أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد الحروب - ساعة بغداد: شهد الراوي تُسيل الزمن فليتهمُ ماضي البلد مستقبلَها















المزيد.....

ساعة بغداد: شهد الراوي تُسيل الزمن فليتهمُ ماضي البلد مستقبلَها


خالد الحروب

الحوار المتمدن-العدد: 5851 - 2018 / 4 / 20 - 12:46
المحور: الادب والفن
    



في فصوله الاولى يبدو نص "ساعة بغداد" (للروائية العراقية شهد الرواي، والصادرة عن دار الحكمة في لندن، 2016، والمدرجة على القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية)، عادي ورتيب، ربما يدفع البعض إلى وضع الرواية جانباً. بيد ان هذه العادية والرتابة ستظهر لنا جزءاً عضويا من البنية الكلية للرواية، بكونها ستظهر جمالية العادي والتوق القاتل إلى الرتابة عند حلول الغياب الفادح لعاديي الحياة. الرتابة الاولية تساعد في توضيح حدود الإفتراق بين "العادي" والتمني الاسطوري له عند غيابه. ثيمة الرواية ايضاً متكررة بما قد يغري بتوقع خطها الدرامي، وهذا ايضا تقدير متسرع ثان. وهذا التسرع سيكرر: هل صارت قصتنا مكرورة وتتشابه بداياتها ونهاياتها هنا وهناك: في العراق، سورية، فلسطين، اليمن، لبنان، السودان؟ أهو الحنين لماضي ما قبل الحروب إذن يعود يطل علينا بلا كلل؟ أهي بشاعات الحرب وهجرات المكلومين ودموعهم إذن ايضاً تحتل نصاً جديداً. هذه المره، ومرة اخرى بعد مرة، عن الجرح العراقي الممتد منذ اوائل الثمانيات والحرب مع إيران وحتى اللحظة وما بينهما من حروب أدمت البلد وناسه وبعثرتهم وسحقت ارواحهم وغيرت "ساعتهم" الواحدة إلى ساعات. كلما طال أمد الجرح وزاد التأمل فيه خرجت منه قصص تُعيد إدهاشنا، كأنما نراه لأول مرة، كما نراه في نص شهد الراوي، كأنما تستعيد افواهنا مراراته التي جرحت حلوقنا في السابق بطعم اكثر مرارة مع النص الجديد. ماذا ستقول شهد الراوي عن أمدية تلك الحروب وخيباتها وخباياها في صدور الناس غير ما قيل؟ أي إطلالة من إطلالات الجرح سوف تختار ان تقف عندها وتكتب: أي صفحة حزن ستعيد قراءتها علينا، أي دفقة دم ستلاحق انبثاقها وتبعث حرارتها في وجوه ذاكرتنا، أي طفل يتيم ستهدهد وتُسمعنا بكائه الدامي، أي قصف مبكر لعمر شاب في عمر الريحان ستتحسر عليه معنا، او أي إنطفاء في قلب مراهقة تشع روحها كالنجم تصحبنا الكاتبة إلى إنكسار احلامها؟
الرتابة التي طُبعت عليها "المحلة"، حارة الساردة، في بغداد هي صناعة الناس العاديين بإنشغالاتهم البسيطة، بصباحاتهم المشمسة وذهاب الآباء إلى اعمالهم، بإنفتاح نوافذ بيوت الجيران على اتساعها والضحكات المتبادلة للجارات ترصع زمن الناس بالفرح العادي العابر، بذهاب الاولاد والبنات إلى المدارس، بجلسات كبار السن عند مدخل دكان "ابو نبيل"، بأناقة عمو شوكت وحبور زوجته باجي نادرة الاكراد التركمان، بملاطفة عمو شوكت نفسه لبنات وابناء المحلة الصغار عبر ترك عضة خفيفة على اياديهم عند الرسغ لترسم عليها شكل ساعة وهم يضحكون، برسائل وعيون ونظرات عشق المراهقين المتبادلة بين نادية واحمد، والساردة وفاروق، بالإحتفال العفوي الشغوف بعيد الميلاد في بيت "ام ريتا" وفرح الاطفال السنوي بالحلوى التي تغرقهم في البيت الواسع، بهذا وغيره كثير تواصل الرتابة المحببة ترتيب حيوات المنتسبين لها في "المحلة" كما في اي مكان آخر في العالم الغريب.
لا نكتشف روعة هذه الرتابة وعبقرية جمالها وعمق روحها الصافية إلا عندما تضربها الحرب ونخسرها. تصبح الرتابة والماضي الي حضنها الفردوس المفقود والمُشتهي والمبكي عليه. ما يضيف على "محلة" شهد الرواي جمالاً من نوع مميز هو كونها مرسومة بريشة الساردة ونادية، وشلة من البنات والاولاد في عمرهن، فبدت طفولية الملامح، صريحة واحلامها بيضاء. الساردة ونادية صديقتان منذ الوعي الاول الذي تفتق للمفارقة في "الملجأ الكوكنكريتي" خلال حرب الخليج الثانية عام 1991. أيام الملجأ تلك وعلى الخوف الرابض في دقائقها والموت المحيط بها صهرت علاقة البنتين وصارتا كأنهما روح واحدة.
نادية تحلم كثيراً وتحلم احلاماً جميلة. أما الساردة فلا تحلم، لكنها تدخل في احلام نادية وتصير جزءاً منها. تنقضي السنين وتمضي بالبنات إلى مرحلة الثانوية ومعها كانت الحرب التي تحولت إلى سنوات حصار طويل بعثرت إخضرار "المحلة" وفرضت عليه يباساً ظل يمتد بالتدريج إلى ان وصل بيوت الناس وأرواحهم، وحول حياتهم إلى ضنك وخذلان وحيرة، والاكثر الماً من ذلك كله إلى هجرة متواصلة. الساردة ونادية تواصلان الحياة رغم إنتشار اليباب في "المحلة" وهجرة العائلات المتواصلة، وهرم عمو شوكت الذي تركته زوجته وغادرت إلى الشمال. رفض عمو شوكت مرافقة زوجته واصر على البقاء في "المحلة" رغم تقاعده وإحساسه المريع بالفراغ، تفرغ لرعاية البيوت المقفلة وذكرياتها الحلوة، وهي التي هاجر اصحابها الى الخارج هربا من الحصار وكانت اعدادها تزداد كل يوم. بدا عليه الهرم سريعا كما هرمت بسرعة روح "المحلة" وطالت لحيته وسكوته، واستحق وصف "حارس مقبرة الذكريات".
