أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - محمد فشفاشي - التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت















المزيد.....



التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت


محمد فشفاشي

الحوار المتمدن-العدد: 6377 - 2019 / 10 / 12 - 17:34
المحور: كتابات ساخرة
    


المــــــــــــــقدمــــة
بالرغم من تعدد توجهاتها الفكرية وتفسيراتها المختلفة, تبقى مدرسة فرانكفورت القلب النابض لمنظومة النقد الاجتماعي بما تحمله من معنى لعملية النقد, كحركة عقلية تهدف إلى تحريرالمجتمع من القيود الإيديولوجية والمتمثلة أساسا في الرفض القطعي لكل أشكال الرأسمالية, التي حاولت السيطرة على البشر والمنظومات بكل ما أوتيت من قوة فكرية ومادية, وذلك على المستوى الاقتصادي, أو السياسي, أو التقني, الذي تمثل في الوقت الحاضر أساسا في حركة التصنيع التي شاهدتها المجتمعات المتقدمة, بالإضافة إلى امتلاك الوسائل التقنية الحديثة في مجال الإعلام والتواصل, على اعتبار أن المجتمع الذي أصبح يمتلك المعلومة هو المجتمع الذي يسير ويقود, ومن ثم أصبح مستقبل البشرية مرهون بمثل هذه الرهانات الخطيرة التي حذرت منها مدرسة فرانكفورت.
لقد تأسس المشروع الفلسفي لهذه المدرسة سنة 1923, في مدينة "فرانكفورت" على أنقاض معهد البحوث الاجتماعية الذي تولى تسييره في البداية باحث أرثوذكسي (متشدد) للفكر الماركسي, وهو نمساوي الأصل يدعى "كارل كرنبرغ" (1940ـ 1861), وبمجرد حلول عام 1930 تولى "ماكس هوركايمر" زمام الأمور بالمدرسة, حيث شجع البحوث المتعددة التخصصات والتي سترتبط بالفلسفة الاجتماعية الماركسية, كما جذبت المدرسة إليها مجموعة من المنضرين الماركسيين بما في ذلك, "تيودورف ادورنو" و " فريدريك بلوخ" و " هاربرت ماركيوز" وغيرهم, وقد أصبحت هذه المدرسة أساسا لأغلب النظريات والاتجاهات التي انتقدت التقنية في مختلف أبعادها, وقد اكتست أهمية بالغة نظرا لغنى كتاباتها المنفتحة على مختلف المرجعيات ( الكانطية, الهيكيلية, الماركسية, الفيبيرية, والنيتشوية...).
ما ميز النظرية النقدية هي اتخاذها من النقد منهجا لها, دون أن تختزله فقط في الجانب المعرفي, بل في الواقع الاجتماعي أي النقد الذي يرتبط بالممارسة, حيث اعتمد رواد هذه المدرسة, على مفهوم النقد الاجتماعي الذي تبناه "كارل ماركس"(1883ـ1818) الذي يقوم على نقد الواقع الملموس, إلا أن خصوصيات المدرسة تكمن في توسيع دائرة النقد, أي النقد الجذري لعقلانية الأنوار وما أفرزته.

من هذا المنطلق, وجهت المدرسة انتقادات جذرية لمجموعة من المفاهيم والتصورات التي تأسست عليها هذه المجتمعات, كالعقلانية, والتقدم العلمي والتقني والحرية...
بهذا تكون أعمال رواد المدرسة الفرانكفونية جزءا من نضالهم الثوري ضد الرأسمالية, وكان الموضوع الرئيسي لنقدهم هو الاقتصاد السياسي, بمعنى أنهم كرسوا جهودهم لتحليل التناقضات الاقتصادية للرأسمالية, لكن مع التغيرات التي طرأت في المجتمع الرأسمالي من صراعات جديدة, تحول اهتمام نقاد المدرسة من التركيز على التناقضات الاقتصادية إلى نقد النظم السياسية والثقافية للرأسمالية.
في هذا المجال, دأب المتخصصون في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت على تقسيم مراحل تطورها إلى ثلاث مراحل أساسية؛ المرحلة الأولى التي تأسست فيها هذه المدرسة في بداية العشرينيات من القرن الماضي, عندما تجمّعت مجموعة من الباحثين وعلى رأسهم, هوركايمر وادورنو, وماركيوز, و فرانز بونمان..., الذين يمثلون الجيل الأول لهذه المدرسة, والمرحلة الثانية التي ضمت كل من يورغن هابرماس, وكارل اتو ابل, وكلاوس أوفه, أما المرحلة الثالثة فيمثلها اليوم أكسيل هونيت بشكل أساسي, وهو رائد الجيل الثالث ومدير معهد الدراسات الاجتماعية بفرانكفورت.
يسعى بحثنا هذا, إلى تسليط الضوء على أهم التيارات النقدية والمتمثلة في مدرسة فرانكفورت, التي مهما قيل عنها تبقى أهم المعاقل الرئيسية التي رافعة فكريا ـ نقديا ضد السيطرة الرأسمالية التي تمارسها على المجتمع بواسطة وسائل تقنية, وحاولت أن تعطي للإنسان أي المدرسة حقائق من صنع البشر وليس حقائق زائفة ومصطنعة من إنتاج أنظمة تريد أن تحكم قبضتها و تخدم مصالحها. في هذا الصدد نبّهت هذه المدرسة في إطار مناهضتها لكل أشكال السيطرة التي تمارس على الإنسان بواسطة التقنية, والدور الخطير الذي تلعبه وسائم الإعلام من تزيف للأخبار والمعلومات, ويصبح البشر عبيدا لها بفعل سلطتها ومؤسستها في الفضاء العام.
يدفعنا هذا الأمر إلى طرح مجموعة من الأسئلة من قبيل: إلى ماذا تريد التقنية أن تصل إليه؟ وما هي خلفيتها؟ كيف يمكن أن نفكر في زمن أصبح فيه العلم والتقنية يمتلك قوة هائلة؟ بأي رقيب يمكن أن نوجه العلم بعدما انتقل إلى مقاولات والدعم من الخارج؟
كل هذه الإشكالات وغيرها سنحاول معالجتها من خلال موضوعنا, ولأجل هذا سنقسم بحثنا إلى فصلين؛ في الفصل الأول الذي اخترنا له عنوان,"الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت" وسنقسمه إلى محورين, الأول سنلقي فيه الضوء على " دعاوى هوركايمر وادورنو" من خلال كتابهما المشترك"جدل التنوير", والثاني سينصب فيه الحديث على "ماركيوز ودعاواه". أما الفصل الثاني الموسوم ب " الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت", سنشتغل من خلاله على محورين, الأول سنتناول فيه "مبادئ النظرية النقدية", والثاني سيكون موضوعه, " الجيل الثاني وموقفه من الحداثة ".




























