أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - فارس تركي محمود - النسق القيمي















المزيد.....

النسق القيمي


فارس تركي محمود

الحوار المتمدن-العدد: 5953 - 2018 / 8 / 4 - 23:26
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


لكل أمة ولكل حضارة نسقها القيَمي الخاص بها والمختلف عن غيره من الأنساق فهو يختزن بداخله أفكار ورؤى وعادات وتقاليد وفلسفة الحضارة التي أنتجته ، وهذا النسق القيمي لا يتشكل ولا يتكون بفترة زمنية قصيرة بل هو نتاج لرحلة تاريخية طويلة تمتد لقرونٍ وقرون ، كما إنه لا يتأتى ولا يفرض بقرارات فوقية أو إجراءات سلطوية قسرية بل يظهر بشكل تلقائي ويتخذ سماته وأبرز ملامحه من الظروف الجغرافية والتاريخية التي احتضنت البيئة المنتجة له ، وأي محاولة لفرضه في بيئة مغايرة ومختلفة بدرجة كبيرة جدا يؤدي إلى تشويهه وإفراغه من محتواه القيَمي وتحويله إلى عبء ومشكلة بدل أن يكون حلاً لمشكلة . فالأفكار والمفاهيم المتراصة داخل نسقٍ ما تأخذ ماهيتها ومعناها من النسق ذاته، بمعنى أنها بحد ذاتها وبعيداً عن النسق الذي يحتويها لا تملك معنىً واضحاً قطعي الدلالة وقد تعطي دلالات ومعاني متعددة تصل أحياناً إلى حد التضاد والتناقض الصارخ ، فدلالتها زئبقية تتحول وتتغير وفقاً للنسق المتواجدة فيه .
فمفهوم الحرية مثلاً ليس له معنى واحد أو دلالة واحدة – كما يتوهم الكثيرون - في الحضارات والأنساق القيمية المختلفة بل هناك اختلاف كبير في دلالته . فإذا كان معنى الحرية في أحد الأنساق يشير إلى حرية الفرد الحقيقية والفعلية والكاملة سواء حريته الشخصية ، الفكرية ، الاقتصادية ، السياسية ، والاجتماعية . فإن هذا المعنى - في نسق آخر مختلف - قد يشير إلى كل ما هو مناقض للمعنى السابق بحيث يصبح أقرب ما يكون إلى القمع والتسلط والعبودية ، والمعادلة معروفة في مثل هذا النسق وتتلخص بـ : إن الحرية مكفولة للجميع ولكن بشرط أن لا تتم مخالفة أو التعرض إلى الموضوعات ( س ، ص ، ح ، خ ، . . . الخ ) ، وإذا ما جمعنا هذه المحظورات والاستثناءات بعضها إلى بعض نصبح أمام بناء قمعي متكامل ونظام استبدادي بعيد كل البعد عما تعنيه الحرية في النسق السابق ، بحيث لا يبقى من معنى ومفهوم الحرية الحقيقية داخل هذا النسق سوى الاسم . وعلى الرغم من ذلك يستميت أتباع هذا النسق في الدفاع عن هذه الحرية المفرغة من محتواها معتبرين أنها أفضل وأرقى وأحسن أنواع الحرية وأن كل حرية لا تشبهها أو تنسجم معها هي حرية مشوهة ومرفوضة وضالة مضلة .
ومعنى الحرية المشار إليه في النسق الأول معنى مطلوب بذاته وبعينه ، فلم يتم اختياره لأنه أفضل من المعاني الأخرى لمفهوم الحرية ، ولا لأنه أكثر نضوجاً وفائدة ، ففعل الاختيار هنا منتفي ولا وجود له لأن النسق القيمي عندما ينتج أفكاره ومفاهيمه وعندما يراكمها بعضها فوق بعض وعندما يدخلها في عملية التأثر والتأثير والملاقحة فيما بينها لا يفعل ذلك وهو مدرك وواعي وعارف سلفاً بنوع المنتج الذي سيخرج في النهاية ، بل هو محكوم بحتميات الجغرافيا والتاريخ التي ستحدد ماهيته وماهية ومعنى أفكاره ومفاهيمه . والأمر ذاته ينطبق على الأنساق الأخرى . ومما يعطي للنسق القيمي قوة هائلة ويجعله كتلة صلدة غير قابلة للكسر حقيقة أن المفاهيم المتراصة بداخله تدعم وتغذي بعضها بعضاً وتستمد حياتها وبقائها واستمرارها من بعضها البعض بل تتطور وترتقي ببعضها البعض .
