أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحكيم البابلي - شجرة عيد الميلاد ، بين دمعةٍ وإبتسامة















المزيد.....


شجرة عيد الميلاد ، بين دمعةٍ وإبتسامة


الحكيم البابلي

الحوار المتمدن-العدد: 3222 - 2010 / 12 / 21 - 11:20
المحور: الادب والفن
    


أحياناً في ظلمة آخر الليل ، يطرق الماضي زجاج نافذتي ويهمس لي : أما آن لكَ أن تنسى ؟. البابلي


هو العيد القادم من بعيد يطرق أبوابنا مرة أخرى ، حاملاً كعادته نفس المشاعر المزدوجة للحزن والفرح ، لكنه يبقى عيداً ، ونبقى نستقبله كل سنة بعفوية طفولية تُنَوِرُ كل العوالم التي حولنا ، وتدعنا ننسى ولو لأيام الوحش الذي يسكننا ويتقمصنا داخل متاهة الغابة الكبيرة .
لماذا يُحب الناس العيد !!، وأي سحرٍ يجعلنا نحبه بهذه الصورة ، حتى حين نجرده ونُفرغهُ من معانيه الدينية !!؟ ، يقول نزار قباني : ليس سهلاً أن نشرح لماذا نحبُ إمرأة أو مدينة أو أي شيئ آخر ، فمن طبيعة الشروح أن تغتال الشيئ الذي نحبه !! .

إنتهينا اليوم – زوجتي وأنا - من نصب وتزيين شجرة الميلاد بمئات المصابيح الصغيرة ، وإمتلأ داخل البيت وخارجه بالزينة ورموز العيد التقليدية إستعداداً لإستقبال "إبن البشر" .
نام كل أفراد العائلة ، وكعادتي التي ورثتها من أمي ، أطفأتُ جميع مصابيح البيت إلا مصابيح شجرة الميلاد ومصابيح ذاكرتي ، وأسندتُ رأسي لوسادة مُريحة قرب الشجرة ، وإحتضنتُ كلبتنا الصغيرة الوديعة التي دفنت وجهها في رقبتي وقد أعجبها الجو الدافيء الذي تشعه المدفاة الجدارية القريبة ، فالحيوانات كالإنسان يُريحهم الجو المُفعم بالمحبة والدفيء والأمان .
أروح في تطوافي السنوي عبر شجرة الميلاد التي تعني لي أشياء لا حصر لها في عالمٍ سحري متميز وخاص يخطفني طواعيةً ويُعيدني طفلاً بريئاً بعيداً عن الغابة وشرورها .
وكآلة تخترق الزمن ، أعود ببطيء لذيذ لأتجول عبر ركام محطات حياتي بورودها وأشواكها ، وتقودني دوامة السنين والذكريات في نهاية المطاف لتشتلني في واحدة من أسعد أيام وسنوات حياتي في عهد الزمن الملكي ، يوم كنتُ في السابعة أو الثامنة من العمر ، ويوم كان العيد فرحة غريزية وسعادة بيضاء بطعم النعناع لأطفالٍ أبرياء يحاولون أن يجدوا مكاناً لهم تحت الشمس .
كان والدي يأخذنا – أخي الذي يكبرني بثلاثة سنوات وأنا – لشراء شجرة العيد ، نمشي في السوق بكل ذلك الألق ، نحمل شجرة طيبة الرائحة ، نُباهي أقاربنا بكبر حجمها ! ، لننصبها في غرفة المعيشة حيث تجتمع العائلة كل ليلة ، ونُزينها بما يتيسر من مصابيح صغيرة وزجاجيات ولُعب مُزخرفة بألوان لا حصر لها ، ورموز دينية ، وأشياء جميلة متواضعة أخرى .