الفصل الأول : الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت.
المحور الأول: دعاوى الجيل الأول .
1 - هوركايمر وادورنومقاربة نقدية للعقل الانواري.
يعتبر العصر الحديث, عصر العقل المستنير الذي يرفض "الرجعية" والتخلف داعيا إلى التجديد والتطور, خاصة بعدما شهده العالم الأوربي من ظلمات لمدة من الزمن, وكان ذلك نتيجة لاستبداد رجال الدين واستهزائهم بقدرة العقل وتنصيب النقل محله , إلا أن فلاسفة الأنوار ثاروا على الدين وكشفوا تلاعب رجاله وفتحوا أبواب الأمل أمام العقل الذي باستطاعته نقل الإنسان من مملكة الظلمات إلى مملكة الأنوار. لكن هذا العقل في إطار التقنية خان التنوير ووقع في هوية زائفة لا تقبل إلا السيطرة والاستغلال على كل شيء, حيث تحول العقل إلى أسطورة.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية, قام كل من "هوركهايمر واد ورنو" بتأليف كتاب "جدل التنوير " 1944, ما ميز هذه الفترة هو معايشتها اللاتحرر الذي فرضته الممارسات الديكتاتورية, سواء النازية في ألمانيا أو الفاشية في ايطاليا, وما أدت إليه الحربين العالميتين الأولى والثانية من كارثة على حساب الجنس البشري. على ضوء هذا نتساءل: كيف نظر العقل إلى التنوير؟ وهل حقق التنوير أهدافه؟ وكيف أصبح التنوير الذي كان هدفه في البداية تحقيق إنسانية الإنسان إلى بربرية جديدة؟ كيف لهذا العقل المحرر أن يتحول إلى أسطورة بعد أن حاربها؟ .
يعتبر كتاب "جدل التنوير" كتابا مركزيا لرواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت, يعكس الكتاب موقف المدرسة من التنوير الذي " يعتبر على مر الزمن, وبالمعنى العريض تعبيرا عن فكرة التقدم , وهدفه تحرير الإنسان من الخوف وجعله سيدا" . بالإضافة إلى انه سعى منذ البداية إلى إضاءة الملتبس وإخضاع كل شيء للنقد. هذا وانصب اهتمام الفيلسوفين "ادورنو وهوركايمر" على التأسيس لنقد التنوير, باعتباره نقد وتحليل العقل نفسه, أي نقد أسسه الفكرية والإيديولوجية التي يستند إليها الواقع والذي أصبح فيه الفرد مقيدا, بمعنى انه خاضع لهيمنة العقل الأنواري . وقد ساهم في تكريس هذه النظرة كل من "فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت" لكونهما اعتبرا أن قوة المعرفة تتجلى في السيطرة على الطبيعة, والنظر إلى الإنسان على أنه سيدها ومالكها. وستتحول هذه السيطرة على الطبيعة إلى السيطرة على الإنسان ذاته, فكيف ثم ذلك؟
لقد حاولا "ادورنو وهوركايمر" من خلال كتابهما المشترك الاشتغال على أطروحتين: معتبران أن الأسطورة قد صارت تنويرا, والتنوير تحول هو الأخر إلى أسطورة, محاولين العمل على "جدل الأسطورة والتنوير" على ضوء أسطورة "الأوديسة", والتي ورد فيها أن "أوديسيوس" طلب من بحارته أن يضعوا الشمع في آذانهم حتى لا يسمعوا غناء الحوريات, وهو غناء ينتهي بمن يسمعه إلى الاستسلام لهن ولإغوائهم, فطلب منهم أن يقيدوه إلى السفينة ويزيدوه تقييدا كلما ازداد الغناء, وانتهت الأسطورة بانتحار الحوريات, لأن "أوديسيوس" سمع غناءهن وعرف سرهن.
تفسر الأسطورة, أن علاقة الإنسان بالطبيعة في "الأوديسا" هي علاقة صراع وهيمنة, وليست علاقة توازن . "فأوديسيوس" هو رمز الطبقة الحاكمة, لا يستمع إلى الغناء إلا وهو مقيد إلى السفينة, أي أنه يحلم بالسعادة دون أن يعيشها, ويحلم بالطبيعة دون أن يرتبط بها. يستفاد كذلك من "الأوديسا " بأنها توضح بشكل أو بأخر "جدلية التنوير", من حيث إنه يهدف في البداية إلى تحرير الإنسان من أصفاد الأسطورة, لكن سرعان ما تحول إلى أسلوب من أساليب الهيمنة, "هكذا خط طريق فك السحر دربه, وكذلك التنوير الذي بما هو بين الحي واللاحي, كما تماثل الأسطورة بين اللاحي والحي, فالتنوير هو عقلنه الرعب الميثولوجي" . هذا ما يجعلنا نتساءل كيف أن التنوير الذي كان في البداية تلك اللحظة التأسيسية المعبرة عن فكرة التقدم الإنساني وعن فكرة تحرره , سرعان ما تحول إلى أسطورة تنطوي على السيطرة والهيمنة؟.
إن الجواب الذي يقدمه لنا " أدورنو وهوركايمر", أن ذلك ثم عندما تحول العقل إلى أداة للسيطرة عل الطبيعة وبعدها الإنسان . والمقصود هنا بالعقل هو ذلك "العقل الأداتي" القائم على التكميم والموجه نحو ما هو تطبيقي وعملي, أي أنه أصبح كآلة رياضية لتكريس الهيمنة, " فالناس يريدون أن يتعلموا من الطبيعة كيفية استخدامها, بهدف السيطرة عليها كليا وعلى الناس " . يتضح أن الإنسان عندما حاول أن يسيطر على الطبيعة سيطر على الإنسان ذاته. في هذا السياق سبق "لمارتن هايدغر" وأن أشار إلى "أن جوهر التقنية ليس إنسانيا, وجوهر التقنية لا يمت قبل كل شيء بأي صلة للتقنية " . غير أنه في غضون التطور التاريخي اتضح أن المشروع التنويري, أصبح بعيدا عن تحقيق تلك المبادئ التي قام عليها, فلم يعد مشروع فلاسفة الأنوار مؤهلا لتحرير الإنسان من مختلف أشكال السيطرة التي أصبحت تهدده وتحد من وجوده, خاصة في ظرفية النظم السياسية والاقتصادية "التوتاليتارية" التي بلغت قمت طغيانها, هذه اللحظة عايشها فلاسفة مدرسة فرانكفورت زمن صعود النازية إلى سدة الحكم, وما حل بأوربا من أزمات ألقت بظلالها على الحرية أي اختفاءها ثم غاب معها العقل, فانقلب التقدم بمفهومه الإنساني إلى انحطاط وتراجع مقلق. كما يمكن أن نضيف تداعيات أخرى تتعلق بمفهوم المشروع الغربي, ويتعلق الأمر بمفهوم "الجدل " أو "الديالكتيك", يعني أن الشيء يفترض بالضرورة نقيضه, بمعنى أن التنوير قام بتحقيق نقيضه. لهذا يدعونا "هوركايمر وادورنو" عبر "جدل التنوير", إلى الوقوف عند الأزمة التي يعرفها كل من الحضارة والإنسان الغربي. وتكمن الأزمة فيما يمكن تسميته "بجدلية التنوير والأسطورة", أي الصراع بينهما. لقد كان التنويرفي البداية يهدف إلى تحرير الإنسان من الخرافة والسحر قصد إخراجه من وضعه السلبي والدفع به ليمارس حريته ويحقق سعادته, غير أن التنوير انقلب إلى نقيض ذلك, فحركة التنوير حتى وإن ادعت تحرير الإنسان وأدخلت العقل كأداة حاسمة في التعامل مع الأشياء والطبيعة, فإنها في نهاية المطاف استسلمت لأساطير من نوع جديد .
يتضح أن كل من "هوركايمروادورنو" , قد قاما بنقد التنوير ومقولاته التي أخذت طابعا أدتيا, وهذا ما استعرضناه مع الرواد الأوائل لمدرسة فرانكفورت, الذين استعرضوا مختلف الحالات المرضية التي تمخضت عن "جدل التنوير" وتجلى ذلك في السيطرة على الطبيعة وبعدها على الإنسان, ومن ثم معاملاته وفق مقولة "التشيؤوالإغتراب", وذلك بتجريد الإنسان من مختلف مقوماته الإنسانية والنظر إليها كشيء أو كموضوع," فمع تشيؤ العلاقات الإنسانية تصبح علاقة الإنسان مع نفسه ومع الآخرين بمثابة علاقة مسحورة" . وهكذا نجح العقل الأداتي في تشيؤ الإنسان واستخدامه من قبل المؤسسات الاقتصادية والسياسية القائمة على تكريس المصلحة والهيمنة بصورها المختلفة.
لم يكن موقف "هوركايمر وادورنو" النقدي من العقلانية الأداتية ذريعة لترك مشروع الأنوار, بل الموقف كان موجها بالأساس لذلك التعريف المستمر لقيم ومبادئ التنوير, وإلى تلك السلبيات التي برزت في مسار الحضارة الغربية, والتي بلغت ذروتها إبان المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا مما يعني أن التنوير أصبح له حدود, فالتنوير بهذا المنظور وصل إلى الأفق المسدود, ولمعالجة هذا الوضع دعا " هوركايمر وادورنو" لممارسة النقد الفلسفي, لذلك كان من الضروري التركيز عل نقد العقلانية الأداتية والكشف عن أخطارها في المجتمعات المعاصرة . وبالتالي نتساءل: أي دور بقي للنقد في ظل هيمنة جهاز تقني كامل السيطرة؟ ألم يشكل التنوير خدعة بغية تكوين ثقافة جماهيرية هدفها خلق مجتمع يسير وفق نمط محدد وواحد؟
أ خدعة التنوير وتكوين الثقافة الجماهيرية.
عندما تحول التنوير إلى نقيضه تحولت معه العديد من الأشياء إلى نقيضها, بما في ذلك الثقافة التي بدورها اختزلت في الإنتاج الصناعي, وهذا الدور تضطلع به وسائل الإعلام لكي تجعل الثقافة وسيلة لتحقيق الأرباح, هذا حينما يتعلق الأمر بمصالح المقاولات الرأسمالية, بمعنى أن الفن يتلخص فيما هو اقتصادي وهذا ما يفضي به إلى فقدان دوره التحرري ليصبح وسيلة من وسائل السيطرة . وهذا ما يؤكد عليه "هوركايمر وادورنو" بقولهم , " تحاول الأحزاب المنتفعة أن تشرح مبدأ الصناعة الثقافية من خلال الاستعانة بالتقنية" . في سياق الحديث عن الصناعة الثقافية للجماهير, نتجه إلى توضيح مسألة الفن بشكل خاص والثقافة على وجه عام.
إن الثقافة في خصم المجتمع الصناعي, أصبح لها توظيف اديولوجي وذلك من أجل تبرير سلطة معينة أو الزيادة من معاناة الإنسان, أي الإنسان المعاصر الذي دخل في مرحلة أزمة, والمسئول عن هذه الأزمة هو المجتمع الرأسمالي. من معالم الأزمة نتحدث مع "هوركاير وادورنو" بقولهم, "إن خيبة الأمل التي يشعربها من يقع عليه اختيار القيام بجولة حول العالم, توازي الخيبة التي تعاش لدى رؤية الصور المأخوذة إبان هذه الجولة" . هذا هو المجتمع الذي يمكن أن نسوقه عبر الشاشات أو المذياع, لذا نجد أن الصناعة الثقافية لا تغذي الإنسان إلا بنماذج متكررة, وبالتالي فالفن يفقد تلك الوظيفة التحررية ليصبح نموذجا لمواصلة الاستبداد والهيمنة.
في السياق ذاته نجد "هوركايمر وادورنو" يشيران إلى ما يسمى بصناعة الأفلام أو صناعة الثقافة, " فالفلم بمؤثراته الصوتية لا يترك مجالا للمخيلة, ولا لتفكير المشاهد الذي يمكن أن يتحرك فيه(...) فالفلم يساعد المشاهد الضحية على التماهي مباشرة مع الواقع" . يتضح من خلال هذا القول أنه لا مجال للنقد أو التأمل وإنما التكيف مع الواقع. لقد ثم تجريد الثقافة من صيغتها الإنسانية لكونها ارتبطت بالإديولوجيا القائمة على المصلحة, فالمجتمع الصناعي أصبح يرى الإنسان كزبون أو كشيء, لكون أن الصناعة لا تهتم بالإنسان إلا بوصفه شيئا أو موظفا, هذه النظرة دفعت الإنسانية نحو هذه الصيغة المبالغ فيها. ما ينبغي الإشارة إليه هو أن الصناعة الثقافية لا تسعى إلى تحرير الفرد بقد ما تسعى إلى توحيد أنماط حياته والسيطرة على طموحاته ورغباته, وهذا الأمر يسير وفق منطق اقتصادي مخطط له.
هذه الرؤية النفعية كانت موجهة أساسا إلى الطبيعة والتي نجد جذورها مع "ديكارت "و "بيكون", عندما اعتبرا أن المعرفة قوة وسلطة . فالمعرفة في العصر الحديث ارتبطت بالتقنية باعتبارها أداة لتحقيق غايات الإنسان وطموحاته "السيادة و التملك". لكن عندما تسنى للإنسان ذلك أي التدخل في الطبيعة , توجهت هذه النظرة إلى الإنسان بذاته , فأصبح الإنسان خاضعا لوسائل الدعاية (الراديو والتلفاز) والإشهارات التي تعمل على ترويضه واختزاله في بعد استهلاكي .
ب مكانة البعد الفني في النظرية النقدية لدى الجيل الأول.
ارتبط اهتمام النظرية النقدية بالفن وبالأعمال الفنية, بنقدهم الجذري للوضع القائم وأشكال الهيمنة التي أصبحت تعرفها المجتمعات الغربية. فالفن في نظرهم هو البعد الوحيد الذي يستطيع الإنسان من خلاله تجاوز ما هو قائم, بمعنى أن الفن ملاذا للإنسان وانعتاقا من العقلانية الأداتية التي هيمنة على الإنسان, ويمثل كذلك ذلك الفكر المغاير نوعيا عن ما هوموجود في الواقع. لكن الفن لا يقوم بوظيفته التحررية إلا إذا تجاوز ما هو قائم وتمكن من تحقيق إسقلاله الذاتي وهذا عن طريق رفض دمجه بما هو موجود أو اختزاله إلى وضيفة انعكاسية. من خلا هذا نتساءل: ما الدور الذي يمكن للفن أن يلعبه في مجتمعات قائمة على العقلانية الأداتية؟
إن الدور الذي يمكن للفن أن يلعبه في مجتمع قائم على العقل الأداتي هو الانتقاد والاحتجاج على ما هو سائد, فمن خلال نقده واحتجاجه يحاول أن يغير العلاقات الاجتماعية, ويفتح أبوابا جديدة يكون فيها الإنسان حرا. وبالتالي فالعمل الفني يمكن أن يلعب دورا ايجابيا ويساهم في تحقيق التحرر الإنساني, بمعنى أخرهو البعد الذي يمكن أن ينقل الإنسان إلى الحرية وتحقيق غاياته. إلا أن الفن في المجمعات المتقدمة صناعيا تحول من وسيلة للتحرر إلى أداة للهيمنة, بحيث أصبح الفن يستخدم كوسيلة للدعاية التجارية والسياسية من قبل المؤسسات في المجتمعات القائمة والتي تهدف إلى نشر المنتجات الفنية الاستهلاكية بهدف التسلية, كالأغاني والأفلام ذات الطابع التجاري . في هذا السياق نجد"كمال بونمير" يقول , "لقد أكدت النظرية النقدية الدور النقدي للعمل الفني وحاولت استخراج دلالاته وأبعاده الاجتماعية والسياسية قصد تغير وضع الإنسان في المجمعات المتقدمة صناعيا, وهي مجتمعات أصبحت تقودها العقلانية الأداتية نحو التدمير الذاتي" . لكن هل البعد الفني وحده قادرا على تجاوز هيمنة المجتمعات المتقدمة صناعيا؟
إن ما يؤكد عليه "أدو رنو", هو الدور النقدي للفن باعتباره يمثل بعدا هاما في حياة الإنسان, وكذلك التعبير عن الوضع القائم وما يسوده. لقد قدمت النظرية النقدية تحليلا نقديا لما هو سائد, غير أن ما يؤخذ عليها, أنها لم تقدم حلولا عملية لتغيير الواقع.
في هذا المقام نجد أحد الباحثين يرى بأن التجاء مفكري النظرية النقدية إلى الأفق الفني والجمالي , يعني التسليم بتنازل النقد عن مهمة التغير الاجتماعي."بالرغم من أنهم حاولوا تأسيس "نظرية تأملية" تعتمد في عملها على نتائج العلوم الإنسانية, وبالرغم من أنهم أرادوا لها أن تكون نظرية نقدية للمجتمع تستند إلى نقد العقل فإنها تبقى مجالا غير محدد الظوابط". إن السؤال الذي يبقى مطروحا , هل واقع المجتمعات المعاصر يسمح بتغير فعلي لما هو سائد, وكذا تجاوز السيطرة التي تمارسها الطبقة المتحكمة بواسطة الفن؟ ألا يمكن الحديث هنا عن أزمة العقل ؟
ج أزمة العقل.
حينما رفع شعار "كل شيء كل ممكن " وبدأ النظر إلى العقل على أنة مطلق ولا حدود له... ألا تشكل هذه النظرة استسلام الإنسان لسلطة العقل؟ ألا يفترض ما أفضى إليه التقدم التقني من أوضاع غايتها التحكم في الطبيعة والإنسان, إخضاعها إلى سلطة العقل؟ ألم يصبح العقل نفسه محتقرا للقيم الإنسانية؟
عندما دعا"ديكارت" إلى تبني فلسفة عملية والتخلي عن الفلسفة النظرية بقوله,"يمكننا الوصول إلى معرف عظيمة النفع في الحياة, وأنه يمكننا أن نجد,بدلا من الفلسفة النظرية  التي تعلم في المدارس فلسفة عمليةإذا عرفنا ما بواسطتها ما للنار,والماء, والهواء...وأن نجعل أنفسنا بذلك سادة الطبيعة ومالكيها" . هذه النظرة انتقلت إلى الإنسان, باعتباره جزءا لا يتجزأ من الطبيعة. ألا تفترض هذه النظرة استخداما أحاديا للعقل والنظر إلى الإنسان كشيء. "أدى تحرير العقل بمفهومه الأداتي إلى أن يعامل الإنسان وكأنه بمثابة رقم قابل للبحث والتمحيص" . مع تحرر العقل الأداتي تم تجريد الإنسان من كل خصائصه ومقوماته, وأصبح النظر إلى الإنسان ليس باعتباره كائنا مفكرا متفاعلا, بل النظر إليه كشيء أو كرقم.فمع انفلات التقنية من سيطرة الإنسان, بعد أن كان يعتقد أنها ستمكنه من تسخير الطبيعة, انقلبت عليه وأصبحت مصدر تدمير دون أي رقيب أخلاقي,"حيث أصبحنا أمام إنجازات يصعب حتى على العقل تعقلها" .
يتضح أن العقل لم يعد ذلك المرشد للأفعال الإنسانية, فلقد فقد مهمته التوجيهية والتي تعمل على التميز ما بين الصواب والخطأ.
لقد وضع التقدم التقني الإنسان أمام نوع أخرمن السلطة, فما كان يخشاه سقط فيه وكأنه رسم حذفه بنفسه, فأصبحت التقنية تتحكم في الإنسان بعدما كان العكس. فالرفع المفرط من قيمة العقل, من شأنه أن يقود الإنسان والطبيعة إلى الهلاك, فبعدما نادى وبالتقدم والحرية... كانت النتيجة نزع البعد ألقيمي للإنسان. وبالتالي ما قيمة العقل إذا لم يراعي هذا الأمر؟ هل أصبح ذو "بعدا واحدا " يفكر وفقط منطق محدد له؟ هذا ما سنحاول التطرق إليه مع "هاربرت ماركيوز" من خلال كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد".







