الكذب ... قصة قصيرة


نوال السعداوي
الحوار المتمدن - العدد: 7540 - 2023 / 3 / 4 - 20:20
المحور: الادب والفن     

فجأة أصبح عاريا تماما.
لم يعرف كيف خلع ملابسه .. لكنه كان يريد أن يضعها أمام أمر واقع . أمام رجل عار. ان العرى فى حد ذاته كفيل بأن يطور العلاقة بينه وبينها. لم يعد عنده صبر، فالحاضر خطر والمستقبل غير مضمون. ولم يعد عنده وقت فالشباب أدبر والكهولة تقترب بابتعاده عن الأربعين ، ورصيده من القوة أصبح يقل ، وكثيرا ما فشل جسده في لحظات تأجج فيها القلب.
كان يتحدث في شئ ما. كان موضوعا جافا. لعله كان علما أو سياسة أو فلسفة. وكانت هى تجلس أمامه مرتدية فستانا حديثا. لم تكن نظرتها مغرية أو مشتهية أو أى شئ من ذلك الشبق ، الذي تتقنه النساء المحتشمات. بالعكس، كانت نظرتها تطرد الرجل أكثر مما تناديه ، تطرده بكل عنف وبغير رجعة ، كما نطرد عن أنفسنا المرض أو الموت أو أى شئ ، نحس أنه اذا ما انقض علينا ، فمن المحال ألا يفتك بنا.
نحن مسوقون إلى حتفنا أردنا أم لم نرد - قال لنفسه هذه الجملة حين لمح نفسه في المرآة عاريا. عشرون سنة عاشها مع أم أولاده الخمسة.. زوجة شرعية خجول وعذراء ، وتعشق الانجاب بغير أن يتعرى الجسم.
وأشاح بوجهه بعيداعن المرآة .
فقد اصطدمت عيناه بصدر مشعر كصدر القرد ، وبطن عالية كبطن امرأة حامل. لم يكن يظن أن بطنه ارتفع إلى هذا الحد. في كل يوم كان يرتفع ارتفاعا قليلا جدا غير ملحوظ، ، ويضيق البنطلون بسيطا جدا لا يزيد عن ملليمتر أو نصف ملليمتر. لكنه التراكم. تراكم الأيام مئات الأيام ، آلاف الأيام، وتراكمت معها الملليمترات ، بعضها فوق بعض ..عشرين سنة.

وكانت هي تجلس وفى يدها الكتاب. كانت تعرف أنه جالس في كرسيه بكامل وقاره يتحدث، فالكلمات تخرج من فمه متتابعة واحدة وراء الأخرى بغير فواصل وبغير سكتات ، كأنما كان يمضغ لعابه ، ثم يفرزه حروفا متلاصقة ممتدة كسائل له قوام ،أو كالخيط يتدلى من فمه طويلا وحريريا، لا ينتهي ولا ينقطع ، وربما يلتف ويتشابك كالشرنقة . وربما استطاع حرف واحد أن ينفصل من تلقاء نفسه ، ويتطاير في الجو كذرة مائية أو فقاعة لا تلبث أن تسقط فوق أى شئ صلب.
كانت تنصت إليه، وهو ليس ضيفا عاديا. انه صديق زوجها منذ سنين كثيرة ، أكثر من السنين التي جمعت زوجها بأى أحد. وهو رجل مؤدب. تستطيع أن تحس ذلك من عضلات وجهه المشدودة وتقلص عضلات العنق، والكرافتة مربوطة حول رقبته ومعقودة بشدة. كأنما لا تفك ، أو لا يمكن أن تفك أبدا. كأنه ينام ويصحو بها .. بل كأنه ولد بها. والجاكت ذو الصفين من الأزرار، والبنطلون الضيق المزرر باحكام وساقاه المضمومتان وركبتاه المتلاصقتان ، كما تجلس المرأة ذات الحياء أو الفتاة العذراء. أجل، كانت له عذرية رجل ، لا يبدو أن خلع ملابسه أبدا ، أو أن ملابسه لا يمكن أن تخلع حتى لو أراد .
ولم يكن وجوده بالبيت ، وأن غاب زوجها يزعجها في شىء. تتركه يتحدث في كرسيه وتفعل ما تريد. قد تكتب، وقد تقرأ، وإذا وقع منهاالقلم وتدحرج تحت المنضدة فهى تنثنى لتلقطه بغير حرج ، فإذا ما قفز فستانها الضيق القصير، وتعرت تماما من الخلف لم تنزعج. فهو لا يمكن أن ينظر إليها. وإذا نظر فان نظرته رفيعة مثقفة، تحط على جسدها بغير ثقل وبغير حرارة ، كالهواء سواء بسواء. حتى حديثه غير المنقطع لم يكن يزعجها في شئ ، بل لعله كان يسليها ، فإذا ما غاب فتحت الراديو.
أعطى ظهره للمرآة وظل واقفا. كانت جالسة أمامه على كرسى منخفض وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين. الوضع الطبيعي الذي يتخذه فخذا المرأة الحديثة ، حين تجلس. وكانت عيناه تنفذان بينهما بسهولة ، وتبلغان نهايتها دون مشقة على الاطلاق. وكان قد اتنقل في حديثه من السياسة العالمية ، إلى أصل الكون إلى الجبرية في الأديان. لكن عضلات عنقه كانت - وهو يتحدث - تتقلص في شدة ، محدثة صريرا غريبا يخشى أن يكون مسموعا . فإذا به يتكلم بصوت أعلى مما تقتضيه الآداب الحديثة. كان يشعر بشئ من الحرج . لكن صوته يرن في الصالة ذات الأثاث المودرن ، ويهز الستائر الشفافة فوق النوافذ هزا رقيقا ناعما ، يدغدغ أذنيه ، فاذا به يعشق صوته ويستشعر في نطق الكلمات لذة كبيرة.
وكان الكتاب لا يزال فى يدها ، وعيناها على سطر فوق احدى الصفحات. لم تكن تحرك عينيها من كلمة إلى كلمة. كانت تعشق الكتب بشدة . لكن كرهها للقراءة كان أشد فاذا بعينيها تزحفان كمنقار، وتسرى نعومة الورق الفاخر فى نعومة أناملها ، فتستشعر ترابطا حسيا بينها وبين الثقافة.
وظل واقفا وظهره إلى المرآة. لم ترفع رأسها بعد من فوق الكتاب. كل ما حدث حينما انقطع صوته فجأة ، أن امتدت يدها بغير وعى إلى الراديو ، فامتلأت الصالة بصوت رصين يتلو القرآن . ربما لو كان برنامجا آخر غير محتشم، تمثيلية مثلا أو قطعة موسيقى ، ربما تحرك من مكانه. أما أن يتلى القرآن وبذلك الصوت الوقور ، فلم يكن أمامه ، إلا أن يظل واقفا في مكانه بغير حراك. كان الفصل شتاء - اليوم الأخير من شهر يناير بالتحديد - وبالرغم من النوافذ المتينة المحكمة، كان هناك تبار من هواء بارد متجه إلي عموده الفقرى بالذات. وفكر في أن يمد يده ليتقط شيئا من ملابسه الملقاة تحت قدميه، لكنه خشی ان تحرك أن يلفت نظرها قبل أن تنتهى تلاوة الآيات. استطاع فقط أن يرمق بشئ من الحسرة البلوفر بصوفه الانجليزى الغالى يشيع الدفء في البلاط ، وإلى جواره كانت هناك الكرافتة، بربطتها المحكمة المحترمة وذيلها الطويل الرفيع اللامع . وإلى جوارها تماما ويكاد يلتصق بها ، كان هناك سرواله القطني الضخم يفضح حجم بطنه وانبعاج فخذيه ، يفضحهما بغير شفقة ، وبغير حياء ، وبغير مراعاة للآداب العامة.
وانتهت التلاوة. وبدأ يفكر فى الحركة التي يمكن أن يبدأ بها. وخُيل إليه أن حركة الذراع قد تكون أكثر لياقة من غيرها. ولعله حرك ذراعه فعلا ، لأن الشعر الكثيف تحت ابطه أصبح ظاهرا للعيان. لكن خلجة واحدة لم تتحرك فيها. كانت لا تزال جالسة تقرأ في الكتاب، وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين، الوضع العادي الذي يتخذه فخذا المرأة الحديثة حين تستغرقها القراءة، ذلك الاستغراق الطبيعي لأى شخص مثقف . لكنه لم يكن يظن ، أو لم يكن يدور بخلده أبدا أن الاستغراق مهما بلغ من العمق أو الثقافة ، يمكن أن يحول بين المرأة وبين رجل عار.
وكانت أذناها قد التقطتا صوت المقرئ ، فامتدت يدها بغير وعى وأدارت المفتاح بشئ من الرهبة ، وبدأ صوت كالهدير يذيع نشرة الأخبار. ربما لو كانت وحدها لامتدت يدها مرة أخرى وأدارت المفتاح . لكنها كانت تعرف أنه جالس فى كرسيه. عنقه مشدود ومربوط بالكرافتة. و نصفه الاعلى صندوق أُحكم اغلاقه بصفين من الازرار، وساقاه مضمومتان ملتصقتان في احتشام. الوضع الطبيعي الذي تتخذه ساقا الرجل الحديث حين يستمع إلى النشرة. وكانت عيناها قد تسربتا من فوق السطر خلسة فوق ذراعها البض الناعم، لكنهما لم تلبثا أن تعثرتا ببضع شعرات نافرات خشنات ، فتذكرت موعد الحلاقة.
وكان هو قد بدأ يشعر بالحيرة .. فما الذي يفعله ليخرجها من ذلك الاستغراق؟. وضع أصبعه فى فمه ليصفر ، كما كان يفعل وهو طفل حافٍ يلعب في الحارة عارى الأرداف . وربما وضع أصبعه في فمه فعلا ، لكنه لم يصفر. لم تعد عضلات فمه قادرة على أحداث تلك الأصوات المنافية للذوق العام. وظل واقفا جامدا عاريا كالتمثال ، لكن الصمت دب فجأة في الصالة ، ربما انقطع تيار الكهرباء، ورفعت رأسها من فوق الكتاب فإذا بالصالة غارقة فى الظلام. وكادت تصطدم به وهى متجهة إلى حجرة المكتب ، لولا أنه تراجع خطوة إلى الوراء، ولما عادت بكتاب آخر ، كان التيار قد عاد ، وكان هو جالس فى كرسيه المعتاد بكامل ملابسه وكامل وقاره.
-------------------------------------------------
من المجموعة القصصية : " وكانت هى الأضعف " طبعة أولى 1977 .. طبعة ثانية 2018
-----------------------------------------------------------