في تلك السنة قررتْ والدتي أن تأخذنا – أخواتي الثلاثة وأخي وأنا ، ولأول مرة بالنسبة لي ولإختي الصغيرة - ، لحضور القداس الصباحي المُبكر جداً في كاتدرائية ( أُم الأحزان ) العتيقة الشهيرة في قلب بغداد .
في ليلة العيد تم تشغيل مرجل الحمام بالنفط الأبيض لتسخين ماء الخزان الكبير ، وبعد الحمام الحار المُشبع بالبخار وروائح الدارسين ، نلبس بجاماتنا ودشاديشنا الجديدة الملونة المصنوعة من قماش ( البازة ) الشتوي ، بينما والدتي في حركة متواصلة تشعل الشموع البيضاء الكبيرة ، وتحرق البخور الخرافية الرائحة كعادتها في أماسي الأعياد والمناسبات الدينية الخاصة ، ثم تجمعنا أمام صورة قديمة للسيدة العذراء لنشاركها في صلوات وإبتهالات وتراتيل العيد .
ورغم أن والدي لم يكن يشترك في أية مراسيم أو صلاة دينية ، إلا أنني كنتُ المحه من خلف جريدته اليومية وهو يرسم علامة الصليب على وجهه عند نهاية الصلاة التي كانت تقدمها والدتي ونرددها نحنُ كالببغاوات ، والتي بقينا نرددها كل صباح ومساء لسنين طويلة وبطريقة آلية تشابه مضغ العلك بين الأسنان ، رغم أن العلكة تحمل طعم السُكر ، بعكس الصلوات التي كانت تُسقمني بجمودها .
ولم ننقطع عن ترديد الصلوات اليومية صباحاً ومساءً إلا حين بدأت قراءة الكتب تُعطي ثمارها في رؤوسنا ، حين وجدنا أن ساعة قراءة ومعرفة تفوق غنى قرون من الإبتهال والصلوات لمجهولٍ مُفترض ، وجدنا إننا مسيحيين فقط بالتقليد والوراثة والإكتساب ، وإن الفكر الديني محدود ويدور في دوامة لم ولن يجد مخرجاً منها !!!، وكما تقول الحكمة : ( القناعة الدينية مثل الكرسي الهزاز ، يجعلك في حالة حركة دائمة ، لكنه لن يوصلك إلى أي مكان ) !!!.

بعد العشاء كانت والدتي تُطفيء كل مصابيح الدار ، وتُبقي مصابيح شجرة الميلاد حتى الصباح ، مع شمعة كبيرة متينة تحترق بجمالية ساحرة أخاذة أمام صورة العذراء ، وكانت تطلب منا أن نقوم بمراجعة وجرد السيئ والجيد للسنة المنصرمة ، إستعداداً لإستقبال السنة الجديدة بصمت وجرأة وثبات وإيمان .
بعدها كُنا نذهب لننام مُبكرين ، وبجانب أسِرَتِنا كانت ترقد ملابس العيد الجديدة التي كنا نَتفقَدها كل ليلة ، ونشمُ روائحها الخاصة التي يعرفها كل طفلٍ لم يترعرع في احضان البطر .
أكثر ما يجعلني أبتسم لتلك الذكريات هو أن رائحة الأحذية الجلدية الجديدة بقيت – ولحد اليوم – أكثر عَبقاً وإغراءً من كل روائح باريس وعطورها !!!، وأعتقد أن أغلبكم يبتسم الأن ، فكلنا نحمل خلفيات إجتماعية متقاربة جداً .


توقظنا والدتي في الرابعة صباحاً ، ننهض بصمتٍ هامس وإبتسامة غير إعتيادية تتمطى فرحاً فوق وجوهنا ، ها هو العيد اللذيذ قد حل بيننا أخيراً ، وكل شيئ حولنا يبدو بهيجاً ودوداً ملوناً يوحي بالأمان ، فكأن مخلوق سحري قد مر أثناء الليل ولون كل شيئ !!! .
بعد الإستمتاع بأولى لحظات اليقظة ، تمتد أصابعنا تحت وساداتنا حيث تغفو ورقة نقدية ( نصف دينار ) تمثل عيدانية يدعي والدي بأن بابا نويل مر ليلاً وتركها تحت وساداتنا !!!، كُنا نبتسم ، وكم كان بودنا لو نصدق تلك الحكاية الجميلة لحد التبني !!.
تطبع والدتي قبلاتها الحنونة على وجناتنا ، وتُعانقنا بشدة وحب وهي تهمس لكل مِنا : عيدكم مُبارك ، أيامكم سعيدة ، ليبارككم الرب .
بعد أن نغسل أسناننا ووجوهنا نلبس ملابس العيد بلهفة وعجلة وشغف وتلذذ ، وكدوزنة الآلة الموسيقية قبل العزف ، نقف أمام المرآة مبتسمين ونحنُ نُجربُ بعبث طفولي كل أنواع ( البوزات ) والوجوه البوكرية والكرنفالية بينما والدتي تتضاحك من تصرفاتنا البريئة وتُساعدنا في هندامنا وأناقتنا وتصفيفة شعرنا التي كانت على موديل وطريقة مُطربي ال ROCK & ROLL يومذاك .
كُنا نمشي بأحذيتنا الجديدة فوق بلاطات غرفة النوم ونحنُ ( نُجَرْقِعْ ) كعوب أحذيتنا فوقها ، مُحدثين ذلك الإيقاع الذي كان يجعلنا نشعر مع كل الملابس الجديدة بأهميتنا وكأننا أولاد الوزير أو ممثلين سينمائيين من برادوَي !!!، ومن قال بأن الطيبات لا تُفسد الإنسان وتُصيب حتى الأطفال بالغرور والشعور بالعظمة !!؟ .


