية ، إنها ذات حاملة لقيم الخير والمعقولية ، وما ينبغي أن يكون ويسود من عدل ، ومساواة ، وكرامة وحقوق ...
هذه الازدواجية في الذات هي تجسيد لثنائية الخير والشر، والمنبثقة من فكرة الإله والشيطان ، وهي ازدواجية تعمل غالبا بمنطق الشر الذي استحوذ على الخير ، فالذات البشرية اليومية الغارقة في همومها واحباطاتها وتفاعلاتها ، هي التي تجسد ذلك الشر وقد هزم إرادة الخير في الانسان ، ذلك الخير المتأخر دوما في ذاتيتنا ، والذي غالبا ما يبقى عالقا في المثل العليا لمَلكَتنا ، أي العقل الخالص كما يوضح ذلك الألماني "امانويل كانط" . فهذا العقل الذي نمتلكه هو الخير والعدل والحق ... وهو جزء صغير في ذواتنا ، بالمقارنة مع أجسادنا الضخمة التي تجسد منطق الغريزة كمقابل للعقل ، فهي منطق الشر هنا ، هذا الشر ( الجسد) الذي أضحت مساحته أكبر من الخير في الذات ( العقل كجزء صغير ، داخل فضاء جسدي واسع) وهذا عكس ما هو متجسد في أسطورة الخلق ( شجرة الشر داخل فضاء لا نهائي من الخير ) إذن ، نحن أمام ذات انسانية تحمل في جوفها ازدواجية العقل والجسد ، الروح والمادة ... فالعقل هو الخير فينا وهو "أعدل قسمة بين جميع الكائنات العاقلة" ، هذا العقل يصارع دوما في الوجود بلوغ الخير الأسمى أو الكمال ، أي ذلك الخير المطلق اللامتناهي ، والذي يجسده الإله في المخيال الديني عند العامة، في مقابل الجسد (منبع الغريزة) كتعبير عن الشر ، وهو أيضا أعدل قسمة بين جميع الكائنات البشرية ، وهذا ما يجعل ثنائية الشر والخير من حيث المبدأ متساوية في الذات الانسانية وهذا ما سينعكس أنطولوجيا كازدواجية في الذات على مستوى التجسيد الوجودي للإنسان .
هذه الازدواجية في الاشتغال الواقعي أو البشري تتناقض وتتباين أحيانا ، وفي الغالب تتفاعل بانتصار منطق الشر على الخير ، بل لا ينتصر هذا الشر إلا بمساعدة ومساهمة فعالية الخير / العقل ، فالشر في الواقع لا يصبح كذلك إلا إذا جلب وانحاز له العقل ، فيصبح العقل/الخير في خدمة الشر في هذه الازدواجية فكيف ذلك ؟
حتى نفهم كيف يغدو الشر شرا من المبدأ إلى الوجود الواقعي يشترط ضمن مبدأ التناقض فعلا ثالثا حتى ينتقل إلى صفة التركيب ، كما هو الشأن في أسطورة الخير والشر ( الإله+ الشيطان = الانسان) ، وهذا الفعل الثالث هي الإرادة التي تتجاذب وتتنازع حولها ازدواجية الذات الانسية فتصير تارة إرادة انسية خيرة وتارة أخرى إرادة انسية شريرة استقطبت واستحوذت على الخير/ العقل في الانسان . وهكذا نصل إلى نتيجة مهمة وهي أن الشر حتى يتحقق كإرادة بشرية واقعية تشترط العقل لأجرأت ذلك الشر واخراجه إلى الوجود البشري ليشق مساره نحو الموت ، ليعود إلى أصله الميتافيزيقي ( فكرة الشيطان).
ونفس الشيء بالنسبة لمسار إرادة الخير ، فهي أيضا تشق مسارها نحو الموت عائدة لأصلها الميتافيزيقي ( فكرة الإله ).