المحور الثاني: دعـــــــــــاوى هربرت ماركيوز.
أولا: التقنية وأشكال هيمنتها .
أ تجليات مجتمع بلا معارضة.
حاول ماركيوز تسليط الضوء على مجتمعه , واعتباره مجتمعا من نوع أخر, مجتمع استطاع عن طريق التقنية أن يغيّب كل الطبقات, ولم تعد هناك قوى معارضة له وقادرة على نقد النظام كما كان ينظر إليه "ماركس" من داخل النظام الرأسمالي. لذا سنحاول التركيز على المجتمع الذي بات فيه النقد مخدّرا وصار المجتمع في غياب النقد بلا معارضة.
يبرز لنا ماركيوز المسار الذي اتخذه المجتمع الرأسمالي, إذ وصفه بالمنحى اللاعقلاني تمثل في أن المجتمع أصبح يملك كما هائلا من الأفكار والوسائل عكس ما كان عليه. فإذا كان المجتمع الرأسمالي قد لعب دورا في تطوير مستوى العيش فإنه ساهم كذلك في تكريس نوعا أخر من القمع لا يقل خطورة مما كان عليه في السابق, أي استعمال التكنولوجيا بديلا عن العنف بغية خلق تلاحم بين القوى الاجتماعية. فالمجتمع الرأسمالي يجرّم النقد من أساسه, وذلك ليرسخ التقدم التقني من أجل إبطال فعالية أي احتجاج, زد على ذلك تحلم تحرير الإنسان وتحرره. من شأن هذا يرصد ماركيوز سبل وعوامل التغيير التي أضحت منعدمة , والسبب أن النقد ذاته سقط في التجريد حينما لم تعد هناك أرضية مشتركة للنظرية والممارسة. من خلال هذا نتساءل: إذا كان النقد سقط فيما سقط, فهل ينتج هذا فرصة سانحة للمجتمع لكي ينتج ما ينتج؟
لقد قام المجتمع الصناعي في أساسه على العقلانية, "إن السيطرة الاجتماعية في عصر التقدم التكنولوجي تتلبّس طابعا عقلانيا يجرّد سلفا كل احتجاج وكل معارضة من سلاحها" . إذا قمنا باستحضار سمات هذه العقلانية, اتضح لنا أن عقلية المجتمع المعاصر وتقدمه هو المبدأ لا عقلاني, لأن تطور المجتمع الصناعي يقتصر على كبح كل المواهب التي من شأنها أن تقود الإنسان إلى تحرره. في هذا السياق يسلط ماركيوز الضوء على الجهاز التقني وذلك من خلال بعدين:
البعد الأول؛ هو أن التقنية أخذت طابعا أداتيا (لا إنساني لا اجتماعي), بمعنى غير محايدة أي أصبحت هي المتحكمة في مصير المجتمع.
البعد الثاني؛ يكمن حسب قول ماركيوز, "لم تعد هناك اليوم من معارضة بين الحياة العامة والحياة الخاصة, بين الحاجات الاجتماعية والحاجات الفردية, والتقنية تفسح المجال لتأسيس أشكال من الرقابة والتلاحم الاجتماعي , جديد, وأكثر فعالية ونعومة في آن واحد " . يشير ماركيوز إلى أن هناك تداخل بين الحياة العامة والحياة الخاصة, والسبب في ذالك أن التقنية ليست فقط وسيلة من وسائل الإنتاج , بل أصبحت تقوم بدور الرقابة الاجتماعية, هذه الرقابة تكون بشكل غير مباشر. وبالتالي ما يهم الجهاز التقني هو خلق التلاحم الاجتماعي, ليس هذا فحسب وإنما هذا التقدم أخذ طابعا أخر, هو الطابع السياسي.
ب البعد السياسي للتقنية.
ينصب حديث ماركيوز في هذا المقام حول مجتمع الرفاه الذي افتقد للحرية, رغم أنه يتبنى نظاما ديمقراطيا . إن ما يميز المجتمع الصناعي هو,"افتقاده للحرية في جو ديمقراطي: ذلكم هو ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة, ويشهد على ذلك التقدم التقني" . ويصيف ماركيوز سؤال في هذا السياق, "هل ثمة ما هو أكثر عقلانية , من إلغاء الفردية عن طريق مكننة الأعمال الضرورية , لكن الشاقة؟" .
من خلا هذا يحاول ماركيوز إبراز الوجه الذي صار عليه النظام التكنولوجي الذي أصبح يقتضي نسقا سياسيا وفكريا. فكيف ثم ذلك؟
يؤكد ماركيوز أن الحريات التي كانت تشكل عوامل ذات أهمية في المراحل الأولى للمجتمع الصناعي قتلت أهميتها, ذلك لأن التقدم التقني قد أفرغ هذه المفاهيم من مضمونها التقليدي, مثلا؛ في السابق كانت المجتمعات تدافع من أجل حرية الفكر والكلام, لكن ما إن استبدلت ثقافة مادية وفكرية بثقافة أخرى فعالية وعقلانية, أخذت تلك الحريات والحقوق خصائص المؤسسات التي تعتبر جزءا لا يتجزأ منها. فالثقافة التي حلت محل الثقافة التقليدية لا تعترف إلا بالإنجازات, " كلما أصبح التحرر من البؤس, ذلك هو التحرر الذي هو المضمون العيني لكل حرية قابلة للتحقيق والإنجاز, فقدت الحريات المرتبطة بدرجة دنيا من الإنتاجية مضمونها الأصلي" . عندما أصبح كل شيء قبلا للتحقيق والإنجاز, فقدت المفاهيم والحقوق مضمونها الأصلي , هذا ما جعل ماركيوز يشير إلى أنه لم يعد اليوم من دور للمعارضة إلا مناقشة الاختيارات والحلول السياسية البديلة, لا البحث عنها من داخل مجتمع أخر.
ج - هدف العقلانـــــــية التـــــــــــــــقتية.
نتتبع شرح ماركيوز الذي يرى أن الجهاز الإنتاجي، بحكم متطلباته الاقتصادية، والسياسية الدفاعية، أثقل كاهل الأفراد من خلال توسعه على زمن العمل والوقت الحر، سواء كان هذا الوقت متعلق بميدان الثقافة المادية والفكرية.
فالمجتمع الصناعي المعاصر لم تعد تحكمه طرق تنظيمية سياسية بقدر ما أصبحت تحكمه طرق تنظيمية تكنولوجيا، وهو الأمر الذي سيدفع هذا المجتمع إلى أن ينحوا منحا استبداديا، لأنه لم يعد في الحقيقة إلا مجرد تنميط سياسي إرهابي، ولكي نوضح هذه الفكرة نتجه رأسا إلى استعراض تجليات هذا النزوع. قلنا إنه مجرد تنظيم سياسي إرهابي، لا لشيء إلا أن نزعته الاستبدادية ليست سوى مجرد، شكل حكومي أو حزبي، بل على العكس من ذلك فهو نظام معين للإنتاج والتوزيع متلائم مع الأحزاب والضعف، وانفصال السلطات.
لم يعد للسياسة منطق السلطة المطلقة، على الصيرورة الميكانيكية، لأن حكومات المجتمعات الصناعية المتقدمة التي في طريقها إلى المحافظة على ذاتها وبقائها، عليها أن تعبئ وتستغل وسائل التقنية لمصلحة المجتمع كما لو كان المجتمع كتلة واحدة ومنسجمة. هكذا حلت الآلة أو التقنية، محل السلطة السياسية، هو الأمر الذي يعبر عنه ماركيوز بقوله:"هذه الحقيقة الفظة هي التي تفسر أن الآلة قد غدت أنجع أداة سياسية"( ). تكمن فعالية الآلة في كونها، لم تعد أداة سياسية وحسب، بل أصبحت تشكل جوهر قوة الإنسان. ما دام يُعرف الإنسان على أنه كائن حر، فهو في ظل المجتمع الصناعي، أصبح الأمر غير ممكنا، لأن المصطلحات التقليدية للحرية فقدت دلالتها، وتم تعويضها بحرية أكثر دلالة، من الأولى، إلا أنها تبقى حرية مزيفة ومصطنعة من طرف المجتمع الصناعي.
يضيف ماركيوز إلى هذا أن المصطلحات السالبة، لم تعد بمقدورها التعبير عن الأشكال الجديدة، باعتبارها لا تمثل سلبا للأشكال السائدة، لهذا فإن ماركيوز يريد أن يميز هنا بين الحرية الاقتصادية والسياسية، فرغم أن كل من الميدانين الاقتصادي، والسياسي يتيحان التحرر، لكن هذا لا يعني تحررا أو تخلصا من الرقابة، وإنما التحرر الفعلي كما يراه ماركيوز هو امتلاك الحرية الفكرية التي من شأنها أن تحيي الفكر الفردي الغارق والمتكيف في آن واحد مع وسائل الاتصال الجماهيري.
ثانيا : الفكر الوضعي وتكريس فلسفة أحادية البعد.
أ - انتصار الفكر الوضعي وتكريس فلسفة أحادية البعد.
ساهم الفكر الوضعي في تكريس نموذج واحد في التفكير, هذا النموذج لا يهتم بالأسئلة الماهوية بقدر ما يهتم بأحكام الواقع التي تصف وقائع الأشياء, يعني هذا أن الفكر الوضعي يرتكز على منهج محدد ألا وهو المنهج التجريبي, والذي ينطلق من فرضيات وصولا إلى الملاحظة التي من شأنها أن تساعده على صياغة القوانين. انتصار هذا النموذج انعكس على الفلسفة التي من مهامها فحص وتحليل المفاهيم العامة وبناء نظريات وانساق, بل أصبحت من شأنها شأن العلم الوضعي, لها مفاهيم محددة صاغتها بغية تجاوز ما سمي بالفكر الميتافيزيقي. فالميتافيزيقا تنتج أشباه قضايا لا يمكنها بوجه من الوجوه أن تكون لها مضامين محددة.
باسم الغموض والاشتراك اتجهت الفلسفة المعاصرة والتحليلية بالخصوص, إلى ربط الحقيقة بما تحيل عليه القضايا في الواقع, لذلك صار الواقع هو المحدد لصحة أو زيف العبارات والمفاهيم. الأمر الذي جعل العلم كدعامة أساسية للفلسفة التحليلية التي كانت تراودها فكرة مفادها أن يقترب الفكر الفلسفي قدر المستطاع من التفكير العلمي.
لقد عمل "أوغيست كونت" خلال القرن الثامن عشر على تقسيم العلوم وتصنيفها, فقد جعل في أعلى الهرم الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا ثم الفيزياء الاجتماعية, ووفقه لا يمكن الحديث عن أي معرفة ما لم تتصف بخاصية الموضوعية والحياد وإلا وجدت خارج هذا التصنيف, أمّا عند الحديث عن العلوم الإنسانية والفلسفة اللذان لها خصوصية تميزهما عم ما سميت بالفلسفة الوضعية, الأمر الذي يجعل من الصعوبة تطبيق تلك الصرامة المنهجية في العلوم الوضعية على الفلسفة باعتبارها تعتمد على التجريد والتأمل, كون العلوم الإنسانية ترتبط بالإنسان يجعل من الفلسفة بالدرجة الأولى خطابا حجاجيا يتأطر من خلال مفاهيم تكون متعالية عن عالم الوقائع, لكن في مقابل الفلسفة التحليلية ككل والتحليل اللغوي على وجه خاص يجدان منطلقهما في الفكر الوضعي, لأن الفلسفة التحليلية اتخذت على عاتقها أن تحدو حدوّ العلم فتصير لها مفاهيم محددة . في هذا المقام يدعي التحليل اللغوي أن مشروعه يكمن في رفع اللبس عن المفاهيم المتعالية, وذلك من خلال إحالة الكلمات على الواقع. لكن ماركيوزيرى في الأشكال الفكرية سمات الفكر السلبي , وهذا الفكر هو المبدأ الأساسي في تطور المفاهيم , لذا يقر أن صفات الفكر ليس فقط نتيجة لنمط معين من النزعة العقلية وإنما كانت عنصرا حاسما في التيار التجريبي, لذا لا يمكن أن نجازف بالقول مع ماركيوز بأن العلوم التجريبية هي موضوعية, لأن شرط الإحالة على الواقع ليس كفيلا بأن يعطي للعلوم هاته الصفة," حتى لو التزم الفيلسوف الحياد التام, فإن التحليل الذي حدّ نفسه يمثل تلك الحدود سيخضع بالضرورة لسلطة الفكر الإيجابي" .
بناءا على هذا عمل ماركيوز على تبرير استعماله لكل المصطلحات "الايجابية"و "الوضعية". هذه الأخيرة يرجع إلى أصله في أول استعماله من طرف مدرسة "سان سيمون", وتشير إلى ما يلي :
1 التحقق من صحة الفكر العرفاني عن طريق تجربة الوقائع.
2 اتجاه الفكر العرفاني نحو العلوم الفيزيائية بوصفها نموذجا لليقين والصحة والدقة.
3 الاعتقاد بأن تقدم المعرفة منوط بذلك الاتجاه .
وعلى هذا يرى ماركيوز أن الوضعية تتعارض مع كل من ميتا فيزياء والمثالية باعتبارها أنماطا مختلفة من أنماط التعبي, وعليه يمكن اعتبار الفكر الوضعي من بين العوامل الأساسية في بروز فلسفة أحادية البعد.

