أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم طلبه سلكها - مشكلة المعرفة فى الفلسفة















المزيد.....



مشكلة المعرفة فى الفلسفة


ابراهيم طلبه سلكها

الحوار المتمدن-العدد: 5667 - 2017 / 10 / 12 - 17:26
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أولا :- مشكلات نظرية المعرفة
المعرفة هى أساس بناء الحضارات وتقدم الشعوب وازدهار الأمم ، بها يستطيع الإنسان أن يبسط سيطرته على الطبيعة ويمد سلطانه على جوانبها كافة ، وبذلك يمكنه أن ينتفع بمواردها المختلفة ويحقق لنفسه السعادة على ظهر الأرض .
وتعد نظرية المعرفة من أبرز المداخل التى يمكن عن طريقها الوقوف على فلسفة أى مفكر كائنا من كان هذا المفكر ، فهى ترتبط بجملة مواقف المذهب الفلسفى الذى تصدر عنه ، وتتضمن الإجابات الحاسمة والنهائية عن كل الأسئلة المتعلقة بمسائل المعرفة كمشكلة فلسفية ، كما أنها تبحث فى مبادئ المعرفة الإنسانية وطبيعتها وقيمتها وحدودها ، وفى الصلة بين الذات المدركة والموضوع المدرك .
ولم تكن نظرية المعرفة فى الفلسفة القديمة مجالا مستقلا بذاته ، بل كانت ممتزجة وداخلة ضمن الإطار العام للفيلسوف فى تلك المرحلة . فعند هيراقلطيس كانت المعرفة مرتبطة بالكوزمولوجيا ونظرياته حول علمى الجمال والأخلاق . وعند سقراط امتزجت بأبحاثه الخلقية ، فقد ربط بين الفضيلة والمعرفة حيث ذهب إلى أن الفضيلة هى ثمرة المعرفة أما الرذيلة فهى نتيجة الجهل ، فالإنسان لا يمكنه أن يعيش سعيدا إلا إذا حقق عمليا القاعدة التى تقول "اعرف نفسك بنفسك" إذ يستطيع عن طريق معرفة نفسه أن يعلم النافع له ويستمد من الحياة ما ينبغى أن تعطيه، فمتى عرف الخير حرص على فعله ، ومتى عرف الشر حرص على تجنبه ، وقد رد سقراط المعرفة والأخلاق إلى العقل وكانت طريقته فى المعرفة هى الجدل الذى يولد الحقيقة.
وعند أفلاطون لا يمكن فصل نظرية المعرفة عن نظريته العامة فى الوجود . فهو يميز بين العالم المحسوس والعالم المعقول، ومعرفة الأول هى معرفة ظنية ، أما معرفة الثانى فهى معرفة يقينية ، كما أن أفلاطون قد قرن أبحاثه التى تتعلق بالمعرفة بالجدل صاعدا ونازلا .
أما أرسطو فقد ارتبطت المعرفة عنده بأبحاثه فيما وراء الطبيعة فليست حدود عنده فاصلة بين المعرفة كنظرية وما يرتبط بالميتافيزيقا من مشكلات وقضايا وما يتصل بالأبحاث المنطقة الخالصة .
أما الفلسفة الحديثة فقد اتخذت من مبحث المعرفة أو الأبستمولوجيا منطلقا لها ، حيث تحرر الفلاسفة المحدثون من ضيق أفق ثقافة العصور الوسطى وحاولوا معرفة قدرات الإنسان الهائلة وإمكاناته فى مجال دراسة الطبيعة .
وعلى أية حال فقد اتسمت المرحلة الحديثة بنظرة عقلية تختلف فى جوانب عديدة عن نظرة الفترة الوسيطة ، ومن هذه الجوانب تضاؤل سلطة الكنيسة وتزايد سلطة العلم . غير أن سلطة العلم التى أقر بها معظم فلاسفة الحقبة الحديثة هى شئ مختلف غاية الاختلاف عن سلطة الكنيسة من حيث كونها سلطة عقلية وليست سلطة حكومية . فليس ثمة عقوبات تقع على من ينبذونها وليس ثمة حجج متعلقة تؤثر فيمن يتقبلونها ، وإنما هى تتغلب فقط بمناشداتها الفعلية للعقل . زد على ذلك أنها سلطة تدريجية جزئية فهى لا ترسى – على نحو ما تفعل العقيدة الكاثوليكية ككل - نسقا كاملا يغطى قواعد السلوك الإنسانى والآمال الإنسانية وماضى تاريخ العالم ومستقبله ، وإنما هى تبدى الرأى فيما يبدو فى العصر مؤكدا تأكيدا علميا ، وذلك كجزيرة صغيرة فى محيط الجهل.(1)
وتختلف سلطة الكنيسة أيضا عن سلطة العلم من حيث إن ما تعلنه سلطة الكنيسة هو أمر يقينى يقينا مطلقا وثابت ثبوتا سرمديا . بينما قرارات العلم قرارات مؤقتة وقائمة على أساس من الاحتمال، وينظر إليها على أنها قابلة للتعديل . وقد نجم عن هذا موقف ذهنى يختلف غاية الاختلاف عن مثيله عند صاحب العقيدة فى العصور الوسطى.(2)وهذه النظرة العقلية الحديثة أخذت تبحث فى قدرات الإنسان المعرفية وحدود معرفته .
والأبستمولوجيون يحاولون - بوجه عام - الإجابة عن العديد من التساؤلات مثل : ما هى المعرفة الإنسانية ؟ وما مصدرها ؟ هل مصادر معرفتنا هى الإدراكات الحسية أو القوى العقلية؟ وكيف نعرف الأشياء الخارجية ؟ وهل الإنسان لديه القدرة على اكتساب المعرفة وبلوغ درجة اليقين فيها ؟ هل يستطيع أن يكون معرفة عن الماضى والمستقبل وهل يمكنه إدراك الحاضر وما طبيعة المعرفة الإنسانية وحدودها ؟ وما العلاقة بين الذات العارفة والموضوع المعروف ودور هذه العلاقة فى فعل المعرفة ... الخ . ويختص مبحث المعرفة بمناقشة هذه القضايا إذ يركز على بحث موضوع إمكان المعرفة ووسائلها وطبيعتها ، وذلك كما يلى :-
1- إمكان المعرفة
يدور هذا الجانب من مبحث المعرفة حول إمكان قيام المعرفة الإنسانية وحدودها ودرجة اليقين فيها . وتوجد عدة اتجاهات فلسفية لكل منها موقفه من هذه القضية ، وأبرز هذه الاتجاهات اتجاه الاعتقادين الذين يؤمنون بقدرة الإنسان على اكتساب المعرفة وإدراك الحقيقة ومعرفة كل شئ معرفة صحيحة . واتجاه الشك الذى يؤمن أنصاره بعدم قدرة الإنسان على معرفة الحقيقة .
