الفلاح المصرى .. لا يُلدَغ من صُُفرٍ مرتين : عن الأشكال التنظيمية للكفاح الفلاحى فى مصر.. ( 1 – 2 )
بشير صقر
2010 / 5 / 25 - 15:35
هل يمكن أن نؤسس بناية ( نقابة ) جديدة..
بأنقاض بناية منهارة.. دون معرفة أسباب انهيارها ..؟!
تمهيد:
سادت فى مصر لفترات طويلة نسبيا فكرة مغلوطة عن الأسس النظرية لبناء التنظيمات الشعبية الكفاحية.. مفادها أن تلك الأسس تقتصر فقط على الأفكار التى يمكن استقاؤها من الأدبيات السياسية العالمية .. وعلى وجه الخصوص الأدبيات الاشتراكية والتى منها:
1- أن الوعى جوهر التنظيم ، والذى بدونه يولد أى شكل تنظيمى ميتا.
2- وأن ذلك الوعى لا يتولد تلقائيا فى صفوف الطبقات الفقيرة الغارقة فى الأمية بل يصلها من خارجها، وعلى وجه التحديد من بعض النخب المثقفة التى تسعى لتبنى المصالح السياسية والاقتصادية للفقراء ، وذلك لأن الوعى ينشأ بالأساس من تقدم العلوم بشتى أنواعها وبشكل خاص علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والفلسفة التى لا تتوافر إلا لمن نالوا قسطا وافرا من التعليم يضاف إليها الخبرة الاجتماعية العامة.
- هذا وتتجاهل تلك الفكرة عنصرا بالغ الأهمية فى تلك الأسس إلا وهو عنصر المعرفة العيانية الملموسة لأوضاع الطبقات الاجتماعية التى تنشأ فيها التنظيمات المشار إليها ، وعليه باتت تلك الأسس النظرية مجتزأة وغبر مكتملة.
- فالتنظيمات بكل أنواعها لا تنشأ فى الفراغ .. بل فى وسط البشر وتهتم بتحقيق أهداف ومصالح طبقات وفئات اجتماعية بعينها وهى فى موضوعنا هذا فقراء الشعب المصرى الذين يعانون من القهر والفقر بأشكالهما المتعددة .
- ويصير من المنطقى أن تجيب المعرفة العيانية عن مثل الأسئلة التالية:
كيف تعمل تلك الطبقات وكيف تفكر وتعيش ، وتتحصل على دخولها وكيف تنفقها ، وكيف يتم استغلالها وماهى أدوات ذلك الاستغلال وأساليبه وأوزانه ، وكذا أساليب القهر وأبعاده ؟!.. إلخ.
- وداخل هذه الفكرة المجتزأة الخاطئة .. تكمن فكرة أشد خطأً مفادها أن المعرفة بأوضاع الشعب المصرى تُخْتصر فى تجميع حسابى لإحصاءات رقمية رسمية أو غير رسمية أو تعنى فى حالات أخرى - وهذا هو الأخطر- اختلاطا يوميا بالفقراء دون رصد وتنقيب فى دلالات مايتم إدراكه من أفكاروسلوكيات يمكن تعميمها على نطاق المجتمع أو أجزاء كبيرة منه أو اقتصارها على منطق محدودة لا تتعداها وبالتالى لا يمكن تعميمها.
- وللحقيقة - فمع قناعتنا الشديدة بما ذُكِر أعلاه عن عنصر الوعى ومصادره وكيفية وصوله إلى طبقات المجتمع الفقيرة وعلاقته بالتنظيم - فإننا نستهدف الجانب الآخر من الفكرة وهو الجانب المجتزأ منها .. والخاص بإهمال المعرفة العيانية الملموسة بأوضاع المجتمع المصرى وطبقاته الفقيرة فى تكوين الأسس النظرية لبناء التنظيمات الشعبية الكفاحية.
