أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مروان عبد الرزاق - صعود الجهادية التكفيرية















المزيد.....



صعود الجهادية التكفيرية


مروان عبد الرزاق
كاتب

(Marwan)


الحوار المتمدن-العدد: 6119 - 2019 / 1 / 19 - 15:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


صعود الجهادية التكفيرية، في بلاد الشام
مروان عبد الرزاق
مقدمة:
إن صعود الجهادية التكفيرية والمذهبية مثل "داعش والنصرة" وغيرهما وسيطرتهم على ساحة الصراع، مقابل النظام الاستبدادي في المنطقة، ليس صدفة، أو ظاهرة عارضة، وخاصة بعد ثورات الربيع العربي، والأسئلة هنا عديدة: هل هذا الصعود هو نتيجة طبيعية للموروث الثقافي الديني.؟ أم هو نتيجة لغياب الخط الوطني الديمقراطي، في صراع هذه السلفية ضد الحكومات المستبدة والطائفية والتي تم اعتبارها حكومات "مرتدة" ومرتبطة بالاستعمار، التي سيطرت على البلدان بعد الاستقلال، والتي عجزت عن تشكيل "الدولة-الامة"، ودولة المواطنة.؟ أم هي نتاج "للعلمنة المتأخرة والمعاقة" التي فرضتها هذه الأنظمة على شعوبها؟ أم إنها نتاج للأنظمة ومخابراتها العالمية والمحلية، حتى تصنع معارضة على شاكلتها وتسمح لنفسها بالتدمير الهائل للإنسان والمدن.؟ وماهي علاقتها مع الجهادية الوهابية، والسلفية الجهادية للإخوان المسلمين، ومفهوم "الحاكمية والجهاد"، والسلفية الشيعية التي تمثلها الآيات الخمينية.؟ وهل هي نتيجة العولمة وثورة الاتصالات، والجهل المقدس، والتخلف التاريخي الذي تعيشه بلداننا العربية، كما يشير مجموعة من الباحثين.؟ وهل "الحاضر هو الذي يملك اهداف الماضي"، وينشر اشباحه.؟ وماهي علاقة الأصولية التكفيرية، بالوطنية والحرية والديمقراطية التي تسعى اليها ثورات الربيع العربي.؟
أم انه صراع سياسي مكشوف، حول السلطة والثروة.؟ والاختباء خلف العباءة الدينية هو تشويه للدين واصوله. حيث لجأت الأصولية وفق مبدأ "الحاكمية" لتأسيس كيانات إسلامية في المناطق التي حررتها، وحاربت الديمقراطيين، وحقوق الانسان، وكانت الأيديولوجيا الدينية، أيديولوجيا سياسية تهدف للسيطرة على النظام والدولة.
وسنلجأ للمنهج التاريخي للبحث في جميع هذه الأسئلة المذكورة، وسيقتصر البحث عن سوريا والتكفيرية الجهادية في مسار الثورة مثل "داعش والنصرة"، وغيرهم من الكتائب التكفيرية. وذلك عبر النقاط التالية:
1- الثورة السورية
2- الوهابية، والاخوان، والآيات
3- الجهل المقدس، والتأخر التاريخي
4- أشباح الماضي
5- الخاتمة



1- الثورة السورية
الوطنية والطائفية
الوطنية تعني باختصار "أن تدعم بلادك في جميع الأوقات، وحكومتك عندما تستحق ذلك" بحسب تعبير "مارك كوين". ومع التقسيم الاستعماري لبلاد الشام وانتدابها، وفشل المشروع القومي العربي، بدأ النظر الى سوريا كأنها قطعة صغيرة من القومية العربية، وخاصة بعد ان تم اقتطاع منها لواء اسكندرون، ولبنان، والأردن، وتم سيطرة الصهاينة على فلسطين.
و"عندما نالت سوريا استقلالها عام (1946)، كانت دولة في كثير من النواحي، دون أن تكون أمة، وكانت كياناً سياسياً، دون أن تكون مجتمعاً سياسياً"(1). حيث كان الشعب السوري ممزقاً بين ولاءاته الطائفية الداخلية من جهة، والانتماءات القومية والإقليمية من جهة أخرى. بين الدولة الدينية، والقومية، بعيدا عن الدولة الوطنية.
وكما لاحظ نيقولاوس أن "الجماعات السياسية بغض النظر عن آرائها السياسية غالباً ما تكونت من خلال قنوات اجتماعية تقليدية، وهذا الأخير مسؤول إلى حد كبير عن استمرار وجود الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية في الحياة السياسية السورية"(2)
وقد كان انقلاب البعث عام (1963) في سوريا حاسما، وأقام حكم طائفي بعد انقلاب (1970)، وهو نظام شمولي استبدادي، وضع جميع المعارضين في السجن، وحول الوطن إلى سجن كبير. وكان يحتاج إلى معارضة وطنية ديمقراطية لاقتلاعه. انما كانت الطبقة السياسية المعارضة غير ذلك. فقد عملت في محطتان للعمل بالسياسة:
الأولى، تشكيل "التجمع الوطني الديمقراطي" عام(1979)، والذي ضم العديد من الأحزاب القومية والشيوعية التي انقسمت عن أحزاب الجبهة التي يقودها النظام. وهذا التجمع لم يكن نقيضا للنظام، انما كان أيديولوجيا، والخلاف كان حول طبيعة المشاركة في الحكم، وهيمنة البعث (3). وكان التجمع داعما للإخوان المسلمين، ووصف حركة الثمانينيات "بالحركة الشعبية الكبرى، وأنها ليست ضيقة وسطحية، وهي تعبير أصيل عن شعب بأسره"(4)، وجاء الرد قاسيا من "عدنان عقلة"، ممثل الطليعة المقاتلة، بقوله" عودوا إلى جحوركم". وبذلك تشارك الاخوان مع النظام في التأسيس لصراع طائفي في سوريا. وكانت الطبقة السياسية "الممثلة بالتجمع داعمة للإخوان، في حربها المدمرة ضد النظام.