إن الأصل في الذات الانسانية هو الخير ، لكنه صعب المنال أو صعب التحقق كواقعة بين علاقات البشر ، فالخير في الانسان كمثيله في أسطورة الإله والشيطان ، شاسع ولا متناهي بالرغم من أنه يتمثل في جزء صغير في شكله – ونقصد هنا العقل – بالمقارنة مع الجسد ، إلا أن قوة العقل من حيث المبدأ الفعلي تتسم بقوة خارقة غير محدودة قد تدفع بالفرد إلى أن يتنازل عن أعضاء جسده للطرف الآخر ... كما يمكن للإنسان بهذا العقل أن يصنع ويبتكر ويفكر في إنتاج وإعادة إنتاج ما سيقاوم به الشر الذي يتربص به سواء على مستوى الوجود الطبيعي ، أو على مستوى المعيش الأنطلوجي البشري ...وهذا ما يتحقق ضمن إرادة إنسية خيرة كجوهر منسي في الذات الانسانية .
وفي المقابل تسود وتظهر بشكل جلي إرادة بشرية شريرة ، تستحوذ على العقل ليبتكر ويفكر في آليات لتحقيق هذا الشر وإنتاجه على نطاق واسع ، فالشر حتى يتحقق يشترط على غرار الخير إعمال العقل ، كمدبر ومحرك لفعل الشر ، في إطار إرادة بشرية شريرة تسعى دوما إلى تدمير الإرادة الانسانية الخيرة والتي غالبا ما تنجح في ذلك لكون الارادتين ( إرادة الخير وإرادة الشر ) متساويتين ، من حيث المبدأ : أولا، لأن كلاهما يتخذ من العقل قاعدة وإن يختلفا في المنطلقات. وثانيا ، من حيث الفعل الذي تجسده هذه الإرادة أو تلك ، كل منهما حسب مقوماتها وأسسها وما تمتلكه من قوة داخل الواقع البشري وما ينتجه من علاقات تغذي قوة الإرادة ، فإن كانت خيرة فتحت المجال لبروز الخير وانفتاح قيمه ،أما إذا كانت إرادة شريرة فهي حتما تعمل على استنباثه ، وبالتالي سيادة الشر بأساليبه الماكرة والتدميرية في الوجود البشـري .
وهكذا يصبح الخير في الأرض كأصل إلهي في صراع دائم مع الشر الشيطاني ، مما يجعل الخطيئة الميتافيزيقية في تكرار مستمر في واقع البشر مادامت هناك إرادة شريرة تسكن جوف النفس البشرية ، وتظهر قوة الشر بالرغم من أنه ليس هو الأصل في الانسان أنه صعب المنال والتحقق من حيث التفكير المبدئي فيه ، على غرار الخير الذي اعتمدناه كأصل في الانسان ، فهو سهل المنال لا يتناقض مع مبادئ الانسانية الكونية وهو بذلك لا يتطلب أي جهد أو عناء ، فهو واضح ويتجلى مباشرة – كما ذهب "امانويل كانط " في تأصيله الميتافيزيقي للأخلاق ،"في العقل الخالص" الذي يتمتع به كل كائن عاقل .