تعشق الساردة ونادية وبيداء ومروة وكل البنات اغاني كاظم الساهر وحاتم العراقي ومهند محسن وهيثم يوسف ورائد جورج. يذهبن إلى نفس المدرسة، تمشين ذات الشوارع، وتتقابل الساردة ونادية مع فاروق واحمد في حديقة ساعة بغداد. هناك، ورغم الحصار، كانت اشجار الحديقة تميل لتخبأ وتحضن العشاق اليافعين وتكتب اسرارهم. هناك وفي ظل الساعة التي عشقنها البنات تخلدت اشياء كثيرة وكانت عقاربها تشير إلى زمن غامض. هناك ايضاً ظلت وانزرعت اجزاء من قلوبهم جمعيا، وهناك مُهر وعد العشاق لبعضهم البعض بالبقاء معاً إلى الأبد. الساعة المحبوبة صاحبة الوقت الواحد شهدت خجل القبلات اليتيمة، السريعة زالمُختلسة، احمرار الخدود الصغيرة، وخفقان القلوب وتماسها مع السحاب في لحظة الخوف والرغبة والإنخلاع من الحصار. الساعة الحنونة ظلت تنتصب على برج عال ولها اربعة وجوه يمكن لأي كان ان يرى الوقت حيث كان، وفي نفس الوقت لا تبوح بالأسرار.
حياة هؤلاء البنات جزيرة منفصلة عن الحصار ودمويته وقتله البطيء للبشر، فيها قوة سرمدية اسمها الحب تُبقي هذه القلوب مُتفتحة، لكن قرارات اهاليهن المُتتابعة بالهجرة تسقط كالنيازك الحارقة في قلب جزيرتهن الوادعة. واحدة تلو الاخرى تهاجر البنات مع اهاليهن، كما هاجر مئات الوف العراقيين. قبل التشظي الأخير وتفرق الساردة ونادية وبيداء يقررن حفظ "المحلة" وماضيها وذكرياتها واسماء سكانها والوان شوارعها واشكال بيوتها وكل ما له علاقة بها ويكتبنه في سجل خاص، اطلقن عليه عنوانا محببا لقلوبهن: "ساعة بغداد – سجل المحلة". كل منهن كتبت فيه كل ما تعرفه من اشياء جميلة وغير جميلة، من عادي الحياة في "المحلة"، وجمالها ويومياتها، حتى تفاصيل وتاريخ الكلب برياد الذي صار لصيقا بعمو شوكت. لكن "المحلة" لم يكن اهلها ملائكة، وهذا ما اقرته البنات وقررن ايضاً تسجيله: فهيفاء التي تزوجها اسامة عن حب صبرت على تحوله الكبير بعد سنوات من الزواج وانجابين، حين صار يعود إلى البيت سكراناً ويشرع في تحطيم الاثاث. اسامة العاقل المجتهد في عمله فقد كل شيء تدريجياً مع توغل الحصار، وشارف الجنون، واهمل زوجته وابناءه. هيفاء تركته وثارت على حياتها والقت بنفسها في حضن شاب وسيم ظهر في حياتها وعشقها. في "المحلة" كان هناك ايضا حسام الذي كشف ان شقيقته المراهقة ميادة عشقت من اراد خطبتها، فقتلها وهرب إلى الاردن (لكنه عاد بعد سقوط بغداد ودخول الامريكان وقد استطالت لحيته، ووضع يده على البيوت التي هاجر منها اصحابها). بعد سقوط بغداد صارت مروة صديقتهن اللصيقة تعمل مترجمة للجيش الامريكي. "المحلة" فيها كل شيء، لأن فيها بشر عاديون، لكنها كانت الفردوس الرتيب، الماضي المُرتب، الذي لم تُكتشف روعته إلا عندما حل المستقبل الثقيل بسواده.
كلما توغل نص الرواية إلى الامام، نحو مستقبل قاتم سوف يلد حرب 2003 الطاحنة والمدمرة للعراق، صار الماضي حيث كانت "المحلة" ورتابتها وما قد يبدو من ملل على حوادثها وحياتها الصغيرة كأنه المستقبل المشرق غير المنتظر. منذ ان ولدت الساردة خلال الحرب مع ايران وحتى الآن ومستقبل العراق يتوغل في الجرح. في الواقع لم يكن ذلك مستقبل اساساً، كما تقول شهد الرواي، بل ماض يندفع إلى الأمام يلتهم المستقبل ويمضغه ويلفظه ولا يترك فيه فسحة لأمل. لكن الماضي الذي يصير حاضرا ومستقبلا هو ماض الملجأ والحصار والحروب، ما يتركه الماضي خلفه هو ذكرياتنا اللذيذة والحلوة، كأنه يتخفف منها ولا يأتي ليحتل المستقبل سوى في الوجه البشع منه. في التلاعب بالزمن بين ماض وحاضر ومستقبل تقود الكاتبة النص إلى ذروة مُدهشة تبدد أي احساس اولي خادع بقصة "الرتابة". القسم الثاني من الرواية حمل عنوان "المستقبل" وهو اقصر بكثير من القسم الاول الذي جاء بعنوان "طفولة الاشياء الواضحة"، و"المستقبل" قصير وهامشي مقارنة بالماضي المستمر والطاغي، وجاء هذا المستقبل على شكل اضافات في "سجل المحلة" سجلته بيداء، وفيه ومن خلاله ابدعت شهد الرواي في إسالة الزمن ومحو الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل ... ما وقع وما ظل حبيس الغيب. تصاعدت الرواية من بطء الحياة الرتيبة إلى ذروة مستقبل لم يكن سوى الماضي الذي صار ضاجا بالتشظي والوجع والشتات. صارت "ساعة بغداد" ذات الوقت الواحد لها تدق بأوقات وازمان عديدة، يراها المختلفون من زوايا مختلفة ويروا الزمن فيها مختلفا. بغداد بعد الحرب صارت بغدادات وساعتها صارت ساعات، وناسها صاروا لا يعرفون بعضهم البعض: منهم من صار زمنه التاريخ فدخله وعاد منه مُعمماً بهذا التفسير أو ذاك، مُمتطياً قنبلة او دبابة او مسدساً ليقضي على الأزمنة الاخرى، ومنهم من صار زمنه الهجرة فولج فيها وما عاد، ومنهم من توقف زمنه عند "المحلة" بجمالها وتعددها المُنقضي، ومنهم من انشطر بين الأزمنة. بغداد المكان و"المحلة" المكان و"ساعة بغداد" المكان كلها ما تزال في مكانها، زمنها وأزمنتها هي التي سالت فاختلط الماضي بالحاضر واندلقا على المستقبل يريدان خنقه.