والثانية، في "اعلان دمشق"(2005)، الذي دعا الى تغيير جذري، بعد اغتيال الحريري، وانسحاب الجيش من لبنان، ومعتمدا على التهديد الأمريكي لاحتلال سوريا ورفعها من حالة "تحت الصفر، الى الصفر" كما حدث في العراق، و"بأن سورية ليست قوقعة فارغة سياسياً. وتتمتع اليوم بوجود قوى شعبية لها تاريخ طويل في النضال الديمقراطي". وكانت النقلة البائسة للمعارضة من المراهنة على النظام، إلى المراهنة على الامريكان لإسقاط النظام وشيوع الديمقراطية. وأشار الإعلان إلى أن "الإسلام مكون أساسي في ثقافتنا العربية"، حتى ينضموا الاخوان الى الإعلان بعد ساعات من نشره، ويختبئ خلفهم بعض الليبراليين الأمريكيين، الذين تحولوا مجددا الى ديمقراطيين. وبذلك كان "إعلان دمشق"، داعما للإخوان، وكذلك عند انطلاقة الثورة السورية. وهنا نجد غياب للتجمع الوطني الديمقراطي، الذي يجب ان يقود الثورة، ويعبر عن أهدافها. وضمور الإعلان كان سريعا، نتيجة للاعتقالات، والانسحابات منه بالتدريج، ولم يتشكل كمؤسسة وطنية لها جذور شعبية في الأرض.
عبرت الثورة السورية منذ بداياتها بأنها ثورة شعب يريد الحرية والكرامة، ولم تكن مرتبطة بأي حزب او تجمع سياسي. لكن النظام تعلم من احداث الثمانينيات الطائفية، ترسيخ الصراع الطائفي، مدعيا تمثيله للأقليات.
حيث عملت "الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين" والذين كانوا يصفون أنفسهم بأنهم "الممثلون الحقيقيون للإخوان المسلمين عن طريق البنا وقطب، وأن الجهاد في بلاد الشام فرض عين"، حدثان طائفيان: الأول، في (نيسان 1964)، الذين رفعوا شعار "لا حكم الا لله"، بدلا من البعث. واحداث الثمانينيات. حيث رفضت قيادة الاخوان في السعودية الاحداث أولا، وقطعت الامداد المادي وبالمجاهدين للطليعة، ثم تم الصلح معها، وقام الاخوان بأحداث حماه، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين، وتم تلبيس نكستهم إلى الطليعة بقيادة "عدنان سعد الدين"، حيث تم الانشقاق بينه وبين "أبو غدة" الذي تم تعيينه المراقب العام، و"عند الرأي العام الإسلامي الداخلي تبين ان القيادة كاذبة ساعية للزعامة وجمع الأموال"(5). وتبين ان الاخوان عندما ادعوا تمثيلهم "للسنة" مقابل النظام العلوي، فانهم شاركوا النظام في ترسيخ الصراع الطائفي، والذي كان له آثارا مدمرة على الشعب، وانقسامه الطائفي، خلال الثورة السورية.
وبدأت لوثة الطائفية تلوح في الأفق منذ نهاية العام الأول من عمر الثورة. حيث استمرت العفوية السياسية عند شباب الثورة الممثلين في "الهيئة العامة للثورة، واتحاد التنسيقيات"، والذين كانوا مسؤولين عن تنظيم المظاهرات واستمراريتها. وبداية سيطرة "الإخوان المسلمين" على الثورة ومنذ الأشهر الأولى، (العرعور مثلاً، ودعوة الظواهري للجهاد في سورية في "حزيران2011"، والإخوان المسلمين في المجلس الوطني). وبدأت تبرز الشعارات الدينية في المظاهرات وعبر تسمية أيام الجمعة. حيث يُلاحظ العفوية والإسلاموية في دعوة فئات المجتمع المختلفة للانضمام للثورة، عبر تسمية أيام الجمعة مثل: الجمعة العظيمة، آزادي، العشائر، الشيخ صالح العلي. وهنا نلاحظ أن استحضار أرواح الشهداء لم يتم بصفتهم الوطنية، إنما بصفتهم الدينية والمذهبية (العلويين والمسيحيين. إلخ)، أو بوصفهم كتلاً أو كانتونات بشرية خاصة في المجتمع مثل: الأكراد والعشائر. وكأنها دعوة للانضمام لأهل الثورة وهم "السنة".
وعمل الاخوان على تشكيل "دروع الثورة" العسكرية، المدعومة من "المجلس الوطني" ذو الأغلبية الاخوانية، والذين شكلوا الممر لعبور "داعش والنصرة"، وغيرهم من الكتائب الجهادية، والتي بلغ تعدادها المئات، وكان التيار "الديمقراطي" في المجلس ومن بعده "الائتلاف" داعما للإخوان، حتى ان البعض منهم اعتبر "النصرة" القاعدية من القوى الوطنية، طالما تقاتل النظام.
وقد فشل "المجلس"، والائتلاف في قيادة الثورة، لأنه تشكل في الخارج أولا، وليس في الداخل، ولأن أغلب اشخاصه غير معروفين لثوار الداخل، انما جرى تجميعهم من الاخوان الهاربين في الخارج، وبالتالي لم يتم الاعتراف به، وترديده للخارج بالتدخل على الطريقة الليبية، على طريقة "اعلان دمشق"، ولأنه فشل في توحيد الفصائل العسكرية، وتشكيل جيش وطني، بعد التدخل الإقليمي، وصراعاتها على الأرض السورية. ومع غياب التيار الوطني الديمقراطي على الأرض، تمت تصفية الطليعة الأولى من شباب الثورة، وأصبحت الديمقراطية والحرية، جريمة عقوبتها الإعدام عند النظام والمعارضة الإسلامية.
ومقابل داعش ومشتقاتها، تشكلت المتشابهات عند الطائفة الشيعية والتي كان يديرها النظام وإيران، مثل: حزب الله، فيلق بدر وعصائب أهل الحق، والنجباء، ولواء أبو الفضل العباس، وجيش المهدي، وجيش المختار. إلخ. إلى ان تم انتصار النظام بالتدخل الروسي، وتجميع كافة الفصائل في ادلب، تحت الرعاية التركية، والتي تنتظر مصيرا مجهولا حتى الآن.
-1- الوهابية والاخوان، والآيات
والتاريخ القريب، خلال القرن الماضي، أفرز ثلاثة منابع للقوى السلفية والجهادية، والتي شكلت الأرضية الأيديولوجية والسياسية لصعود الأصوليات من جديد. وهي: الوهابية السعودية، والإخوان المسلمون، والآيات الشيعية في إيران.
