أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عبد الأمير - قصة قصيرة: في محل والدي















المزيد.....

قصة قصيرة: في محل والدي


طالب عبد الأمير

الحوار المتمدن-العدد: 6150 - 2019 / 2 / 19 - 01:31
المحور: الادب والفن
    


كثيرون هم الذين يأتون الى محل والدي، ليس فقط زبائن ‏دائميين أوعابري سبيل، بل وايضا اصدقاء ¬وجيران من المحلة التي ‏نسكن فيها. منهم من يرتدي العقال والدشداشة، وهم أكثرية، ‏ومنهم من يرتدي البنطال والسترة، بعضهم يأتون مهندمين بربطة ‏عنق عريضة وطويلة، مختلفة الألوان. مما يبدو انهم موظفون في ‏دوائر الدولة، او معلمون، هؤلاء يلقبونهم في مدينتنا بالأفندية. ‏وكنت اتسائل في سري، لماذا يخنقون هؤلاء انفسهم بهذه ‏القطعمة من القماش؟ كما يأتي احيانا الى المحل، اشخاص، ‏يرتدون ملابس لم تكن مألوفة، على الاقل بالنسبة لي، فأنا لم ار ‏مثلها سابقاً، فبدلاً عن العقال يضعون على رؤسهم كوفية ‏مكورة، وبدلاً عن الدشداشة يرتدون سروال عريض من الخصر ‏حتى الركبة ثم يبدأ بالتقلص عند القدم، ويتكلمون بلغات ‏ولهجات مختلفة عن اللهجة التي نتحدث بها نحن في مدينتنا. مرة ‏واحدة اتذكر جاء رجل يرتدي قبعة تشبه قارباً مقلوباً، عرفت ‏فيما بعد انها تسمى سدارة، وأن اكثر من يرتديها هم اهل بغداد.‏‎ ‎ولهذا الرجل حكاية سأرويها لكم لاحقاً، اذ لها علاقة بمجريات ‏أمور البلد السياسية والاجتماعية ...الخ. ‏
‏ اغلب الرجال الذين يأتون الى المحل، لديهم شوارب كثيفة، او ‏خفيفة، تتجمع تحت ارنبة الأنف، أو على امتداد الشفة العليا، ‏بعضهم ملتحون والبعض الآخر حالقي الذقن. لكن احد ‏الاشخاص الذين يترددون على محل والدي وبفترات متباعده هو ‏شيخ حسين، اعرفه لأنه قريب لعائلتنا، ولكن من بعيد، من ‏اطراف العائلة. كان هذا الرجل، وهو شاب ربما يكبرني بعشر ‏سنوات، أو أكثر بقليل، وسبب عدم وجوده الدائم في المدينه هو ‏سفره للدارسة في النجف، في مدرسة تسمى الحوزة. هو متدين، ‏يطلق لحية كثيفة، ويلف على رأسه عمامة بيضاء اللون. اتذكره ‏انه كان محبوبا من قبل ابناء المدينة، خلوقاً وبشوشاً لاتفارقه ‏الابتسامة، ابداً. لم يكن متزمتاً، كما سمعت من احاديث الناس ‏عنه، ان اغلب اصدقائة ليسوا متدينين، فهم لا يؤدون الصلاة ‏وماشابه من الطقوس الدينية، حتى أن بعضهم يشربون الخمر، ‏يبتعاونه من الدكان الصغير الوحيد في المدينة، قرب الشط، وكان ‏هو يحاول تقديم النصائح لهم بضرورة الالتزام بمبادئ الإسلام في ‏الصلاة والصوم ...الخ، ثم يختتم حديثه دون ان يتخلى عن ‏الابتسامة بجملة "الله يشهد انني بلغت" ثم تستمر جلسات ‏السمر مع اصدقائة. ‏
كان جلاّس المحل يقضون اوقات فراغهم في تبادل اخبار المدينة ‏وما يدور في اسواقها، وخلف ابوابها المغلقة، لكن كثيراً ما يكون ‏للوضع السياسي في البلاد مساحة كبيرة من تلك النقاشات، وفي ‏بعض الاحايين تعبر النقاشات في الامور السياسية حدود البلاد ‏الى بلدان اخرى. فمدينتا ورغم صغرها وقلة عدد نفوسها، لها ‏تاريخ سياسي مهم، وماتذكره الكتب عنها قليل جداً. هذا ما ‏سمعته، لأول مرة، من أحد الجالسين، بينما اثتى آخر على هذا ‏الكلام.."اي والله يخوي ابوعمر لا عاب حلكك... تذكر ثورتنا بسنة ‏الخمسه وثلاثين اشسوينا بالانجليز؟". كان هذا الرجل ولا اتذكر ‏اسمه الآن، يتحدث عن ثورة فلاحي المدينة عام 1935. ‏