ب - نـــــقد الفلسفة التـــــــــــحليلية.
يعتبر ماركيوز أن الفلسفة التحليلية من خلا اقتصارها على المعنى والإحالة هي أيضا عملت على بروز فلسفة أحادية البعد, وذلك انطلاقا من تفنيدها لكل مفاهيمها بالأشياء القائمة, معنى هذا التقييد هو إحالة الكلمات على الواقع, لهذا شبه " لودفيغ فتجنشتين" في مرحلته الأولى اللغة بالة التصوير في هذا السياق يرد قول فتجنشتين , " إن الفلسفة لا تستطيع أن تتدخل بأي صورة من الصور في الاستعمال الراهن للغة... وليس من الممكن تقديم أي نوع من النظريات, وينبغي أن تخلو تحليلاتنا من أي فرضيات, وعلينا أن تحرر من كل ما هو تفسير لنفسح المجال للوصف وحده" . من خلا هذا القول يتبين أن هدف الفلسفة التحليلية لا يكمن التحليل والتفسير وإنما اقتصر على الوصف.
في هذا المقام يقيم ماركيوز تمييزا ما بين نمطين مختلفين:
عالم الفكر والعالم اليومي . يتوقف في البداية مشيرا إلى سمات اللغة اليومية, حتى يعتبرها لغة سلوكية ترتبط بالأساس بالحياة اليومية باعتبارها أداة عملية يهدف من خلالها التعبير عن شؤون مرتبطة بما هو عملي على مستوى الممارسة اليومية, فلغة الحديث اليومي مجرد ردة فعل إزاء سلوك معين. غير أن عالم الفكر أو اللغة الفلسفية لها مفاهيم عامة ومجردة من قبيل, الجوهر, والإنسان... , " فاللغة الفلسفية تتجاوز معنى السياق التجريبي المباشر لتصل إلى واقعه, تجرّد ما هو عيني مباشر لتصل إلى العيني الحقيقي" .
يؤكد ماركيوز على أن الفلسفة لن تكون فلسفة إلا بأن تصبح علاجا. فهو ما يتطلب تحرير الفكر من عالم الإنسان والسلوك, لأن الفلسفة لا تستطيع أن تنتقد أو ترسم مشاريع إلا من خلال الفكر وحده. ويعبر ماركيوز عن هذا العلاج انطلاقا من قوله, " إن المهمة العلاجية للفلسفة في عالم كلي استبدادي يجب أن تكون مهمة سياسة من اللحظة التي يميل فيها عالم الأشياء القائم إلى التبلور في شكل عالم يخضع بأسره للتكييف المذهبي" . إذا كانت المهمة العلاجية للفلسفة مهمة سياسة فيجب على هذه السياسة أن تكون فنّا مستقلا بذاته وليس بوصفها مادة للتحليل, بل ينبغي عليها أن تحلل مضمون المفاهيم من أجل أن تعقل واقعا غير مشوه, وإذا لم يساهم التحليل اللغوي في هذا فيمكن القول مع ماركيوز إنه غير منطقي وغير أصيل, ويتهرب ويحتمي بحقائق التي لا أساس لها من الصحة.
ج - سبـــــــــــــل التـحـرر.
لقد ثم استخدام التقنية في البداية لتهدئة الأوضاع السياسية, لكن التحول الذي حصل , هو أن التقنية اتجهت إلى تحقيق أكبر من التقدم التقني وسيؤدي ذلك إلى كارثة, خصوصا وأن التقنية لم تتطور تطورا كميا فقط, بل ستتحول إلى عملية انقلاب.
يرى ماركيوز في هذا المقام أن العقلانية العلمية قد ترجمت إلى سلطة سياسية وتعد العامل الحاسم في تطور الاحتمالات التاريخية من داخل المجتمع الصناعي, لهذا الغرض يتساءل ماركيوز, " هل ستميل هذه السلطة السياسية إلى نفي ذاتها إلى دعم "فن الحياة" " ؟ .
إذا استمرت المجتمعات الحالية في تطبيق العقلانية, ستصل إلى مكننة كل الأعمال الاجتماعية الضرورية, وبهذه المكننة الشاملة أدركت العقلانية العلمية غايتها . وبالتالي أي تقدم وراء هذا سيكون بمثابة قطيعة تكرس ذلك الانقلاب من ملكوت الكم إلى ملكوت الكيف, بمعنى سيصبح الواقع الإنساني جديدا ومغايرا أي زمن حر من خلال تلبية كل الحاجات الحيوية , وفي ضل هذه الشروط يمكن للمشروع العلمي أن يتجه نحو غاية تفوق الغايات النفعية , أي نحو "فن الحياة" .
إن أفكار التحرر في نظر ماركيوز التي كانت في الماضي تعد أفكارا ميتافيزيقية منفصلة عن العلم وحتى عن المنهج العلمي والتي كانت تعتمد بالأساس على التأمل الذاتي, أضحت اليوم موضوعا للعلم , إلا أن التطور يجعل العلم خاضعا لئن يكون سياسيا. يقول ماركيوز في هذا الصدد , " يجب الاعتراف بأن المشروع العلمي هو مشروع سياسي, وأن الوعي العلمي هو وعي سياسي . وذلك أن تحويل القيم إلى حاجات, والعلل الغائية إلى إمكانات تقنية, يشكل مرحلة جديدة في السيطرة على القوى الاضطهادية واللامقهورة في المجتمع والطبيعة " . إذا تحول العلم والتقنية إلى مشروع سياسي واع بذاته فإننا سنتجاوز تلك المرحلة التي كنا خاضعين فيها عندما كان العلم والتقنية يعتبران أدوات سياسية , رغم هذا يبقى الإنسان حرا حتى لو استمرت التقنية التي تقوم على مبدأ الاضطهاد في تقدمها , إلا أن الإنسان يمكنه أن يتحرر من سلطتها إذا انقلب عليها سياسيا .
إذا كانت الحضارة الصناعية قد ساهمت في تحسين مستوى العيش, والانتقال بالإنسان من مجتمع زراعي أو إقطاعي إلى مجتمع صناعي, فإن هذا الأخير كانت له نتائج وخيمة , سواء مادية أو بشرية ولعل الحربين العالميتين خير دليل على حجم الهول الذي أودى
بالملايين من الناس, كما عملت آليات المجتمع الرأسمالي على تحديد وتقليص النسل, ليس بدافع إنساني, وإنما الربح والإنتاج هو الذي أصبح يحرك الحضارة الصناعية. يتضح أن المجتمع الرأسمالي أصبح عاجزا عن حماية الفرد, وذلك لانعدام الاستقلال الذاتي الخاص, حتى وإن تحقق هذا الاستقلال لن يكتمل إلا إذا ثم كبح الحاجات غير المستقلة ذاتيا باعتبارها شرط لحماية المجتمع. وعليه نقول إن فعل التحرر لن يتأتى إلا من خلال إعادة تحديد الحاجات, أي الحاجات الزائفة من الحاجات الحقيقية.
على الرغم من أن ماركيوز لم يقدم حلولا قادرة على أن تقود الإنسان إلى التحرر من نير التقنية بتحويل العلم إلى مشروع سياسي يثور على التقنية ذاتها إلا انه كان لأعماله صدى ايجابي, حينما تفاعلت الحركات الطلابية سنة 1968 بفرنسا احتجاجا على سياسة الدولة المتعلقة بتكريس العقل الأداتي من داخل الجامعة , وذلك بدعم التكوين المهني على حساب ما هو نظري.
إن عامل التحرر يعلقه ماركيوز على أكتاف طبقة المنبوذين واللامنتميين والعاطلون عن العمل والعاجزون عنه. لكن نتساءل مع ماركيوز: إذا لم تكن هناك مؤسسة سياسية حاملة لهذا المشروع أي التحرر فهل يمكن تحقيقه؟