فالوهابية السعودية أرست دعائم دولة "الأمير والشيخ"، منذ أواخر القرن التاسع عشر، بموجب اتفاق بين الشيخ "محمد عبد الوهاب"(١٧٠٣١٧٩١)، وأمير الدرعية "محمد بن سعود"، منذ (١٧٤١)، وتعاقد علني "بين سلطة زمنية وسلطة روحية، بحيث تمنح السلطة الروحية الشرعية والطاعة للسلطة الزمنية، مقابل أن تقوم السلطة الزمنية، بدعم وتمكين السلطة الروحية"(6). ورداً على شروط الأمير بأنه على الشيخ أن "لا يتركهم ويستبدلهم بغيرهم، وأن يسمح له بالغنائم، فالأمير معتاد على أكل الحرام"، قال الشيخ "أنا أبقيك على ما أنت عليه من أكل الحرام، وأنت تتركني أسكن عندك وأقوّم الدين، فرضي ابن سعود بذلك"(7) وكان للخطاب الوهابي استراتيجيتان: الأولى في مرحلة الخروج وتأسيس الدولة، ومضمونها: التكفير، والجهاد، والولاء والبراء. والثانية بعد حصول التغلب واستقرار الدولة ومضمونه: شرعية المتغلب، والسمع والطاعة، ووجوب النصيحة السرية". (8)
وقد حافظ الشيخ والأمير وأحفادهما على الاتفاق حتى الآن. وحافظ الوهابيون على استراتيجيتهم سواء في الإمارة الأولى التي انتهت على يد العثمانيين في بداية القرن التاسع عشر (١٨١٤١٨١٨). وعند تأسيس المملكة الجديدة انضوى أحفاد الوهابيين تحت راية عبد العزيز وحرروا مكة والمدينة والعديد من المدن. ولكن روح الوهابية القديمة كانت حية، وعادت في خضم الفوضى التي نتجت عن انهيار الإمبراطورية العثمانية. ولذلك تمردوا على الآباء، واعترضوا على الملك لعلاقته مع الإنجليز، ورسمه الحدود الجغرافية للدولة الناشئة، وأطلق عليهم "الاخوان الوهابيين"، أو "الوهابيين الجدد". ومع أنه تم حسم الصراع عسكرياً لصالح الملك مترافقاً مع فتاوى العلماء الوهابيين الكبار-الآباء- في المملكة، ضد "الاخوان". إلا أن الصراع بين الوهابيتين القديمة والجديدة بقي مستمراً. "وهابية تؤمن بالواقعية والبراغماتية"، تعمل وفق مبدأ السمع والطاعة للملك، وتتأقلم مع تحديثاته، وتجعل من كل المعارضين، كفارا وزنادقة إلخ. "ووهابية تؤمن بالوفاء لتعاليم العهد القديم"، متمردة على الواقع القائم. والوهابيتان "وجهان لجوهر واحد، وهو ادعاء كل طرف بأنه يمثل الدين الحق، ويملك الحقيقة الدينية المطلقة"(9)
وفي محاولة لتفسير الازدواجية التي نلاحظها لدى النخبة السعودية في الموقف تجاه "داعش"، قسم مع داعش، وآخر ضدها. يرى "الستير كروك-(Alastair Crooke) أن الحسم العسكري ضد "الإخوان الوهابيين" (لم يؤدِ إلى موت رؤية الإخوان، إنما تراجعت، ولكنها بقيت مسيطرة على بعض مفاصل النظام، وهذا هو مصدر الازدواجية المذكورة"(10)
وبعد الحسم العسكري عمل الملك على "تغيير الوهابية بالقوة من كونها حركة جهادية ثورية قائمة على التطهير الديني التكفيري، لتصبح حركة دعوية محافظة اجتماعياً وسياسياً ودينياً وأن تعمل كمؤسسة تبرر الالتزام بالولاء للعائلة ولسلطة الملك المطلقة" وبعد اكتشاف النفط، وللسيطرة الفعلية على منابع البترودولار في سبعينيات القرن الماضي "وبغرض الحصول على مكانة دبلوماسية كدولة قومية إلى جانب أمريكا وبريطانيا، أُبعد التيار الإخواني المتحمس عن البلاد بتصديره للخارج، من خلال نشر ثورة ثقافية بدلاً من الثورة العنيفة في أنحاء العالم الإسلامي ". "إلا أن هذه "الثورة الثقافية" لم تأخذ منحى إصلاحياً معتدلاً. فقد كانت ثورة قائمة على فكر محمد عبد الوهاب الذي قامت دعوته على تطهير الإسلام من كل ما ارتبط به من بدع ووثنيات"(11) وكان "بن لادن" مؤسسا للوهابية الاخوانية داخل السعودية وخارجها.
"وبظهور الثروة النفطية-كما يكتب الباحث جيل كيبيل-تمثلت الأهداف السعودية في إيصال ونشر الوهابية في جميع أنحاء العالم الإسلامي.. أي العمل على "وهبنة" الإسلام، وبالتالي اختزال الأصوات والآراء الدينية المتنوعة في "عقيدة واحدة"، تتجاوز الحدود القومية، وقد تم-ومازال يحدث-استثمار مليارات الدولارات في هذا الشأن تعبيراً عن القوة الناعمة للسعودية.. وتصاعد هذه القوة الناعمة، والرغبة السعودية في السيطرة على العالم السني، على حد سواء مع العمل على تعزيز مصالح الولايات المتحدة، فقد رسخت بالتزامن، الوهابية دراسيا واجتماعيا وثقافيا في مختلف انحاء العالم الإسلامي"(12).
ويرى المالكي "أن معظم منظري القاعدة والجماعات الجهادية التي تتبنى نهج العنف والإكراه ينطلقون في أطروحاتهم وتأصيلاتهم من كتابات العهد الوهابي القديم. وحين يقوم اتباع الوهابية اليوم بما يعرف بالسلفية الحركية بمواجهة تلك الوهابيات المتطرفة ومجادلتها وربما الصراع معها. فهم لا يفعلون شيئاً سوى أنهم يعيدون نفس الصراع الذي حصل بين الوهابية المتصالحة والمتحالفة مع الدولة، والوهابية المتمردة والمقاتلة"(13)
والإخوان المسلمون منذ تشكلهم في مصر (١٩٢٨)، هم الذين نشروا الفكر الجهادي الوهابي. وبانتشارهم في سورية ولبنان منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عملوا على التأسيس للسلفية الجهادية، وجر المجتمع إلى الماضي، بدعوتهم للحاكمية، تحت شعار "الإسلام هو الحل"، وفق "الأصول العشرين" التي أرساها "حسن البنا" للجماعة والتي تؤكد في الأصل الأول أن "الإسلام دين شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً. فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة". وكذلك الدعوة إلى العودة بالإسلام إلى منبعه الصافي "القرآن والسنة" المطهرة.