- إن ذلك الجانب المجتزأ من الفكرة المغلوطة - " غياب المعرفة العيانية الملموسة بأوضاع الفقراء " – لا يمكن علاجه بتجميعات إحصائية رقمية .. ولا بقراءتها قراءة مكتبية .. كما لا يعالجها مجرد الاختلاط اليومى فاقد البصيرة بالطبقات الفقيرة.. لأن ما نعنيه بتلك المعرفة العيانية هو النتاج المباشر للنشاط العملى الكفاحى .. ذلك النشاط الذى يلعب دورا هاما فى خلق النظرية الخاصة بالشكل التنظيمى الأمثل لأىٍ من طبقات الشعب المصرى الفقيرة سواء على النطاق القومى أو المحلى.. وهو يسبق فى توقيته تأسيس التنظيمات الشعبية وفى نفس الوقت يواكبها .. بمعنى أنه أشبه " بأداة تشخيص وفحص وعلاج ومتابعة بعدية " إذا ما استعرنا المصطلحات الطبية.
- إن تلك المعرفة العيانية بمثابة الدم الذى يتم ضخه فى الأشكال التنظيمية المختلفة ليبعث فيها الحياة ويدفعها لممارسة مهامها وتحقيق أهداف ومصالح من تمثلهم من الفقراء.
لذلك فما يهمنا فى مقالنا هذا هو الأشكال التنظيمية النقابية للفلاحين فى مصر .. وعليها سنقصر حديثنا .. ولن نخرج عنها إلا لمجرد التوضيح.
لماذا هذا المقال.. ؟؟
- ولأن هناك كثيرا من الأشكال التنظيمية السياسية والنقابية والثقافية.. تعرضت للانهيار لأسباب عميقة شتى.. لم يضع الكثيرون أيديهم عليها حتى الآن رغم ما قدمته لنا دور النشر ومراكز البحوث وعديد من الهيئات والمؤسسات من تحليلات وأسباب.. الكثير منها وهمى والبعض يطرح علينا النتائج كما لو كانت أسبابا، والبعض الآخر يغرق فى الخلط بين الشروط الذاتية والموضوعية أو يُقصر الأسباب على مماحكات حلقية أو شخصية تبتعد بها عن الحقيقة بشكل أو بآخر.
- وحيث سبق وتعرضنا فى مقال آخر بعنوان" التنظيمات الفلاحية بين هزال الوعى .. وافتقاد القدوة " نُشرعلى الموقع الإلكترونى العربى الحوار المتمدن http://www.ahewar.org ،وعلى موقع لجنة التضامن مع فلاحى الإصلاح الزراعى/ مصر
http://www.tadamon.katib.org فى أواخر إبريل 2008 .. لمسألة الوعى ودور القدوة فى تمثّله وتحقيقه فى الممارسة . وعلاقة ذلك بالانهيار الدرامى " لاتحاد الفلاحين المصريين تحت التأسيس " الملحق بحزب التجمع عام 1997 .. فسوف نحاول هذه المرة أن نتعرض لعنصر المعرفة العيانية الملموسة وللنشاط العملى الكفاحى المنتج لها بدرجة من التفصيل:
النشاط العملى الكفاحى .. والمعرفة العيانية الملموسة.. وجهان لعملة واحدة:
- من المعروف أن النشاط الإنتاجى للفلاحين الصغار والفقراء ( وهم 75 % من الفلاحين ) يرتبط بمجمل طبقات المجتمع بصلات متنوعة منها شراء مستلزمات الإنتاج الزراعى من الدولة والتجار ومنها إجراء العمليات الزراعية ومتطلباتها وتسويق المحاصيل ، ومنها الحصول على مستلزمات المعيشة كالطعام والكساء والتعليم والعلاج والإسكان وغيرها، فضلا عن الخضوع لكل عمليات النهب المنظم والعشوائى .. وكذا عمليات القهر والاستبداد والإفقاروالإفساد والتهميش.
- وعليه فإن النشاط العملى الذى نقصده- للفلاحين ونشطائهم – هو ذلك النشاط الكفاحى الذى يتيح التعرف على واستخلاص مجمل المعارف العيانية الملموسة فى حياة الفلاحين ويساهم فى الإمساك بالجوانب الفنية ( المهنية ) فى العمل الزراعى الفلاحى وكذا الجوانب المعيشية والاقتصادية علاوة على الجوانب الإدارية والسياسية التى تربطهم بطبقات المجتمع بعشرات الوشائج.