ولقد صنف سكستوس امبريقوس Sextus Empiricus فلاسفة الشك واليقين إلى ثلاثة أصناف : الاعتقاديون أو الديقماطيون Dogmatics الذين يعتقدون أن الإنسان لديه القدرة على اكتساب المعرفة الموضوعية ومنهم أفلاطون وأرسطو والأبيقوريين والرواقيين ، والصنف الثانى يشمل الأكادميين Academics الذين يرون أن المعرفة الموضوعية مستحيلة ، والصنف الثالث هم الشكاك Sceptics الذين يرون أن الإنسان عاجز عن تقرير الموضوعية أو إنكارها .(3)
وموقف الشك لم يوجد عند أنصاره بصورة واحدة فهناك من شك فى قدرة العقل على اكتساب المعرفة ، ومن شك فى قدرة الحواس ، وهناك من شك فى قدرة العقل والحس معا . ومنذ بداية التفكير الفلسفى عند اليونان ظهرت نزعة الشك عند كثير من الفلاسفة وعلى سبيل المثال نجد بارمنيدس parmenids قد شك فى الحس وزعم أن المعرفة ليست مدركة بالحواس وإنما ندركها فقط بوسائل العقل ، فالطريق الوحيد المؤدى إلى الحقيقة هو العقل ... كما نجد هيراقلطيس قد شك فى العقل واعتقد أن موضوعات المعرفة هى المحسوسات أى يمكن التوصل إليها فقط بوسائل التجربة الحسية .(4)
ومن الفلسفات التى نشأت على أساس الشك فى المعرفة العقلية أيضا واعترفت بشهادة الحس وحده فلسفات السوفسطائيين هؤلاء الذين أرجعوا المعرفة إلى التجربة الحسية واعتبروا أن الحق هو ما تكشف عنه هذه التجربة ، ولما كانت التجربة الحسية مختلفة من فرد إلى آخر فإنهم قد أكدوا أن الحقيقة هى ما تبدو لكل فرد . ونجد ذلك واضحا عند بروتاجوراس فى عبارته المشهورة " إن الإنسان مقياس الأشياء جميعا ، فهو مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة " وهذا معناه باختصار أن ما يدركه الفرد على أنه حقيقى فهو حقيقى بالنسبة له وما يشعر به الفرد على أنه صادق فهو كذلك .(5) ومن ثم تبطل الحقيقة المطلقة وتحل محلها حقائق متعددة بتعدد الأفراد ، بل وبالحالات المختلفة للفرد الواحد. ويعد جورجياس Gorgias من أبرز الشخصيات السوفسطائية فى الإسراف والمغالاة فقد قدم ثلاث حجج ليثبت عدم وجود أى شئ وعرض هذه الحجج فى كتابه "اللاوجود " Non Existent وهى :-
一 لا يوجد شئ .
二 ولو وجد شئ فلا يمكن معرفته .
ج- حتى لو أمكن معرفته فلا يمكن نقله إلى الغير .(6)
أما الاعتقاديون فإنهم ينقسمون إلى قسمين :-
قسم سطحى ساذج يمثله رجل الشارع وهم أولئك الذين يعتقدون ببراءة وبدون نقد أو تمحيص ما يشاهدونه أو يسمعونه أو يقرءونه ... الخ ، بل أنهم لا يتصورن لحظة واحدة إمكان قيام ضد ما هو صدق لديهم . على أننا نجد لهذا جذورا لدى فلسفات الطبيعيين اليونانيين القدماء الذين تصورا إمكان تفسير العالم الطبيعى كله دفعة واحدة بالقول مثلا أن أصله الماء أو الهواء أو غير ذلك من العناصر الأولى . أما القسم الثانى فهو يمثل أولئك الذين ظهروا بعد أن كثرت نزعات الشك وانتشرت فى التفسيرات الفلسفية الساذجة . حيث رأى هؤلاء ضرورة قيام مذهب له أصوله وقواعده كفلسفة وكمعرفة ليعيد إلى الحقيقة يقينها بعد أن سلبها الشك ذلك اليقين .(7)
2- أدوات المعرفة
يدور هذا الجانب من مبحث المعرفة حول منابع المعرفة أو مسالكها أى الطرق والوسائل والأدوات التى تستمد منها المعرفة . ومن أبرز الاتجاهات التى بحثت فى مصادر المعرفة : العقليون الذين يرون أن العقل هو مصدر المعرفة ، والتجريبيون الذين يرون أن العقل قبل التجربة صحيفة بيضاء خالية من العلم فلا شئ فى الذهن ما لم يكن قبل الحس ، فكل معرفة مرجعها إلى التجربة ومصدرها العالم المحسوس . والنقديون الذين يرون أن العقل والتجربة معا ضروريان لبناء المعرفة ، فالتجربة الحسية تقدم لنا شتاتا مبعثرا من الاحساسات ويقوم العقل بمقولاته المختلفة بتنظيم هذه الاحساسات وصياغتها فى صورة منظمة فتنشأ المعرفة الصحيحة . وأخيرا أنصار نزعة التصوف الذين يرون أن المعرفة إشراقية بالدرجة الأولى أى أن طريقها يتحدد فى الفيض الإلهى والأشراقية النفسية ، إنها هبة من الله يتلقاها الصوفى بقلبه ولا يمكنه أن يبوح بها .
3- طبيعة المعرفة
يختص هذا الجانب من مبحث المعرفة بدراسة طبيعة المعرفة لتحديد ما إذا كانت المعرفة واقعية أم مثالية . وأنصار الواقعية يرون أن موضوع المعرفة مستقل عن قوانا العارفة ، أما أنصار المثالية يرون أن موضوع المعرفة مطابق لأفكارنا .