وهم أول من عبر عن "السلفية الجهادية" التي تعني "الحاكمية لله، والجهاد"، وتم اعتبار الجهاد "فرض عين" ضد النظام المصري والذي تم اعتباره من الردة على الإسلام، مستفيدا من فتاوي بن تيمية في تكفير الآخرين، ومع شعار "لقد جئتكم بالذبح"(14). وتعتبر "حركة الجهاد والجماعة" هي المؤسس الفعلي للسلفية الجهادية في مصر، والتي اغتالت السادات، ومن أعضائها ايمن الظواهري حليف بن لادن، والمراقب العام للقاعدة حاليا.
والجهاديون "هم الجماعات أو الافراد الذين حملوا فكرة الجهاد المسلح ضد الحكومات القائمة في العالم الإسلامي، او ضد الأعداء الخارجيين، وفق مبادئ الحاكمية، وقواعد الولاء والبراء". "والاخوان المسلمين حملوا هذا الفكر معتمدين على سيد قطب وابن تيمية، وفقه محمد عبد الوهاب". ويعتبر "سيد قطب" الأستاذ لمنهج التفكير ونظريات الحركة في التيار الجهادي المعاصر، والذي أسس تيارا جهاديا من الاخوان وتم إعدامه إثر ذلك". وخلال الخمسينيات كانت "دعوة المودودي في باكستان مادة أساسية لتبلور فكرة الجهاد".
"وافترق الاخوان الى مدرستين متناقضتين: الأولى، مع كتاب "دعاة لا قضاة" للهضيبي، والذين توقفوا عن تكفير الأنظمة" وفق مبدأ التقية، "والثانية، وفق كتاب "المعالم" وفكر سيد قطب، الذين يدعون الى الجهاد وتكفير الأنظمة الحاكمة". ويمكن تلخيص البنية الفكرية للتيار الجهادي المعاصر ب "اساسيات من فكر الاخوان المسلمين، والمنهج الحركي لسيد قطب، والفقه السياسي الشرعي للإمام بن تيمية والمدرسة السلفية، والتراث الفقهي للدولة الوهابية" (15)
ودور القاعدة كبيرا في أفغانستان، التي جسدت الحاكمية والجهاد في المجاهدين. واسمها مشتق من مقالة كتبها "عبد الله عزام" بعنوان "القاعدة الصلبة"، وهو من أوائل "الجهاديين المصريين" من الاخوان، الذي تحالف مع "بن لادن" ذو "السلفية الوهابية" ليؤسسوا ويشكلون الجيل الأول للقاعدة (*)، ومبايعة الملا عم أميراَ للمؤمنين، واتفاقهم على أن الجهاد "فرض عين" على كل مسلم، وفق بيان "الجبهة العالمية لقتال اليهود والامريكان"، ضد "حلف الأعداء" والذي يضم "القمع الحكومي، والامريكي، والصهيوني"(16)
وفي العراق هناك بعض الباحثين الذين يعيدون تشكل القاعدة مع الفترة الايمانية التي نفذها صدام حسين في نهاية القرن. والحدث الأبرز في المنطقة، هو الاحتلال الأمريكي للعراق (2003) واستبدال سلطة صدام حسين، بسلطة شيعية موالية لإيران. والفوضى وحل الجيش، وانفجار المجتمع وبروز كافة مكوناته التقليدية. وظهور داعش في العراق، هو "نتاج طبيعي لاحتلال أمريكا للعراق.. والانحياز إلى طائفة وإهمال وإذلال أخرى، انطلاقاً من نزعة الانتقام والثأرية. وزادت هذه النزعة بعد تبني بعض أبناء الطائفة السنية نهج المقاومة للاحتلال والعملية السياسية المنبثقة من رحمه"(17)
ويرى "كروك" "أن داعش حركة وهابية بشكل عميق. ومن جانب آخر فهي شديدة التطرف بطريقة مختلفة. ومن الممكن أن ننظر إليها جوهرياً باعتبارها حركة تصحيحية للوهابية المعاصرة". "وقد تمتعت "رؤية الإخوان"- ولاتزال تتمتع- بدعم العديد من الرجال والنساء والمشايخ البارزين. وبمعنى من المعاني، كان أسامة بن لادن تمثيلاً دقيقاً للازدهار الذي حدث مؤخراً لدعوة الإخوان"(18). وتتشابه الوهابية الأولى عند تأسيس المملكة وخلال مسيرتها، مع داعش وتأسيسها "للدولة الإسلامية "، في كثير من النقاط، وأهمها: الجهاد والعودة للسلف الصالح، والتكفير، والتوحش، وطاعة الخليفة-الأمير. والكثير من الحدود التي فرضت على المجتمع، مثل: قطع الرؤوس، والجلد، والرجم، إلخ
ويكتمل المشهد مع انتصار الآيات في إيران، وتأسيس دولة "ولي الفقيه" والعمل منذ البداية على تصدير الثورة، والتأسيس لأصولية شيعية مقابلة للأصولية السنية، ودعمها للنظام العراقي والسوري. وحزب الله اللبناني، والحوثيين في اليمن، وأصبحت السعودية وإيران قطبي الطائفية الرئيسيين في المنطقة.
والنصف الثاني من القرن الماضي كان مشبعاً بالصراع الطائفي. وأولى حروب الآيات، كانت الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988)، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا وهم "يحملون مفاتيح الجنة"! والحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989)، والتي انتهت بشرعنة الطائفية السياسية في لبنان، وتصفية الحركة الوطنية اللبنانية على يد النظام السوري، والمقاومة الفلسطينية على يد حزب الله. واحداث الثمانينيات، والحرب العشرية في الجزائر، واحداث القاعدة واهمها في (11سبتمبر 2001)، وطغيان الحرب الامريكية على الإرهاب.
3- الجهل المقدس، والتأخر التاريخي
الجهل المقدس هنا ليس "عدم المعرفة" بالمعنى القاموسي. "أو الجهل بالمعنى الإيجابي الذي يكون دافعاً لأسئلة جديدة، لاكتشاف ظواهر جديدة. وبذلك يكون "محرك مقدمات المعرفة جميعاً". أو الجهل بالمعنى السلبي، أو الجهل الواهم، "الذي يوهم بأننا نفهم، في حين إننا لا نفهم". " وإنك لا تجهل الأشياء الأهم وحسب، وإنما تظن أنك تعرفها أيضاً" والذي أطلق عيه أفلاطون تسمية "الجهل المزدوج"(19)
وإذا تجاوزنا الجهل بالمعنى العام. فإن الجهل بالمعنى الإيجابي غير موجود في منطقتنا. إنما السائد عندنا هو الجهل الواهم، أو الجهل المزدوج، والمنتشر بشكل واسع عند الطبقة السياسية أو المثقفين بشكل عام، وكذلك الجهل المقدس عند الأصولية الدينية بشكل خاص.