ننزل للطابق الأرضي لتناول وجبة إفطار خفيفة ، حيث كانت فرحة العيد دائماً تسد شهيتنا للأكل ، وكُنا نتهامس كون والدي ينام في الغرفة المجاورة مستمتعاً بيوم راحة في عطلة العيد .
لم يكن والدي يخضع للجو الإجتماعي والديني السائد ، وكان الراحل علي الوردي يقول بأن علم الإجتماع يُسمي هذا النوع من الشخصيات ب ( الشخصية الحدية ) ، وهي الشخصية التي ترفض مقولة ومبدأ "إنا وجدنا آباءنا على ملةٍ .. وإنا على آثارهم مُقتدون ) .
كان والدي في حالة نفور علني مُستحكم مع الكهنة ورجال الدين الذين كان يُطلق عليهم تسمية ( الغربان ) !!! ربما لأنهم يلبسون الأسود .
لم أشاهد والدي يزور الكنيسة إلا في المناسبات الإجتماعية كقداديس الزواج أو الوفاة ، وكان يؤكد بأن علاقته مع الرب لا تحتاج لكاهن أو وسيط أو مشعوذ أو حارق بخور !!، كان يتهم الكنيسة بالخروج عن أصالة تعاليم المسيح وفكرهِ ، حيث تحول العقل الكنسي من مُفكر إلى مُبرر ، وأصبحت أغلب المسيحية طقوس وثنية يُشرف عليها نفس الأفاعي أولاد العقارب الذين طردهم السيد المسيح من المعبد .
أما والدتي المسكينة الأمية فكانت توبخه وتُعاتبه وتؤكد له بأنه لن يكون مكان له بيننا ومعنا في ملكوت السماوات !!!، كان الرجل يقهقه بجذل ويُناكدها بأنه قد إكتشف ثغرة سرية في السور الذي يفصل بين الجنة والنار ، لذا فهو ليس قلقاً حول ما يتعلق بمصيره في العالم الآخر !!!.
كانت والدتي تجابه سخرياته بدفاعها الساذج عن الكهنة "المساكين" الذين كانت تتصور بأنهم نوع من الملائكة ومرشحين للقداسة !!!، وكم كان يسخر والدي من إحترامها – المبالغ به – للكهنة كديدن أغلب نساء ذلك الزمن ، وأكثر ما كان يُثيره هو إنحناء الناس الذليل لتقبيل أيادي الكهنة وأطراف سوتاناتهم خشوعاً وتبركاً كلما إلتقوهم هنا وهناك !! ، ولا تزال هذه العادة لحد اليوم ، ويسمح بها بابا الفاتيكان قبل غيره !!! ، علماً بأن السيد المسيح نفسه كان ينحني بكل تواضع ويخر على ركبتيه ليغسل أرجل التلاميذ بكل تواضع .
والمضحك في عالم اليوم أن بعض الكهنة – وخاصةً المغمورين – يُقدمون للناس أيديهم وخواتمهم لتقبيلها والتبرك بها !!!!!!، وما هذا التصرف إلا تثبيتاً لمقولة : ( كثيرون زهدوا بالمال ، أما في الجاه والسلطة فلا واحدٌ ) !! .

