أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كاظم حبيب - حوار بين كاتبين حول فكر وأبحاث علي الوردي وفالح عبد الجبار















المزيد.....


حوار بين كاتبين حول فكر وأبحاث علي الوردي وفالح عبد الجبار


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 5816 - 2018 / 3 / 15 - 21:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


قرأت بعناية واهتمام المقال القيم الذي كتبه الدكتور حميد الكفائي، حيث بذل جهداً متميزا في إبراز الأعمال الفكرية المميزة للفقيد الدكتور فالح عبد الجبار ودوره الثقافي المعمق والعضوي ونشاطه الذي لم يكل حتى اللحظة الأخيرة من عمره، في هذه المرحلة المعقدة والصعبة من حياة ونضال الشعب العراقي، وكان بعنوان: "فالح عبد الجبار: عاش فاعلاً ومات واقفاً1. وقد أعجبت بالمقال حقاً، وعبرت له عن ذلك برسالة شخصية قصيرة. ثم قرأت المقال القيم الذي كتبه الدكتور عبد الخالق حسين بعنوان: "علي الوردي وفالح عبد الجبار: هل فاق التلميذ أستاذه؟"2، سجل فيه إعجابه بكتابات ونشاط فالح عبد الجبار الفكرية وانخراطه في الحياة السياسية العراقية وتحولاته الفكرية المهمة والمعبرة عن تطور وعيه وتقدمه. وينقل لنا الدكتور عبد الخالق حسين في مقاله المذكور في أعلاه حواراً شيقاً ومهماً جرى بينه وبين الدكتور حميد الكفائي تضمنت مقارنة مهمة بين الأستاذ الدكتور علي الوردي (1913 – 1995م)، والدكتور فالح عبد الجبار (1946-2018م). أحاول هنا أن أبدي رأيي المتواضع بالمفكرين الكبيرين اللذين برزا في مرحلتين وفترتين زمنيتين مختلفتين نسبياً من تاريخ العراق الحديث، لعب كل منهما دوره المميز في الحياة الاجتماعية وفي البحث العلمي الاجتماعي، والأخير في الحياة السياسية العراقية أيضاً. كما إن علينا أن نشير إلى باحثين اجتماعيين أخرين بروزا في ذات الفترتين، منهم على سبيل المثال لا الحصر الباحث الاجتماعي والأكاديمي الدكتور شاكر مصطفى سليم، والباحث الاجتماعي والأكاديمي المميز في الفترة الحالية واللصيق بهذه المرحلة، الدكتور إبراهيم الحيدري، المعروف بأبحاثه العلمية وكتبه الكثيرة والرصينة التي يفترض أن تجلب انتباه الباحثين في حقول علم الاجتماع، والذي يقترب كثيراً من المدرسة الفكرية لفالح عبد الجبار، كما في أبحاثه ملامح مهمة من مدرسة علي الوردي.
إن دراستي لكتب الأستاذ علي الوردي، وكذلك كتب ودراسات ومقالات فالح عبد الجبار، اقنعتني شخصياً بإن الفارق بينهما نوعي ومتنوع ومتعدد الجوانب لصالح فالح عبد الجبار، رغم الأهمية الكبيرة والريادية والطليعية للدكتور علي الوردي، في البحث العلمي والنشر والتنوير في العراق في حقل علم الاجتماع على وفق المنهج الوضعي. وأحاول هنا أن أُشيرَ إلى عددٍ من المسائل المفيدة في تشخيص التمايز بين الباحثين:
** ولد علي الوردي قبل الحرب العالمية الأولى بعام واحد، في حين ولد فالح عبد الجبار بعد الحرب العالمية الثانية بعام واحد، وهي فترة زمنية طويلة نسبياً، وشهدت أحداثاً كثيرة ومتباينة من حيث تأثيرها على الفرد والمجتمع العراقي، كما برزت وتبلورت فيها، بعد نضوج كل منهما في دراساته، الكثير من الأبحاث والتقدم في مناهج ونظريات علم الاجتماع.