‏ ‏
كنت كثيراً من الاوقات اجلس في المحل مجبراً، نزولاً عند رغبة ‏ابي، بل بالاحرى هي أوامره التي يجب أن انفذها كولد صالح، ولكن ‏في بعض الحالات، والشهادة لله، يمنحني حرية اللعب مع ‏اصدقائي، لبضع ساعات، خاصة ايام الجمعة، وهي عطلة ‏المدرسة، والاثنين عطلة الحلاقين. ‏
في أغلب الأحيان كنا نلعب في ساحة المدرسة.. كان الدخول اليها ‏والخروج منها سهلاً، ونادراً ما كنا نستخدم الباب الرئيسي ‏للمدرسة، حيث كانت مفتوحة من الجهة التي تقع فيها غرفة ‏الصف الخامس، وهو الصف الأخير في مدرستنا، في تلك الفترة.. ‏كان سياج المدرسة مهدّم وكأن هزة ارضية اصابت البناية، وباتت ‏مفتوحة لاي كان الدخول اليها. ‏
اتذكر في إحدى المرات هرب ثور من المستوصف البيطري الملاصق ‏للمدرسة ودخل الصف الخامس لاجئاً، لكنه خلق بلبلة وبث ‏الرعب بين التلامذة الذين هربوا من الصف الذي أصبح حطاماً إذ ‏كان مبنياً من القصب.‏
أكثر وسائل اللهو التي كنا نقضي فيها اوقات ما بعد المدرسة كانت ‏لعبة كرة القدم. أنا كنت العب في اغلب المرات اما دفاع او ‏يختاروني مراقب خط. لكننا كنا نلعب "الكعاب" و "الدعبل"، ‏وغيرها. كانت المدرسة قريبة من بيوتنا، فنحن زملاء في المدرسة ‏وجيران واصدقاء في المحلة. وكنت عندما أجد نفسي مجبراً على ‏الجلوس في المحل، بعد المدرسة، احاول التهرب بحجج كثيرة، وفي ‏بعض الاحيان كنت انسحب، بهدوء، دون أن يلحظ ابي خروجي ‏من المحل، حيث يكون هو منهمكا في قص شعر زبون. ‏
لكن حدث شئ ما، لا اتذكر تماماً ما هو، جعلني انشد الى الجلوس ‏في المحل، فبعد أن كنت في البداية اشعر بالضجر، بدأت استمتع ‏بأحاديث الجالسين. وخاصة ابي.. ‏
نعم، لقد تذكرت الآن، الشئ الذي جعلني أحب كثيراً الجلوس في ‏المحل، فقد قرأنا في المدرسة قصة "الحلاق الثرثار".‏
كنت أتابع بنظراتي ابي وهو يحرك المقص مع المشط بالتوالي في ‏شعر الزبون وباتجاهات مختلفة، وايقاع متواصل، وفي ذات ‏الوقت يتحدث الى الآخرين، واقول في نفسي.." هنا بور آرثر وهنا ‏انكسر كروباتكين وهنا انتصر يوهاما وهنا اندحر ..كنت اشعر ‏بالخوف احيانا من ان ياخذ الحديث ابي ويلهيه عن عمله وهو ‏يقص شعر الزبون، خاصة اذا كان يمسك بموسى الحلاقة، ‏فتحدث الكارثة. كما في تلك القصة الخيالية للكاتب المصري ‏احمد المنفلوطي، لكن لم يحصل شئ من هذا القبيل، فكل شئ ‏كان تحت السيطرة. أو تحت موس الحلاق.‏
إذاً، قصة الحلاق الثرثار، كانت الطُعم الذي فتح شهيتي على ‏القراءة بنهم.‏
مواقف واحداث كثيرة مرت وانا اتابعها واعيش تفاصيلها من ‏خلال جلوسي في المحل، الا ان امرا واحدا ظل عالقاً في ذاكرتي ‏بشكل راسخ، وهو حكاية احد اولئك الذين كانوا ياتون الى المحل ‏لقضاء الوقت. كان ذلك رجلاً في متوسط العمر، وعلى ما اتذكر ‏يعمل موظفا في البلدية. كان هو الوحيد الذي يجلس مرتديا ‏معطفا بياقة واقفة يغطي بها اذنيه. صحيح الطقس في الشتاء ‏عندنا بارد جداً لكن هذا خارج المحل، واما في الداخل فهنالك ‏‏"صوبة علاء الدين" التي تنشر في المحل حرارة تجعلني مضطرا ‏لأتحرر من سترتي التي كنت ارتديها على دشداشة البازة المقلمة. ‏
كنت اتابع حديث هذا الرجل الذي يبدأ رزيناً ينطق الكلمات ‏والحروف وكأنه استاذ امام تلامذة، لكن وبعد برهة من الوقت، ‏يبدأ حديثه يتباطئ، ويلوك الكلمات بطريقة لم افهمها، ثم تتهدل ‏شفتيه ويظل ينطق مخارج الحروف بصعوبة شديدة. ‏
في بداية الامر لم انتبه الى تلك الحالة فقد كنت مشغولاً بالاصغاء ‏الى النقاشات التي كانت تدور على السنة الجالسين بشكل دائم، ‏دون نقاط او فوارز، حتى بعد مجئ خلف القهوجي وهو يحمل ‏صينية سطرت فوقها استكانات الشاي. فهم يواصلون الأحاديث ‏مع ايقاعات الملاعق الصغيرة التي يحركون بها السكر الذي يحتل ‏نصف الاستكان ويذوبونه بها في الشاي. لا اريد الاسترسال ‏بالوصف حتى لا افقد تسلسل الحدث في ذاكرتي، اعود الى حكاية ‏الرجل. قلت اني لم اكن مهتماً به في البداية، لكن ما اثار انتباهي ‏هو عندما كان يهم بمغادرة المحل، ينهض من كرسيه بحذر وبطء ‏كمن يحاول استرجاع توازنه. حسبته بادئ الامر يعاني من مرض ‏ما، يجعله هكذا، وكدت ان اسأله ان كان يحتاج الى مساعدة، ‏لكنني انتبهت الى امر آخر انه كان بين فينة واخرى يخرج من جيب ‏معطفه قطعة خيار يلوكها دون ان يسمع لها صوت وهو يطحنها ‏بين اسنانه.. هذا الاكتشاف اثار فضولي اكثر وجعلني اتابع كل ‏حركاته بإهتمام شديد.. ‏
في احدى المرات فطن الى انني انظر اليه فابتسم وطلب مني ان ‏اجلب له ماء من الصنبور المنصوب في زاوية المحل، حملت له ‏كاس ماء بارد من الصنبور حيث أراد أن اتركه مفتوحا ليتخلص ‏من الشوائب التي تأتي مع الماء عند فتحه ثم ينساب بارداً صافياً.. ‏شكرني وكرع الكأس، في تلك اللحظة وبينما كان يرفع رأسه ‏لارتشاف الماء رأيت امراً غريباً، شيئاً لم اعرف سبب وجوده. كان ‏ذلك يشبه انبوبة رفيعة سوداء كما لو كانت سلكاً كهربائيا ‏مقطوعاً ومفرغاً من محتواه، بانت من تحت اليشماغ الذي كان ‏يلف به رأسه وعنقه. اردت ان اسأله عن ذلك الشئ، لكني لسبب ‏ما لم افعل ذلك، فلربما اعتقدت انه مريض، وتلك الانبوبة من ‏لوازم العلاج.. لكنني وعندما قلت لأبي ما شاهدت، ابتسم الوالد، ‏بعد أن طرق يفكر، وكان قد اخذته الدهشة قليلاً بادئ الامر، ثم ‏قال انه يتعاطى دواء على شكل سائل، فقلت من الجائز ولكن ‏ماذا بشأن قضمه الخيار الذي يحمله معه؟ اجابني والابتسامة ‏لاتفارقه، ان الدواء الذي يتناوله الرجل مر المذاق، فلذلك يحتاج ‏الى شئ يزيل المرورة. ‏



#طالب_عبد_الأمير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نوبل في الأدب توسع آفاقها
- هل يحصل على جائزة نوبل هذا العام؟ أدونيس يقول أن منتقديه لم ...
- في الذكرى السادسة لرحيلة كاظم السماوي شاعر ومناضل اممي
- تراتيل الرجوع
- غموض وصية ألفريد نوبل وراء مأزق جائزته للآداب، عبارة «الأدب ...
- مرثية للوطن
- لوركـــــــــــا المتألق ابداً
- هل إنتهت حرب الولايات المتحدة على الارهاب؟
- مصافحة بيد واحدة
- عز الدين ميهوبي: لا يمكن تصور اتحاد يعلق عضوية الأدباء العرا ...
- سلام عبود في (زهرة الرازقي) العودة للنقاء العراقي وطيبة الجذ ...


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عبد الأمير - قصة قصيرة: في محل والدي