وللواقعية صور كثيرة فى تاريخ الفكر الفلسفى فهناك الواقعية الساذجة والواقعية التمثيلية والواقعية الجديدة ... ومن الواضح أن موقف الواقعية الساذجة لا يختلف كثيرا عن الموقف الطبيعى للإنسان العادى الذى يقوم على الإيمان والاعتقاد بأن أشياء العالم والموضوعات الخارجية هى مثلما تبدو لنا ذات واقعية منفصلة عنا وبالتالى أن معيار صدق معرفتنا بها هو كونها صورا مطابقة لها . كما يقوم هذا الموقف على القول بأن للأشياء خصائص وكيفيات تنطبع على حواسنا وتنعكس على أعضائنا الحسية . وهذا ما يؤدى إلى وجود مطابقة كاملة وتشابه تام بين الشىء كما هو موجود أى الشىء فى واقعيته والشىء كما ندركه وكما تنتقل صورته إلى أذهاننا ، تماثل تام أو مطلق بين موضوع الواقع وموضوع المعرفة .(8)
ويؤمن أنصار الواقعية الساذجة بالقضايا التالية :-
1- هناك وجود لعالم الموضوعات الطبيعية }الأشجار ، المبان ، الهضاب ...... الخ{ .
2- يمكن التعبير عن هذه الموضوعات بصورة حقيقية عن طريق التجربة الحسية .
3- لا توجد هذه الموضوعات فقط عندما تكون مدركة ، بل هى موجودة أيضا فى حالة عدم إدراكنا لها ، إنها مستقلة فى وجودها عن عملية الإدراك .
4- نحن ندرك العالم الطبيعى كما هو فى الواقع بحواسنا وادعائنا بأن لدينا معرفة عنه هو أمر ثابت ومبرر .
5- ويمكن تحديد انطباعنا عن الأشياء الخارجية عن طريق الأشياء ذاتها(9).
وهكذا نلاحظ أن موقف الواقعية الساذجة هو موقف غير نقدى ، وغير تحليلى ، وهو أقرب إلى الموقف الطبيعى منه إلى الموقف الفلسفى فهو يتضمن بصورة بديهية غيابا مطلقا للفكر النقدى وخاصة وأنه يقبل بشاهدة الحواس ويثق فى أمانة ما تقدمه لنا عن الواقع الخارجى .
أما الواقعية التمثيلية Representative realism فهى تقوم على أن الإدراك الصحيح هو الوعى المباشر بالأفكار الحسية التى تمثل بدورها الموضوعات الخارجية ويعتبر جون لوك 1632 – 1704 هو الممثل الرئيسى لهذه الواقعية فهو يرى أن الموضوعات الخارجية تبدو لنا بطرق مختلفة ، فنحن نقول فى الحياة اليومية أن الشجرة لها حجم معين وشكل معين ووزن أو ثقل وصلابة ... الخ إلا أن هذه الخصائص ليست من نوع واحد . إنها تنقسم إلى قسمين خصائص أولية وخصائص ثانوية ، الخصائص الأولية للموضوع هى تلك الخصائص التى توجد فيه ، فى ذاته ، سواء أكانت هذه الخصائص مدركة أم لا فإنها موجودة فى الموضوع ، الخصائص الأولية إذن هى خصائص جوهرية ، أما الخصائص الثانوية فهى مثل اللون والرائحة والتذوق ... الخ وهذه الخصائص ليست على الإطلاق خصائص حقيقية بالنسبة للموضوع، فهى ليست متأصلة فيه ، بل هى أفكار لدينا نتزود بها.(10)
والواقعية الجديدة أو المتقدمة نجدها عند العديد من الفلاسفة مثل صمويل ألكسندر وهوايتهد ومور ورسل وغيرهم . وفى مثل هذا النوع من الواقعية ، يكون المفكر أو الإنسان داعيا ومحللا وناقدا ومركبا لظواهر العالم الخارجى ولا يكتفى بالتسجيل وحسب.(11)
أما المثاليون فقد انقسموا بدورهم أقساما متعددة ، فهناك المثالية الذاتية التى تقرر أن الحقائق والمعارف توجد فى ذاتنا وفى داخل عقولنا وأننا ولدنا بها وهى فطرية فينا ، والمثالية الموضوعية التى تقرر أن الحقائق والمعارف توجد فى موضوع خارجى لكنها ليست حقائق تجريبية وليست معارف حسية بل هى حقائق ومعارف مثالية ، ومثال ذلك المثالية الموضوعية عند أفلاطون . وهناك المثالية المطلقة التى تقرر أن المعرفة ذات طبيعية مثالية بحتة ، فالذات والموضوع معا أصبحا من طبيعة مثالية خالصة ، ويمثل هذا التيار المثالى هيجل فى ألمانيا ، وبرادلى وبوزانكيت وجويكم فى إنجلترا ورويس فى أمريكا وكروتشه فى إيطاليا .... الخ (12)
ثانيا : اتجاهات المعرفة
اتجاهات الفلاسفة فى المعرفة كثيرة ومتنوعة ، ويمكن التمييز بين أربعة اتجاهات أساسية : الاتجاه العقلى ، والاتجاه التجريبى ، والاتجاه النقدى والاتجاه الصوفى .
1- العقليـون
العقليون يؤمنون بالعقل وقدرته المطلقة التى لا يحدها حد فى اكتساب المعرفة وتكوينها ، ذلك لأن العقل عند الولادة يكون مزودا بمجموعة من الأفكار والمبادئ الفطرية التى تعد أصل كل معرفة بشرية . وتتميز هذه الأفكار الفطرية بالوضوح والتميز وبالتالى لا يمكن أن تكون موضع شك على الإطلاق . والعقل بأفكاره الفطرية هو القوة القادرة وحدها على إدراك الحقيقة المطلقة وحل جميع المشكلات المتعلقة بالوجود الإنسانى وتبرير قضايا الميتافيزيقا .