- وذلك النشاط العملى الكفاحى يوفر إمكانية تحديد المزيج ( الخلطة ) الأمثل بين الشق الفنى ( المهنى ) والشق الإدارى - الاقتصادى .. فى تسيير دفة العمل فى الأرض، كما يساهم- فى حالة شموله للجانب الأعظم من الريف- فى التعرف على الكيفية التى تتم بها إدارة القطاع الفلاحى على النطاق القومى ، وبدور ذلك القطاع المحدد ضمن منظومة النشاط الاقتصادى العام فى المجتمع وبالتأثير المتبادل بينهما.
- لأن الإلمام بكل ما سبق وببعض تفاصيله شارط لتماسك أية أشكال تنظيمية للفلاحين يتم الشروع فى بنائها ، بسبب اتصالها مباشرة بالأسس المادية التى تحكم النشاط الزراعى الفلاحى بشكل عام من ناحية .. والدور المعقود عليها لتحقيق بعض أهداف الفلاحين وتلبية جانب من احتياجاتهم و مطالبهم فى مسار الاستجابة لتطلعاتهم وتطورهم كطبقة .. من ناحية أخرى.
- إن هذه المعرفة العيانية الملموسة .. كنتاج للنشاط العملى الكفاحى .. لا تسهم فقط فى خلق النظرية الخاصة بالشكل التنظيمى الأنسب للفلاحين .. ولا بالقدرة على بنائه فحسب .. بل وترتبط بمدى تحمله لمختلف الضغوط التى تمارس عليه ليس فى الظروف العادية فقط .. بل وأيضا فى الظروف الاستثنائية .. سواء نجمت تلك الضغوط من داخل صفوف الفلاحين أنفسهم .. أو من القوى المعادية لهم.
طريقتان ومنطقان لبناء التنظيمات الفلاحية :
- بناء على ما سبق .. فإن الأشكال التنظيمية للفلاحين ومن خلال النشاط العملى الكفاحى لعدد من نشطاء الفلاحين أو من النخب التى يتواجد بعض أفرادها فى الريف .. تنشأ فى البداية كأنوية صغيرة فى معارك محدودة .. لكن استمرارها من عدمه متوقف على قدرة النشطاء على تطويرها.. لتكون مستجيبة لعدد من المهام .. التى تحقق بعض المطالب الفلاحية.. لكن ليس من المحتم أن تتطور لأشكال تنظيمية أرقى على نطاق جغرافى أكبر.
واستجابة تلك الأنوية التنظيمية لمهامها يتحدد من زاوية أخرى - كما سبق القول- بقدرة أعضائها على الإلمام المتصاعد بالمعارف العيانية الملموسة بأوضاع الفلاحين من جانب وبتفاصيل المهمة المستهدفة ووسائل التعامل معها وأدوات تحقيقها من جانب آخر.
وهكذا كلما نجحت تلك الأشكال الجنينية للتنظيم الفلاحى فى إنجاز مهامها .. وكلما تمكن أفرادها من الإلمام بمزيد من المعارف العيانية وتوظيفها التوظيف الأمثل كلما شقت طريقها نحو الالتحام بأنوية أخرى مكونة أشكالا أرقى وأكبر وهكذا.
- هذا ومن الممكن أن تنشأ مجموعة من الأنوية التنظيمية لا تصمد طويلا.. وتتلاشى بسبب هشاشة الأسس التى بنيت عليها ، لكن إرادة الفلاحين ونشطائهم يمكن أن تستأنف تخليق جيل جديد منها متلافية ما سبق ارتكابه من أخطاء مع الجيل السابق.
- ويمثل توقيت تأسيس الأشكال التنظيمية الفلاحية عنصرا هاما فى منْعتها وقدرتها على البقاء ، فلو تم ذلك فى ظروف استثنائية- مثل فترة هجوم شامل على الحريات العامة فى المجتمع - لتم القضاء عليها قضاء مبرما مما قد يؤخر إمكانية ظهور بدائل لها لفترات طويلة نسبيا ، بينما لو تم تأسيسها فى ظروف " سلمية " أو أقل صعوبة فقد تدفعها للتطور والنمو وتقوى شوكتها .. بحيث إذا ما صادفت ظروفا أقسى - فيما بعد - يمكنها مواجهتها.. ومن ثم تشب أكثر تماسكا وأصلب عودا.