** هناك تباين كبير بين طبيعة المرحلة والفترة الزمنية التي عالجها وبحث فيها وكتب عنها علي الوردي والتي حملت الكثير من سمات مجتمع الدولة العثمانية وصراع البداوة والحضارة، وتلك التي عالجها وبحث فيها ونشر عنها فالح عبد الجبار، والتي تميزت بمحاولات جادة ولكنها بطيئة ومتعثرة في بناء المجتمع المدني والدولة التي كانت ما تزال خاضعة للهيمنة البريطانية، ثم في أجواء ثورة تموز 1958 وما أعقبها من أحداث وتطورات لاهبة، أي إن التباين النسبي في الزمان وفي الظروف السياسة والاجتماعية والاقتصادية التي أحاطت بكل منهما بالعراق كان مهماً وملموساً، بما في ذلك التغير النسبي الملموس في بنية المجتمع العراقي الطبقية ووعيه الاجتماعي.
** وإذا كان علي الوردي بعيداً عن النشاط السياسي الحزبي أو المباشر، فقد كانت له خلفية سياسة واضحة ومواقف سياسية مهمة، في حين كان فالح عبد الجبار جل حياته يعيش في خضم الحياة السياسية والحزبية اليومية وفاعلاً فعلياً فيها، من خلال ممارسته الصحافة التي برع في تحليلها أيضاً، إضافة إلى قدراته البحثية العلمية. وبصدد الخلفية السياسية للأستاذ علي الوردي أشير هنا إلى ما ورد له في كتابه وعاظ السلاطين بصدد الانتخابات البرلمانية بالعراق عام 1954 ودخول القوى الديمقراطية والقومية في جبهة سياسية مشتركة في تلك الانتخابات، إذ كتب: "لو كنت من أرباب العمائم لأفتيت باعتبار التصويت واجباً دينياً، ولجعلت التقاعس عنه ذنباً لا يغتفر ... إنني أعرض هذا الرأي على رجال الدين، وأتحدّاهم أن يقبلوه أو يحققوه."3، أو في موقفه من الإقطاع، وهو موقف سياسي من نظام الحكم الذي كان مؤيداً للإقطاع والعلاقات الإنتاجية الإقطاعية التي كانت تهيم على الاقتصاد والمجتمع بالعراق في الخمسينيات من القرن الماضي، إذ كتب يقول: "ومن عجيب أن نرى نظام الإقطاع يختفي في العالم الثالث قبل مئات السنين، بينما هو في ظهور وتزايد في العراق الحديث، إذ يكدح آلاف الفلاحين في الأرض كالعبيد، ليأتي بعد ذلك رجل واحد فيأخذ ما أنتجوه بعرق الجبين، ويذهب حيث ينعم بالملذات بدون حساب." 4 وعلينا هنا أن نستعيد بذاكرتنا إلى ما حصل في مظاهرات الفلاحين التي واجهت الشرطة التي جاءت لإخماد المظاهرة بهوستهم الشهيرة التي قارنت بين حياة ومعيشة الإقطاعي كريم، وحياة ومعيشة الفلاح الكادح: "كرَّيم يأكل عنبر وأنا بليه دنان اسمع يا مفوض، كرَّيم يركب كاديلاك وأنا بليه نعال اسمع يا مفوض"! ثم تحدث عن اقتصاد النفط وكيف كانت تنفق إيراداته، وهو الذي كان يستمع إلى هوسات الناس حيث تقول: "خمسة بالمية من النفط ما طاح بدينة..!" كتب الوردي: "يخيل لي –ولعلني مخطئ- أن هذه الأموال التي أنعم الله بها على العراق في الآونة الأخيرة، تجري في أخاديد معينة، وهي في نهاية المطاف تصب في جيوب أفراد معدودين ... الخ."5
وحين نتتبع دراسات فالح عبد الجبار وكتبه سنجد ما يؤكد شجبه الصريح والواضح للنظام السياسي القائم حينذاك، ودعوته الشديدة للديمقراطية باعتبارها الأفضل والأنسب للعراق. وكان صريحاً وواضحاً في نقده للنظم السياسية التي حكمت العراق طيلة وجوده على قيد الحياة، وسواء أكان في صفوف الحزب الشيوعي العراقي أم قريباً منه ومحسوباً عليه. لقد كان فالح عميق الفهم للعلاقة الجدلية بين السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية للفرد العراقي وللمجتمع، وهو ما تجلى في جميع كتاباته.