تقوم والدتي بإحكام اللفاحات الصوفية حول رقابنا وآذاننا قبل الخروج من الدار ، إتقاءً للبرد....
وكمحاولة أخيرة ومخلصة كانت تُنادي الوالد :
- إذا غيرتَ رأيك وقررتَ المجيئ معنا فسننتظرك حتماً ، فما يزال هناك متسع من الوقت ، واليوم هو عيد ميلاد المُخلص .
وكان والدي يُجيبها بنبرة سخريته المعهودة :
- بقى سلمي لي على المُخلص ، وعسى أن يُخلصنا من شرور الناس ، وقولي له عيد ميلاد سعيد ، وبما أنه يعرف كل شيئ كما تقولون ، لذا سيعرف كم أنا متعب وبحاجة للراحة ، وسيعذرني ويغفر لي حتماً لو كان موجوداً !!!.
وكانت والدتي تهز رأسها بأسف وقنوط وتهمس لنفسها :
- لا أعرف كيف لا زال الرب يرزقنا بوجود هذا الرجل القليل الإيمان !!؟

نخرج من الدار بصمت ليستقبلنا ظلام الشارع الضبابي ، بينما نسمات الشتاء البغدادي الباردة المنعشة تُلاعب وجوهنا الطفلة . نتقافز ونتضاحك كالأرانب الصغيرة بسعادة وبراءة وجذل ، وبفرحة العيد الذي يشحننا بالطمأنينة التي يحتاجها كل طفلٍ ، لكنها للأسف كانت تتبخر وتتلاشى تماماً بعد أول يوم دراسي يعقب العيد ، حيث نواجه حقيقة وصعوبة ومعاناة أن نكون مقبولين من غالبية الآخرين المختلفين عنا ، وهي حقيقة قبيحة توارثها هؤلاء الصغار من كبارهم ، وكُنا نحنُ من دفع الثمن .
نقف في إنتظار الباص الحكومي بينما أمي تنهرنا بلطف وتأمُرنا بوضع أيدينا في جيوبنا تجنباً للبرد ، وكنتُ كلما مددتُ يدي في جيبي ..... ألامس نصف الدينار الورقي الذي يطقطق كلما داعَبتُهُ وفَركتهُ بين أصابعي .

في الباص العمومي يرفض الجابي ( مُحصل النقود ) أن يتقاضى أجرة الركوب !!!، بعد أن عرف بأن اليوم هو ( عيد النصارى ) .. كما كان يسميه أخوتنا المسلمين !، وفي نهاية الرحلة تمنى لنا (عباس) – وهذا كان اسمه – عيداً سعيداً ، وترجانا بإستحياء أن نطلب في صلاتنا للعذراء أن ترزق زوجته الحامل بطفل ذكر بعد أن رُزِقوا بثلاثة بنات .
لا زالت تقاطيع وجه عباس السمراء عالقة في ذاكرتي لحد اليوم ، ولو كنتُ أُحسن الرسم لرسمته في دقائق ، وكنتُ في السنين اللاحقة كلما صعدتُ في الباصات الحكومية أبحث في وجوه الجباة وقاطعي التذاكر باحثاً عنه ، لأشكره على مشاعره وخلقه وبقائه في ذاكرتي كمواطن صالح يحب الناس كلهم ولا يرى فروقاً تُذكر .