ويعمل "Olivier Roy -أوليفييه روا"-وهو باحث فرنسي مختص في الأصوليات- في كتابه "الجهل المقس" على تفسير صعود الأصوليات خلال النصف الثاني من القرن العشرين، استناداً إلى علاقة الديني بالثقافة، وانسحاب الديني من الثقافة واعتبارها دنيوية وثنية من جهة، ودور العولمة من جهة أخرى.
وعند الديني "يثير مفهوم الثقافة مشكلة لدى الإنجيليين والسلفيين، ولابد من التخلص من الثقافة المهيمنة، وتجاهل الثقافة الوثنية لإنقاذ صفاء الأيمان، والخلاص عند الديني لا يتطلب معرفة بل إيماناً، وهذا هو الجهل المقدس" (20) و"المقصود عند الديني ليس معارضة ثقافة رديئة بثقافة جيدة، إنما معارضة الثقافة بالإيمان، والعودة إلى الأزمنة الأولى للأنبياء". لأن المعرفة برأي الديني لن تضيف شيئاً إلى الإيمان وكتاب الله. وبذلك يكون الجهل المقدس هو تقديس للجهل بالمعرفة والفلسفة والفنون والأفكار التنويرية والثقافة عموماً. إلخ
وفي تاريخنا العربي الإسلامي وُصفت ثقافة ما قبل الوحي بالجاهلية أو الوثنية. وحين تم الانتقال من الجماعة الدينية إلى المجتمع السياسي "اقليم ودولة" اندرج الديني في المنظومة الثقافية، وانزلق ليتم "تدجينه"، ويعمل على تبرير النظام السياسي والاجتماعي، وامتلك بذلك حق الرقابة على الإنتاج الثقافي، ومازال يحتكر هذا الحق حتى الآن، كما هو حال الأزهر، والمراجع الشيعية، وتكفيرهم، وحتى قتلهم لكل مفكر متنور.
ويرى أوليفييه أن "ثمة ظاهرتان تلعبان دوراً رئيسياً في طفرة الديني اليوم هما: زوال الصفة الإقليمية، وفقدان الهوية الثقافية. وزوال الصفة الإقليمية تتم بانتقال الاشخاص، وخاصة انتقال الأفكار والمواد الثقافية والإعلام وأنماط الاستهلاك عامة في فضاء غير إقليمي" (21)
و "إن انسحاب الديني من الثقافة ظاهرة جوهرية لتطور الديني في الحقبة المعاصرة، وهو نتيجة للعولمة ووسيلة لها في آن. وتفسر نجاح الإشكال الأصولية للديني"، وأن "عودة الديني المعاصرة هي نتيجة للعولمة.. والعولمة خلقت سوقاً عالمياً للديني"(22)
فالتطور في وسائل الاتصال، عمل على تكريس خطاب الكراهية الديني والمذهبي، وتجنيد الإرهاب الديني. ويشير تقرير البث الفضائي العربي، إلى تنامي القنوات الفضائية العربية الدينية بنسبة (٥٠٪) خلال الفترة (٢٠١١٢٠١٤)، حيث بلغ عددها (٩٥) قناة، والقنوات الإخبارية (23). ويشير تقرير أصدرته جامعة نورثويسترن في قطر، حول نفس الفترة بأن عدد القنوات الدينية السنية وصل إلى (٥٥)، وتضاعفت القنوات الشيعية من (٥) إلى (١١)، والمسيحية من (٢)، إلى (٩). (ويمول هذه القنوات: السعودية، والإمارات العربية، وقطر، وإيران. (24). وبالتأكيد الانسحاب الراهن من الثقافة يُحدث عدوانية مزدوجة داخلية وخارجية تتمثل في إصدار الفتاوي التكفيرية، وإجراءات ضد اللاديني أو الرماديين وتكفيرهم وحتى اغتيالهم، مثل فرج فودة، حسين مروة...إلخ. وتتحول المسافة بين المؤمن وغير المؤمن إلى حاجز (ويرى المؤمنون فاتري الأيمان والخامدين جزء من العالم الدنيوي والوثني) (25). ولذلك تضع الحركات الدينية قواعد متزمتة مثل: التدخين وشرب الكحول ومراقبة السلوك الجنسي، والسينما والتلفزيون والمسرح والرقص. إلخ.
وتتشارك الأصولية المسيحية مع الإسلامية بالدعوة إلى العودة إلى الأزمنة الأولى للرسل، أي للمسيح ومحمد. لكن الفرق جوهري بين الأصولية المسيحية التي تعمل ضمن القانون ولا تسعى للسلطة، مثل الخمسينية البروتستانية، أما الأصولية الجهادية فهي تنظيم عسكري تسعى لفرض نفسها على الجميع. والسبب أن الدول المتقدمة أقامت دولتها الديمقراطية الحديثة، ونحن فشلنا حتى الآن في ذلك وما زلنا خاضعين لأنظمة استبدادية، وأيديولوجيات مذهبية قاتلة.
وهذا ينقلنا إلى مفهوم أشمل وهو مفهوم (التأخر التاريخي)، عند ياسين الحافظ. وكما يوجزه أحد دارسيه بأنه (تأخر سياسي في المقام الأول. وهو تأخر في الذهنية ثانياً. وتأخر في النسيج السوسيولوجي الذي يحكم العمارة المجتمعية ثالثاً. وهو أبعد وأعمق من مسألة التخلف الاقتصادي، والتأخر التقني والتكنولوجي رابعاً. وخامساً هو منجدل مع أساطير الهوية السرمدية والرسالة الخالدة (للأمة) التي لم تنوجد بعد. وسادساً التأخر التاريخي متراكب مع وضعية السديم البشري والاختلاط والظاهرة القطيعية التي تمنع التشكل الطبقي من جهة، ومن جهة ثانية تسحق الفردانية وتذوب الفرد في سديم القطيع إضافة لترسيخ العقلية الذكورية وتعميقها) (26).