** وأود هنا الإشارة إلى ثلاث مسائل جوهرية في حقل البحث في علم الاجتماع لدى الباحثين الكبيرين: علي الوردي وفالح عبد الجبار:
المسألة الأولى: التباين في المنهج الذي استخدمه كل منهما في دراساته الاجتماعية
التزم الدكتور علي الوردي في دراساته للمجتمع العراقي بالمنهج الوضعي في علم الاجتماع. واعتمد في ذلك على مزيج من أفكار ومناهج أبرز أربعة علماء في حقول علم الاجتماع، ابتداءً من القرن الرابع عشر للميلاد حتى الربع الأول من القرن العشرين، وهم 1) عبد الرحمن بن محمد أبن خلدون (1332 – 1406م) المغربي في كتابه الأهم "المقدمة ومدرسته في التاريخ والاجتماع الذي صدر في العام 1377م، و2) وعالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت (1798-1857م)، و3) وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858-1917م)، و4) وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864- 1920م)، مع واقع وجود تمايز بين هؤلاء الأربعة، ولاسيما لدى ماكس فيبر، الذي استفاد مما حصل من تقدم في هذا المجال، ولاسيما في أبحاث أستاذه الألماني أدموند هرسل (1859 – 1938م)، وفيه تأكيد لدور علم النفس في البحوث الاجتماعية. وتجلى ذلك في أبحاث ماكس فيبر وتطوير نظريته الوضعية الفينومينولوجيا. وقد أبدى اهتماماً كبيراً في دراسته للمجتمع، كما برز عند الأخرين من ذات المدرسة، في تحييد الدين والفكر اللاهوتي عن التأثير في دراساته العلمية ومحاولة الاستفادة من الأسس العلمية التي حاول العلماء قبله وضعها، والتي استهدفت التخلص من فكرة القوى الخارقة وإحلال فكرة القوانين الموضوعية الفاعلة في الطبيعة، وتلك التي تفعل في المجتمع.6 أي أن هؤلاء الأربعة اعتمدوا في دراساتهم على متابعة الظواهر الاجتماعية ودراستها بدلاً من الوقوع في حبائل الغيبيات، وبتعبير أدق، فصل الدين عن البحث العلمي، (الدين شيء والعلم شيء آخر)، أي البحث في الظواهر التي تبرز في حياة الإنسان والمجتمع، وتشذيب علم الاجتماع من الخرافات والأساطير. وهو ما سعى إليه علي الوردي أيضاً في فترة معقدة حيث كانت تنتشر مثل هذه الخرافات والأساطير، وما تزال. وإذا كان ماكس فيبر قد أبدى اهتماماً خاصاً بالجانبين الاقتصادي والديني، فأن الآخرين كانوا أقل اهتماماً بهذا الموضوع، والذي انعكس إلى حد ما على دراسات الدكتور علي الوردي. كما إن المنهج الوضعي أبعد كلية الصراع الطبقي عن المجتمع وقلل من أهمية الاقتصاد. وهو ما يمكن تلمسه بشكل واضح في كتابات ماكس فيبر. وقد التزم الدكتور علي الوردي بهذا المنهج، ولم يقدم شيئاً إضافياً لتطوير المنهج الوضعي لعلم الاجتماع، ولكنه أغنى علم الاجتماع بأبحاثه الميدانية والنقدية ودراساته العلمية عن المجتمع العراقي. ويتجلى ذلك إلى حد ما أو جزئياً بدور المادية التاريخية في كتابات علي الوردي كتابه الأساسي "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، بمجلداته الستة، حيث وظف تاريخ المجتمع العراقي قبل ذاك وبشكل عقلاني لدراسة الواقع الاجتماعي العراقي خلال الفترة الواقعة بين تكوين الدولة العراقية والخمسينيات من القرن العشرين.7 وعلى وفق قناعتي ودراستي لكتاب المقدمة لابن خلدون، ولاسيما الجانب الاقتصادي المهم فيه، لاحظت إن الدكتور علي الوردي لم يستفد من مكونات منهج ابن خلدون ولم يربط بين جوانب بنية الإنتاج الاجتماعي والبناء الفوقي، وهو نقص بارز في الغوص في عمق المشكلات الاجتماعية والعوامل المسببة لها والنتائج أو العواقب المحتملة. لابن خلدون قول مهم جداً لكل الباحثين، أياً كان مجال بحثهم، ورد في المقدمة:
"إنه لا يكفي أن تصف موج البحر، وظهور السفن، حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر.. لا بد لك أن تفهم ما في القاع.. قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش… وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً، يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركاباً.. وينزفون عرقاً، وتتمزق أجسامهم تحت السياط.. أجل، ينبغي أن تعطيني صورة كاملة، عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور". 8