مع بزوغ البدايات الأولى للفجر نترجل من الباص مُخترقين شارع فرعي ضيق وطويل يُسمى ( عقد النصارى ) أي شارع النصارى ، حيث تجثم بوقار كاتدرائية ( أُم الأحزان ) في منتصفه .
يستقبلنا قرع النواقيس المُفرح ، بينما عشرات الشحاذين يتحلقون أمام باب الكنيسة وجلهم من المسيحيين والأكراد المسلمين النازحين من القرى الشمالية لكردستان العراق ، وبعضهم كان يتمايل برقبته ورأسه تناغماً مع دقات النواقيس وكأنهم مجموعة من الدراويش .
وبمجرد دخولنا من إحدى البوابات الداخلية للكنسية ، تقوم والدتي بإرسال أخي وإثنين من أخواتي الأكبر مني ، ليحجزوا لنا أماكن في المصطبات الأمامية القريبة من المذبح ، بينما تأخذني وأختي الصغيرة معها لتأدية النذور فتركع أمام تمثال العذراء وتُشعل عدة شموع واحدة منها كانت من أجل زوجة عباس ، وتطلب لهم طفلاً ذكراً مُعافى ، وتطلب الخير والأمان والسِتر لكل البشر .
تُطالعنا القاعة الداخلية الواسعة للكنيسة بقبابها وسقوفها العالية ( CATHEDRO SEELING ) والمُزدانة بالرسوم الدينية والنقوش والزخارف والفسيفساء والمرمر والتي تبرز كلها من خلال فن الطراز المعماري الكنسي الجميل
التماثيل الكبيرة كانت مُنتشرة في جنبات القاعة الفسيحة وحول المذبح ، والمصطبات الخشبية تمتلآ بالناس بسرعة كبيرة ، والثريات الأثرية العملاقة تتدلى وتتلألأ كنجوم السماء ، ورائحة البخور الشرقية العطرة تنبعث وتضوع من المجامر الكبيرة ، مكونةً سُحباً خفيفة من الدخان المتجمع في سماء المكان كهالة جميلة تعبر وتتناغم مع الجو الكنسي العام .
كان الناس بين جالس وراكع وواقف ، تتدلى من بين أصابعهم مسبحات صلاتهم ، وهم يُصلون ويبتهلون ويطلبون ويُناجون ويستغفرون وينذرون ويتمتمون بلغات ولهجات مُختلفة لرب واحد ، وعيون بعضهم مُغلقة أو تحوم وتُحلق في فضاء الكنيسة الرحب .
كذلك تصل لأسماعنا أصوات التراتيل الدينية الشهيرة ، ويظهر صغار الكهنة والقسس والشماسين والسواعير وكلٌ بملابسه الخاصة المُنقشة المختلفة الألوان ، ومعهم أطفال الملة المُهيئين والمُدربين لخدمة القداس بملابسهم الملائكية البيضاء ، والكل يسعى هنا وهناك إستعداداً لبداية القداس .
كل ذلك أثار فضول أختي الصغيرة التي عندما عرفت من والدتي بأن الله سيستجيب لصلوات وطلبات كل هؤلاء الناس قالت لنا بأنها ستطلب من الله بايسكل وكثير جداً جداً من العلك !!!.

كان المنظر داخل القاعة جميلاً وسحرياً وغير مألوف بالنسبة لي ، وعندما أستحضرهُ اليوم يبدو لي كلوحة زيتية فنية خرافية الجمال ، مما جعلني يومها أحس بصغر وجودي في مكان يشبه لحد ما تلك الصور الملونة اللماعة في المعايدات التي نستلمها من الأقارب قبل العيد .
كنتُ لا أريد أن أحول بصري عن تلك اللوحة المُتحركة التي وقفتُ مشدوهاً أمامها ، والرهبة من شيئ ما تُحيط بوجودي الطفل ، والذي إستجاب لكل تلك المؤثرات التي إبتدعتها المؤسسة الدينية خلال الفين من السنين !! .
ولطالما سمعت الكبار يتحدثون عن ذلك الرجل القوي العظيم المُقتدر على كل شيئ ، الذي يسمونه الله ، والذي له حتماً ملايين العيون والآذان بحيث يسمع ويرى كل ما نفعله ، حتى أنه إضطر سذاجتي حين كنتُ أسرق قطعة نقد صغيرة أحياناً من أمي أو أبي ، أن أقوم بوضع منشفة على يدي .. كي لا يرى الله ما أفعل !!.
كان الله يتكرر على شفاه الناس مئات المرات في اليوم الواحد ، ويدخل في أدق التفاصيل الحياتية واللغة اليومية لحد الإبتذال .
ولحد ذلك اليوم كان الله في مفهومي بطلاً من أبطال القصص التي كانت تحكيها لنا والدتي ، كالسندباد البحري وعلي بابا وروبن هود والكونت دي مونت كريستو !!!.
يومها أيضاً أحسستُ أن في داخل تلك الكنيسة شيئ ما ... إقتنعتُ بأنه الله الذي كانت تتكلم عنه والدتي وبقية النسوة ، ومصرحين دائماً بأن الكنيسة هي بيته .. "بيت الله" ، مما دعاني مرة لأطلب من والدتي أن تعمل لنا ( كرسمس ) كل شهر وتعزم الله الذي يسكن في الكنيسة الكبيرة في عقد النصارى !!!.
ولا عجب حين أصبح سؤالي ذلك موضع تندر وسخرية الأقارب والمعارف وكل من هب ودب لسنين لاحقة فيما بعد !!!.