- أما الطريقة الأخرى التى تم الاعتياد عليها بين النخب فتستند إلى منطق مغاير للمنطق السابق حيث يلجأ أصحابها إلى عقد لقاءات احتفالية تحت أى مسمى تضم من خلالها أسماء عدد من فلاحى القرى القريبة منهم وتنتهى بالإعلان عن تأسيس شكل تنظيمى يعمل على النطاق القومى يرفق به قائمة بعدد من المهام شديدة العمومية أو حتى دونما تحديد أية مهام تتناسب مع خبرة القائمين على تأسيسها أو مع فهم وقدرة الفلاحين الذين دونت أسماؤهم كأعضاء فيها والذين يظلون لفترات - طالت أو قصرت - محرومين من أية جهود مبذولة معهم للإرتقاء بوعيهم أو لتمليكهم أدوات ترفع من مستواهم الفنى أو الاستقرائى إلخ ، فضلا عن إسقاط كل ما سبق الحديث عنه من نشاط عملى كفاحى وإلمام بالمعارف العيانية الملموسة فى أى نطاق من الأنطقة التى يتم تحديدها لنشاطهم .. وعليه تتحول تلك الأشكال التى تفتقد لأبسط طرق الاتصال إلى جثث هامدة وأطلال خاوية على عروشها.. وتتكرر المحاولة بعد بضعة سنوات وأحيانا عدة شهور مع تغيير الاسم لتلقى نفس المصير .. ويدمن هؤلاء هذه المهنة ويتأقلمون عليها ويعتادون على التحدث - باسم تلك الأشكال التى توفاها الله أو انتحرت- فى المناسبات عن مطالب وأهداف لم يبذلوا فى سبيلها عُشر الجهد الذى يبددونه فى الدرشدشات التيليفونية أو الوقت الذى يقضونه فى الاحتفال بأعياد ميلاد أبنائهم وأحفادهم ودون أن ينجزوا مهمة واحدة أو ينجحوا فى تطوير أى شكل تنظيمى.
هل يمكن استثمار التقاليد الاجتماعية التعاضدية فى خلق قاعدة تنظيمية
للتعاون الزراعى الطوعى ؟
تلعب بعض التقاليد الاجتماعية التعاضدية دورا فى توفير الجهد والوقت اللازم لإنجاز عدد من العمليات الزراعية خصوصا فى أوقات جنى المحاصيل التى تستلزم إخلاء الأرض منها بسرعة حتى لا تتلف أو يتبدد جزء منها أو لتوفيرالوقت الذى يفصل زرعتين أو للتبكير فى زراعة المحصول التالى إلخ
- ومثل هذه التقاليد يمكن استغلالها فى التحضير لخلق قاعدة قوية للتعاون الزراعى فى المستقبل تبدأ " بنظام المزاملة " فى حصاد المحصول.. وتتطور لتخلق نواة شكل تنظيمى يساعد فى تحويل التعاون الزراعى إلى اختيار فلاحى طوعى بديلا عن النمط الحكومى الذى تفرضه الدولة بالقانون.
- وفى الأماكن التى تنتشر فيها مثل هذه التقاليد يمكن استغلالها فى تحقيق هذه الفكرة ( تخليق قاعدة لتعاون زراعى فلاحى طوعى ) ، بينما لا يتيسر ذلك فى أماكن أخرى بسبب ضعف أو غياب ذلك التعاضد فى حياة الفلاحين.
- وفى حالات أخرى قد ينتشر ذلك التقليد التعاضدى فى مجتمع زراعي بأكمله .. لكن تخليق ( أو التحضير لتخليق قاعدة للتعاون الزراعى الطوعى ) يتفاوت من منطقة لأخرى.. حيث تلعب عدالة التقليد دورا فى نمو ذلك التخليق أو فى اضمحلاله ( على سبيل المثال تزامل مجموعة من الفلاحين يحوزون أرضا متساوية أو متقاربة المساحة فى عملية الحصاد ، أو تزامل مجموعة أخرى تختلف مساحات حيازاتهم فى نفس العملية ) حيث تسهم عدالة التعاضد فى الحالة الأولى فى تخليق تلك القاعدة وفى تنميتها وتطويرها.. بينما فى الحالة الثانية تضمحل وربما تختفى بسبب نقص العدالة، وفى الحالة الأخيرة فإن وجود عقلية متميزة من بين الفلاحين يمكنها أن تسهم فى تعديل نظام ( تقليد ) التعاضد - بناء على اختلاف المساحة – ليصبح عادلا وبذلك تلعب دورها فى استمرار العدالة بما يمَكن من التحضير الكفء لتخليق تلك القاعدة للتعاون الزراعى الطوعى وتطويرها.