أما الباحث الدكتور فالح عبد الجبار فقد اعتمد منهجاً آخر تماماً، اعتمد المنهج المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي، وأخذ بقواعد البحث العلمي القائمة على "التجريد والتجسيد المتعاقب والتدقيق"، للوصول إلى النتائج والاستنتاجات التي يحققها البحث العلمي وليس اية أحكام مسبقة. لقد تسنى لفالح التعمق في المنهج المادي الديالكتيكي من خلال دراساته المكثفة والمعمقة والمتواصلة لكتاب "رأس المال" وترجمته له، وهي أفضل ترجمة تحققت لهذا السفر الجليل لكارل ماركس حتى الآن، والذي يعتبر أهم دراسة قام بها ماركس مستخدما فيها منهجه العلمي في دراسة المجتمع الرأسمالي، إضافة إلى كتاب "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، الذي طرح فيه بوضوح منهجه في البحث. وقد احتل الاقتصاد والصراع الطبقي والتغريب موقعاً أساسياً في هذا التحليل، ولكن ليس الاقتصاد وحده، كما يدعي المروجون المناهضون للتحليل المادي الديالكتيكي، من جهة، ولا الصراع الطبقي وحده، الذي يتجلى ايضاً في التغريب الفعلي بين العامل والجزء المهم مما ينتجه، أي فائض القيمة، كما يروج هؤلاء أيضاً من جهة ثانية، بل هما الحقلان اللذان يؤثران بشكل أساسي ورئيسي على بنية المجتمع وتطوره، إضافة إلى عوامل عديدة أخرى لا يمكن ولا يجوز إغفالها. يؤكد المنهج المادي الديالكتيكي على إن الوعي الاجتماعي انعكاس للواقع المادي، وليس العكس. وهذه المقولة هي التي لعبت وما تزال تلعب دورها الجوهري في التمايز ما بين المثالية والمادية. المنهج المادي الديالكتيكية ينطلق في دراسته للمجتمع من العلاقات الإنتاجية السائدة ومستوى تطور القوى المنتجة والعلاقة بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وما ينشأ عنها من بناء فوقي يشكل الظواهر الاجتماعية المنبثقة عن أسلوب الإنتاج السائد في المجتمع، وما يمكن أن ينشأ عن ذلك من استغلال، سواء أكان في ظل العلاقات الإنتاجية الإقطاعية أم في ظل العلاقات الإنتاجية الرأسمالية. وعلم الاجتماع المادي الديالكتيكي لا يتوقف عند دراسة هذه العلاقات والظواهر الناشئة عنها فحسب، بل يتحرى عن التناقضات والصراعات الناشئة عنها وما الدور الذي تلعبه في التحولات النوعية اللاحقة. يلخص ماركس منهجه على النحو التالي:
"إن العمل الذي قمت به لتبديد الشكوك التي كانت تراودني هو العرض الانتقادي لفلسفة الحق لهيجل.. وأدى بحثي هذا إلى إن العلاقات القانونية والأشكال السياسية لا يمكن فهمها من ذاتها ولاسيما بالتطور العام للعقل البشري، وإنما على الأصح لها جذورها في الظروف المادية للحياة.. والنتيجة العامة التي توصلت إليها.. يمكن صياغتها باختصار كما يلي: يدخل الناس خلال قيامهم بعملية الإنتاج الاجتماعي في علاقات محددة لا يمكن الاستغناء عنها ومستقلة عن إرادتهم. وعلاقات الإنتاج هذه تتوافق مع المرحلة المحددة لتطور القوى المادية المنتجة يشكل المجموع الكلي لعلاقات الإنتاج هذه البنية الاقتصادية للمجتمع، وهو الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه البنية الفوقية السياسية والقانونية والتي تتوافق معها أشكال محددة للوعي الاجتماعي. إن أسلوب إنتاج الحياة المادية هو الذي يحدد عمليات الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بشكل عام. فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، وإنما العكس من ذلك فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم."9
إن الدراسات الأساسية والمهمة التي كتبها ونشرها فالح عبد الجبار، بغض النظر عن مدى توفيقه في التحليل لهذه المسألة السياسية أو تلك، استند إلى المنهج المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي، وكان في الغالب الأعم موفقاً ومتقدما على اقرانه في العلوم الاجتماعية وفي الكثير من تحليلاته السياسية.