يبتدأ القداس - الآلهي كما يسمونه - ، ويصمت مئات الناس الذين كانوا يملأون حتى الممرات الخلفية والجانبية صمتاً عميقاً جعلني أسمع صوت تنفس أخواتي الجالسات على جانبيَ .
يبتدأ الكاهن الكبير المُقطب الجبين ، والخشن الملامح والصوت ، القداس بكلمة : الرب معكم ، وهو يرمقنا بنظرة صارمة من تحت حاجبيهِ !!.
قداديس العيد كانت تطول عادةً ، تتخللها طقوس مُعقدة مُملة لا داعي لها ولطالما أصابتني بالنعاس ، وبرأيي هي طقوس وثنية عتيقة متوارثة تأريخياً ، تم صبغتها باللون اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي مع بعض التغيير لإعطائها إستقلالية وخاصية ونكهة مُختلفة إمعاناً في التخفي والتنكر لأصلها الوثني .
وجميعها طقوس لم يعد إنسان اليوم بحاجة لتعقيداتها ولا جدواها ، وكم أفضل اليوم لو يتم تقديم مسرحية جميلة أو قصائد شعرية بدل الصلاة والدعاء في الكنائس والمساجد وكل دور العبادة ، ولا أدري عبادة من ، ولماذا !!؟ ِ

ما كان يُضحكني حقاً هو تعليقات أخي الكبير – 11 سنة – حول ما يدور في القداس ، فحين كان الكاهن الأكبر يرفع كأس الخمر التي تُمثل دم المسيح ، كان أخي يهمس بصوت يتعمد أن يصل لي ولأخواتي : جريو ، ومعناها مأخوذ من الكلمة الإنكليزية ( cheers ) !!، وعندما كانوا يُمررون ( التبسية ) وهي سلال بطول قدمين ربما يضع فيها الناس ما يتيسر لهم من تبرعات للكنيسة ، وفي قداديس الأعياد كانت تُمرر التبسية مرتين أو ثلاثة وبحجج وغايات مُختلفة .
كانت والدتي تضع في أيدينا قطع نقدية صغيرة من فئة العشرة فلوس ، وكانت هي تضع درهمين أو ربع دينار ، مما كان يُثير حفيظة أخي الذي يهمس أسفاً على النقود : ( عبالنة المكادي بس برة الكنيسة ) ، أي ( تصورنا أن الشحاذين هم خارج الكنيسة فقط ) !!! .
ولا أعرف لماذا تتملك الإنسان رغبة جامحة في الضحك دائماً في الأماكن أو الأجواء التي يُفترض أن تكون مشحونة بالجدية والحزم وعدم الكلام !!؟ ، لذا كُنا نتضاحك بصوت خافت نحاول خنقه عبثاً ، ولم يكن يخلو من مشاكسة وإستخفاف ، ولكن كل ذلك كان يتوقف بعد نظرة جانبية حازمة ومُهددة من والدتي .
كان يجلب إنتباهي دائماً الإنسجام الكُلي لوالدتي في صمتها وخشوعها وتعبدها العميق أثناء القداس أو الصلاة في الكنيسة أو البيت أمام تمثال العذراء ، وقد سمعتها أكثر من مرة تقول بأنها تستمد قوتها وصبرها من إيمانها برحمة ومساعدة الخالق ، وربما لهذا قال ( إبن البشر ) : [ لو كان لكم إيمانٌ بقدر حبة الخردل ، لقلتم لهذا الجبل : تحول ، فيتحول ] ، ولهذا أيضاً لا زلتُ أقول بأن الإيمان الإيجابي في الخير يُساعد الكثير من الناس ، وهو حقاً تنهيدة الفقراء والمساكين المسحوقين كما قال ماركس ، وربما بسبب ذلك نرى أن أعداد النساء المؤمنات بالله والدين في الشرق أكثر بكثير من أعداد الرجال ، كونهن مظلومات ومقموعات إجتماعياً ، وبغض النظر عن كونهن مسلمات أو مسيحيات ، لأنهن بحاجة ماسة لقوى خارجية وغيبية تساعدهن وتنتصر لهن .