ولقد انطلق هذا الاتجاه العقلى من سقراط الذى وجه الفلسفة من البحث فى الطبيعة إلى البحث فى النفس الإنسانية وهو الذى وضع للناس المنهج الذى يؤدى إلى إثبات حقائق الأشياء بعد أن ضاعت الحقائق أمام تيار السفطسة الجارف فى عصره .. وهو الذى حارب السوفسطائيين فى تعاليمهم الآخذة بالشك والنسبية والاستناد إلى الحس ، وكانت رسالته بإزاء هؤلاء السوفسطائيين هو القول " بالمعانى " أو " الماهيات " وهى الحقائق الثابتة فى مقابل الاحساسات المتغيرة والحقائق النسبية مع محاولة تعريف تلك الماهيات . ولقد رأى سقراط أن العلم بالحقائق لا يحصل بالتلقين أو يكتسب بالتعليم ، وإنما يمكن فقط أن يستدرج العقل وأن ينبه إلى العلم بالمحاورة والمجادلة لتوليد الحقائق منه . " وأن تعرف نفسك بنفسك هو أن تولد تلك الحقائق من أعماق نفسك " (13)
ثم جاء أفلاطون من بعد سقراط فخطا خطوة أوسع فى سبيل وضع أسرار هذا الاتجاه العقلى ... فلقد رأى أن النفس أزلية أبدية وكانت تحيا فى عالم المثل حيث عرفت قيم الحق والخير والجمال ومعانى الفضيلة والسعادة ثم هبطت إلى عالم المحسوسات ، عالم الأوهام والأشباح والشرور وارتبطت بالجسد الذى سجنها وحجب عنها كل ألوان المعارف السابقة ، ومن ثم أصبحت المعرفة عند أفلاطون مجرد تذكر لما كانت تعرفه النفس من قبل فى عالم المثل من حقائق أزلية ثابتة ، ولذلك يعرف أفلاطون التذكر بأنه " عملية لكشف ما قد طواه النسيان بفعل الزمن والإهمال " (14) .
يؤسس أفلاطون إذن المعرفة على استرجاع ذكريات النفس لما شاهدته فى عالم المثل فالعقل يمكنه أن يصل إلى المبدأ الأول لكل شئ دون أن يستخدم أى موضوع محسوس وإنما يقتصر على المثل بحيث ينتقل من مثال إلى آخر وينتهى إلى قمة المثل .
ولتوضيح ذلك يستخدم أفلاطون تشبيها مشهورا هو تشبيه الكهف ، فيصور فيه عامة الناس مقيدين منذ طفولتهم بأغلال فى كهف مظلم تطل فتحته على النور الخارجى ولا يستطيع السجناء أن يروا إلا ظلال ما يمر خارج الكهف من موجودات حية ومن مصنوعات . فإذا تمكن أحدهم أن يتحرر من قيوده فخرج من الكهف ورأى الحقائق مباشرة انبهر بصره لوهج الضوء فيعمد إلى تمرين بصره على رؤية الأشياء منعكسة تارة على صفحة الماء أو على المرايا فيمكنه بعد ذلك النظر فى النور إلى الأشياء وبعد أن يألف النور ينظر إلى السماء فيرى الكواكب والنجوم وفى النهاية يمكنه أن ينظر إلى الشمس ذاتها فيعلم أنها مصدر الضوء وعلة الرؤية ، وبفضل حرارتها تستمد الموجودات حياتها . وفى هذا التشبيه يلجأ أفلاطون إلى استخدام الرموز فعالم الكهف هو العالم الحسى الذى تظنه العامة عالم الحقيقة وما هو إلا عالم الظلال والأشباح . أما العالم الخارجى الذى تغمره الشمس بضيائها فهو عالم الحقائق العقلية أو عالم المثل .(15)
إن الذين يثقون فى الاحساسات وينصرفون إليها هم سجناء الأرض الذين لا يرون إلا أشباحها وخيالات يظنونها الحقائق لكنهم لو أداروا ظهورهم إلى ما وثقوا فيه وسجنوا عليه ، وإنما يكون ذلك بفك وثائقهم الحسى بالجدل الذى يصعد بهم عن طريق العقل إلى الماهيات أو المثل لرأوا الحقائق فى ذاتها وفى بهائها الأبدى ولأثروا صحبتها وعدم التحول عنها ... إن النظرة العقلية هذه عند أفلاطون فوق أنها ذهبت بالمعرفة إلى أقصى حدودها ، إلى مثال المثل فإنها فى الوقت عينه نظرة متفائلة ، ولذلك يجب أن نضيف إلى سمات المذهب العقلى فى إمكان المعرفة نظرته المتفائلة فى معرفة بغير حدود وفى إمكان تطبيقها والعمل بهديها (16) .
أما أرسطو فهو فيلسوف عقلى أكثر ميلا إلى الواقعية ، فلقد أكد بدوره وجود المبادئ العقلية الأولية ، فالفكرة عنده ترد إلى فكرة أخرى أعم منها حتى نصل إلى أفكار أكثر عمومية من غيرها ولا نستطيع ردها إلى ما هو أعم منها وهى مبدأ الذاتية وعدم التناقض والثالث المرفوع . وهذه الأفكار قبلية أولية لا يمكن أن يقام على صحتها برهان ، وبها يستطيع العقل أن يصل إلى معرفة الحقائق كلها .
وفى العصور الوسطى المسيحية ظل البحث فى نظرية المعرفة معتمدا على إبراز ما فيها من مبادئ فطرية طبيعية فاستخدموا منهج القياس لاستخلاص نتائج معينة من مجموعة من البديهيات أو المسلمات مثل المبادئ الرياضية كمبادئ الكل مساو لمجموع أجزائه ، أو الكل أكبر من أى جزء من أجزائه ، فلقد قال هنرى مور بخلود النفس وبأنها كانت تحيا فى عالم أكثر رقيا وصفاءا .(17)
ولقد ظل الاتجاه العقلى مسيطرا على الفكر الأوربى منذ سقراط الذى أدرك قيمة العقل وأهميته فى الحياة غير أن الدعامة الأساسية لهذا الاتجاه هى الفكر الديكارتى فى العصر الحديث . فديكارت هو منشئ الفلسفة الحديثة وهو أكثر عقلانية من الفلاسفة السابقين عليه . فهو يرى أن كل المعرفة التى نحصل عليها عن طريق الحواس مشكوك فيها لأنها يمكن أن تكون غامضة ، خادعة كما تظهر لنا كل أنواع الهلوسة والأحلام . ويدعى ديكارت أن المعرفة الحقيقية هى التى تأتى عن طريق الرؤيا الواضحة للعقل ، فالعقل السليم هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس .
ونجده يقسم الأفكار فى كتابه " التأملات فى الفلسفة " إلى ثلاثة أنواع . أولا : أفكار عرضية أو حسية وهى التى نتوصل إليها عند الاتصال بالعالم الخارجى وهذه الأفكار لا تصلح لآن تكون أساسا لأى معرفة دقيقة . ثانيا : أفكار خيالية أو مصطنعة وهى أفكار من صنع المخيلة ونتائجها وهى أفكار لا وجود لها فى عالم الواقع ثالثا : أفكار فطرية وهى عبارة عن أفكار بديهية حدسية يؤمن بها كل إنسان عاقل ، فهى ليست مكتسبة من تجربة وإنما يولد الإنسان مزودا بها كاستعدادات فطرية داخل نفسه ، ولذلك لا يمكن الشك فى صحتها لأنها تتصف بالوضوح المطلق وتتميز بثباتها وأزليتها ولذلك فإن العقل وحده هو القادر على أن يكشف لنا طبيعة أى شئ ، فعن طريقه نتوصل إلى أننا موجودون وعن طريق التفكير فى كائن كامل نتوصل إلى وجود مثل هذا الكائن ثم نتوصل منه إلى وجود هذا العالم الحسى .