المسألة الثانية: العلاقة بين النظرية والممارسة لدى كلٍ من الباحثين
يبدو لي بأن الباحثين الوردي وعبد الجبار كانا متحررين من الدوغماتية والجمود العقائدي في ممارستهما لمنهجيهما، وكانا منفتحين على المناهج الأخرى، والنظريات في هذا الصدد، دون أن يعيق ذلك أو يؤثر سلباً على ابحاثهما العلمية في قضايا المجتمع. فكلاهما نهلا بمسؤولية وعمق من المناهج والنظريات التي التزما بها وابدعا فيها، ولكنهما لم يساهما في إغناء وتطوير تلك النظريات أو مناهج البحث العلمي الاجتماعي، ولكنهما أغنيا البحث العلمي الاجتماعي التطبيقي بما أنجزاه من أبحاث ودراسات اجتماعية. وبالنسبة لفالح عبد الجبار فقد ساهم بفعالية وحيوية كبيرتين في المجالات السياسية والاقتصادية أيضاً. كتبت الدكتورة ناهدة عبد الكريم حافظ في بحث لها عن "فكر الوردي في طبيعة المجتمع العراقي" بهذا الصدد ما يلي: "لقد كان فكر د. الوردي فكراً انتقادياً لكنه لم يحفل بتقديم بدائل أو مقترحان يمكن الاستفادة منها في حياتنا اليومية." 10، وهي على حق في ذلك، في حين كان فالح ناقداً ثورياً للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي من جهة، وطارحاً لبدائل في مختلف المجالات التي بحث فيها، أي طرح موقفه ووجهة نظره بشأنها من جهة ثانية. كتب ماركس في الموضوعة 6 عن فيورباخ ما يلي: "كل ما قام به الفلاسفة في السابق هو تفسير العالم بطرق مختلفة، بيد أن المطلوب هو تغييره".11
وإذ كان الباحثان قد أقاما علاقات وطيدة بالأوساط الشعبية وأوساط المثقفين، فأن علاقات فالح كانت أوسع وأكثر عمقاً بكثير، سواء أكان في الحياة السياسية العراقية والعربية أم في بعض دول منطقة الشرق الأوسط، أم مع الأحزاب والشخصيات السياسية والاجتماعية العراقية والعربية وخارج إطار العالم العربي أيضاً. وقد ساعد ذلك على توسيع مدارك وأفق نظر ونشاط الدكتور فالح عبد الجبار بالمقارنة مع الدكتور علي الوردي، الذي حصر أبحاثه بالعراق فقط.
لقد كان علي الوردي يؤمن بالصدمة التي يفترض أن يجابه بها المجتمع، ولاسيما الأوساط المثقفة، أن يستفزهم ويثيرهم، أن يدفع بهم للتفكير والبحث، وكانت هذه مسألة مهمة حقاً وصعبة أيضاً في الخمسينيات من القرن العشرين، رغم ما تحمله معها من مشاكسات مع أقرانه ومع أوساط معينة في المجتمع، ولاسيما شيوخ الدين. كتب الدكتور سليم الوردي في محاضرة له عن أطروحات علي الوردي بهذا الصدد ما يلي: " أدرك الوردي أن أطروحاته لا تتمكن من شق طريقها في فضاء معرفي يعجّ بالمسلّمات والمحرّمات والثوابت المألوفة. فتعمّد أسلوب الصدمة في محاولة منه تحرير الوعي الاجتماعي من أسر تلك المسلّمات. وكلّفه ذلك تحمّل سهام النقد الحاد من كل صوب وحدب."12 ويمكن أن يلاحظ ذلك في كتبه العديدة ولاسيما لمحات اجتماعية ووعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري وأسطورة الأدب الرفيع وشخصية الفرد العراقي.