ومفهوم الديكتاتورية والطغيان يختلف أيضاً من نسقٍ لآخر ، ففي أحد الأنساق يكون هذا المفهوم مرفوضاً ومكروهاً وليست له أي فرصة للاستمرار والتطور وسيتم خنقه وإقصائه من قبل المفاهيم الأخرى المكونة لذلك النسق ، لتحل الديمقراطية بديلاً عنه كمفهوم يتلاءم وينسجم ويتكامل مع النسق ومع مفاهيمه . بينما في نسقٍ آخر يكون مفهوم الديكتاتورية في مكانه الصحيح والمناسب لأنه ابن شرعي لذلك النسق فهو ينمو ويتطور ويتغول ويفرض وجوده وسطوته ، بل يصبح مطلباً وحاجةً لأبناء الحضارة المنتجة للنسق المذكور . لذلك نجد الكثير من الشعوب لا تستطيع أن تحيا ولا تستقيم أمورها بدون وجود سلطة دكتاتورية قمعية تضبط تفاعلاتها وسلوكياتها ، وما أن تغيب عنها تلك السلطة حتى تدخل في حالة من الفوضى والاضطرابات وتبدأ بالابتهال إلى العلي القدير لعله يرسل لها حاكماً يجمع شتات أمرها ويقوِّم اعوجاجها ويكون أباً للجميع بكل ما للأب الشرقي من صلاحيات غير محدودة .
كذلك يختلف معنى الديكتاتورية ودلالتها في الأنساق المختلفة فإذا كانت تمثل قيمة ومعنى سلبي في أحد الأنساق وتشير إلى حكم شخص واحد أو أقلية وهو نوع من الحكم مدان ومرفوض جملةً وتفصيلاً في ذلك النسق ، فإنها في نسق آخر قد تصبح ذات معنى إيجابي بعد أن تنزع عنها صفة أو تسمية الديكتاتورية وتسوق تحت مسميات أخرى مثل " أهل الحل والعقد " و " أولي الأمر " وغيرها من تسميات تحول الديكتاتورية من مفهوم سلبي إلى مفهوم إيجابي ومطلوب ووجوده واجب وضرورة ومن يرفضه أو ينتقده مدان ومشيطن .
وهذا الاختلاف في معنى الحرية والديكتاتورية ودلالتهما ينطبق على بقية المفاهيم المكونة للنسق القيمي كحقوق الإنسان ، الديمقراطية ، النظرة للمرأة ، الموقف من الآخر ، . . . الخ فمعنى هذه المفاهيم وما تدل وتشير إليه يختلف من نسقٍ لآخر . وكلما ازداد الاختلاف في البيئة والظروف المنتجة للأنساق كلما ازداد الاختلاف في دلالات مفاهيمها وأفكارها والعكس صحيح . وهذا أمر طبيعي فلا يمكن لعاقل أن يزعم أن بيئات وحضارات مختلفة يمكن أن تنتج أنساقاً قيمية متشابهة . وعندما تكون الأنساق المختلفة متباعدة عن بعضها زمانياً ومكانياً وغير مؤثرة ببعضها البعض لا تتسبب بأي مشاكل أو اضطرابات ، فكل حضارة وكل بيئة مكتفية بنسقها الذي انتجته ومتصالحة معه ولا تتخيل وجود نسق آخر أفضل منه أو مخالف له ، وهو ما كان سائداً في العصور الغابرة وحتى بداية العصر الحديث . فمع التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهدته البشرية والذي أدى إلى إلغاء المسافات وإلى تحويل العالم إلى قرية صغيرة الكل مطلع فيها على الكل بدأت تظهر وتتزايد المشاكل والاضطرابات المتعلقة بالاختلاف بين الأنساق القيمية . إذ بدأت الشعوب تقارن وتفاضل بين نسقها القيمي وبين الأنساق الأخرى وبدأت تحاول أن تستعير بعض المفاهيم – بعد أن رأت فاعليتها وقدرتها على البناء والتطور في الحضارات الأخرى - من أنساق أخرى وتحشرها حشراً في نسقها وتنتظر منها أن تحقق لها ذات النتائج الطيبة التي حققتها في النسق الأم غير مدركة أن المفهوم يبقى فعالاً ومنتجاً ومؤثراً ما دام في بيئته الطبيعية التي انتجته ونسقه القيمي الذي احتواه ، إلا أنه ما يتم سلخه من بيئته ونسقه وإدخاله في نسق مغاير حتى يتحول إلى شيء مغاير يضر أكثر مما ينفع ويهدم أكثر مما يبني ، ويفقد معناه ودلالته الأصلية ويكتسب دلالة جديدة تتناسب مع النسق الذي حشر فيه . وتبقى الناس بعد ذلك تتساءل في حيرة : أين الخلل ؟ وما هو الخطأ ؟ ولماذا لم يساعدنا هذا المفهوم أو ذاك على بناء الوطن كما ساعد غيرنا ؟ هل هي المؤامرة ؟! ، هل هو القدر ؟ هل السبب هو الابتعاد عن التراث وتقليد الآخر المغاير ؟ أم إنه عقاب إلهي ؟ أم أن شعوبنا ما زالت غير مهيأة ومستعدة لمثل هذه المفاهيم ؟ .
خلاصة القول أن الأنساق القيمية لا تستورد ولا تصدر لأنها نتاج لبيئة وظروف بعينها ، فضلاً عن أنها كلٌ متكامل لا يمكن أخذ جزء منها وترك باقي الأجزاء ، والقول الساذج المتعلق بأخذ ما يناسبنا وترك ما لا يناسبنا يصلح أن يكون شعاراً يتشدق به الواعظون والمعاقون فكرياً والذين يعيشون في عوالم اللامعقول لكنه بالتأكيد لم ولن يطبق على أرض الواقع .