في حين أن الشر يبنى وفق عقل ماكر تخلى عن الخير والقانون الأخلاقي نحو الانحدار والسقوط لمتطلبات الغريزة ، أي نحو سيطرة منطق إرادة الشر ، هكذا فخطيئة السقوط تتكرر باستمرار في الوجود البشري ، فكيف ذلك ؟
إن المتعالي عند الانسان يكمن في العقل ، وهذا الأخير يتربع أعلى الجسد فينا
( ملكة الخير، ملكة الحكم ، ملكة الفهم ...)والسفلي يتمثل في كل الجسد ،
فمن المفروض وكما وضحنا في علاقة الخير بالشر سلفا في ما يخص الوجود مع الإله (أي الانسان مع الله) ، بحيث الخير متمثل في الوجود الإلهي ، أي في عالم الله والذي هو عالم الكمال اللامتناهي ، في مقابل الولادة الأولى للشر والمتجسدة فعليا في شجرة الشر ، فلننتبه لهذه العلاقة المعكوسة بين واقع ميتافيزيقي وواقع فعلي ، بحيث في العلاقة الأولى -الميتافيزيقية- بين الخير والشر كانت القوة والسيادة للخير ، بالمقارنة مع ما تمثله شجرة الشر في مساحتها ومكانها وسلطتها وسط عالم لا محدود للخير. في مقابل علاقة العقل والجسد في العلاقة الثانية . والمنطق العادي والساذج هنا – تماما سيقود إلى طرح السؤال التالي : لماذا انهزم الخير أمام الشر بالرغم من تفوقه على الشر مجاليا ومكانيا في العلاقة الأولى ؟
هذا السؤال الميتافيزيقي لن يكون له أي معنى بدون استحضار الانسان الذي سيحرك حجلة هذا الصراع ، وعندما سنحتضر الانسان ، فلا داعي لتمسك بالسؤال الميتافيزيقي في بعده الأسطوري ، بل لابد من العودة بالسؤال ذاته إلى التجربة الأنطلوجية لهذا الكائن في العالم الامبريقي المحسوس ، وبالعودة بهذا السؤال الميتافيزيقي في صميم الأنطلوجية الانسانية سنلتقي بل سنؤكد على حرية الانسان ، فبحضور الانسان كطرف ثالث أو تركيب كما سلف الذكر ، يتضح لنا جليا أن كل من الله والشيطان في العالم الأسطورة لا يملكان أية سلطة على الانسان ، وإنما هذا الأخير وهو بدأ يحيا حياته وجد ذاته أمام أمر ونهي وسلطة... والانسان كما هو معروف دوما ضد الأوامر والنواهي ... وكل تمرد
وتغير للوضع وصناعة الحدث هو نتاج حرية الانسان ، واختياراته كما يذهب إلى ذلك جون بول سارتر .
فإذا كان الإنسان قد وجد لأجل رغبة إلاهية كماوجدت فكرة الشيطان ، فهذا الأخير الذي من الله قد عكر في لحظة معينة مزاج–فكرة- الله/ الخير ،فلماذا لم يعالج الله مشكلته مباشرة مع الشيطان / الشر ؟ ويترك الانسان كضيف جديد خارج هذه اللعبة ... ؟
لذلك ، وما نريد تأكيده في أسطورة الخلق هو الوصول إلى كون الانسان منذ أن انبثق سواء كان انبثاقه روحيا أو ماديا ، قد وجد وهو يتمتع بالحرية ، وبهذه الحرية يكون خيرا أو شريرا. فلنعد الآن إلى هذا العالم الواقعي أو بلغة هايدكر، "لنعد للأشياء ذاتها" أي للواقع الانساني ونواصل مقارنة الخير/ العقل ، مع الشر/ الجسد ، في ذاتية الانسان ، سنجد على أن علاقة الخير والشر معكوسة ومقلوبة على غرار العلاقة الأولى في أسطورة الخلق ، فمساحة الخير/ العقل فينا صغيرة جدا بالمقارنة مع الجسد ، ذلك الهيكل الضخم الذي لا تنتهي متطلباته ...
في الحقيقة الفلسفية يمكن أن نجازف ونقر بأنهما مستقلان ، فالعقل مستقل عن الجسد على مستوى الماهية ، فالأول روحي ، والثاني مادي ، لكن هناك علاقة على مستوى الممارسة الوجودية المعيشية ، وهذا الجزء هو ما يهمنا نحن في هذه المقالة المتواضعة لأنه من خلال هذه الممارسة الوجودية ينبثق فعل الانسان فيصير ، إما فعلا شريرا أو فعلا خيرا في إطار التفاعلات الاجتماعية بين البشر ، وهنا لابد من الإقرار بنسبية الشر والخير داخل تفاعل اجتماعي معين ، دون انكار بطبيعة الحال البعد الكوني لهذه الثنائية .
لنقف أنثروبولوجيا-على الأقل في المستوى الأول- على ردود أفعال علاقات البشر حتى نحلل ونحاول فهم قضية استقلالية العقل والجسد ما هويا، وكيفية عودتهما علائقيا على مستوى الممارسة المعيشية كممارسة تمكننا من الحكم على فعل ما ،أنه ذو صبغة شريرة أو خيرة ، بالرغم أن الشر المتجسد في الجسد يلح دوما لقضاء حاجياته أمام ضآلة متطلبات الخير المتجسدة في العقل .