ومجمل القول أن ديكارت يؤكد أن المعرفة الحقة هى التى تستمد من التأمل العقلى الخالص ، وهى معرفة أولية قبلية أى سابقة فى وجودها على أى تجربة حسية فنحن نعرفها بدون حاجة للخبرة .
ولقد سار مالبرانش فى الاتجاه نفسه .. بل أنه يصطنع موقف ديكارت بكل دقة ويسهب فى بيانه ، وبخاصة فى كتابه " البحث عن الحقيقة " فيتحدث عن أخطاء الحواس وتعارضها فيما بينها وتعارضها مع المعرفة العقلية . ويتحدث عن المخيلة فيقول إنها ليست أكثر تعريفا لنا بالأشياء ، وإنها تربط بين الصور بروابط غير عقلية فتسبب أخطاء كثيرة ، وتقر فى الذهن معتقدات باطلة ولا يمكن من وجهة نظر مالبرانش أن يقال إن الأفكار غريزية فى النفس فهى متناهية العدد والنفس متناهية . فلا يبقى إلا أن الله هو الذى يحدثها فى النفس من حيث أن الأعلى هو الذى يؤثر فى الأدنى ، وأننا إنما نعتقد بوجود العالم لأن الوحى ينبئنا بأن الله خلق سماءا وأرضا وغير ذلك ، وفيما خلى الوحى فلا سبيل إلى الجزم بوجود العالم(18) .
أما الفيلسوف سبينوزا فقد قدم لنا كذلك فلسفة عقلانية خالصة إلى حد كبير .. فهو يرى ضرورة التفكير قبل كل شئ فى وسيلة شفاء العقل وتطهيره لكى يجيد معرفة الأشياء وهذه الوسيلة هى التمييز بين ضروب المعرفة وتقدير قيمة كل منها لأجل الاهتداء إلى المعرفة الحقة . فهناك معرفة سماعية تصل إلينا بالفعل ، مثل معرفتى تاريخ ميلادى ووالدى وما أشبه ذلك وهى معرفة غير علمية ، فإذا صرفنا النظر عنها انحصرت المعرفة فى ثلاثة أنواع : (19)
* النوع الأول *
معرفة بالتجربة المجملة أو الاستقراء العامى ، وهى إدراك الجزئيات بالحواس على ما يتفق بحيث تنشأ فى الذهن أفكار عامة من تقارب الحالات المتشابهة مثل معرفتى أنى سأموت لكونى رأيت أناسا مثلى ماتوا ، وأن الزيت وقود للنار ، وأن الماء يطفئها. هذه المعرفة متفرقة مهلهلة ، وأصل اعتقادنا بهذه الأفكار وأمثالها أننا لم نصادف ظواهر معارضة لها .
* النوع الثانى *
معرفة عقلية استدلالية تستنتج شيئا من شئ ، كاستنتاج العلة من المعلول دون إدراك النحو الذى تحدث عليه العلة المعلول أو هى معرفة تطبق قاعدة كلية على حالة جزئية كتطبيق معرفتى أن الشىء يبدو عن بعد أصغر منه عن قرب على رؤيتى للشمس ، فأعلم أن الشمس أعظم مما تبدو لى . هذه المعرفة يقينية ، ولكنها هى أيضا متفرقة لا رابطة بين أجزائها .
* النوع الثالث *
معرفة عقلية حدسية تدرك الشىء بماهيته أو بعلته القريبة . مثل معرفتى أن النفس متحدة بالجسم لمعرفتى بماهية النفس أو مثل معرفتى خصائص شكل هندسى لمعرفتى تعريفة ، وأن الخطين المتوازين لثالث متوازيان . هذه المعرفة هى الكاملة لأن موضوعاتها معان واضحة متميزة يكونها العقل بذاته ويؤلف ابتداء منها سلسلة مرتبة من الحقائق ، فيخلق الرياضيات والعلم الطبيعى حيث تبدو الحقيقة الجزئية نتيجة لقانون كلى ، ويبين العقل عن فعاليته وخصبة واستقلاله عن الحواس والمخيلة .
واضح هنا أن الشكل الأول من المعرفة حسى أما الثانى والثالث فعقليان . النوع الثانى هى المعرفة القائمة على العقل ، هى معرفة عقلية استدلالية وفى هذا النوع من المعرفة تستنتج الحقائق بالبرهان ، لكنها ليست معرفة مباشرة أما النوع الثالث فهو المعرفة التى تستند إلى العقل أيضا ولكن بدون توسط البرهان . إنها حقائق عينية حدسية يدركها العقل مباشرة وهى يقينية كالحقائق البرهانية ولكنها أكثر منها وضوحا وتميزا وتتجلى نزعة إسبينوزا العقلانية واضحة فى تقييمه لكل من هذه الأشكال . فهو يحط من قيمة المعرفة الحسية ليرفع من شأن العقل ، وينكر أن يكون بوسع التجربة إعطاء معرفة يقينية وهو لا يرى فى التجربة معيارا ليقينية المعرفة ، ومن هذه الناحية تبدو نزعة إسبينوزا العقلانية أشد جلاء لدى سلفه ديكارت .(20)
واقتفى لبينتز خط ديكارت فى إيمانه بوجود أفكار فطرية فى العقل ولكنه رأى أن هذه الأفكار الفطرية ليست جاهزة فى العقل ، بل هى موجودة فى شكل بدايات واستعدادات يتوجب نقلها إلى حيز التحقيق ، فالعقل عند الولادة ليس ورقة بيضاء نقية ، بل هو أقرب إلى أن يكون كتلة من خام الرخام ، موجود فيها بالفعل تركيب غير ظاهر من العروق ، وهو الذى سيحكم الشكل الذى سيتخذه الرخام عندما ينحته المثال ويعطيه شكلا . (21)
والخلاصة أن أنصار الاتجاه العقلى يؤمنون بأن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة ، وأن المعرفة عبارة عن مجموعة من التصورات أو المبادئ الفطرية الموجودة فى العقل البشرى منذ ميلاد الإنسان .