فالتأخر التاريخي والجهل المقدس كمعطى موضوعي عام هو الذي أفرز الأنظمة الاستبدادية-العائلية والقبلية والطائفية، في المنطقة عموماً، والتي لا تختلف من حيث الجوهر عن السلطنة العثمانية، والسلوكية التي كانت سائد في تاريخنا القديم. وتحالفت مع المؤسسات الدينية التي قدمت الشرعية، وعملت على إبقاء المجتمع كرعية مهمتها تمجيد السلطان والتسليم بالقضاء والقدر، ومحافظاً على بنيته كمجموعات مذهبية أو عشائرية منغلقة على نفسها.
والجذر الأساس لصعود الأصوليات في الشرق الأوسط، هو الفشل في إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة أو "الدولة-الشعب" التي تعبر عن كل مكونات المجتمع، هو الذي أفسح المجال لاستمرار البنى الاجتماعية التقليدية وأيديولوجياتها، منذ عهد الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي. وهذه الأنظمة التي استولت على السلطة في منطقة الشرق الأوسط-العالم العربي- كانت ذات بنية طائفية مذهبية وعائلية وقبلية، حتى لو اكتست بقشرة قومية أو علمانية كما هو في سورية والعراق. فالبنية المذهبية للنظامين في سورية والعراق، حيث المجتمع متعدد المذاهب والقوميات، هي التي استدرجت إلى الساحة المذهبيات الأصولية الشبيهة والمتعاكسة، لتدخل البلاد في صراعات مدمرة للوطن.
ومن الطبيعي، والموضوعي أيضاً، "أن ينفجر المكبوت والمحتقن تاريخياً بكل قيمه وصديده الطائفي حتى يشبع انفجاراً " (27). ويفرز مكوناته، ويعيد صراعاته التاريخية التقليدية، وأخطرها صراع المتشابهات الطائفي والممتد في تاريخنا القديم، وكأننا لم نخرج منه، والذي عاد إلينا بكل أشباحه ليسيطر على الحاضر من جديد.
والاستبداد المترافق مع الجهل، والتأخر التاريخي، لا يشمل فقط النظام السياسي الحاكم، إنما يشمل كل البنى المجتمعية والسياسية والعائلية. ومع أن الأنظمة أوجدت مؤسسات حديثة، وتعليم، وجامعات. إلخ. واستوردت التقنيات الحديثة، إلا أنها لم تستورد، أو لم تنشئ الأسس المعرفية والعلمية لمنتجات الحداثة، إنما حافظت على بنيتها التقليدية. وأحد المؤشرات على ذلك هو نسبة إنفاقها على البحث العلمي، والتي لا تتجاوز (0,1%) من الناتج المحلي الإجمالي، في حين نسبة الانفاق في إسرائيل تبلغ ( 3,9%)، وهذا يعادل ضعف الانفاق في البلدان العربية مجتمعة (28).
ويقابل الأنظمة الإسلام السياسي الذي يقدس الجهل، بدعوته للانسحاب من المعرفة والثقافة بأنواعها المتعددة، ويعمل على إعلاء شأن وقيمة العلوم الدينية والشرعية، ويقلل من أهمية العلوم الدنيوية، ويضيف إلى ذلك احتقاره للمجتمعات الأوروبية وانظمتها السياسية، والاجتماعية، ويعتبر أن المجتمع الإسلامي هو الأفضل وفق قاعدة " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ". ولذلك يرفض الإسلام السياسي الديمقراطية ويستبدلها بالشورى، أو يختزلها إلى صناديق الاقتراع كوسيلة للوصول إلى السلطة، ويرفض الدولة الديمقراطية العلمانية، ويستبدلها بمفهوم متلبّس مثل الدولة المدنية بمرجعية دينية. وضد العلمانية باعتبارها كفر. ورفض الحرية عموماً وحدها بحدود الشريعة. إلخ
والقوى الوطنية الديمقراطية ليست بأفضل حال. ولم تشكل بعد فضاءها الخاص بها. إنما بقيت إما ملحقة بالأنظمة الاستبدادية، أو ملحقة، أو تتمسح بالإسلام السياسي، وداعميه. كما حصل في المجلس الوطني ثم الائتلاف.



4- ماركس وأشباح الماضي
كتب ماركس في بداية كتابه (الثامن عشر من برومير "لويس بونابرت").
"يقول هيجل في مكان ما، إن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم، إذا جاز القول، تظهر مرتين. وقد نسي أن يُضيف المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمسخرة". في اشارة إلى "لويس بونابرت" –المسخرة- الذي حاول إعادة مجد الامبراطورية البونابرتية.
ويتابع ماركس:
"إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم. ولكنهم لا يصنعونه على هواهم. إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل في ظروف يُواجهون بها، وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء. وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط بتحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل. عند ذلك بالضبط في فترات الأزمات الثورية كهذه على وجه التحديد، نراهم يلجؤون في وجل وسحر إلى استحضار ارواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكي يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم وفي هذه اللغة المستعارة" (29)
وفي سورية كانت "المأساة" على يد الطاغية-الأب. لكن "المسخرة"، وهو الطاغية ذاته، إنما بصورة كاريكاتورية. ولم تأتنا على الطريقة الفرنسية، إنما على الطريقة "الخلدونية"، أي التوريث للسلطة اعتماداً على "العصبية" العائلية والطائفية، وهي أخطر وأكثر دموية من العصبية البدوية الخلدونية.
وإذا عدنا إلى ماركس، واستمرار شبح الماضي في الحاضر. يقول: "إن ثورة 1789 اكتست بثوب الجمهورية الرومانية تارة، وثوب الإمبراطورية الرومانية تارة أخرى، ولم تجد ثورة 1848 (البرجوازية) شيئاً أفضل من التقليد الساخر لثورة 1789"
أما الثورة السورية، فلم تجد ثوباً تاريخياً تكتسي به ويعبر عنها، لأنها أول ثورة للحرية في تاريخنا منذ آلاف السنين. ولم تجد ثورة تشبهها كي تقلدها. ولذلك اكتست في مرحلتها الأولى بثوب المستقبل واستمدت شعاراتها من هذا المستقبل المنشود الذي سيسوده الحرية والعدالة والكرامة الانسانية. لكن أشباحاً من العهود القديمة كانت تحوم في فضاء الصراع بين النظام والثوار.