ويبدو لي أيضاً إن الدكتور علي الوردي لم يعمل بما يتطلبه منهج ابن خلدون من مقارنات للبرهنة على الاستنتاجات التي كان يخلص إليها، بل اقتصر على مجتمع واحد هو العراق والمقارنة مع النموذج المثالي للفرد والمجتمع الذي مارسه واضعو المنهج الوضعي. تشير الباحثة العلمية السعودية الدكتورة زهرة الخضاب بصواب بصدد منهج أبن خلدون إلى ما يلي:
"1- ملاحظة ظواهر الاجتماع لدى الشعوب التي أتيح له الاحتكاك بها والحياة بين أهلها. 2- تعقب هذه الظواهر في تاريخ الشعوب نفسها في العصور السابقة لعصره. 3- تعقب أشباهها في تاريخ شعوب أخرى لم يتم الاحتكاك بها والحياة بين أهلها. 4- الموازنة بين هذه الظواهر جميعا. 5- التأمل في مختلف الظواهر للوقوف على طبائعها وعناصرها الذاتية وصفاتها العرضية واستخلاص قانون تخضع له هذه الظواهر في الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع."13 وهذا ما يؤكد الفكرة الأساسية التي أشار لها ابن خلدون حول البحر وما فيه مثلاً. أما أبحاث علي الوردي فقد اقتصرت على العراق ولم يتوسع في بحث الجوانب الاجتماعية للدول المجاورة، بما يسهم في تأكيد استنتاجاته، كما لم يحاول رؤية الأمر على إنه ليس صراعا بين البداوة والحضارة فحسب، بل أن هناك صراعاً جوهرياً، لم يَعره كثير اهتمام أو انتباه، ولاسيما الصراع الاجتماعي المرتبط بواقع العراق الاقتصادي-الاجتماعي حينذاك، أي بطبيعة علاقات الإنتاج التي سادت العراق أثناء حياة وعمل د. علي الوردي، رغم إنه أشار بشكل سريع إلى استغلال الإقطاعيين للفلاحين بالعراق.
المسألة الثالثة: سعة أو محدودية المواضيع التي كانت موضع اهتمام الباحثين.
اشرت في النقطة الثانية إلى إن الوردي قد اقتصر في أبحاثه وموضوعاته على الفرد والمجتمع بالعراق، وهي موضوعات كبيرة ومهمة وأساسية بالنسبة لحياة الشعب العراقي ولأي باحث في علم الاجتماع. وهذا التخصص والتركيز على العراق لا يعتبر نقيصة بالنسبة للباحث الرائد والكبير علي الوردي، ولكنه يختلف في هذا عن الباحث الاجتماعي الحديث والماركسي المتميز فالح عبد الجبار، الذي اتسع وتنوع في أبحاثه لتشمل العراق والدول المجاورة، إيران وتركيا، والدول العربية وكذلك البلدان النامية، كما امتدت لتشمل الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالقاعدة الاقتصادية الإنتاجية للمجتمع وبالبناء الفوقي الناشئة عنها في آن واحد. فالعلاقات الإنتاجية والقوى المنتجة، المادية منها والبشرية، في ظل العلاقات الإنتاجية الإقطاعية، ومن ثم في فترة تطور العلاقات الإنتاجية الرأسمالية المحدود بالعراق والتغريب الناشئ عن هذ العلاقات في واقع الاستغلال ومصادرة فائض القيمة في قطاع النفط الاستخراجي وفي غيره، كما شملت قضايا السياسة والدين والفكر الديني والتشريع والدولة المستبدة وأجهزتها الإدارية والقمعية، وما يتمخض عن كل ذلك من عنف الدولة والعنف المضاد والمشكلات النفسية وازدواج الشخصية في المجتمع، مما يشير إلى بانوراما بحثية في المجتمع العراقي والبلدان المجاورة، وإلى تشريح تلك المجتمعات ليلتقط منه ويشخص طبيعة العلاقات والظواهر الناشئة عنها والعلاقة فيما بينها.