2- التجريبيون
التجريبيون يؤمنون بأن التجربة هى المصدر الوحيد للمعرفة وأن العقل عند الولادة يكون عبارة عن صفحة بيضاء خالية من أى أفكار ثم تكتسب المعرفة بالاتصال بالعالم الخارجى عن طريق الحواس وينكر التجريبيون العقلانية في كل صورها وينقدون نظرية الأفكار الفطرية.
ويعد الفيلسوف الإنجليزى جون لوك إمام الاتجاه التجريبى فى التفكير الفلسفي ..... فهو الذى وضع مشكلة المعرفة بمعناها المعروف لدينا الآن موضع البحث والتعمق ، فلا نكاد نلحظ قبل لوك أى محاولة جدية واضحة لدراسة مسائل المعرفة دراسة مستقلة منظمة . كما أنه وجه أنظار الناس فى عصره لكى يفكروا بطريقة أكثر تعمقا فى المشكلات التى كانوا يتناولونها من قبل بطريقة سطحية ، وخاصة مشكلات المعرفة من حيث أصلها ومداها ودرجة اليقين فيها . وقدم لوك لمعاصرته دراسات هامة وقيمة خاصة فى التفرقة بين الصفات الأولية والصفات الثانوية ، وتحليل فكرة الجوهر ، وتحليل اللغة ومعانى الكلمات . كما أنه طبق الاتجاه التجريبى في الفلسفة علي بحثه في نظرية المعرفة بالذات ، كما طبق لوك المنهج الاستقرائى فى الفلسفة ، وكان ذلك نتيجة تأثره بالتفكير العلمى وصيغته التى سادت الفكر الإنسانى فى ذلك الوقت .(22)
يرى لوك أن الادراكات الحسية sense - Perceptions هى التى تزودنا بكل المعرفة ، وهذه الادراكات واضحة ولا يمكن الشك فيها . كما برهن لوك أولا على عدم وجود أفكار فطرية Innate ideas لأن كل معارفنا تعتمد على الخبرة Experience. أما أفكارنا فلها مصدران أساسيان هما : الإحساس Sensation الذى يزود العقل بخواص المحسوسات والتفكير الذى ينظم ويركب الأفكار ، فالعقل ذاته صفحة بيضاء Blank Page كهذه الصفحة التى أكتب عليها الآن ، وتكتب عليها الأفكار بالتجربة .(23)
لكن إذا كان لوك يؤكد أن الإنسان يولد وعقله يشبه الصفحة البيضاء التى تخلو تماما من أى معان أولية فطرية أو أى أفكار فطرية ، فكيف يتم إعداده أو تشكيله ؟ وكيف يتكون لدينا من أى معان أولية أو أى أفكار فطرية ، فكيف يتم إعداده أو تشكيله ؟ وكيف يتكون لدينا هذا المخزون الهائل من الفكر ؟ وكيف يكتسب مواد معرفته ؟ يقول لوك : إن إجابتى عن ذلك فى كلمة واحدة هى (( الخبرة )) فكل معارفنا تستمد منها ، فتجربتنا الخارجية وتجربتنا الداخلية تزودنا بكل مواد التفكير . فعن طريق الحواس أو تنتقل إلى الذهن انطباعات عن الأشياء الخارجية ، ونتوصل إلى أفكار عن هذه الأشياء كأفكارنا عن اللون الأصفر والأبيض والحرارة والبرودة ، والناعم والخشن والمر والحلو . وهذا كله يتم من خلال الإحساس ، والعقل هو الذى يقوم بتنظيم هذه الاحساسات أو الادراكات التى تأتى إلينا من الخارج وهذه العملية التنظيمية تتم بما نطلق عليه اسم التجربة الداخلية أو الحس الباطن Internal Sense . فليفحص كل منا أفكاره ، ويبحث بدقة فى فهمه وسوف يجد أن كل الأفكار الأساسية التى لديه تختلف عن أفكار مواد احساساته . (24)
وإذا كان بعض المفكرين يرون أن عملية الفهم تنطوى على مبادئ فطرية معينة أو بعض الأفكار الأولية التى انطبعت فى عقل الإنسان وتلقتها الروح فى وجودها الأول ، فإن لوك يرفض وجود هذه الأفكار الفطرية ، ويكفى فى رأيه إقناع القراء المنصفين بزيف هذه الأفكار ، وكيف أن الناس باستخدام ملكاتهم الطبيعية فقط قد يبلغون درجة اليقين دونما اللجوء إلى أى من مثل هذه الأفكار . فأى إنسان يمكنه أن يسلم بسهوله بأنه من غير اللائق افتراض أن الأفكار الخاصة باللون هي أفكار فطرية في إنسان الذى وهبه الله نعمة البصر والقدرة على استقبال الألوان من الأشياء الخارجية عن طريق عينيه . وبالمثل فإنه من غير اللائق أن نعزوا حقائق متعددة للإنطباعات والسمات الفطرية في الوقت الذى يمكن فيه أن نلاحظ فى أنفسنا مواهب قادرة على أن تبلغ معرفة يسيره ومؤكدة بهذه الأشياء كما لو كانت منطبعه أساسا فى ذهننا .(25)
والحقيقة أن هناك مبادئ معينه نظرية وعملية يتفق عليها جميع أفراد الناس ويسلمون بها، وبهذا تجدهم يزعمون أنها لابد أن تكون انطباعات دائمة تلقتها الروح وأحضرتها معها إلى هذا العالم. لكن لو كان هذا صحيحا أى لو كانت هناك بالفعل حقائق معينة تتفق عليها البشرية كلها فهذا من وجهه نظر لوك ليس دليلا علي فطرية هذه الحقائق ، بل ليس هناك فى الواقع أفكار يتفق عليها جميع الناس ويجمعون على صحتها . ويقدم لوك أمثلة لبعض المبادئ التى تعتبر – فى نظر بعض الناس – أولية وقد لخصها فى قسمين : نظرية وعملية ، نظرية مثل (( من المستحيل أن يكون للشىء الواحد وجود وعدم فى الوقت نفسه )) ، ومبدأ الذاتية ومبدأ عدم التناقض ، أما العملية فهى متعلقة بالأخلاق والدين . ويرى لوك أنه لا يوجد إجماع على مثل هذه الافتراضات فهناك عدد كبير من الناس يجهلونها ، فالأطفال والمجانين ليس لديهم أقل وعى أو اعتقاد بها، فليس من المعقول ، بعد هذا ، أن نقول بوجود أفكار فطرية داخل العقل .(26)
ولا غرو بعد ذلك أن يقرر لوك عدم وجود أفكار فطرية موروثة ويؤكد أن كل المعرفة مستمدة من التجربة الحسية وحدها ومن ثم فهو يعارض الرأى القائل بالأفكار الفطرية ويؤكد أن التجربة هى قوام المعرفة كلها ، والتجربة عنده تنقسم إلى قسمين : تجربة خارجية تستمد بالإحساس ، وتجربة داخلية عن طريق التأمل الباطنى ، غير أن الحواس هى التى تعمل أولا ثم يجئ بعد ذلك التفكير وما يتولد عنه من أفكار .