فالبشر كما هو معلوم يقضون حوائجهم في إطار تفاعلات علائقية غير محدودة مستعملين ومسخرين لأجل ذلك، كل الوسائل المتاحة والممكنة ، منها، ما هو معقول ، ومنها، ما هو غير معقول، فالمعقول هو الخير، وما هو غير معقول هو الملطخ بالشر كالخيانة والكذب ، والغش ...
فالعقل عند العامة غالبا ما ينساق ويستسلم لمنطق الجسد وأنانيته ، وهذا نوع من السقوط المشابه لسقوط الانسان من العالم العلوي الإلهي ،إلى العالم السفلي الشيطاني في سياق أسطورة الخلق ، وهكذا نجد أن الخطيئة تتكرر وباستمرار في الوجود المعيشي البشري .
فالعقل في الانسان هو تجسيد للخير لكنه ينهزم ويغدو شرا أو شيطانا عندما يصبح في قبضة الجسد .
فصراع الأفراد أو العامة كما يناقشه الباحث السوسيولوجي "حوسى أزارو" هو صراع من أجل تحقيق وإشباع رغبات الجسد وتأمين فائض – إشباع ، له دوما ، ولعل هذا التأمين للفائض هو السبب الرئيسي نحو السقوط في فعل الشر ، فطبيعة هذا الجسد كما حاول تفسير ذلك "طوماس هوبز" وغيره ، ذا طبيعة شريرة ، وهو مصدر الأنانية ، وهذه الأخيرة تؤمن بكون "الغاية تبرر الوسيلة"، وهذا هو مصدر الشر الذي لا يكون كذلك إلا بتواطئ العقل وسقوطه في مجال شهوات وغرائز الجسد لينتج الكائن البشري سلوكا أو فعلا شريرا ، وهذا السقوط هو نفسه السقوط الذي تجسده أسطورة "آدم وحواء" في الثقافة الدينية الاسلامية .
وهذا الدرس حاول أن يفصل فيه امانويل كانط في إطار ميتافيزيقا الأخلاق محاولا أن يجعل من العقل ملكة عليا تشرع قوانين أخلاقية كونية لا يمكن التنازل عنها مهما اختلفت الثقافات والشعوب ، فما تتساوى فيه هذه الثقافات والشعوب هو وحدة الانسان -الكائن العاقل ، كأعدل فطرة وقسمة بين الانسانية حسب رينه ديكارت .
وفعلا نظريا لا أحد سيختلف مع كانط ، لكن على مستوى الممارسة العملية نصطدم بواقع آخر: هو واقع الخطيئة والانتهازية والمكر والخداع والغش ... بين علاقات الأفراد ، بل وفي علاقة الفرد بذاته وبمحيطه الطبيعي والاجتماعي ...
بل إنهم يبدعون في إنتاج هذا الشر دوما باستمرار ، وهذا أمر طبيعي مادام الشر ينتج بوحدة العقل كخير أسمى ، فعوض أن يبدع الانسان في إنتاج الخير بشكل لا نهائي وهو الأصل ، تجده وقد أصبح كائنا بشريا يغرق باستمرار في متاهات الشر التي لا تزيده سوى القلق الوجودي في معيشه وما يصاحب ذلك من فقدان المعنى في الحياة ...
إذن ، والحالة هذه ، يبقى الاشكال القائم ، كيف يرتكب الكائن البشري فعلا ما نصفه بالشر أو الخير ؟ وما الذي يدفعه ويحركه لينتج فعلا ما ، شريرا أو خيرا كان ؟
لقد وصلنا في تحليلنا المتواضع وفق قانون التناقض إلى ما يلي :
فكرة الله + فكرة الشيطان = الانسان
الانسان = العقل +الجسد = الارادة .