لقد اعتبر هابر ماس الممثل الرئيسي للجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت, التي كثيرا ما أطلق عليها اسم النظرية النقدية. شكلت هذه المدرسة الأساس الفكري لمشروع هابر ماس الحداثي, كما أنها لا تشغل نفسها بالتحليل على مستوى الأنساق بقدر اهتمامها بالتفاعل الرمزي المشكل عبر اللغة. يقول هابر ماس في هذا الصدد, " أنا افهم تحت مقولات الفعل التواصلي تفاعلا متوسطا رمزيا, هذا التفاعل يتكون حسب معايير صالحة إلزاميا تحت توقعات سلوكات متبادلة يجب أن تفهم ويعترف بها من قبل ذاتيين على الأقل" . وذلك استنادا إلى انه على الفرد أن يستوعب أدوار الآخرين, والتفاعل معهم.
فالتعديل الذي أجراه هابر ماس على النظرية النقدية يجعله قائد حركة التحول اللغوي, إذ تعد نظريته بمثابة أخلاق جديدة للنقاش والتواصل من أجل التفاعل في المجتمع لتحقيق المعرفة وفق مبدأ خلقي قائم على أسس أخلاقية.
المحور الأول: دعاوى الجيل الثاني.
أولا : مبادئ النظرية النقدية .
أ – العقل الدياليكتيكي والسياسة.
إن الفكر الدياليكتيكي مبدأ منهجي لدى النظرية النقدية وهو مبدأ أساسي, حيث ترمي النظرية النقدية إلى أن تكون دياليكتيكية من ناحية سياسية, لأن العقل والواقع مرتبطان على نحو ضمني واحد مع الأخر. فما تزعمه النظرية النقدية, هو أن خاصية التفاعل التي يتسم بها التعقل الديالكتيكي هي خاصية تعكس علاقة هذا التعقل الدياليكتيكي بالواقع الاجتماعي الذي هو عبارة عن صيرورة عملية. بحيث يكون الاثنان عبارة عن وحدة للنقدين, في هذا السياق نجد "ألن هاو" يقول, " أن مهمة النظرية النقدية هي أن تستقصي هذه الأضداد دياليكتيكيا" . فالعقل الدياليكتيكي هو مبدأ أساسي في النظرية النقدية, لأن ما يتضمنه العقل من أفكار والواقع مرتبطان واحد مع الأخر.


ب- نقد النزعة العلمية والوضعية.
إن أول كتاب أعطى لهابر ماس شهرة ومكانة , هو كتاب "العلم والتقنية كإديولوجيا" 1979, والذي يبين من خلاله أن الإنسان أصبح يعيش تطورا واضحا في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما, وذلك من خلال ارتباط العقلنة المتقدمة للمجتمع بأسسه النقدي العلمي والتقني, هذا ما يوضح قول هابر ماس, "اختراق العلم والتقنية لمجالات المجتمع" . حيث ظهر تطورا واضحا للبحوث الخاصة بالتقنية وتطور التكنولوجيا, وأصبح العلم أساسا في التبادل والتواصل باعتباره الايدولوجيا المتحكمة في المجتمعات المعاصرة.
في هذا السياق نجد هابر ماس يعتبر بأن الرأسمالية الحديثة أصبحت تتميز بهيمنة الدول على الاقتصاد وعلى المجالات الأخرى للحياة الاجتماعية, حيث أن الواقع الجديد أصبح مسيطرا على الإنسان لحد تفويض الآلة القيام بدور الشأن العام بدلا من التنظيمات الاجتماعية."ويظهر لي جليا بأن العلم كمثل هذا ethos لا يمكنه تقديم أي شيء, وبأن تجديد الوعي الأخلاقي لا يمكنه أن ينتج عن طريق المناقشات العلمية" . فمن خلال المشاكل التي طرأت في الحياة بسبب تطور العلم والتكنولوجيا, أصبحت التقنية إيديولوجيا متحكمة في المجتمع وأصبح المجتمع في هيئة آلة. وعليه فإن الوضعية positivisme بصفة عامة عاجزة عن تحقيق الفهم الصحيح للحياة الاجتماعية. في هذا المقام يمضي هابرماس إلى نقد الفصل الوضعي للحقائق عن القرارات, أي نقد الفرضية القائلة بأن هناك من ناحية تناسق تجريبي في الظواهر الطبيعية والاجتماعية يمكن صياغتها عبر قوانين. فالوضعية حسب هابر ماس ما هي إلا وجه من أوجه السيطرة على الإنسان والطبيعة. حيث أصبحت بذلك إيديولوجيا تشكل خطرا على العقل والعلم في حد ذاته.



ج- نقد التقنية والنزعة التيكنوقراطية
لقد وجهت عدة انتقادات للمدرسة الوضعية, من بينها نجد هابر ماس والذي يعتبرها بأنها," تعمل على إعطاء المشروعية للسيطرة التقنية" . ذلك أن التقنية سيطرت على الطبيعة وعلى الإنسان وهذه السيطرة كما يقول هابر ماس, "سيطرة منهجية علمية حاسبة ومحسوبة"2. فالتقنية بهذا المعنى اتسع مداها في العديد من المجالات إن لم نقل كلها.
التقنية إذا لها علاقة بالنزعة التيكنوقراطية. وقد بين هابر ماس ذلك عندما عاد إلى ماركس الذي كان أول من أكد," أن التكنوقراطية مرتبطة بالتقنية إن لم تكن صنيعتها" 3. يعني هذا أن التيكنوقراطي له علاقة بالتقنية, حيث يؤكد هابر ماس أن هناك سلطة قاهرة في ضل التقنية من خلال سيطرتها على الطبيعة. والنتيجة المترتبة على ذلك أن النظام العلمي أصبح جزء من الطبيعة نفسها وانحصرت أهميته ودور العقل في التكيف مع البيئة.
د- أسباب فشل النظرية النقدية وإعادة بعثها من جديد.
تعتبر النظرية النقدية, بصفة عامة نقدية بالمعنى الذي يكشف أن المجتمع القائم هو مجتمع لا عقلاني مما يستوجب العمل على التغيير وتحسين الأوضاع.
نجد هابر ماس من بين الذين حاولوا أن يشخصوا الأسباب التي أدت إلى فشل النظرية النقدية. وقد حدد ذلك من خلال إثارته للعديد من القضايا من بينها, نوع العلاقات الاجتماعية والاتصالات الرمزية والسلطة التيكنوقراطية . هذا ويؤكد هابر ماس أن مدرسة فرانكفورت قد أنشأت على شكل أفكار ماركسية بقوله, "إن الماركسية ليست إلا جزءا من فكر الأنوار, وهو الفكر العقلاني الذي يرى أن المجتمع جزء من العالم الطبيعي" ، يتضح أن هابر ماس يؤكد على تأثير مدرسة فرانكفورت بالأفكار الماركسية التي اعتبرتها جزء
من فكر الأنوار الذي يتمسك بالعقلانية.
وبالرغم من تأثر المدرسة النقدية بالماركسية إلا أنها لا تقبل المقولات الماركسية كما هي, مما يجعلنا نرى أنها في وقت واحد أي النظرية النقدية, هي نقد للمجتمع وتطوير للماركسية, بمعنى أنها رغم تأثرها بها, إلا أنها ترفض مناقشة علاقة البنية الفوقية للبنية التحتية. وهذا ما يؤكد التمرد من جانب المدرسة النقدية على الماركسية, خاصة في نمو مراحل ونضج النظرية النقدية. لكن ما يعاب على الماركسية, هو غياب العلاقات الإنسانية والتفاعل الاجتماعي الذي قوامه اللغة, وهو الجانب الذي انطلق منه الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت وخاصة هابر ماس لكي يعيد بناء النظرية النقدية.
ــ خلاصــــــــات.
ـ يمثل هابر ماس الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت, كما أنه تقاسم العديد من الأفكار مع أقطاب الجيل الأول لكنه يختلف يختلف معهم في كثير من الآراء.
ـ لقد انطلق هابر ماس من منطلقات متعددة, فلسفية وسوسيولوجية و لغوية. حيث اعتمد على الديالكتيك الهيكلي من أجل تطوير نظريته النقدية, وإن كانت منطلقاته ماركسية من خلال تحليله لفكرة العمل عند ماركس. هذا فضلا عن اهتمامه بالنظرية الماركسية من خلال التركيز على البنى الاقتصادية والسياسية, وإن كان تجاوز ماركس من خلال دعوته إلى التفاعل والعلاقات الاجتماعية التي أهملها من خلال اهتمامه بالجوانب المادية للعمل حيث اعتبر الإنسان في نظره آلة.
ـ لقد انتقد هابر ماس بعض مقولات التي تمثل النظرية النقدية , من قبيل التقنية, والنزعة التيكنوقراطية, وكذلك الوضعية والنزعة العلمية.

ثانــيا: العقــــــــــلانية وامتداداتـــــــها.
1ـ سمات وخصائص العقل الأداتي.
أـ مـعـنــى العقـــــلانـية.
أعطى فلاسفة العصر الحديث الأهمية والأولوية للعقل, حيث اعتبر مرجعا لكل معرفة ومنطلقا لكل فكرة, إذا العقلانية مشتقة من العقل هذا الأخير يعرف,"أنه ملكة الفهم والاستدلال الصحيح وإدراك العلاقات الذهنية" . وتعتبر العقلانية المظهر الأساسي لفكر الحداثة الغربية التي كانت بدايتها مع "ديكارت". فالعقلانية كلمة تتفاوت معانيها, لكن إحدى السمات المميزة للبشر هي أن لهم ملكات عقلية بغض النظر عن ما نعنيه بتلك الكلمة. ولذا فإن أي مجتمع يمنع الناس من تطور تلك الملكات واستخدامها, يمكن أن يقال عنه إنه مجتمع غير عقلاني.
كما نجد "كارل بوبر" . يعني بالعقلانية: الحديث عن ميزة الإنسان في جوهره العقلي, فيقول " ما أعنيه عن العقل والعقلانية. لي سوى الاقتناع بأننا نستطيع التعلم عن طريق نقد أخطائنا, بصفة خاصة نقد الغير لنا ونقدنا لأنفسنا, فالعقلاني هو ببساطة إنسان يتعلم أكثر من إنسان متمسك بالحق, إنسان مستعد للتعلم من الأخر بما لا يعني التسليم ببساطة برأي غريب ولكن بمعنى أن يسمح للآخرين بنقد أرائه ونقد أراء الآخرين" . ما يؤكد عيه "بوبر" هو فكرة النقد أو بالتحديد المناقشة النقدية, وتعتبر هذه الأخيرة الروح العقلانية في نضج الأفكار بمعنى أن مسألة الأخذ والعطاء في المناقشة هي دلالة الجانب الإنساني في مجال العقلنة.
فيما يتعلق بالجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت, نجد أن هابر ماس منذ كتابه"العلم والتقنية كإديولوجيا", وهو منشغل بنظرية العقلنة عند "ماكس فيبر" وذلك من منطلق أم "فيبر" لم يستطع القيام بتأطير نظري مقنع لعملية العقلنة في المجتمع الحديث. حيث يرى أن العقلانية ليست مثالا نقتصه من وسط السماء, بل هي موجودة في لغتنا ذاتها وهي التي يرتكز عليها هابر ماس. يجب أن نحيل إلى أن نظرية العقلانية عند "فـــيبر" مرجعا أساسيا في مشروع هابر ماس الفلسفي, ولقد قسم "ماكس فيبر" النشاط العقلي إلى ثلاث مجالات: "مجال الواقعية الموضوعية العلمية أو العلم الوضعي ومجال التعابير والمشروعية أو المشروعية الأخلاقية ومجال القيم والدلالات الرمزية,لكن هابر ماس أعاد النظر في هذه المجالات ( العلم والأخلاق والفن ), التي فصلها " فيــــبر" عن بعضها" . لقد جمع هابرماس هذه البناءات العقلانية لكي تتعاون ليحث نوعا من الإستقرار.
في تحديد هابرماس لمفهوم العقلانية نجده يقول, " إن ما نسميه العقلانية هو أولا الاستعداد الذي تبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل وعلى اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ" . في ما يخص العقلانية يرى هابرماس أنه يحمل مضمونين:" يمثل الأول أسلوب لرؤية العالم, والمضمون الأخر يمثل الأسلوب لرؤية المعرفة النظرية . هذا المصطلح يمثل الأسلوب الذي يتخذه الإنسان في رؤية العالم. ويعد "العقل الأداتي" من المصطلحات الأساسية عند كل من "هوركايمروادورنو"في كتابهما المشترك "جدل التنوير", وكذلك "ماركيوز" في مؤلفه :الإنسان ذو البعد الواحد". فالعقل الأداتي عند هؤلاء هو منطق التفكير وأسلوب في رؤية العالم وليس فقط مسلكا للوصول إلى المعرفة.
في هذا المقام يرى هابرماس أن العقلانية الأداتية اختزلت دلالة السيطرة . وهذا ما دفعه إلى البحث عن بديل لها لأنها رسخت عقيدة الذات بقدرتها على توفير السعادة الوهمية التي جعلت الفرد تابعا لإرادة الآلة, لذا تبنى وظيفة التفاعل والحوار كبديل, بمعنى أنه أراد أن يعيد تشكيل النظرية عن طريق إعادة بناء العقلانية, فقدم ما يطلق علية ب " العقلانية التواصلية" في مقابل "العقلانية الأداتية" التي هاجمها رواد الجيل الأول للمدرسة.