وإذا كان لوك هو إمام الاتجاه التجريبى فإنه لم يكن مبدع هذا الاتجاه ، فقد سبقه فى ذلك فلاسفة كثيرون مثل أهل الرواق – فى اليونان – الذين نظروا إلى الإحساس على أنه أول مراتب المعرفة وعمادها ، وتوما الاكوينى – فى العصور الوسطى – الذى بين أن معرفتنا كامنة فى تجربتنا ، وفرنسيس بيكون – فى بداية المرحلة الحديثة – الذى أشاد بالتجربة واعتبرها القول الفصل فى كل شئ ، ولقد تطور هذا الاتجاه التجريبى عند هيوم وجون ستوارت مل وبرتراند رسل وغيرهم .
3- النقديون
النقديون يوفقون بين الاتجاه العقلى والاتجاه التجريبى ، فهم يجمعون بين التجربة الحسية والعقل معا فى تشكيل المعرفة ، وخير ممثل لهذا الاتجاه النقدى الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط .
حاول كانط أن يوفق بين النزعة التجريبية والنزعة العقلية فذهب إلى أن الحواس تمدنا بالمادة الخام التى تصل إلى العقل فى صورة عشوائية ليس لها أى نظام ، ثم يقوم العقل بتحويل هذه الكثرة المتدفقة من الاحساسات إلى صورة منظمة ذات معنى ويتم ذلك بفعل مقولة "الفهم" . بدون التجربة الحسية ، إذن تظل مقولة الفهم فارغة جوفاء ، وبدون الفهم تظل الادراكات الحسية شتاتا مبعثرا ليس له مضمون .
وهكذا نلاحظ أن كانط يفسر المعرفة بأنها نتيجة لتضافر عاملين : عامل صورى يتمثل فى طبيعة العقل ذاته ، وعامل مادى هو عبارة عن الادراكات الحسية الخارجية المبعثرة .
4- المتصوفة
لا شك فى أن منهج المتصوفة يختلف تماما عن المناهج الثلاثة السابقة فى المعرفة . فالمعرفة عند المتصوفة ليست عقلية أى لا تتخذ من العقل منهجا لها ، وليست تجريبية أى لا تتخذ من التجربة طريقا لها ، وليست نقدية أى لا تجمع بين العقلية والتجريبية ، وإنما هى معرفة إشراقية أى تأتى عن طريق الإلهام والفيض الإلهى ، وهى تحتاج فى ذلك إلى صفاء النفس البشرية ونقائها حتى تكون مستعدة لأن تتلقى هذا الفيض الإلهى .
ولذلك فقد سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها : فالصوفى من صفا قلبه لله ، ومن صفت لله معاملته ، فصفت له من الله عز وجل كرامته . وهو أيضا من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر . والتصوف هو تصفية القلب عن موافقة البرية ومفارقة الأخلاق الطبيعية وإخماد الصفات البشرية ومجانبة الدواعى النفسانية ومنازلة الصفات الروحانية والتعلق بالعلوم الحقيقية واستعمال ما هو أولى على الأبدية والنصح لجميع الأمة والوفاء على الحقية واتباع الرسول  فى الشريعة .(27)
ويعرف أبو نصر السراج الطوسى الصوفية بقوله : "هم أمناء الله عز وجل فى أرضه ، وخزنة أسراره وعلمه ، وصفوته من خلقه ، فهم عباده المخلصون وأولياؤه المتقون ، وأحباؤه الصادقون الصالحون ، منهم الأخيار والسابقون ، والأبرار المقربون ، والبدلاء والصديقون ، هم الذين أحيا الله بمعرفته قلوبهم وزين بخدمته جوارحهم وألهج بذكره ألسنتهم ، وطهر بمراقبته أسرارهم وسبق لهم منه الحسنى بحسن الرعاية ودوام العناية ، فتوجهم بتاج الولاية وألبسهم حلل الهداية ، وأقبل بقلوبهم عليه تعطفا ، وجمعهم بين يديه تلطفا ، فاستغنوا به عما سواه وأثروا على ما دونه ، وانقطعوا إليه ، وتوكلوا عليه ، وعكفوا ببابه ، ورضوا بقضائه وصبروا على بلائه ، وفارقوا فيه الأوطان ، وهجروا له الإخوان ، وتركوا من أجله الأنساب وقطعوا فيه العلائق ، وهربوا من الخلائق ، مستأنسين به ، متوحشين ما سواه (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) .(28)
والصوفى الذى يصل إلى هذه المرحلة أى مرحلة القرب من الله تعالى ، يصبح فى حالة من الإلهام والكشف والمشاهدة ، فينشغل بحب الله ، ويملأ الحق قلبه وجوارحه بفيض من نوره.
المشاهدة والرؤيا والذوق إذن هى طرق المعرفة الاشراقية عند الصوفى ، فعن طريقها يمكن إدراك الحقيقة . والرؤية ليست معرفة حسية وليست معرفة عقلية ، بل هى فيض من الله سبحانه وتعالى يحدث للصوفى فى حالة الأنس والقرب والاتصال .
وعامة هناك خواص أربع تتميز بها رؤية الصوفى للوجود، وتختلف على أساسها تلك الرؤية عما تقتضيه النظرة العلمية إلى ذلك الوجود :
الخاصة الأولى : هى اعتقاد الصوفى فى الحدس وسيلة للإدراك ، وذلك فى مقابل المعرفة الاستدلالية التحليلية التى هى المعرفة العلمية . فالصوفى يعتمد على رؤية للحق تأتى إليه بغتة ، وهى تأتى نافذة إلى أعمق الأعماق الخافية وراء الظواهر البادية للحواس وهى بذلك تفرض نفسها على صاحبها فرضا بحيث لا يكون له قبل بردها أو بالتشكك فى صدقها . وبهذه الطريقة يرى الصوفى الحقيقة رؤية مباشرة لا سبيل فيها إلى شك .