سنقف عند الارادة الانسانية محاولين التفكير في هذه الارادة التي قسمها كانط ميتافيزيقيا إلى إرادة طيبة وإرادة سيئة ، والتي في الحقيقية المعيشية للبشر إرادة واحدة ، تلك الارادة التي تفعل الخير هي ذاتها يمكن ترتكب الشر ، فما الذي يجعلها كذلك ؟ ويجعلنا نميز انطلاقا من الفعل المنجز بين إرادة طيبة أو سيئة ؟
إن العامل الذي نعتقده يمثل أهمية كبرى في هذه الحالة ، هي الوضعية المعيشية التي يتواجد عليها الفرد ، فسلوك الفرد- الطيب أو السيء- هو انعكاس لوضعية ما .
فالشر والخير من إنتاج هذا الكائن البشري في وضعية ما ، نفسية ، واجتماعية واقتصادية ... أي وضعية معيشية مركبة.فانفعالاتالفرد ومواقفه مرتبطة بحالة معينة ، وليس بالضرورة أن للحالة النفسية كمزاج يتواجد عليه هذا الفرد أو ذاك هي صانعة أو دافعة لفعل الخير أو الشر ، فقد يكون هذا الفرد في حالة إما نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية ... في لحظة زمنية ومكانية معينة تجعله يقوم بالفعلين معا ، فعل الخير والشر ، مثلا ، فعله للخير قد يمس الفضاء الطبيعي أو الانساني ، وفعله الشرير قد يكمن في غاياته غير المعلنة ...
إن هذه القضية الانسية المزدوجة لن تفهم ولن تحل إلا في ارتباطها بالقلب كأحد مكونات الكينونة الانسانية المادية والروحية .
فإذا كانت الحداثة الغريبة قد أعلت من شأن العقل على حساب الجسد، فلابد من واسط بينهما ، كقنطرة عبور نحو تحقيق تناغم وتوازن بين جهة العقل العليا وجهة الجسد السفلى ...
فما تم نسيانه بشكل كبير في الحضارة الانسانية هو عدم اعطاء أولوية لهذا الجزء المهم في الانسان ، جزء الأحاسيس والمشاعر الخلاقة ... فغالبا ما يتم دفن القلب ونسيانه ضمن الهيكل الجسدي ، بالرغم من أنه يحمل حياة خفية لا تظهر إلا عند صفوة قليلة من الناس ، أصحاب القلب الواسع والكبير في ثقافتنا ، أي أولئك الذين جعلوا من القلب بؤرة التقاء العقل بالجسد أي ذلك المعمل الذي تعاد فيه مصالحة الخير مع الشر واندماجهما ليغدو سلوكا وفعلا معقولا صريحا دون خلفية خفية ،سلوك خير يستهدف العيش المشترك في الحياة وللحياة ، ولعل هذه القضية متباينة بين الشعوب شمالا وشرقا ، غربا وجنوبا ...
إن سلوك الانسان يجب أن يكون سلوكا لأجل الحياة ، ولن يتحقق ذلك ما لم نعيد التفكير في عنصر القلب كعنصر للأحاسيس والمشاعر الروحية الخلاقة التي يمكنها أن تبعدنا عن السلوكات اللاإنسانية السائدة في المعيش بشكل متزايد ... وعندما نفكر في القلب كعنصر وكشرط للحياة ، لابد من التفكير في الموت كنهاية للموجود البشري نحو آخر امكاناته في هذا العالم ، وبهذا الصدد نورد المثال الشعبي المتداول الذي يقول :"عندما يموت القلب تموت الحياة" لذلك فتيمتي الخير والشر تذوب وتنتهي عندما تتساوى قيمة الحياة مع قيمة ادراكنا ووعينا بنهايتنا ،أي بموتنا ، وهذا المخرج وحده يمكن أن يجعل من الكائنات الانسانية آلهة في هذا العالم، قادرة أن تصحح خطأ أسطورة الخلق عبر اعدام فكرة الشيطان ( الذي خرج من فكرة الله) ووضع حد للسقوط المتكرر على الدوام في شباك الشر الشيطاني .
لأن التفكير في الموت هو تفكير في الحياة البشرية ، كيف يمكن عيشها ؟ وهل فعلا الحياة تستحق كل هذا العناء ؟ وكل هذا الشر الذي ينتجه الانسان تجاه الانسان والطبيعة ؟ ألا يمكن التفكير في خلق بديل معيشي انساني وحضاري ، لا شيء سوى لذاتية الانسان وللبعد الروحي والغائي فينا ؟
ختاما ، لابد للبشر وعلى منوال تلك الطقوس الدينية التي تستوجب الطهارة المادية والرمزية من المؤمن المسلم لكي يمارس التعبد كغاية للتقرب لخالقه ، أن يسلكوا رمزيا الطريق ذاته في معيشهم ، وذلك يربط قنطرة عبور لثنائية العقل والجسد نحو الأحاسيس الجميلة ، والمشاعر النبيلة ، التي تسكن كل كائن بشري كشرط لبلوغ وعودة المعنى إلى معيشهم ، وحياتهم التي بدأت بالأفول .
إن هذه الطهارة الرمزية ملزمة على الدوام لكل كائن بشري- كشرط الطهارة عند المسلم المؤمن الذي يتوخى نيل رضى خالقه- عبر الأحاسيس والمشاعر النقية والإيجابية التي بإمكانها أن تمدنا بالطاقة الإيجابية نحو فعل الخير .

المصادر والمراجع
- أحمد السيد علي رمضان : الفلسفة الحديثة - عرض ونقد
- جورج بوليتزر : مبادئ أولية في الفلسفة .
- فولغين : فلسفة الأنوار – ترجمة هنرييت عبودي .
- جمال احمد سليمان : ايمانويل كانط – أنطولوجيا الوجود .
- عالم المعرفة : مستقبل العقل – ميشيوكاكو .
- محم الشيكر : هايدكر وسؤال الحداثة
- محمد عابد الجابري : دروس الفلسفة والفكر الاسلامي .
- أمل مبروك : فلسفة الموت .
- عبد السلام حيمر : في سوسيولوجية الثقافة والمثقفين .
- عبد الاله حبيبي : حوار العقل والروح .
- حوسى أزارو : مداخلة بمناسبة تكريم الاستاذ والمفتش التربوي عبد الاله حبيبي – خنيفرة 2016/2017 " التباين الثقافي والمعيشي بين الشعوب الأسيوية والشعوب الغربية "
- آيت المقدم نور الدين : مقالة : جينيالوجية مفهوم الثقافة كآلية لتهذيب الانسان .
Philosophie – terminale – S: Hatier – paris avril 1999 :



#نورالدين_ايت_المقدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جينالوجيا مفهوم الثقافة كآلية لتهذيب الإنسان
- فن الوجود الأنطولوجي
- حول أنطولوجية حقوق الإنسان
- نمودج في تحليل قول فلسفي خاص بتلاميد البكالوريا
- نمودج في تحليل قول فلسفي لتلاميد السنة التانية باكلوريا
- نقد خطاب رجل السيايسة
- دراسة سوسيولوجية للمردود المادي الفلاحي وحدود مساهمته في الت ...
- الوجود ومعاناته مع الموجود


المزيد.....




- حاول اختطافه من والدته فجاءه الرد سريعًا من والد الطفل.. كام ...
- تصرف إنساني لرئيس الإمارات مع سيدة تونسية يثير تفاعلا (فيديو ...
- مياه الفلتر المنزلي ومياه الصنبور، أيهما أفضل؟
- عدد من أهالي القطاع يصطفون للحصول على الخبز من مخبز أعيد افت ...
- انتخابات الهند.. قلق العلمانيين والمسلمين من -دولة ثيوقراطية ...
- طبيبة أسنان يمنية زارعة بسمة على شفاه أطفال مهمشين
- صورة جديدة لـ-الأمير النائم- تثير تفاعلا
- الدفاع الروسية تعلن إسقاط 50 مسيرة أوكرانية فوق 8 مقاطعات
- مسؤول أمني عراقي: الهجوم على قاعدة كالسو تم بقصف صاروخي وليس ...
- واشنطن تتوصل إلى اتفاق مع نيامي لسحب قواتها من النيجر


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نورالدين ايت المقدم - ثنائية الخير و الشر في الإنسان أو في الروح و الدين البشري