من الملاحظ إن اهتمام الكتاب وأوساط المثقفين وأوساطاً أخرى قد ازداد بأبحاث وكتب علي الوردي بعد وفاته، والآن نلاحظ هذه الظاهرة مع الدكتور فالح عبد الجبار بعد وفاته حيث يزداد الإقبال على كتاباته وكتبه أكثر بكثير على ما كان عليه حين كان حياً، وسيزداد هذا الاهتمام أضعاف ما كان عليه في حياة أبي خالد بعد أن انتهى بتلك اللوحة الدرامية الخالدة، وهو يتحدث لنا ومعنا من على شاشة التلفزة، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة. كم أتمنى علينا جميعاً أن نبدي اهتماماً أكبر بباحثاتنا وباحثينا الإجلاء وهم أحياء قبل أن يلفظوا انفاسهم الأخيرة، لكي نناقش أفكارهم وابحاثهم، ولكي ندفع بهم إلى المزيد من البحث والإبداع في مختلف المجالات. وأنا هنا لا أتحدث عن الحكومات، على امتداد تاريخ العراق الحديث، التي لم تبد يوماً أي اهتمام بالكتاب والكاتبات والبحث العلمي والباحثين والباحثات في جميع الاختصاصات، بل أركز على الكتاب والباحثين والمثقفين من النساء والرجال أولاً وقبل كل شيء.
برلين في 12/03/2018
الهوامش
1 د. حميد الكفائي، فالح عبد الجبار: عاش فاعلاً ومات واقفاً، جريدة الحياة بتاريخ 4/03/2018.
2 د. عبد الخالق حسين، علي الوردي وفالح عبد الجبار: هل فاق التلميذ أستاذه؟، الحوار المتمدن، محور الفلسفة، علم النفس وعلم الاجتماع، في 8 أذار/مارس 2018.
3 د. علي الوردي، "وعّاظ السلاطين"، الطبعة الثانية، سنة 1995 دار كوفان لندن، صفحة 108.
4 د. سليم الوردي، الاستاذ الدكتور سليم الوردى: كيف نقرأ على الوردى؟، مركز علي الوردي للدراسات والبحوث. 13 تموز/ يوليو 2010.
5 المصدر السابق نفسه.
6 د. إبراهيم بايزو، مدخل موجز إلى علم الاجتماع (3): الاتجاهات الكلاسيكية في علم الاجتماع ـ موقع أنفاس.نت من أجل الثقافة والإنسان، 17 أذار/مارس 2014.
7 كان الفقيد مهدي الحافظ قد حدثني في أحد لقاءاتنا عن الدكتور علي الوردي وزيارته لهفي المستشفى حين كان مريضاً وحين كان مهدي الحافظ يعمل في اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي، أه أشار له بأنه استفاد من الماركسية ومن المنهج المادي التاريخي في دراساته. كاظم حبيب
8 عبد الرحمن بن محمد أبن خلدون، المقدمة، أو كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، الصادر ف 1377 م. تحقيق مصطفى الشيخ مصطفى، مؤسسة الرسالة، دمشق، بدون تاريخ.
9 د. أحمد القصير، منهجية علم الاجتماعي بين الماركسية والوظيفية والبنيوية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012. يستكمل ماركس ما توصل إليه بحثه بقول: " وعندما تبلغ القوى المنتجة المادية في المجتمع درجة معينة من تطورها، تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة أو مع علاقات الملكية – وليست هذه سوى التعبير القانوني لتلك – التي كانت إلى ذلك الحين تتطور ضمنها، فبعد أن كانت هذه العلاقات أشكالاً لتطور القوى المنتجة، تصبح قيوداً لهذه القوى، وعندئذ ينفتح عهد الثورة الاجتماعية، ومع تغير الأساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الأعلى الهائل بهذا الحد أو ذلك من السرعة."
