نقد الهيجلية من وجهة نظر ماركسية
خليل اندراوس
2007 / 12 / 9 - 11:04
حين كنت أكتب الجزء الأول من "رأس المال" كان أبناء الجيل الجديد، اولئك الأدعياء المتهورون التافهون يباهون بأنهم ينظرون إلى هيجل نظرتهم إلى "كلب ميت".... لذا بادرت وأعلنت صراحة أنني لست إلا تلميذا لهذا المفكر العملاق (كارل ماركس- رأس المال).
هذا ما قاله ماركس عن هيغل، ولذلك لن تجد بين مؤسسي الماركسية من يجادل في الأثر الذي تركه الجدل الهيجلي على فكر ماركس، وهو أثر يتعدى الحدود الضيقة التي يعلمها اليوم كثير من الماركسيين. هناك شبه إجماع على أن الجدل الماركسي ليس إلا تطبيق الجدل الهيجلي في ميادين جديدة، وخاصة المجتمع والتاريخ، "فقد كان ماركس وإنجلز، يريان في جدل هيجل أوسع مذهب من مذاهب التطور، وأوفرها مضمونا وأشدها عمقا ، وأثمن اكتساب حققته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية... وكانت كل صيغة أخرى لمبدأ التطور تتراءى لهما وحيدة الجانب، فقيرة المضمون، تشوه وتفسد السير الواقعي للتطور... في الطبيعة والمجتمع".
(لينين- ماركس إنجلز الماركسية Vol. Ip. 36).
وكان ماركس يقول دائما إن الإطار المثالي الذي غلف الجدل الهيجلي، لم يمنع هذا الرجل مطلقا من أن يكون أول من عرض الصورة العامة للجدل بطريقة واعية وشامله" (كارل ماركس رأس المال المجلد الأول صفحه 20)، بل نراه قبل إصدار كتابه "رأس المال" يعيد قراءة منطق هيجل ويقول في رسالة إلى إنجلز، "لقد القيت في البحر بنظرية الربح التي ظهرت حتى الآن، أما من حيث المنهج فقد عدت من جديد وألقيت نظرة سريعة على منطق هيجل الذي خدمني خدمة كبرى".
(ماركس وإنجلز- رسائل مختارة صفحة 100).
ولقد لخّص إنجلز رأي الماركسية في عبارة جامعة حين كتب إلى "شمت" يقول باختصار شديد "من المستحيل أن نستغني عن هيجل" فهو "ملحمة جدلية". ولينين خلال وجوده في سويسرا ينقطع ثلاث سنوات في مكتبة بيرن، ويعكف على قراءة مؤلفات هيجل، ويقف طويلا عند فلسفة المنطق لهيغل الكبير يلخص ويشرح ويعلق، ثم يقرأ ما كتبه الشراح والنقاد من أمثال سترلنج ومكتجارت وبيلي... وغيرهم. ويخرج في النهاية بهذه النتيجة "يستحيل استحالة قاطعه أن نفهم "رأس المال" لكارل ماركس- لا سيما الفصل الأول منه، ما لم ندرس منطق هيجل ونفهمه بأكمله، ولهذا السبب فقد مضى نصف قرن من الزمان، ولم يفهم ماركس واحد من الماركسيين".
وكذلك كتب لينين في العدد الثالث من مجلة "تحت راية الماركسية (مارس 1922) مقالا أطلق عليه الماركسيون أنفسهم اسم "وصية لينين الفلسفية"، لأنها آخر ما كتب في الفلسفة، يدعو إلى إقامة قاعده فلسفية راسخة وصلبة، ويرى أنه ما لم يتحقق ذلك، "فإن العلم الطبيعي، والمذهب المادي، لن يستطيعا الصمود في نضالهما ضد هجمات الأفكار البرجوازية المتلاحقة...". وليس من سبيل إلى تحقيق هذه الغاية إلا إذا تجمع المثقفون والمفكرون والكتاب، وتضافرت جهودهم للقيام بدراسة جادة وواعية للجدل الهيجلي، وتفسيره تفسيرا ماديا ، ذلك الجدل الذي طبقه ماركس عمليا في كتابه رأس المال، وفي مؤلفاته السياسية والتاريخية"، بل يرى لينين أن الأمر لا يقتصر على مجرد دراسة الجدل الهيجلي وشرحه، وإنما يجب أن يتعداه إلى الدعاية لهذا الجدل. وهو يعترف بأن هذه مهمة شاقة وعسيرة وقد تكون عرضة لكثير من الأخطاء، لكنها مع ذلك ضرورية ولازمة، ولا مندوحة عن القيام بها، "إذ لا بد من أن ندعم هذا الجدل من جميع الجوانب، فنقوم بنشر مقتطفات متنوعة من مؤلفات هيجل الرئيسية وتفسيرها تفسيرا ماديا ، ونشرحها مستعينين بأمثلة من الطريقة التي طبق بها ماركس الجدل، ومستعينين كذلك بشواهد من ميدان العلاقات الاقتصادية والسياسية".