#فارس_تركي_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عقول وحقائق
- عقلنا عندما ينتخب !
- الانتخابات الأمريكية والتدخلات الروسية
- وهم المعرفة
- الكتلة المدنية
- العقل التآمري
- الواعظون
- المجتمع العبيط
- الثورة والتثوير
- ظلال الله على الارض
- التقليد والابداع
- صفات الشعوب واشتراطات الدولة
- الدولة الحديثة منتج اقتصادي
- الانسان البدائي
- اذا كان هذا صحيحا
- التمدن والتخلف بقوة الدفع الذاتي
- غياب العقلية الشمولية
- المنظومة الفكرية العربية والقضية الفلسطينية ، جدلية السبب وا ...


المزيد.....




- هل تتعاطي هي أيضا؟ زاخاروفا تسخر من -زهوة- نائبة رئيس الوزرا ...
- مصريان يخدعان المواطنين ببيعهم لحوم الخيل
- رئيس مجلس الشورى الإيراني يستقبل هنية في طهران (صور)
- الحكومة الفرنسية تقاضي تلميذة بسبب الحجاب
- -على إسرائيل أن تنصاع لأمريكا.. الآن- - صحيفة هآرتس
- شاهد: تحت وقع الصدمة.. شهادات فرق طبية دولية زارت مستشفى شهد ...
- ساكنو مبنى دمرته غارة روسية في أوديسا يجتمعون لتأبين الضحايا ...
- مصر تجدد تحذيرها لإسرائيل
- مقتل 30 شخصا بقصف إسرائيلي لشرق غزة
- تمهيدا للانتخابات الرئاسية الأمريكية...بايدن في حفل تبرع وتر ...


المزيد.....

- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد
- تشظي الهوية السورية بين ثالوث الاستبداد والفساد والعنف الهمج ... / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - فارس تركي محمود - النسق القيمي