10 د. ناهدة عبد الكريم حافظ، فكر الوردي في طبيعة المجتمع العراقي، ضمن أبحاث عن "الملامح المستقبلة للمجتمع العراقي، كلية الآداب-جامعة بغداد، منشورات المجمع العلمي العراقي، مطبعة المجمع العلمي، بغداد، 2002، ص 59.
11 كارل ماركس، أطروحات حول فيورباخ، كتبها ماركس في العام 1845 ونشرت لأول مرة في العام 1888 في ملحق خاص لكتاب فريدريك أنجلز الموسوم "لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية".
12 د. سليم الوردي، الاستاذ الدكتور سليم الوردى: كيف نقراء على الوردى؟ جريدة المدى، مجتمع مدني، 28 أيار/ميس 2008. 13 د. زهرة الخضاب، منهج أبن خلدون في دراسة التاريخ. المنتدى العربي للعلوم الاجتماعية والإنسانية، علم الاجتماع- العلوم الاجتماعية- دراسات علم الاجتماع، 16/شباط/فبراير 2010.



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظرات في كتاب -مسيحيو العراق.. أصالة.. انتماء.. مواطنة- للدك ...
- كيف يساهم الإعلام في خلق وتأليه المستبدين؟
- المرأة العراقية والذكورية الجاحدة! في الذكر السنوية ليوم الم ...
- تزايد قلق الديمقراطيين من اليمين واليمين المتطرف في أوروبا!
- احتفالية تكريمية في منتدى بغداد للثقافة والفنون ببرلين
- فالح عبد الجبار، الإنسان الطيب والمناضل الشجاع والعالم الرصي ...
- الأسس المادية لظواهر لاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز في ا ...
- الأسس المادية لظواهر لاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز في ا ...
- هل ستكون الانتخابات القادمة نزيهة في ظل نظام طائفي فاسد؟
- الأسس المادية لظواهر لاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز في ا ...
- الأسس المادية لظواهر لاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز في ا ...
- أينما تمتد الأصابع الإيرانية تشتعل نيران الكراهية ويرتفع دخا ...
- المأساة والمهزلة في عراق اليوم! [العراق بين جحيمي الهيمنة ال ...
- عن أي وحدة يتحدث رئيس الوزراء العراقي؟
- قراءة حزينة وممتعة في كتاب -مطارد بين ... والحدود- للكاتب يح ...
- قراءة حزينة وممتعة في كتاب -مطارد بين ... والحدود- للكاتب يح ...
- قراءة حزينة وممتعة في كتاب -مطارد بين ... والحدود- للكاتب يح ...
- قراءة حزينة وممتعة في كتاب -مطارد بين ... والحدود- (3-5) مطا ...
- قراءة حزينة وممتعة في كتاب -مطارد بين ... والحدود- للكاتب يح ...
- قراءة حزينة وممتعة في كتاب -مطارد بين ... والحدود- للكاتب وا ...


المزيد.....




- -التعاون الإسلامي- يعلق على فيتو أمريكا و-فشل- مجلس الأمن تج ...
- خريطة لموقع مدينة أصفهان الإيرانية بعد الهجوم الإسرائيلي
- باكستان تنتقد قرار مجلس الأمن الدولي حول فلسطين والفيتو الأم ...
- السفارة الروسية تصدر بيانا حول الوضع في إيران
- إيران تتعرض لهجوم بالمسّيرات يُرَجح أن إسرائيل نفذته ردًا عل ...
- أضواء الشفق القطبي تتلألأ في سماء بركان آيسلندا الثائر
- وزراء خارجية مجموعة الـ 7 يناقشون الضربة الإسرائيلية على إير ...
- -خطر وبائي-.. اكتشاف سلالة متحورة من جدري القرود
- مدفيديف لا يستبعد أن يكون الغرب قد قرر -تحييد- زيلينسكي
- -دولاراتنا تفجر دولاراتنا الأخرى-.. ماسك يعلق بسخرية على اله ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كاظم حبيب - حوار بين كاتبين حول فكر وأبحاث علي الوردي وفالح عبد الجبار