ثم يصل لينين في نهاية هذا المقال إلى قمّة الفهم الناضج لوضع الجدل الهيجلي في الفلسفة الماركسية حين يقول: "وفي اعتقادي أن جماعة المحررين والمساهمين في مجلة "تحت راية الماركسية" يجب أن ينظموا صفوفهم في جماعة تحمل إسم "جماعة الأصدقاء الماديين للجدل الهيجلي".
ويرى لينين أنه ما لم يضع المذهب المادي نصب عينيه القيام بهذا العمل وتحقيقه تحقيقا منظما فإن المادية لن تصمد في كفاحها.
غير أن اعتراف مؤسسي الماركسية بفضل الجدل الهيجلي بهذه الصورة لم يرق- فيما يبدو- لبعض القادة السياسيين أمثال "جوزيف ستالين" الذي حاول أن يطمس المعالم الهيجلية بأي شكل حتى ولو بالخروج عن أبسط حدود الأمانة العلمية. (يستشهد "ستالين" في كتيبه الصغير الذي وضعه عن الجدل بمثل من إنجلز ، عن التغييرات الكمية، أخذه الأخير عن هيجل ولكنه أشار صراحة إلى المرجع وهو الموسوعه (أنظر جدل الطبيعه لهيجل)، غير أن ستالين يسوق النص كما لو كان مثلا يضربه إنجلز (كتاب ستالين صفحه 8).
ويكتب ستالين "غير أن ذلك لا يعني قط أن جدل ماركس وإنجلز هو نفسه جدل هيجل فهما لم يقتبسا من جدل هيجل سوى "نواته العقلية" وطرحا غلافه المثالي ثم وسعاه وأعطياه طابعا علميا حديثا ، ولم يدرك ستالين، أن "النواة" هي منطق هيجل كله، وأن هيجل شرح هذه "النواة" في ثلاثة مجلدات فضلا عن الموسوعة"- وأنها ثمرة جهاد شاق ضمّ بين جوانبه كل ما أطلق عليه ماركس فيما بعد أسم "القوانين الأساسية للجدل" "والقوانين الكلية للحركة" والمقولات "الماركسية" و"نظرية المعرفة"، وما أطلق عليه ستالين إسم خصائص المنهج الجدلي الماركسي "بل لم يدرك ستالين أن كتيبه هذا ليس إلا انعكاسات سطحية لما كتب هيجل".
ولكن هنا علينا أن نذكر بأن المكتشفات العلمية التي ظهرت في عصر ماركس وإنجلز، وذكرها إنجلز في كتاباته المختلفة وساعدتهم في بناء المنهج الجدلي المادي، كانت ثلاث اكتشافات علمية وهي:
1- اكتشاف تحول الطاقة، وهو الذي أنتج فكرة التغير الكيفي وأظهر أن مختلف القوى الفيزيائية عبارة عن وجود لحركة المادة.
2- إكتشاف الخلية الحية وهو الذي كشف سر تركيب الكائنات العضوية الحية وسمح بإدراك كيفية إنتقال العالم الكيميائي إلى العالم البيولوجي وفسر تطور الكائنات الحية.
3- نظرية التطور عن داروين التي هزمت الحاجز الميتافيزيقي بين مختلف الأنواع من ناحية، وبين الإنسان وبقية الطبيعة من ناحية ٍ أخرى.