لا زالت الأعياد الدينية تُفرحني بكل سحرها وألقها وإرتباطها بالمحبة والتسامح والغفران والعطاء ، لكنها لم تعد مُرتبطة بفكرة وجود ( الخالق ) ، بل ترتبط بذكرى لأنسان بشري أرضي ثار من أجل تحسين أوضاع مجتمعهِ ، ولم يُمانع أبداً في تقديم حياتهِ من أجل أن تسمو تعاليم محبته وتكون درباً للأخرين ، وهذا يُعطيني صورة كاريكاتيرية لله لا علاقة لها بالمسيح الأرضي ، حيث أتخيله على شكل رجل عجوز جالس في كُرسي المُعوقين بعد أن أُصيب بمرض الزهايمر .

كان العيد يُمثل لنا ملابس جديدة وعيدانيات وشجرة مزوقة وبضعة عروض سينمائية تستنفذ عيدانياتنا ، مما كان يدعونا لزيارة بيوت الأعمام والأخوال من أجل حصد عيدانيات أكثر .
وفي أعياد ( الفطر والأضحى ) كُنا نُشارك أصدقائنا المسلمين إحتفالاتهم ، وكانت معاني العيد عندهم هي هي وكما عندنا ، كنا نُشاركهم في أرجوحةٍ تطير عالياً وتهبط ومعها قلوبنا وصراخنا ، أو في دولاب الهواء الذي كان يُمثل قمة الإحتفال في اي عيد ، أو في نزهةٍ داخل عربة مهترئة يجرها حصانٌ هرم أو حمارٌ صامت أو بغل ساهم النظرات كمَّن فقد رغبته حتى في الإحساس بظلم البشر !!!. كلنا كُنا نفكر بمتعة ركوب العربة ، ولم يكن أحدٌ مِنا قد تطور أخلاقياً لدرجة الإحساس بألم ومعاناة الحيوان المُرهق الذي يكاد يفطس تحت الثقل الذي سمح به جشع صاحبهِ !!.
كُنا نصوم مع أصدقائنا المسلمين لعدة أيام في رمضان ، ونفطر على مائدتهم بفرح قد أعجز عن وصفه ، وكانوا ينصبون ويزينون أشجاراً صغيرة في بيوتهم في أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة .
ولطالما شاهدتُ عشرات النساء المسلمات يشعلن شموعهن ويطلبن مرادهن من السيدة العذراء داخل كنائسنا ، وكم مِنا مَن ذهب بصحبة أصدقاء مسلمين لزيارة العتبات المقدسة وقبور الأولياء في النجف وكربلاء والكاظمية والأعظمية ؟.
في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات كانت مجموعات شبابية هائلة العدد من مسلمين ومسيحيين تتجمع للإحتفال بأول ساعة من السنة الجديدة في مناطق معينة من الكرادة الشرقية التي كانت تسكنها غالبية مسيحية .
كانوا يشربون ويغنون ويرقصون على أصوات طبولهم وآلاتهم الموسيقية وبرعاية الشرطة وإلى ساعات الصباح الباكر !!!.
وكان أصحاب المحلات التجارية يُزينون محلاتهم بكل ذوق وتنافس أثناء أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة .
وفي بعض السنوات العجاف بحكامها العنصريين كان العيد يزورنا بلا ضجيجٍ وعجيج ، ولكنه ظلَّ عيداً وفرحةً وسعادة ، وظلت شجرة الميلاد تنتصب بشموخ في بيوتنا لتقول لنا بأنه العيد ، ذلك الصديق القديم الوفي الذي ما خذلنا أبداً ، والذي كان يحمل لنا كل الطيبات وبدون تكلف .