#خالد_الحروب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -الكاوتشوك الفلسطيني- ... وضوح الرؤية وسط الدخان
- إبراهيم نصر الله ونص الدم: -الحرب هي قلم التاريخ-
- “المثقفَ القلِق- ضد ”مثقف اليقين”
- الليبراليون العرب وإسرائيل: الرخاوة ودمارها
- إبراهيم ابو ثريا ... ساقان من كبرياء!
- بريطانيا الاستعمارية وتخصيب بذرة -أوسلو الإنتدابية-
- بريطانيا الاستعمارية: تدمير الكيانية الفلسطينة لصالح الصهيون ...
- إذلال العرب: كلما -اعتدلنا- إزادوا تطرفاً
- ميثاق حماس الجديد: “الفلسطنة” على حساب “الاسلمة”
- الحاجة كريستينا ... وحرب -العم- بلفور
- الوزير اليهودي المُنصف الذي عارض وعد بلفور
- -وعد بلفور- وإسرائيل: العنصرية الاوروبية والعداء لليهود
- -وعد بلفور- لم يكن وعدا عابرا، بل استراتيجية بريطانية
- -زمن القيعان المتلاحقة- ... أين القاع الحقيقي؟
- البرلمان الاردني والعرب وقوانين اسرائيل العنصرية
- إنتفاضة القدس: درس المقاومة الشعبية والتدين الوطني
- فرويد وميثولوجيا الحرب والتلذذ بالدمار (٢ من ٢)
- فرويد وميثولوجيا الحرب والتلذذ بالدمار (١ من ٢)
- الحريات العامة و-الحيز العام-، غربيا وعربيا (2 من ٢)
- الحريات العامة و-الحيز العام-، غربيا وعربيا (١ من  ...


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد الحروب - ساعة بغداد: شهد الراوي تُسيل الزمن فليتهمُ ماضي البلد مستقبلَها