وعلى الرغم من ذكر إنجلز لهذه المكتشفات الثلاثه، إلا أنه كان يذكرها دائما ، على أنها شواهد وأدله على صحة الجدل الهيجلي.
وقد كتب وهو يتتبع المكتشفات العلمية الجديدة إلى ماركس يرجوه أن يرسل له فلسفة الطبيعة لهيجل لأنه يريد أن يتأكد مما إذا كان هيجل قد لمح بفراسته المعتادة شيئا من هذه المكتشفات.
ويقول في نفس الرسالة انه لو عاش هيجل الآن وأراد أن يكتب فلسفة الطبيعة من جديد، "فسوف تنهال عليه الحقائق من كل صوب".
وكان إنجلز يؤكد بأن كل اكتشاف جديد يُعّد دليلا جديدا على صدق القوانين الهيجلية.
وكان يعتبر التقدم العلمي دفعة قوية لتطبيق الجدل الهيجلي في شتى المجالات ولذا فإن النتائج العلمية الجديدة لا بد أن يُسر لها هيجل لو امتد به الأجل".
(ماركس إنجلز- رسائل مختارة، صفحه 109).
وقال إنجلز عن اكتشاف الخلية يقول: "الخلية هي الوجود بالذات عند هيجل، وتطورها يتم بالضبط وفقا للعملية الهيجلية التي تنتهي أخيرا بالفكرة، أعني الكائن الحي الجزئي المكتمل".
ويقول إنجلز لماركس "... هناك نتيجة أخرى سوف يُسر لها هيجل العجوز وهي ترابط القوى في علم الطبيعة، أو القانون الذي تتحول بواسطته القوى الآلية- تحت ظروف معينه إلى حرارة وضوء، وتتحول الطاقة الكيميائية إلى كهرباء والكهرباء إلى مغناطيسية...".
وحين يتحدث إنجلز عن نظرية التطور يقول: "إن نظرية التطور عند دارون تعد بمثابة البرهان العلمي على تفسير هيجل للرابطة الداخلية بين الضرورة والصدفة...".
بل نراه يذهب فضلا عن ذلك إلى القول بأن الفسيولوجيا لا يمكن أن تكون علما ما لم نأخذ بفكرة هيجل التي ترى أن الموت عنصر ضروري، وعامل جوهري للحياه، وأن "سلب" الحياه موجود أساسا في الحياة نفسها، وبالتالي لا يمكن التفكير في الحياة إلا من حيث علاقتها الضرورية بالموت الذي تحمل في جوفها بذرته.
ويمكن القول لولا هيجل لما كانت هناك مادية جدلية ولما كانت هناك إشتراكية علمية.
وحتى ماركس الذي استفاد ايضا من مادية الفيلسوف الألماني فويرباخ، عندما عرض للمقارنه بين هيجل المثالي وفويرباخ المادي فيقول: "إن فويرباخ ليتضاءل إذا ما قورن بهيجل...". وكل جداره فويرباخ حسب رأي ماركس هو أنه فسّر هيجل تفسيرا ماديا من وجهة نظر هيجل نفسه.
ولعلّ أشهر عبارة قالها ماركس في الجزء الأول من رأس المال حين قال "إن منهجي الجدلي لا يختلف في أساسه عن منهج هيجل فحسب، بل هو مضاد له تماما ، فقد كان الجدل الهيجلي يقف على رأسه...." فجعلنا الرأس إلى أعلى، أو بتعبير أدق أقمناه على قدميه...".
لا شك بأن نقطة الخلاف الرئيسية بين ماركس وهيجل تكمن أساسا في تصور كل منهما للكون أو بدقه أكثر في تحديد كل منهما للعلاقة بين الفكر والوجود وأيهما يسبق الآخر منطقيا . هيجل يرى أن الفكر هو الشرط الأساسي وهو المبدأ الأول للكون، وهو الماهية الخالصة للعالم الواقعي وبالتالي فلا بد أن نبدأ من الفكر الخالص لنسير منه إلى الطبيعة، في حين أن ماركس يرفض هذه النظرة المثالية ويرى أن الطبيعة والواقع المادي هما الأساس الأول وهما الشرط الأساسي أو البناء التحتي ، لوجود الفكر والحياة الروحية أي البناء الفوقي للمجتمع. فالخلاف هو في نقطة البدء ولكن هناك اتفاق بين ماركس وإنجلز وهيجل في أن النهج الصحيح هو النهج الجدلي الهيجلي، فماركس كان يؤكد دائما بأن المنهج الوحيد الذي ينبغي على الفلسفة أن تأخذ به هو المنهج الجدلي الهيجلي، كما كان يتفق ماركس وإنجلز وهيغل على رفض المنهج الميتافيزيقي: منهج الاستقرار والسكون، والهوية المجردة، منهج النظرة المحدودة الضيقة، وحيدة الجانب فقيرة المضمون.