هو العيد … وتمتد أطراف إخطبوط الذاكرة لتستحضر صورة الوطن المصلوب فوق أشجار شجرة العيد ، والنازف من كل شبرٍ في جسده المُتْعَب ْ .
هو العيد … ومدن العراق خالية من أشجار الميلاد التي أصبحت رمزاً للكفر والغرب والإلحاد !!.
هو العيد … وكنائس الوطن خالية من الناس المسالمين المتواضعين كسيدهم ، بعد أن أصبحت كل الدروب حقول ألغامِ على غرار درب آلام الصليب التي نزف فوقها "إبن البشر" !!.
هو العيد … ولا أدري هل يتذكرني الصديق المسلم الوحيد الذي أصر على البقاء في بغداد ، بينما بدد الموت والرحيل والهجرة بقيتهم !!؟ .
هو العيد … وقد إمتلآت شوارع الكرادة الشرقية بكل أنواع المليشيات المسلحة الطائفية التي ما عرفت ولا تعاملت ولو لمرة واحدة مع الفرح الحقيقي !!.
هو العيد … ولا أدري هل لازالت كاتدرائية ( أُم الأحزان ) في عقد النصارى تحمل كل ذلك الألق الذي لم يكن في تماثيلها وشموعها وبخورها وثرياتها وناقوسها بقدر ما كان في الناس الطيبين الذين بهم المسرة !!؟ .
هو العيد … ولا أدري هل مازال في العراق رجالٌ مُباركين يمثلوه .... كعباس ، الجابي في الباص الحكومي !؟
هو العيد …. ولا أدري هل سيدشن أطفال العراق هذه السنة .. ملابس العيد الجديدة .. أم واقيات الرصاص المستوردة !؟.
هو العيد .. وأتذكر قول الفيلسوف (أدموند بييرك) : ( كي نحب الوطن ، فيجب أن يكون فيه ما يدفعنا لمحبتهِ ) ، لكن الرجل لم يكن يدري بأن في الشرق مجانين أحبوا أوطانهم بلا شروط !.
هو العيد ... يتألق ويشع فرحاً في شوارع أميركا وفي محلتي وأرجاء بيتي ....
أحدق في شجرة الميلاد الشامخة بكل كبريائها الغربي ....
لكن ذاكرتي تهرب بعيداً لبيتنا القديم في بغداد ....
لأرى شجرة أخرى قديمة بائسة حزينة باردة وعارية من زينتها.....
ترمقني بصمت وخجل ، وتغض بصرها بإنكسا رْ
أسجد لها …. فتبكي
وأبكي معها وطناً جميلاً صلبتهُ المسوخ
وأنتبه لنفسي …
فأرى كلبتي الصغيرة تلعق دموعي بحب وحنان
تنظر في عينيَ بحزن وتساؤل ….
فأصمتُ …. وتصمتُ معي
هو العيد ….. وأخجل من نفسي …
ويخجل مني خجلي ….
هو العيد ....
وأهمس لشجرة الميلاد :
بأي حالٍ عُدتَ يا عيدُ !!؟ .

+++++++++++++++++++++
http://www.jacquielawson.com/viewcard.asp?code=2007134554829&source=jl999
معايدة بمناسبة العيد ، لموقع الحوار المتمدن في شخص السيد رزكار عقراوي وكل طاقم الموقع ،
ولكل الأخوات والأخوة الكتاب والمعلقين والقراء .
عيد سعيد وسنة مُباركة ، مع تمنياتي للجميع بالفرح والصحة والأمان .
الحكيم البابلي | ، ديسمبر - 2010



#الحكيم_البابلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد لسلبيات موقع الحوار المتمدن
- هل الأرض مُختَرَقة فضائياً ؟
- يَرمازية وجراد .. ووطن
- كان يا ما كان في بغداد
- هوسات وأهازيج شعبية عراقية .......... 1956 - 1963
- عالم النكتة في العراق
- ظواهر إجتماعية البول للحمير !!!
- بابا نويل لا يزور مدن الفقراء !!.
- من داخل القمقم # 3 ( نذور ونهر )
- من داخل القمقم # 2 ( عرائس النار )
- من داخل القمقم ( 1 )
- الوطن المسكون


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحكيم البابلي - شجرة عيد الميلاد ، بين دمعةٍ وإبتسامة