فاستعار النظام ببذلته الحديثة شعار الاستعمار التاريخي وهو "حماية الأقليات"، واستجلب الميليشيات الشيعية المذهبية وعماماتها لتستمر في اللطم والنوح على المظلومية التاريخية، واستعارت لها الأسماء والشعارات من جعبتها الدينية المذهبية مثل: حزب الله، فيلق بدر، ذو الفقار، زينبيون، أبو الفضل العباس. إلخ. وكأننا لم نغادر معركة كربلاء والتي مر عليها أربعة عشر قرناً. وإنها قادمة لحماية الموتى في "المراقد المقدسة"، من أجل تمجيد وإضفاء صفة القداسة على معركتها، تحت شعار "لبيك يا حسين"، ولإخفاء المحتوى الفعلي لأهدافهم المتمثلة باستمرار السيطرة والتسلط على المجتمع، وعلى المنطقة بأسرها.
وبالمقابل، كادت الثورة أن تنتصر في عامها الأول وبعد تحريرها للكثير من الأراضي السورية. إلا أنها فشلت في إقامة مناطق محررة بالفعل، وفق شعاراتها: الحرية والعدالة والكرامة، وتقديمها للمجتمع كنموذج للثورة ولدولة المستقبل التي ستكون أكثر تطوراً وبشكل جذري من سلطة النظام.
وهذا الفشل أفسح المجال لأشباح الماضي أن تحط على الأرض وتسيطر عليها، واكتسى بها "الحجي"، و"الشيخ"، الذين حكموا بالسيف والعمامة، وعملوا على إعادة المجتمع نحو الماضي البعيد، واستعاروا أسماء الكتائب ورموزها من التاريخ القديم، وبالضبط من التاريخ الإسلامي المذهبي القديم. مثل: الكتيبة الخضراء، المهاجرين والأنصار، أنصار الدين، التوحيد والجهاد، جند الأقصى.. سرايا مروان حديد، كتيبة الإمام البخاري. إلخ. وتحت شعار "الله أكبر". وإزاحة الرايات السوداء، لرمز الثورة الأخضر.
وتوضح كيف "تجثم الأجيال الغابرة كالكابوس على أدمغة الأحياء". وكأننا لم نغادر مرحلة الثمانينيات. فالنظام استعاد العنف الطائفي ضد المتظاهرين، وخرج المكبوت من الصدور التي لم تتجاوز أيضا آلام الجيل السابق.
وقد حمل الطاغية على كتفيه، "حسن نصر الله"، بجبته السوداء، و"الخامنئي" بلحيته البيضاء، وهم يصرخون: "تحرير القدس يمر من حلب". وعلى المنصة المقابلة، يتربع "الحجي" والخنجر، و" الشيخ" بعمامته البيضاء وجلبابه القصير. والبغدادي والجولاني والسليماني ممسكين بأول الدبكة ويلوحون بسيوفهم، ومن خلفهم الملوك والشيوخ العرب بجلابيبهم الناصعة البياض. وفي الساحة السورية، اجتمع المتشابهون، "كي يمثلوا مسرحية جديدة، في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم"، على أنغام اللطم والنواح، وصليل السيوف، في صراع دموي عنوانه الرئيس: من يحكم من؟ والهدف السلطة والثروة.
5- الخاتمة
ماذا يمكن ان نستنتج من دراستنا هذه:
اولاً: التوصيف العام، بأننا نقدس جهلنا، ونعاني من التأخر التاريخي، نظاما ومعارضة، لايجعلنا أن نصف شعبنا بالمتخلف، ونقف ضد الديمقراطية، والعلمانية. صحيح القول بأننا متخلفون لأن نظامنا طائفي، ومعارضتنا تتضمن قوى طائفية مثل الاخوان من السنة، الشيعة، وتشعل حروبا طائفية عدمية. والمطلوب وجود قوى سياسية ديمقراطية، وتمتلك إرادة سياسية للمشروع الوطني هو الحل. وغياب مثل هذه القوى عن الساحة، هو الذي جعل القوى الجهادية تسيطر على الساحة وتحرق الانسان والوطن. والامثلة عديدة: في لبنان، والعراق، واليمن، والسودان، وتونس، حيث تعرقل القوى الجهادية، والاخوانية، قيام الدولة الديمقراطية العلمانية.
ثانياً: "الجهاد، والحاكمية لله، والولاء والبراء"، وأن "الجهاد فرض عين"، هي المقولات الرئيسة للجهاديين. وهي نتاج الثقافة الوهابية، وثقافة الاخوان المسلمين، مقابل "التكفيرية الشيعية" على أيدي أقطاب الطائفية الكبرى، السعودية وإيران، وصراعهم للسيطرة على المنطقة، والتي وجدت فرصتها في غياب القوى الوطنية الديمقراطية، لتحتل ساحة الصراع ضد أنظمة طائفية مستبدة، وفرضت نفسها بقوة السلاح على البشر. وهي بالأساس نتاج الأنظمة الاستبدادية الطائفية، كما هو الحال في سوريا والعراق.
وبالتالي ليس صحيحا بأن "داعش" والنصرة ومشتقاتهم صناعة أمريكية، أو أنها صناعة النظام وإيران. لأن هذه التفاسير لم تقرب بنية هذه الأصوليات، ومصادرها الأيديولوجية والاجتماعية والتمويلية. واللجوء إلى العوارض الجزئية للظاهرة مثل: الدعم الأمريكي للقاعدة في أفغانستان، لأنه من "الكذب الكبرى أن الجهاديون الأفغان والعرب كانوا مرتبطين بالأمريكان في أيام التحرير ضد السوفييت (1984-1992)، حيث دفع الأفغان ملايين الشهداء قبل التدخل الأمريكي، والمجاهدين العرب كانوا مجاهدين، ولم يحتاجوا من أمريكا سوى العبور الى أفغانستان"(30). وقد تحقق لأمريكا "النصر على السوفييت بدون حرب" وفق تعبير نيكسون لكنهم لم يرتبطوا مع المجاهدين الذين ظلوا بإقامة الحاكمية، واستمرار الجهاد ضد الوجود الأمريكي، "الذين نفذوا 30 حادثا إرهابيا ضد أمريكا منذ1992"(31) وكذلك دعم النظام السوري للفصائل الجهادية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، لا يفسر صعود الأصولية في المرحلة الراهنة وخاصة بعد ثورات الربيع العربي. إنما تبقى هذه العوامل مساعدة لتقوية الأصوليات واستمرارها.
ثالثاً: إن ثورات الربيع العربي هي أولى الثورات التي تطالب بالحرية تاريخيا. ولذلك لابد من اصطدامها بقوى الشر التاريخي وهي الاصوليات الطائفية التكفيرية، وستبذل مستقبلا القوى الديمقراطية العلمانية صراعات أو حروباً عديدة للسيطرة عليها، وبناء دولة المواطنة والقانون، التي تحافظ على حرية الفرد والجماعة.