المنهج الذي يعارضه كل من هيجل وماركس هو المنهج الميتافيزيقي الجامد، أما المنهج الجدلي الهيجلي فهما متفقان على أنه المنهج الوحيد الذي يكشف عن الحقيقة، والسبيل الوحيد أمام الفلسفة لكي تتمكن من دراسة العالم دراسة دقيقة وأن تصل إلى المعرفة اليقينية، لكنهما يختلفان بعد ذلك في "النظرة الفلسفية" إلى الكون، أو في المفهوم الفلسفي عن العالم، وبديهي أن يؤدي ذلك إلى اختلاف في اتجاه عبور الطريق، هيجل يبدأ من الفكر وماركس يبدأ من المادة، لكن الطريق هو هو – طريق الفلسفة الجدلية.
ولهذا فإن انفصال ماركس عن الهيجلية لم يكن نتيجة لاختلاف في المنهج الجدلي، وإنما جاء نتيجة لاختلاف وجهة نظرهما عن العالم هيجل المثالي وماركس المادي. اختلاف في المسألة الأساسية للفلسفة.
يقول إنجلز مفسرا سبب هذا الانفصال: "لقد كان انفصالنا عن الفلسفة الهيجلية يرجع أساسا إلى العودة إلى وجهة النظر المادية... أعني التحرر من التصور المثالي للعالم.....".
(ن. ماركس. ف. إنجلز (المؤلفات المختاره، المجلد الثاني، صفحه 386).
وهذا التصور المثالي للعالم الذي ظلت الماركسية، ولا تزال تحاربه – بنفس القوه التي تدافع بها عن الجدل الهيجلي. يقول إنجلز "نحن لا ندافع قط عن وجهة النظر الهيجلية التي تتخذ من الروح أو العقل أو الفكره نقطة البدء، وتعتبر العالم نسخة من هذه الفكره، ولقد سبقنا فويرباخ ورفضها....
لكن بعد ذلك كلّه يبقى الجدل الهيجلي..." (إنجلز ضد دوهرينخ) بل إن جدارة وعبقرية ماركس ترجع فيما يقول إنجلز إلى أنه كان أول من إستطاع أن يبرز المنهج الجدلي الذي "طواه النسيان" ويبين صلته بالجدل الهيجلي، ويطبقه في كتابه رأس المال على وقائع علم تجريبي هو علم الإقتصاد السياسي. ومعنى ذلك أن ما يجعل الماركسية "تضاد الهيجلية تماما " هو ماديتها وليس منهجها.
وكتب لينين يقول: "كتب ماركس مقدمته الطبعة الثانية من المجلد الأول لرأس المال، وفيها يظهر بوضوح قاطع معارضة مذهبه المادي، للمذهب المثالي عند هيجل وهو الذي يعد من أعظم المذاهب المثالية تطويرا واتساقا ".
(V. Lenin "Materialism and Emp" P. 352).
وهذا واضح تماما حتى من عبارة ماركس السابقة التي تبدو في ظاهرها مقابله بين المنهجيين لكنها في الحقيقة تقابل بين فلسفتين، مادية الماركسية ومثالية الهيجلية.
يقول ماركس: "إن حركة الفكر التي يجعلها هيجل ذاتا مستقلة ويسميها هيجل بالفكرة- هي عنده صانعة الواقع، وليس هذا الواقع إلا الصورة الخارجية الظاهرية للفكر، أما عندي فحركة الفكر ليست- على العكس- إلا انعكاسا للواقع".
(K. MARX: Capital: Vol 1. P. 19).