ب ـ سمــــات وخصــائص العقــل الأداتـي.
حاول هابرماس أن يستخلص سمات أو خصائص العقل الأداتي التي يمارسها بحق الطبيعة والإنسان, لان العقل الأداتي لا يهتم بالخصوصية ويحاول تقنين الواقع إلى أجزاء عير مترابطة. من بين هذه الخصائص نجد ما يلي :
ـ العقل الأداتي ينظر للإنسان باعتباره جزء يشبه الأجزاء الطبيعية والمادية
ـ إن العقل الأداتي نوع من التفكير الذي يستبعد القرارات الأخلاقية والسياسية, وهو بذلك سيئ , عقل ناظم لأفعال الإنسان في إطار غاية عملية محددة سلفا .
ـ العقل الأداتي هو انشطار واغتصاب, أي إنتاج سيرورة اجتماعية, فقد وصفه هوركايمر واد ورنو بأنه سيرورة الذاتية بوصفها تتجاوز قواها وتتشيأ .
ـ العقلانية الأداتية أصبحت تهدد الوجود الإنساني , بما تكرسه من اغتراب وتشيئ وضياع الفرد وفقدان الطابع الإنساني في المجتمعات المعاصرة .
ـ إن العقل الأداتي هو مفهوم إجرائي للعقلانية, لأنه لا يقتصر على دمج البعد العلمي والأخلاقي بل أيضا البعد الجمالي التعبيري .
ـ نستنتج أن مصطلح العقلانية يحمل مضمونين: أحدهما يمثل أسلوبا لرؤية العالم, والمضمون الأخر يمثل أسلوبا للرؤية النظرية .
ج ـ الـعلــــم والتقـــنيتة كإيــديـولــــوجيـــــا.
يؤكد هابرماس أن هناك سلطة قاهرة للتقنية, من خلال سيطرتها على الطبيعة والنتيجة المترتبة عن ذلك كما يقول أحد الباحثين, " أن النظام العلمي يصبح جزءا من الطبيعة نفسها, وتنحصر أهمية العقل في التكيف مع البيئة" . لقد اعتبر هابرماس أنه في ظل وجود التقنية هناك قوة هي المسيطرة و والتقنية تمثل صفة السيطرة, لأن الإنسان في ظل التقنية تسلب منه إنسانيته. هذا ونجد أن المدرسة النقدية ترى أن السيطرة لها ثلاث جوانب متمثلة في:
1 ـ السيطرة على البيئة الفيزيقية .
2 ـ سيطرة الإنسان على الأخـــــر.
3 ـ إخضـــاع البيئــة البــشريـــــة .
هذه الأنماط متداخلة فيما بينها, لأن البيئة ترتكز على الإنسان الذي يخضع للسيطرة والتقنية ذاتها سيطرت على الإنسان وعلى الطبيعة. في هذا السياق يؤكد هابرماس أن التقنية," تعتبر منذ بدايتها مشروعا اجتماعيا وتاريخيا, يحقق من خلالها المجتمع مصالحة, فهي سيطرة على الطبيعة وعلى الإنسان, فالسيطرة على الطبيعة تجعل الإنسان أكثر راحة, وتجعل حياتهم أقل عناءا بصورة مستديمة" . فآلية السيطرة سكنت في المعرفة العلمية من خلال التقنية والعلم, وكانت البداية بالرغبة في التحكم في الطبيعة, لتنتقل هذه الرغبة فيما بعد إلى التحكم في الإنسان. فالعلم من منظور هابرماس ليس بريئا وينفي وجود حياد أو براءة في العلم, ويؤكد هذا من خلال قوله."إن العلم في سياق العقلانية التقنية تحايثه حسابات السياسة, أي إرادة قوية بالمعنى النتشوي" .
فالتقنية حولت الإنسان لوسائل وأدوات, وبهذا تفرض السيطرة على الإنسان والطبيعة.
يرى هابرماس أن هناك ما يميز التقنية عن الإيديولوجية, حيث استطاعت أن تخلق أي التقنية مصالح مرتبطة بوجودها بين جميع الطبقات المختلفة, بل اخترقت كذلك حدود الجغرافيا وحدود الأديان والإيديولوجيات. بذا نجد في كتاب " العلم والتقنية كإيديوبوجيا" يركز على الدور الإيديولوجي للعلم والتقنية, والعمل على تلخيص الحياة الاجتماعية والسياسية من ضباب الإيديولوجية.


د ـ خـــــلاصــــــــــــــــــات.
ـ إن النظرية النقدية ميزتها الأساسية هي العقلانية والتي اعتبرت مفتاح الحداثة. حيث نجد أن هابرماس منذ 1979, وهو منشغل بنظرية العقلنة عند "ماكس فيبر".
ـ عمل الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت وخاصة هابرماس على إعادة بعث العقل من جديد وإعادة تأسيسه من خلال ربط العقلانية بالتواصل, ويرى أن العقل وحده هو الذي يجسد الممارسة التواصلية.
ـ أصبحت العقلانية الأداتية تهدد الوجود الإنساني في المجتمعات الغربية المعاصرة من خلال السيطرة, مما أدى بهابر ماس إلى توجيه انتقادات لما يسمى بالإيديولوجيا القائمة على المعرفة العلمية والتقنية.
ـ دعوة هابرماس لتأسيس نظرية جديدة للعقلانية, تأخذ طابعا تبادليا ورمزيا تعتمد فيه على التواصل. فالعقلانية التي دعا إليها هابرماس هي بالذات العقل التواصلي .











المـحور الثاني: موقـف الجــيل الــثاني من الـــحداثـة.
أولا : الحداثــــــــــة وأبــــــــعـــــادها.
1 ـ تعــــريــــــــف الحداثـــــــة.
لغة: مشتقة من الفعل الثلاثي حدث, بمعنى وقع, حث شيء يحدث حدوثا وحداثة," فهو محدث وحديث, وحدث الأمر أي وقع وحصل والمحدث هو الحديث من الأشياء" . فالحداثة هي الحدوث من حدث, أي وجد وأصبح . أما لفظ الحداثة الغربية,"modernité مشتقة من الجذر mode وهي الصفة أو الشكل أو ما يبتدئ به الشيء" . فالحديث هو نقيض القديم . وهذا ما جاءت به بعض المعاجم الفلسفية.
اصطلاحا: هي حالة ثقافية وحضارية ومجتمعية جاءت كتعبير عن حالة المجتمعات الصناعية الغربية, التي بدأت منذ القرنين 19 و 20 م؛ وهي في الوقت نفسه امتداد لجهود حديثة بدأت منذ القرن 16م في أروبا.
ما ينبغي أن نشير إليه أن كلمة حداثة , استعملت في المجال الفني بالخصوص في حقل النقد الأدبي, وكان ذلك مع "بودلير" 1850 معلنا من خلاله أن الحداثة," ليست مفهوما سوسيولوجيا ولا مفهوما سياسيا, وليست مفهوما تاريخيا بأثم المعنى للكلمة, بل إنها نمطا حضاريا خاصا يتعارض مع النمط التقليدي أي مع كل الثقافات السابقة علية أو التقليدية" . فهي الانتقال من مرحلة استنفذت طاقتها الفكرية والإبداعية إلى مرحلة جديدة , وكما يقول أحد الباحثين," الحداثة بشكل عام مصطلح يطلق على مسيرة المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم" . هذا ويجب التمييز بين الحداثة والتحديث فالحداثة كما قلنا سابقا, هي الانتقال من مرحلة محددة إلى مرحلة أخرى مغايرة لها, أما التحديث
فهو, " مجموعة من العمليات التراكمية التي تطورت في مجتمع قوى الإنتاج وتعبأ الموارد والثروات وتمني العمل وتمركز السلطة الاجتماعية والسياسية داخل أجهزة محكمة" .
نجد هابرماس يحدد لنا البداية التاريخية للحداثة ويرجعها إلى عصر النهضة الأوروبية, مما يعطي لها دلالة تاريخية واجتماعية وسياسية, ويرى " أنها قد ظهرت بداية من خلال لفظ حديث والتي استعملت أول مرة نهاية القرن الخامس الميلادي, وقد اعتبرت في الفكر الغربي منذ أواخر القرن الثامن عشر وجعل من الحداثة موضوعا فلسفيا" . من خلال هذا يتضح أن هابر ماس يعتبر أن البداية التاريخية لظهور الحداثة راجع إلى عصر النهضة.
كانت الانطلاقة الأولى لهابر ماس هي سد الثغرات التي وجدت في النظرية النقدية , مدافعا عن العقل والعقلانية, ومن أجل هذا وجد نفسه في مواجهة مع مشكلات الحداثة ومآلاتها, فكان رافعا شعار " الحداثة مشروع لم يكتمل بعد" . يعني أن بداية هابرماس كانت هي الدفاع عن العقل وسد الثغرات الموجودة في النظرية النقدية.
نستطيع أن نقول إن الحداثة كما عرفها هابر ماس هي," الوعي بالمرحلة التاريخية التي تقيم العلاقة بين الماضي من أجل أن تفهم ذاتها باعتبارها نتيجة باعتبارها نتيجة لنوع من الانتقال أو العبور من الماضي إلى الحاضر" . فالحداثة كما عرفها هابرماس, هي الوعي من خلال المرحلة التاريخية التي ترتبط بالماضي. لقد كان موقف هابرماس من الحداثة هو أنهل مشروع لم يكتمل بعد, لأنها لم تحقق النتائج المرجوة منها, وأدى هذا إلى جملة من الانكسارات وإرهاق الإنسان . نلاحظ أن هابر ماس يطلق على الحداثة كلمة مشروع , ويصف هذا المشروع بأنه غير مكتمل, لأن المشكلات التي يتناولها لم تحل بعد.
لذا يؤكد هابرماس على التواصل كآلية للإجماع ولتحقيق ذلك لا بد من اعتبار أن العالم الحديث يحتاج إلى أخلاق تواصلية, لأن نظرية الفعل التواصلي تؤكد على العلاقة العضوية بين أشكال الممارسة وفعل العقلنة, لذا يدعو إلى أخلاق تواصلية قائمة على فعل عقلاني.