-------
الهوامش
(1) فان دام، نيقولاوس-الصراع على السلطة في سوريا- الطبعة الالكترونية الأولى-2006-ص21)
(2) الصراع على السلطة-المرجع السابق ص43
(3) راجع بهذا الخصوص، منشورات التجمع- القيادة المركزية-20-12-2001-الحوار المتمدن-العدد22-2001.
(4) بيان إلى الشعب-التجمع الوطني الديمقراطي-منتصف آذار-1980.
5) عبد الحكيم، عمر، الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا، ص: 58,156
(6) عبد الله المالكي- دولة الأمير والشيخ-الوهابية والسلفية (الأفكار والآثار-الشبكة العربية للأبحاث والنشر-مجموعة باحثين-ط١بيروت—٢٠١٦ص٤٩٨.
(7) الوهابية والسلفية-المرجع السابق-ص٤٩٣.
(8) الوهابية والسلفية-المرجع السابق-ص ٥٠٠٥٠٨.
(9) (الوهابية والسلفية-المرجع السابق-ص٥١٢)
(10) (Alastair Crooke – مقالة-لا يمكنك فهم داعش، إذا لم تكن تعرف تاريخ الوهابية في السعودية- ترجمة موقع راقب "RaQeb"- http://raqeb.co/2014/08/%D9%84%D8%A7
(11) Alastair Crooke-المرجع السابق.
(12) Alastair Crooke-المرجع السابق
(13) الوهابية والسلفية-المرجع السابق- ص٥١٢
(14) فريج، محمد عبد السلام، الجهاد، الفريضة الغائبة، ٩٨١ المكتبة الالكترونية
(15) عبد الحكيم، عمر (أبو مصعب السوري)، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، ص: 686-689 690-691-693-698 المكتبة الالكترونية.
(*) يُشار إلى "الجيل الأول" للقاعدة بزعامة الشيخين: وليد عزام وبن لادن، وبعد وفاة عزام في ـ1989- لم يسمى الظواهري بالشيخ أو العالم. وتم الانتقال بعد وفاة بن لادن إلى "الجيل الثاني" برئاسة الشيخين: أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة. ومع الثورة السورية وتشكيل داعش والنصرة تم الانتقال الى "الجيل الثالث" بقيادة العديد من المشايخ السوريين وغيرهم، وخلافاتهم مع المقدسي وقتادة، الذين وصفوا داعش بأنها "ما بعد الجهادية"، وبالمنحرفة، وأنها "جماعة غلو". وبهذا الخصوص مراجعة: علماء التيار الجهادي، شفيق شقير، مركز الجزيرة للدراسات.
(16) لمحات من نشأة وتطور تنظيم القاعدة-عبد الرحيم علي- https://www.assakina.com/center/parties/4673.html
(17) عبد الباري عطوان-الدولة الإسلامية "الجذور، التوحش، المستقبل"-دار الساقي-بيروت-ط١٢٠١٥ص١١
(18) Alastair Crooke-المرجع السابق.
(19) توما دوكونانك-الجهل الجديد ومشكلة الثقافة-ترجمة منصور القاضي-المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر-بيروت ط١٢٠٠٤ص٥٦
(20) أوليفييه روا- الجهل المقدس، زمن دين بلا ثقافة- ترجمة صالح الاشتر-دار الساقي- بيروت- الطبعة الأولى-٢٠١٢ ص28.
(21) الجهل المقدس-المرجع السابق-ص٢٢ 21-228
(22) المرجع السابق- ص 28-248-253-180
(23) http://alarab.co.uk/?id=46571
(24) http://www.raialyoum.com/?p=404681.
(25) http://www.al-masdar.net
(26) منير الخطيب-مفهوم التأخر التاريخي في ترسيمة ياسين الحافظ النظرية-http://republicdialogue.blogspot.com.tr/2015/03/blog-post_95.html
(27) (هاشم صالح-الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ- دار الساقي-بيروت-2015-ص24)
(28) (عفيف رحمة-البحث العلمي في سوريا-حقائق ومؤشرات-http://thevoiceofreason.de/article/6220).
(29) (كارل ماركس-الثامن عشر من برومير-ص-6)
(30) دعوة المقاومة الإسلامية-المرجع السابق ص708
(31 ) لمحات من نشأة القاعدة، المرجع السابق



#مروان_عبد_الرزاق (هاشتاغ)       Marwan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل النظام السوري طائفي؟
- صراع المتشابهات في سوريا(الجزء الثاني)
- صراع المتشابهات في سوريا)الجزء الاول)
- لن اتهم احدا
- بين وثائق القاهرة وخطة الخبراء للانتقال السياسي في سوريا
- ملاحظات اولية:رسالة من مثقفين سوريين للجمعية العامة
- ملاحظات اولية حول مسار الثورة السورية-لماذا لم تنتصر الثورة؟
- العراق, سوريا. إلى أين؟
- الثورة السورية والسلم الاهلي
- هروب المثقف من الثورة السورية
- مؤتمر جنيف(2) والسلام المفقود في سوريا
- الثورة السورية-غياب السياسة
- الانقلاب العسكري في مصر وعودة النظام السابق
- من أحاديث الثورة السورية(1) طبيعة الثورة– العسكرة والاسلام- ...
- هل يمكن تفادي الحرب الأهلية القادمة في سوريا
- مسقبل الثورة السورية
- آفاق الثورة السورية
- عودة السياسة الى المجتمع السوري والحوار الوطني
- ربيع الحرية العربي(2)-محاولة للفهم
- ربيع الحرية العربي(1)-محاولة للفهم


المزيد.....




- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...
- دراسة ضخمة: جينات القوة قد تحمي من الأمراض والموت المبكر
- جمعية مغربية تصدر بيانا غاضبا عن -جريمة شنيعة ارتكبت بحق حما ...
- حماس: الجانب الأمريكي منحاز لإسرائيل وغير جاد في الضغط على ن ...
- بوليانسكي: الولايات المتحدة بدت مثيرة للشفقة خلال تبريرها اس ...
- تونس.. رفض الإفراج عن قيادية بـ-الحزب الدستوري الحر- (صورة) ...
- روسيا ضمن المراكز الثلاثة الأولى عالميا في احتياطي الليثيوم ...
- كاسبرسكي تطور برنامج -المناعة السبرانية-
- بايدن: دافعنا عن إسرائيل وأحبطنا الهجوم الإيراني


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مروان عبد الرزاق - صعود الجهادية التكفيرية