الخاصة الثانية : وهى أن الصوفى يوحد الكون كله فى كيان واحد لا يقبل الانقسام ولا التجزئة ولا التحليل ، فوهم الحواس هو الذى يحملنا على الظن بأننا نعيش فى عالم من كثرة ، ولكن الصوفى برؤيته النافذة إلى ما تخفيه الظواهر لا يلبث أن يرى حقيقة واحدة لا تعدد فيها وإن تعددت تجلياتها .
الخاصة الثالثة : تتفرع من السابقة وهى أن الصوفى ينكر انقسام الزمن إلى ماضى وحاضر ومستقبل ، فهو يرى الكل فى لمعة واحدة تضم الحقيقة من أزلها إلى أبدها .
الخاصة الرابعة : هى إزالة الفوارق الموهومة التى نميز بها ما نسميه الخير عما نسميه بالشر ، فهذه قسمة لا تمليها علينا إلا مصلحة اللحظة الراهنة ، وأما الرؤية الشاملة الكونية الواحدة فلا ترى إلا تلك الحقيقة الواحدة الخالصة والتى لا خير عندها ولا شر، وإنما هنالك الحق فى ذاته وكفى ، ومن ثم ترى المتصوفة يتجردون ويتنزهون عن مشاعر البشر المألوفة لنا من غضب ورضى وحزن ومرح وغير ذلك ، إنهم لا يحسون الألم فيما يؤلم الناس ولا يشعرون باللذة فيما يلتذ به الناس . إن أمل الصوفى وجهاده ورياضته لنفسه إنما تهدف كلها إلى بلوغه حالة من السكينة التى لا تهزها أعاصير الرغبات والشهوات .(29)

الهوامش
1- برتراندرسل : تاريخ الفلسفة الغربية ، الفلسفة الحديثة ، ترجمة د . محمد فتحى الشنيطى الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977 ، ص ص 5 – 7 .
2- المرجع نفسه ص 7 .
3- Stumpf , samyel , E Philosephy, History and Problems , New York 1975 , pp 237 – 242 .
4- Sheiden p. Petererund and theodore centemporary Philosophy and Its Origins London 1968, p. 121
5- Ibid , p . 122 .
6- W.K. C. Guthrie The Greek Philosophers from Thales to Aristotle London p, 68 .
7- د. على عبد المعطى محمد : المدخل إلى الفلسفة ، الإسكندرية ، دار المعرفة الجامعية 1987 ، ص ص 27 – 28 .
8- د. سالم يفوت : فلسفة العلم المعاصرة ومفهومها للواقع ، بيروت دار الطبعة ط1 1986 ، ص 36 .
9- Hospers Hohn Introduction to philosophical analysis p. 494 .
10- Ibid , pp 496 – 497 .
11- د . على عبد المعطى محمد : المدخل إلى الفلسفة ص 36 .
12- الموضع نفسه .
13- د . محمد ثابت الفندى : مرجع سابق ص 150 .
14- أفلاطون : محاورة فيدون ، ترجمة ، د . زكى نجيب محمود القاهرة ط2 ص 49 .
15- د. أميرة حلمى مطر : الفلسفة اليونانية ، تاريخها ومشكلاتها ، دار المعارف ص ص 173 – 174 .
16- د. محمد ثابت الفندى : مرجع سابق ص ص 173 – 174 .
17- د . عزمى إسلام : جون لوك القاهرة ، دار الثقافة للطباعة والنشر ص 24 .
18- د . يوسف كرم : تاريخ الفلسفة الحديثة ، دار المعارف ط6 ص 99.
19- المرجع نفسه ص ص ص108 – 109 .
20- جماعة من الأساتذة السوفيات : موجز تاريخ الفلسفة ، ترجة وتقديم ، توفيق سلوم ، بيروت ، دار الفارابى ط1 1989 ص 174 .
21- جيمس جينز : الفيزياء والفلسفة : ترجمة جعفر رجب ، دار المعارف ص 54 .
22- د . عزمى إسلام : جون لوك ص ص ص 18 – 20 .
23- Geuld , james A Classic philosopgical questions London 1961 . p 198 .
24- Paulk . Moser and Around vandet Nat Human Knowledge New York 1987, pp – 133 – 130 .
25- Ibid , p – 130 .
26- Gould , james A : Op- cit, pp 204 – 205 .
27- د. محمد عاطف العراقى : ثورة العقل فى الفلسفة العربية ، دار المعارف 1978 م ص ص 127 – 128 .
28- الطوسى " أبو النصر " : اللمع ، دار الكتب الحديثة 1960 ص 19 .
29- د. زكى نجيب محمود : المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكرى ، دار الشروق ط4 1987م ص ص 376 – 380



#ابراهيم_طلبه_سلكها (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موقف اشفيتسر من الحضارة
- نظريات نشوء الحضارات
- الكفاءة والأداء اللغويان عند تشومسكى
- الكانطية الجديدة
- أسس الأخلاق .. الفيلسوف والترستيس
- دراسة اللغة بين القديم والحديث عند فيرث
- فرنسيس بيكون (1561- 1626)
- التغير اللغوى وتطور المجتمع
- تعريف مابعد الحداثة
- عثمان أمين وفلسفته الجوانية
- الفيلسوف تشومسكى
- مفهوم الحضارة
- موقف زكى نجيب من الميتافيزيقا
- فلسفة الأخلاق النسوية
- فلسفة اللغة العادية
- التحول اللغوى فى الفلسفة
- الفيلسوف الأسبانى أونامونو
- موقف الغزالى من الميتافيزيقا
- بين تاريخ العلم وفلسفة العلم
- مفهوم التنوير


المزيد.....




- وزير الدفاع الأميركي يجري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الـ -سي آي إيه-: -داعش- الجهة الوحيدة المسؤولة عن هجوم ...
- البابا تواضروس الثاني يحذر من مخاطر زواج الأقارب ويتحدث عن إ ...
- كوليبا: لا توجد لدينا خطة بديلة في حال غياب المساعدات الأمري ...
- بعد الفيتو الأمريكي.. الجزائر تعلن أنها ستعود بقوة لطرح العض ...
- السلاح النووي الإيراني.. غموض ومخاوف تعود للواجهة بعد الهجوم ...
- وزير الدفاع الأميركي يحري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...
- دراسة ضخمة: جينات القوة قد تحمي من الأمراض والموت المبكر


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم طلبه سلكها - مشكلة المعرفة فى الفلسفة