2 ـ أبـــــــــــعـــــاد الحــــــــــداثـــة.
أـ الـــــبـــعد الــتــقني والــعــلمي.
هناك من يرجع الحداثة إلى التقنية والنزعة العلمية, ويتجلى ذلك في تشديد السيطرة على الطبيعة, فقد أصبح الإنسان والطبيعة مجرد قوى إنتاجية مرتبطة بخطط فعالية , في هذا المقام يرى أحد الباحثين أن هذا الأمر, " يؤسس لتحول في الحداثة يظهر من خلال الانتقال من حضارة العلم والتقدم إلى حضارة الاستهلاك" . يعني أن الحداثة مقترنة بعصر الإنتاجية والازدهار في المجال العلمي. وبالتالي تحولت من العلم إلى الاستهلاك, وهذا ما يطلق عيه هابر ماس" الاستحالة البشرة" ويظهر ذلك من خلال السيطرة على الإنسان.
من خلال البعد التقني والعلمي قدم هابر ماس نقدا للوضعية في مختلف تجلياتها , والمهم في هذا النقد هو إبراز أن مسألة التفاهم لا يمكن استبعادها من طرف الوضعية باسم العلوم التجريبية. يتبين أن الحداثة لا يمكن فصلها عن النجاحات التي حققتها العلوم, ولا عن التطور العقلاني لمختلف أنظمة الإنتاجات , فالحداثة " تماثلت وعصر الإنتاجية, سواء من حيث سيطرة الإنسان على الطبيعة وقوى الإنتاج المختلفة" . لذا نجد أن هابرماس حاول أن يوجه نقده إلى جبهتين: جبهة المجال العلمي مع من يسميهم بالوضعيين, وجبهة الصراع الايديولوجي. حيث يرى أن كل نمط معرفي هو خاضع لمنتوجية مصلحة خاصة.
فالوضعية حسب هابرماس "تعبر عن أسلوب لتحنيط العلم, لدرجة يغدو فيها إيمانا مقتنعا بقدرته الخارقة على تقديم أجوبة على كل الأسئلة ووضع الحلول لحل المشاكل . ويشير هابرماس إلى ان منطق السيطرة هو صورة كامنة في أسلوب التفكير العلمي. هذا الأسلوب يعبر عن إرادة للسيطرة التي تميزه ولا تنفصل عنه, " والذي ينظر للطبيعة بوصفها مادة للتحكيم والتنظيم, ثم يمد سلطانه على البشر فيضعها تحت تصرفاته وسيطرته" . فالتقنية والوضعية يعتبران وجها واحدا للوهم الإيديولوجي.
لقد ذهب هابرماس إلى التأكيد على أن النزعة التقنية أصبحت هي الجنوح إلى اعتبار التطبيق العلمي للمعرفة العلمية, هو وحده الكفيل بأن يقدم للمجتمع التقني. وقد أخذ هابرماس على عاتقه مهمة الكشف عن الوهم التقني ومضمونه, واعتبار أن التكنولوجيا الحديثة تضفي الأشياء صفة الأدوات وتحولها لمجرد وسائل وضمنها يتحول الإنسان إلى أداة.
ب ـ الـــــــــبعـــد الســــــيــاســـي.
إن هيمنة الدولة البيروقراطية لم تزد نمواً إلا مع تقدم الحداثة, لأنها مرتبطة بشكل أو بأخر بتوسيع مجال الاقتصاد السياسي. وفي هذا المقام حرص هابرماس على بيان الحداثة وخطابها السياسي وذلك من خلال أحد كتبه وهو, " الحداثة وخطابها السياسي" والذي يعرض فيه للقضايا التالية:
ـ مستقبل الديمقراطية.
ـ المواطنة والهوية القومية.
ـ إضفاء الشرعية بواسطة حقوق الإنسان .
يتمثل البعد السياسي للحداثة في البنية السياسية لها والذي هو عبارة عن تجسيد للدولة , هذا التجسيد يكون في شكل من الأشكال من قبيل," نوع من التعالي المجرد في صيغ دستور والوضع الصوري للفرد وتحت عنوان الملكية الخاصة, أضف إلى ذلك العقلانية البيروقراطية والمصلحة المرتبطة بالوعي الفردي الخاص" .
ج ـ الـــبعـــد الــــســيكولــــوجـــــي.
هناك من يعتبر في هذا المجال أن الحداثة مفهوم سيكولوجي فردي, " فالعصر الحديث يتميز بظهور الفرد بوصفه كائنا يحوز وعيا مستقلا, ومع ذلك يجد الإنسان بكل صراعاته الشخصية والنفسية ومصلحته الخاصة, يجد نفسه محاصر بنسيج من وسائل التواصل لأنه يبحث عن تعويض نسق للشخصنة من خلال العلاقات"
لقد اعتقد بعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت أن مجال الحداثة ذات مفهوم سيكولوجي فردي، لأنها تخص الفرد بكل صراعاته. من أهم الفلاسفة النقديين الذين اهتموا بالبعد السيكولوجي,
"نجد ماركيوز الذي أكد في كتابه "إيروس والحضارة"على رفضه احتقار الذات الدنيا.. كذلك نجد"إيريك فروم" الذي أدخل التحليل النفسي لمدرسة فرانكفورت واععبره أداة للتفكيك" .
يظهر البعد السيكولوجي للحداثة في التوجه الأدبي والتقني, من خلا الثورة على الأشكال التقليدية الكلاسيكية ومحاولة استشراف أفاق إنسانية جديدة تنمو تجاه الشعور والوجدان والذات بوجه عام.
خـــــلاصــــــــــــــــات.
ـ الحداثة بشكل عام مصطلح يطلق على مسيرة المجتمعات الربية منذ عصر النهضة إلى اليوم, والتحديث مجموعة من العمليات مجموعة من العمليات التراكمية التي تطور في مجتمع ما قوى الإنتاج داخل أجهزة محكمة .
ـ الحداثة كما يراها هابر ماس مفهوم يعبر عن عصر ما, ويفهم ذلك نتيجة انتقاله من الحديث إلى القديم.
ـ يرجع هابر ماس البداية التاريخية للحداثة إلى عصر النهضة الأوروبية, مما يعطي لها دلالة تاريخية اجتماعية وسياسية.
ـ الحداثة لدى الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت وخاصة هابر ماس, مشروع لم يكتمل بعد, ولم يستنفذ طاقته الكامنة ولم تحقق النتائج المرجوة منها.
ـ حدد هابر ماس ثلاث أبعاد للحداثة: البعد الفني, والبعد السياسي, والبعد السيكولوجي.


ثانــــــــيا: وظــــــــــيفة اللغة عند الجـــيل الـــثاني.
1 ـ اللغة ووظيفتها في التواصل.
أ ـ وظيفة اللغة.
في سنة 1949, تحدث " موريس ميربونتي" في إحدى محاضراته في جامعة السيربون عن أهمية البحث في مشكلات اللغة, وأكد , " أن محور الفكر الفلسفي قد تحول لصالح هذا البحث, كما عبر "موريس" عن أسفه تجاه معاصريه "جان بول سارتر" لأنه يعلق على النمط الديكارتي ولم يدرك هذا المحور" . فأهمية اللغة تكمن في البحث في مشكلاتها, ومحور الفكر الفلسفي تحول كذلك لصالح اللغة.
أمّا " تشومسكي" فقد قال في اللغو ما يلي: " من الآن فصاعدا سأعد اللغة مجموعة متناهية أو غير متناهية من الجمل, كل جملة محدودة من العناصر" . فاللغة في نظره هي مجموعة من الجمل. وضمن نفس التصور أكد هابرماس أن اللغة, " تمثل جانبا واحدا من جوانب الواقع, وأن ثمة عوامل أساسية أخرى إذ تشكل الصلة الموضوعية التي يمكن من خلالها فقط استيعاب الأفعال الاجتماعية من اللغة والعمل والسلطة على نحو خاص" . فاللغة حسب هابرماس, ليست فقط مجموعة من الجمل كما عبر عنها تشومسكي, بل تمثل إحدى جوانب الواقع لأنها تمثل الصلة الموضوعية التي يتم من خلالها استيعاب الأفعال. ويشير هابرماس إلى أهمية اللغة في الإتصالية أو الإتصال عندما ذهب بالقول إلى " إن الأفعال التواصلية يمكن أن يتم فهمها بعملية دائرية التي يقوم بها الممثل بدور يبين في دور واحد" . وهذا ما يؤكد على أهمية اللغة ودورها في التواصل.
في هذا المقام نشير إلى مسألة أساسية, وهي أنه لدراسة ظاهرة لغوية نميز بين ثلاث مستويات . - المستوى التركيبي.
ـ المستوى الدلالي .
ـ المستوى التداولي.
الأول هو الذي يمكننا من التمييز بين جمل سليمة التركيب وجمل سقيمة التركيب, بالنسبة للثاني أي الدلاليين, يقولون أن مهمة اللغة تكمن في أن القول يكون صادق عندما يكن متحقق في الواقع الخارجي, لذا اعتبر"فتجنشتين" في مرحلته الأولى أن مهمة اللغة هي تصوير الواقع. في نهاية الخمسينيات ستظهر الدلالة المفهومية مع "أوستين " في كتابه " أفعال الكلام", في هذه المرحلة لن تبق مهمة اللغة فقط أن تصور لنا الواقع بل تغييره.
يتضح أن وظائف اللغة متعددة, هناك من حددها في تصوير الواقع, وهناك من اعتبرها تغيرا للواقع, وكناك من حددها في وظيفة التواصل.
ب ـ الفعل التواصلي عند هابرماس.
تعد مساهمة هابر ماس في فلسفة اللغة مساهمة مميزة , لأنها أولا تأسست على نتائج نظرية أفعال الكلام, وثانيا لأنها تشكل نظرية لغوية تميزت بالقدرة على التغيير الاجتماعي والسياسي, وثالثا لأنها موضع مناقشة, وتعد نظريته في اللغة المعروفة باسم" نظرية الفعل التواصلي" بمثابة منطق جديد للعلوم الاجتماعية, منطق يستند إلى منجزات اللغة وفلسفة اللغة أي المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة , في هذا السياق يؤكد هابر ماس "أن اللغة تشكل نسقا من القواعد, حيث تساعد على توليد تعبيرات لدرجة أن كل تعبير مصاغ بشكل صحيح يعتبر عنصر من عناصر اللغة, ومن ثم فإن الذوات القادرة على استعمال هذه التغييرات تشارك في عملية التواصل, لأنها تستطيع التعبير وفهم الجمل والجواب عليها" . تتشكل اللغة إذا من خلال التفاعل بين الذوات, والحديث بين المشاركين في التفاعل يربطهم ببعضهم أي بالذوات الأخرى لذلك نظرية الفعل التواصلي عند هابر ماس باللغة من خلال أفعال الكلام.
في هذا المقام يؤكد هابر ماس أن فلسفة اللغة تعد الأساس الذي بنى عليه نظرية الفعل التواصلي, يقول هابر ماس " أنا مدين لكل من النزعات التداولية والتحليلية للنظرية اللغوية, فإن غاية الفهم المتبادل مغروسة في التواصل اللغوي" . من خلال هذا يتضح أن هابر ماس يعطي اهتماما للغة باعتبارها الأساس الذي تبنى عليه عملية التواصل, فاللغة عنده هي فعلا لغويا تبادليا من خلال العلاقات الاجتماعية, وهذا قائم من خلال الجوانب التعبيرية بين الأفراد, بالإضافة إلى هذا, يعتبرها كذلك الوسيط الذي يحقق التفاهم عندما يقول, "إننا إذا أردنا أن نفهم الفعل التواصلي علينا أن نفترض اللغة بوصفها الوسيط التي يمكن أن يتحقق فيه نوع من التفاهم" . يتضح أن اللغة عند هابر ماس لها دور في تأسيس الفعل التواصلي, وتعتبر كذلك وسيط التواصل يصلح لأناس يرغبون في التواصل, ومن ثمة فهي تستعمل كوسيلة للتواصل.
2ـ وظــيــفـــــة الــــتـــواصـــــــــل .
يعني التواصل فيما يعنيه, " الإستمرارية" . ويتضمن مفهوما أخر يتلامس معه وهو مفهوم الإتصال, هذا الأخير كلمة حديثة تحتل منزلة في التفكير المعاصر وهي تدل في إطار معنى عام," على التبادل بالإشعارات أو بالرسائل الذي يجري بين شخص وشخص أو جماعة بين جماعة" . فالتواصل هو نشاط تبادل الآراء والأفكار بين الأفراد عن طريق الحوار وفق العبارات والإشارات والصور, في هذا الطرح يدعو هابر ماس للعمل
باتجاه التواصل بوصفه أساس الفهم في العالم الاجتماعي, واللغة هي الوسيلة التي من خلالها يتبلور التواصل الاجتماعي لبلوغ الإجماع, لأنها مصدر الإقناع والبرهان .
هذا ويعتبر هابرماس, " أن اللغة هي حوار بين عقول المتحدثين, تهدف إلى إقامة جسر التفاهم وبلوغ التوافق بصدد القضايا التي تطرح في الفضاء المشترك من دون اللجوء إلى العنف, واللغة هنا جملة من القواعد تؤسس للإتصال والتواصل بين الناس وليس أصوات تلقى شذرا " . فاللغة ليست كلام فقط, بل يعتبرها هابر ماس هي ذلك الجسر الذي يهدف إلى تحقيق التفاهم ما بين الذوات. يقول هابر ماس في هذا السياق, " أن اللغة تمثل أرقى أنواع التخاطب والتواصل" . يبن هذا القول أن اللغة تقوم بوظاف أساسية, تلخص مستويات الخطاب من جهة ومستويات الممارسة من جهة أخرى.
الهدف من العقل التواصلي عند هابر ماس, هو النشاط التواصلي. حيث يؤكد هابرماس على,"ضرورة الخروج من فلسفة الذات من خلال مخرج مهم وهو ما يسميه بالفعل التواصلي" . وبهذا يحاول هابر ماس الانتقال من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي من خلال المشاركة في التفاعل. ويقصد هابر ماس بالنشاط التواصلي ذلك التفاعل المصاغ بواسطة الرموز, وهو يخضع للمعايير الجاري بها العمل , والتي تحدد مختلف أنواع السلوكات المتبادلة على أساس, "أن تكون مفهومة ومعترف بها من طرف ذاتين فاعلتين على الأقل" . فالنشاط التواصلي هو التفاعل الحاصل بين ذاتين فاعلتين بواسطة الحوار, ويضيف هابرماس بقوله, " أن نظرية الفعل التواصلي مؤهلة للجواب على هذه الأسئلة, وقادرة على الإشارة إلى الشروط التي يكون فيها الأخر قادرا على ربط أفعاله بأفعال الأنا" . فأساس الفعل التواصلي هو تعاقب الأفعال المكونة من طرف مختلف الفاعلين وذلك من خلال المناقشة والحوار.
أ ـ مـــراحــــل الــفـعــل الــــتــــواصـــــــلي.
يمــر الفــعل التواصلي بـثــلاث مـراحـــل :
1 ـ مرحلة التفاعل الذي تتوسطه رموز.
وهذه المرحلة تقوم على فاعلين: الأول القول, والثاني الفعل, وعن طريق الرمز التواصلي (القول) يتم التعبير عن رغبة في السلوك وعن طريق النية يتحقق هذا القول,(الفعل) يتم تلبية تلك الرغبة, ومن خلال هذه التبادلية يمكن أن يشكلان الحوار البينذاتي.
2 ـ مرحلة الخطاب المميز.
في هذه المرحلة ينفصل القول عن الفعل, فلا يمكن الاستناد إليهما بالنسبة للشخص الفاعل فقط, بل يدخل هنا موقف الشخص الملاحظ والمشارك في الحوا, وهنا يكمن التبادل في التصورات بين المشاركين في الحوار.
3 ـ مرحلة الخطاب البرهاني.
في هذه المرحلة تتشكل مقتضيات الصلاحية التي تربط بين جانبين: الأول أفعال اللغة المنجزة, والثاني معالجة افتراضات التعابير, بحيث تكون قابلة لأن تكون شرعية أو غير شرعية.
لقد ميز هابر ماس بين ثلاث مراحل لتكوين الفل التواصلي, وذلك من خلال تحول الفعل الرمزي إلى مرحلة الخطاب من خلال الحوار والمناقشة, مرورا إلى البرهنة من خلال الحجاج للإقناع واللغة هنا هي عماد الفهم والتواصل.
ب ـ أخلاقـــــيات التواصـل والمــناقــشة.
حينما يتحدث هابر ماس عن أخلاقيات المناقشة والتواصل يرى, " أن للتواصل معايير أخلاقية تنظم تبادل الأفكار وادعاءات الصلاحية من خلال المناقشة" . للتواصل إذا أخلاقيات يجب الارتكاز عليها من خلال الحوار وتبادل الأفكار في المناقشة, في هذا المقام يؤكد هابر ماس على " ضرورة إدخال الأخلاق في التواصل بين الناس, ذلك أن النشاط التواصلي من زاوية التداوليات الصورية, يساعد على إدراك الظواهر الأخلاقية داخل العالم المعيش" . يتضح من خلال هذا التأكيد على أن للأخلاق دور ضروري في القيام بالحوار والمناقشة التي هي من أساسيات التواصل.
وقد وضع هابر ماس شروطا للنقاش وهي: (الصدق والمسؤولية والحقيقة), وهي بمثابة فرضيات لجماعة تواصل غير محدودة تعتمد المناقشة العقلانية, فأي حوار يجب أن يكون قائما على الصدق الذي يعد أساس الحوار والتواصل, وأهم شيء في التواصل هو تحمل المسؤولية إلى جانب الحقيقة التي هي الهدف من كل نقاش.