وليس في هذا حديث عن المنهج وإنما مقابله بين التصور الفلسفي للعلاقة بين الفكر والوجود عند كل من الفلسفة المثالية والفلسفة المادية.
هيجل يجعل الفكر أساسا أوليا عليه يعتمد الوجود بأسره.
أما ماركس فيطالب بأن نقلب الوضع بحيث يكون الأساس هو مادة الواقع.
ولقد أوضح إنجلز نقطة التعارض هذه بين الفلسفتين بإسهاب وتفصيل في مقالة عن "فويرباخ" حين تحدث عن نشأة الماركسية "كتيار خصب" خرج من انحلال المدرسة الهيجلية، وكيف أنهم شقوا طريقا مخالفا للهيجلية في النظر إلى العالم. "ووطدنا العزم على التضحية بكل مثالي لا يتفق معا في النظر إلى الواقع كما هو لا بشكل خيالي".
(إنجلز- أعمال مختارة- الجزء الثاني - صفحه 386).
وهذا هو أساس الخلاف مع الهيجلية "غير أن هيجل لم يستبعد تماما بل على العكس لقد اتخذنا نقطة البدء من الجانب الثوري في فلسفته وأعني به منهجه الجدلي...".
فمنهج هذا التيار المادي الجديد الثوري الذي ارتبط باسم ماركس هو إذا الجانب الثوري في فلسفة هيجل أو منهجه الجدلي. ولكن في نفس الوقت كما كتب إنجلز فالمنهج الجدلي في صورته الهيجلية لم يكن يصلح للاستعمال، بدون الفلسفة المادية لماركس.
يقول إنجلز موضحا ذلك "فالتطور الجدلي (عند هيجل) الذي يظهر في الطبيعة والتاريخ، هو صورة من الحركه الذاتية من الفكرة الشاملة، وهي الفكرة الخالدة التي لا يعلم أحد مكانها، ولكنها على كل حال- مستقلة عن العقل البشري. وهذه الإيديولوجية المعكوسة هي التي يجب استبعادها وبهذه الطريقة عاد الجانب الثوري في فلسفة هيجل إلى الظهور من جديد، متحررا في نفس الوقت من الإطار المثالي الذي منع هيجل من تطبيق منهجه تطبيقا متسقا ..".
(إنجلز أعمال مختارة- الجزء الثاني- صفحه 386).
يقول إنجلز "إن هيغل هو أول من تفهم بشكل صحيح العلاقة بين الحرية والضرورة. فالحرية بنظرة هي معرفة الضرورة. "إن الضرورة عمياء ما دامت غير مفهومه"، فليس في الإستقلال الموهوم عن قوانين الطبيعة تتجسد الحرية، بل في معرفة هذه القوانين، في الإمكانية المرتكزة على هذه المعرفة لإجبار قوانين الطبيعة بصورة منهجية على أن تفعل فعلها من أجل أهداف معينه.
وهذا ينطبق سواء على قوانين الطبيعة الخارجية، أو على القوانين التي توجه الوجود الجسدي والروحي للإنسان نفسه .
وبالتالي لا تعني حرية الإرادة سوى القدره على إتخاذ القرارات عن معرفة للأمر. إن الحرية تتجسد في السيادة على أنفسنا بالذات وعلى الطبيعه الخارجية، هذه السياده المرتكزة على معرفة ضرورات الطبيعة. (إنجلز، ضد دوهرينغ- صفحه 239).
فإنجلز هنا يقول ببساطه أن ضرورة الطبيعه هي الأولى وأن إرادة الإنسان ووعية هما الثانوي. وينبغي لهذين الأخيرين، ينبغي لهما حتما وإلزاما أن يتكيفا للأولى أي للضرورة الطبيعية.
وما دمنا لا نعرف قانون الطبيعة فإن هذا القانون الموجود موضوعيا والذي يفعل فعله في معزل عن إدراكنا، خارج إدراكنا ومعرفتنا يجعلنا عبيدا "للضرورة العمياء" ومتى عرفنا هذا القانون الذي يفعل فعله (كما كرر ماركس آلاف المرات) بصورة مستقلة عن إرادتنا وإدراكنا، فإننا نصبح أسياد الطبيعة.
إن السيادة على الطبيعة، هذه السيادة التي تتجلى في نشاط البشر العملي، هي نتيجة إنعكاس ظاهرات الطبيعة وعملياتها إنعكاسا صحيحا موضوعيا في رأس الإنسان هي دليل على أن هذا الإنعكاس (في حدود ما يبينه لنا الواقع العملي) هو حقيقة موضوعية، مطلقه، خالدة. هذا هو أساس المادية الدياليكتيكية.
فمثالية هيغل تعتبر العالم "وجودا آخر" للروح، ولكن الماركسية ترى واقعية العالم المادي الموضوعية. (لينين المختارات المجلد 4).
وهكذا يتضح لنا من عبارة إنجلز هذه أن ما تعارضه الماركسية هو "الإيديولوجية المعكوسه" أي المثالية الهيجلية التي تضع الفكر قبل الوجود، وتجعله المبدأ وكل ما في الكون حديث عنه وخبر.
يقول إنجلز: "إن مذهب هيجل هو نفسه المذهب المادي في وضع مقلوب...".
فماركس وإنجلز يعارضان المثالية الهيجلية وليس الجدل الهيجلي وكثيرا ما كان ماركس يسمى المذهب الهيجلي "بالإطار المثالي" أو "الغلاف الصوفي" ويرى أنه لا بد من أن تنزع هذا الإطار حتى تظهر "النواة العقلية" واضحة، وهو يقصد بها المنطق الهيجلي والجدل الهيجلي، بل إن ما كان ماركس يجاهد في سبيله هو أن يتمكن من فصل المنطق والجدل الهيجلي عن المثالية الهيجلية لكي يطبقه بعد ذلك تطبيقا جديدا على علم الإقتصاد وتاريخ المجتمع البشري، وهنا تكمن عبقرية ماركس وإنجلز.
وهذا ما قاله إنجلز وهو يصف الدور الذي قاما به معا دون بقية الهيجليين اليساريين، "إننا كلينا- ماركس وأنا- كنا وحدنا تقريبا اللذين عملا لإنقاذ الجدل الواعي من المثالية الألمانية (أي الهيجلية) وذلك بإدخاله في المفهوم المادي عن الطبيعة والتاريخ...". (إنجلز، ضد دوهرينغ، صفحه 16، E. Engels "Anti Duhring).
وهذا واضح كذلك في كل ما وجهه إنجلز من نقد إلى هيجل حيث كان ينصب نقده أساسا على مثالية هيجل أو ما غلف جدله من صوفية، ويرى أننا يجب أن ننزع عنه هذه الصوفية ليتضح الجدل الهيجلي في قوته الحقيقية. يقول مثلا : إن الكون عنده لا بد أن يتطابق- طوعا أو كرها - مع نسق الفكر الذي هو نفسه ليس إلا نتاجا لفترة محددة من تطور الفكر البشري. ولو أننا قلبنا الوضع لصار كل شيء بسيطا ، ولأصبحت القوانين الجدلية التي وصلت إلى أقصى درجة من الصوفية في فلسفة هيجل المثالية- واضحة وضوح النهار....".
(E. Engels P. 83-4.).
وعلى ذلك فإذا كان ماركس يذهب أحيانا إلى أنه قلب المنهج الهيجلي أو أقامه على قدميه، فيجب أن نفهم إن ما كان يعنيه دائما يمثل هذه العبارات هو أنه قلب "المذهب المثالي" أو "عكس التصور المثالي للعالم".
أو بعبارة أخرى أقامه على قدميه حين جعل من الماده الأساس، ومن الفكر تابعا لها.
ولقد كتب ماركس في هذا المعنى إلى كوجلمان في 6 مارس سنة 1868 يرد على نقد "دوهرنج" لكتابه رأس المال فقال "إن دوهرنج يعرف تماما أن منهجي ليس هو المنهج الهيجلي طالما اني مادي وهيجل مثالي.
إن الجدل الهيجلي هو الصورة الأساسية لجميع ألوان الجدل، ولكن بعد أن ننزع عنه غلافه المثالي، وهذا بالضبط ما يميز منهجي عن منهجه...". (ماركس - رسائل مختارة - صفحه 100).