- وخلاصة القول أن امتلاك الحد الأدنى من الوعى .. وتوظيفه فى النشاط العملى الكفاحى يساهم إلى حد كبير فى خلق أسس الشكل التنظيمى المناسب استنادا إلى ما تراكم من معارف عيانية ملموسة، بل ويساهم فى تنميته وتعديل سلبياته ودفعه للأمام.
- ومن جانب آخر .. وحيث أن لكل شكل تنظيمى فى مرحلة زمنية محددة .. مهمة أو مهمات يسهر على تنفيذها .. فإن نجاحه فى إنجاز بعضها - رغم أنه يقوى عوده - فقد يوهم البعض أنه قادر على إنجاز مهمات نوعية أخرى فى مراحل تالية .. بينما الحقيقة غير ذلك ، لأن المهمات الجديدة قد تحتاج تعديلات جوهرية واستجابات تنظيمية جديدة فى بنائه .. إن لم تحدث فى التوقيت وبالكيفية المناسبة فستفضى لانهيار ذلك الشكل .. وتبسيطا للفكرة نسوق المثال التالى:
- لو تأسس شكل تنظيمى بسيط لعدد من المهمات الزراعية منها حصاد المحصول يدويا وإعداده للاستهلاك ؛ ثم دخلت التكنولوجيا التى تقوم بعدة عمليات حصادية متتابعة دفعة واحدة [ مثل ضم (جمع ) المحصول- الدراس - التذرية – فرز وتدريج المحصول ] فإن الشكل التنظيمى القائم لن يفى بمهمة من مهامه .. وإن لم يستجب لتلك الطريقة الجديدة فسيصبح عديم النفع فى إنجازها.
لذلك فإن ما يَصدُق على مهمة تعاضدية فى العمل الزراعى البسيط .. يصْدُق على نقابة كبرى للفلاحين فى أعمال ومهمات أكثر شمولا واتساعا وتعقيدا.
نفسية الفلاح .. بين مهمة النشاط العملى الكفاحى.. وتماسك الأشكال التنظيمية الفلاحية
هناك من المعارف شديدة الأهمية ما قد تبدو بعيدة الصلة عما نتحدث عنه.. من أمور تتعلق بالأشكال التنظيمية الفلاحية .. رغم علاقتها الوثيقة بها والتى لا يمكن فهم جذورها فهما عميقا دون النشاط العملى الكفاحى.
- فما يسمى بنفسية الفلاح المصرى - التى هى مزيج مدهش من الأفكار المتوارثة .. والمعتقدات .. والعادات .. والاحتياجات العميقة - سوف تلقى بظلالها على كثير من أنشطته المهنية وطموحاته ومتطلباته ما لم توضع فى الحسبان.. ويتم التعامل معها بحرفية شديدة ووعى أشد .. مثل جوعه الدائم للملكية وعلى وجه التحديد ملكية الأرض الزراعية التى حُرم منها طويلا ولا زال يعانى ، وظل على الدوام عنصرا لا يمكن الاستغناء عنه فى زراعتها بل وفى استقرار المجتمع المصرى وتغذية الشعب ؛ كما أنه ارتبط بها عضويا سواء كأحد عناصر العملية الإنتاجية بها ( العمل) .. أو لكونها ( أى الأرض ) أهم أسباب وجوده وبقائه حيا .. واستمرار نسله من بعده.
- وهذا الجوع لملكية الأرض كثيرا ما يلعب أدوارا متعاكسة ؛ فمن ناحية يدعم مقاومته فى الدفاع عنها ضد محاولات تجريده منها .. ومن ناحية أخرى يلعب دورا فى تهادنه عموما أو فى تنازله عن حقوق أخرى مقابل البقاء فيها .. وهو ما يمكن أن يسهم - ضمن عوامل أخرى هامة - فى ازدواجيته فى الكفاح العام فى المجتمع .
- فالعمال الفلاحون ( عمال المصانع الذين يحوزون أرضا زراعية ) يشكلون إحدى نقاط الضعف فى الكفاح العمالى كما قد يشكلون نفس الثغرة فى الكفاح الفلاحى ، بينما فى حالات أخرى يمكن أن يشكلوا نقاط قوة - مختلفة كيفيا – فى دعم النضال الفلاحى استنادا إلى ارتفاع وعى بعضهم بسبب اختلاطه بعمال الصناعة المتقدمين.
- ولأن تلك السمات السياسية الاجتماعية النفسية ليست أبدية رغم أنها متأصلة ويمكن تعديلها أو استئصالها ؛ فإن وعى النشطاء من الفلاحين بها - أو من النخب المشاركة لهم فى النشاط العملى الكفاحى- يمكن أن يساهم فى إحلال سمة بديلة محل سمة الجوع للملكية متمثلة فى حيازة جماعية للأرض وتعاون جماعى فى العمل ( الإعداد للزراعة وجمع المحصول وإدارة للنشاط وفقا لقرارات ديمقراطية يكون الفلاح إحدى مفرداتها وأحد صناعها ) بما يضمن لمجموع الفلاحين المتشاركين حقهم فى حياة كريمة متحررة من الخوف والقهر وتنحو لإشباع حاجاتهم بشكل متصاعد .. وتُحولهم لطبقة ذات قيمة ووزن ودور فى المجتمع.
هل يمكن تدشين بناية ( نقابة ) جديدة .. من أنقاض بناية منهارة.. دون معرفة أسباب الانهيار؟!
لا يمكن حصر كل ما يمكن حصده من مزايا النشاط العملى الكفاحى سواء فى انتزاع حقوق مؤكدة لصالح الفلاحين أو من المعارف العيانية الملموسة عن أوضاعهم.. التى تشكل الأسس الحقيقية المتينة والواثقة للتنظيمات الفلاحية التى تستجيب لمختلف المهام والظروف .. بل وتمثل كذلك عملية تمهيد ضرورية تؤهل لإعلان تأسيس تلك التنظيمات.
لكننا نتساءل : أين هذا ممن يعلنون أنهم يعملون فى أوساط الفلاحين من سنوات طويلة وأصبحوا محترفين فى تأسيس الأشكال التنظيمية الفلاحية ؟!
- فالأغلبية الساحقة منهم من النخب .. ولا علاقة لهم .. بل ولا رغبة فعلية .. فى ممارسة النشاط العملى الكفاحى ، أما الأقلية فكثير من أفرادها فلاحون تخلقوا بأسوأ صفات المثقفين .. وبدا معظمهم كمهرجى السيرك .. ولم يكتسبوا من مثقفى النخب سوى الرطانة والتشوش الفكرى والولع بالأضواء .. والرغبة فى الظهور والاستعراض.
- وفضلا عن كون أغلبية تلك النخب لا معرفة لها بالجوانب الفنية والإدارية والتنظيمية الخاصة بالنشاط الفلاحى .. فإن جميعهم لا يعرفون الكيفية التى يدار بها القطاع الفلاحى على المستوى القومى؛ ولا بدور هذا القطاع فى الاقتصاد القومى .. اللهم إلا فى العموميات وبالأرقام المجردة والإحصاءات الصماء دون وعى حقيقى بما تمثله تلك الأرقام ودلالاتها فى دفع ذلك القطاع إلى الأمام ..أو تجميد حركته..أو إعادته إلى الخلف.
- لكل هذه الأسباب مجتمعة .. سقطت كل التنظيمات الفلاحية التى أسستها النخب ودار فى فلكها فلاحون معظمهم صفْر.. وهُم مثال مكرر للنقابيين الصُفر الذين يعيثون فى أوساط الطبقة العاملة فسادا.
وعليه فلا مقدرة لأمثالهم .. ولا لمن بقى منهم .. أن يستأنفوا تدشين نقابة جديدة لفلاحى مصر لأنهم قوّضوا اتحادا سابقا للفلاحين ويعتبرون أنفسهم متعهدى التنظيمات الفلاحية فى مصر.
ولا يمكن ولا يجب.. أن يُلدغ الفلاحون .. من صُفرٍ مرتين.
وللحديث بقية...