ـ خـــــــــلاصــــــــــات.
ـ اهتم هابر ماس باللغة, واعتبرها وسيط في عملية التواصل الذي يتحقق من خلال التفاهم.
ـ التواصل ليس مجرد عملية تبادل الخطابات, بل إنه نوع من التبادل اللغوي, والتجربة التواصلية تأتي من العلاقات التفاعلية التي تربط بين شخصين على الأقل.
ـ الهدف من التواصل هو تقديم حلول لمشاكل الإجماع بطريقة حوارية بعيدا عن التسلط.
ـ الغاية من التفاهم هو الوصول إلى نوع من الاتفاق بين المتفاعلين في الفعل التواصلي.
ـ التفاهم المتبادل قائم على ثلاث شروط, الصدق والمسؤولية والحقيقة.













نستخلص في خاتمة هذا البحث, أن رواد مدرسة فرانكفورت وخاصة الجيل الأول والذي يمثله كل من, "هوركهايمر وادورنو و هاربرت ماركيو" أنهم عملوا على تشخيص ما آلت إلية المجتمعات المتقدمة صناعيا من" اغتراب"و تشيؤ", وذلك بفعل التقنية التي امتلكتها الطبقة السائدة بغية ضمان استمراريتها. وقد مثل كتاب"جدل التنوير" نقدا للحضارة التي أصبحت تهدد حياة الإنسان وقيمته, كذلك يمثل نقدا للمجتمع البورجوازي الذي وضع آليات للسيطرة, وللعامل الذي دخل في لعبة الصناعة الثقافية التي أصبحت تتحكم فيه عن طريق وسائل السينما والراديو والصحافة المكتوبة, فالصناعة الثقافية لا تسعى إلى تحرير الفرد وإنما إلى توحيد أنماط حياته والسيطرة على طموحاته ورغباته كلها, وهذا وفق منطق اقتصادي مخطط له. فالطبقة التي عول عيها "ماركس" في التغيير وفي نبذ السيطرة والاستغلال, قد امتصت روحها الثورية وأصبحت جسدا بلا روح, تسيرها الآلة ويبهرها التطور ويسكنها الحب المادي فكيف لهذه الطبقة أن تغير؟ .
يئس"ادورنو" من إمكانية التغيير الاجتماعي والقيمي, خاصة بعد انتشار الشمولية ووصول "هيتلر" إلى سدة الحكم والجرائم التي مارسها اليهود, والدمار الذي لحق العالم وخاصة ألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية. كل هذا نقله من التفاؤل إلى التشاؤم من إمكانية التغيير, فلقد رأى أن كل شيء تعرض للسيطرة وما من مهرب إلا إلى الفن, لكن الفن بدوره في ظل المجتمع الرأسمالي تحول من وسيلة للتحرر إلى أداة للهيمنة والتخدير. أما "هوركايمر" فقد فضل الارتماء في أحضان اللاهوت الديني اليهودي (التصوف) , مؤكدا أنه لا يمكن أن ينفصل الفكر الفلسفي عن البعد الديني.
فيما يتعلق "بماركيوز", وخاصة في كتابه " الإنسان ذو البعد الواحد" والذي يشعرنا أثناء قراءته بأن الحياة مجرد بضاعة ومال وأعمال وسياسة, فقد عمل هو الأخر على تسليط الضوء على المجتمع الرأسمالي من خلال مختلف جوانبه, محاولا فضح من يسيطر كاشفا الغطاء عن سيطرة المنظومة التقنية, وغياب أبعاد الإنسان المتعددة, ليصبح كائنا ذا بعدا واحدا يفكر بطريقة واحدة متماشيا مع المجتمع الرأسمالي, والذي هدفه خلق طبقات متلاحمة فيما بينها.

فالمجتمع الرأسمالي كما يوضح ماركيوز, هو عدو الفكر, بمعنى أن استمرار يته تكمن في قمع المواهب والأشكال التي من شأنها أن تقود المجتمع إلى التحرر, وقمعها لهذه الأشكال هو ضمان بقائها.لذا يرى ماركيوز أن التقنية ارتبطت بالسياسة, وأن الإنسان لن يتحرر من التقنية إلا بواسطتها, لأن التقنية عند ماركيوز هي سياسة, والسياسة منطلقها الأول هو السيطرة أي الوصول إلى السلطة. وبما أن التقنية قائمة على السيطرة, فلا يمكن أن يكون تحرر الإنسان عفوي, وبالتالي لا بد من انقلاب أي الانقلاب السياسي, لكن ما هو هذا الانقلاب السياسي؟ يعتبر ماركيوز أن الانقلاب السياسي يتجلى في عامل ضروري, وهو الطبقة العاملة. بمعنى أن الطبقة العاملة هي التي من شأنها أن تلعب ذلك الدور التحرري, لكن هذه الطبقة بحد ذاتها احتوتها الطبقة الحاكمة, لذا لم يعد عامل الانقلاب موجودا. فالحل إذا حسب ماركيوز, هو أن الطريق إلى التغيير مسدود في هذا الوقت.
صحيح أن رواد الجيل الأول وصلوا إلى نوع من الأفق المسدود, لكونهم عجزوا عن إيجاد وتقديم بدائل واقعية وملموسة لتغيير الواقع القائم ووضع حد "لطغيان" العقلانية الأداتية. لكن أفكارهم كانت لها صدى إيجابي وخصوصا أفكار ماركيوز, حينما تفاعلت الحركات الطلابية سنة 1968 بفرنسا احتجاجا على سياسة الدولة المتعلقة بتكريس العقل الأداتي من داخل الجامعة.
أما يورغن هابرماس الذي يعتبر الممثل الرئيسي للجيل الثاني, والذي يختلف في كثير من المواقف مع رواد الجيل الأول, فقد عمل على إعادة بناء نظرية خاصة بالمجتمع, وما دام كل بناء يحتاج إلى أساس صلب ومتين فقد أقام بناء المجتمع على أساس التواصل, أي العلاقة البينذاتية القائمة على الأنا والأخر البعيدة عن الصراع والإكراه, وتعتبر العقلانية التواصلية من أهم المباحث التداولية في الفلسفة المعاصرة, إذ أصبحت تشكل نظرية فلسفية تغلغلت في نسيج الفكر الفلسفي في أوروبا وأميركا في القرن العشرين, وهذا راجع لأهمية هذا المبحث بعلاقته بالإنسان خصوصا في فترة تزايدت فيها النزعات والحروب, وتمثل مدرسة فرانكفورت الرافد الأساسي لمبحث التواصل الذي نمى فيها عبر فلاسفتها من قبيل "كارل أتو ابل" و " يورغن هابرماس".


في هذا المقام نتساءل مع هابر ماس من خلال مبحث التواصل.
في زمن اكتسب فيه العلم والتقنية قوة هائلة, وأصبح بمقدور الآلة القيام بجميع الأشياء التي يقوم بها الإنسان باستثناء الأفعال التلقائية العفوية, فكيف نثق في الطرف الأخر المتواصل معنا؟ هل هو إنسان أم آلة ؟ هل التواصل وحده كاف والتمركز حول اللغة أن يكون حلا لمشكلات المجتمع؟ كيف يمكن لنا أن نتواصل في ظل غياب مطلب الاعتراف ؟.



#محمد_فشفاشي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - محمد فشفاشي - التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت