https://www.ahewar.org/ - الحوار المتمدن


الكتابة هي صديقتي السرمدية

صبري يوسف

2005 / 7 / 30

الكتابة هي صديقتي السرمدية!
إهداء: إلى الصديق العزيز فؤاد زاديكه

يراودني ومتأكّد ممّا يراودني، لو حذفنا الكتابة من حياتي فلا أرى جدوى لأن أعيش يوماً واحداً! فأنا رهنتُ نفسي راهباً للحرف، مع انّني لا أؤمن بمبدأ الرهبنة بمعناها التقليدي والروحي والديني! مع أنني أعيشها كحالة تصوّفية مرتهنة لعوالمِ الكتابة، لأن الكتابة تخلخل كل همومي وأنيني وعذاباتي وتمنحني طاقة غريبة ولذيذة في استمرارية الحياة وتشعرني بأهمية ذاتي تجاه ذاتي!
تجاوزت منذ فترة طيبة بما يتركُ نصّي من صدى للمتلقّي، لأن المتلقي لا يخطر على بالي أصلاً لحظة الكتابة، لأنني أركّز على ما يتركه نصّي من صدى على نفسي، هذه النفس الهائمة في بيادر الحياة، تنسج رجرجات شوق الحرف إلى وجنة الصباح! .. عندما يولد حرفي يصبح ملكاً للقارئ، للحياة.

لا تقلق يا صديقي، فنسبة الأميّة في عالمِ اليوم تزداد، والأكثر زيادةً تنمو في وسط حاملي الشهادات العالية، فكم من الأمّيين الجامعيين أصادفهم في حياتي كل يوم! لا يلفت إنتباهي إطلاقاً إن قرأ أحدهم نصّي أو قصصي فما أكتبه أكتبه لنفسي وأدلقه على وجنة الحياة، وسواء اهتم به الآخر، اليوم أو غدٍ أو لم يهتم به أي إنسان المهم هذا يروي لي عطشي لحبق الحرف، ويحقّق لي بهجة عميقة ومتعة في غاية اللذة لحظة الكتابة! لهذا أرى أن حصادي آخذه حالما يولد نصّي ويخرج إلى النور!

أنا لست شاعر منابر ولا شاعر مهرجانات ولا شاعر يهوى الانتشار والشهرة الفارغة، من طبعي أحبُّ الهدوء وأكره الأضواء خاصة عندما تكون فاقعة، عندما أشعل شمعتي وأسمع فيروز وأكتب نصّي على إيقاع المناجل، أشعر وكأن حرفي يعانق سهول المالكية وهوائها العليل، تغمرني نشوة عميقة وأجدني أطير في سماوات الفرح، فرحي ينبع من عوالمي ويصبُّ بي! وكلّما أعبر متاهة ومشكلة وكارثة وشقاء وغربة، أجدني أحصد بهجة الشِّعر وأحوّل ضجر الحياة إلى قصيدة من لون الفرح الآتي! عذاباتي هي دخان عابر في بحار هائجة، لدي طاقة غريبة في تحدّي همومي وعذاباتي واعوجاجات هذا الزمان، وسخريتي مفتوحة دائماً على وجنة الروح من ترّهات آخر زمان!

مع انه لا يعجبني العجب في ممارسات الإنسان، لكن مع هذا أستطيع أن أتوازن مع غربتي وجموحي وبحوزتي قليلاً جدّاً من الزاد! شره جدّاً في الكتابة، كانّني لم أجد كتابةً في حياتي، لكن هذه الشراهة لم تقترب على عوالم الزاد! عجباً أرى بعد عقودٍ من الزمان وما أزال آكل قليلاً من اللبن والخبز بلذة وكأنني أتناول لذائذ الكون، أحياناً آكل لقمةً وأطرّز جملة شعرية، غالباً ما كنتُ أشبع قبل الشبع، من خلال توغّلي في رجرجرات بهجة الحرف!

عندما كنتُ في ديريك، جنّ جنون بعض الأصدقاء من جرّاء ارتفاع سعر اللحمة الهبرة! ونحن ذوي الدخل المحدود، المدرسون، كان بعضنا يرتجف من ارتفاع الاسعار، لكنّي ضحكت في إدارة المدرسة في سياق إجابتي لسؤال أحد الزملاء، حول موضوع ارتفاع سعر اللحم، وشاكسني لأنه يعرف أنني جاهز للنقاش في أية قضية حياتية، وإذ بي أقول، مشكلة غلاء اللحم عندي محلولة! وليس لدي وقت للنقاش فيها حتى ولو ارتفع سعرها إلى حدِّ الألفِ! فقال زميلي طيّب نوّرني كيف حلّيت مشكلة الغلاء! فقلت له يا صديقي أنا ليس لدي مشكلة مع اللحمة الهبرة ولا مع أيِّ نوعٍ من اللحوم ولا مع الزاد إطلاقاً، فقال وكيف ستحل لنا مشكلة ارتفاع الأسعار إلى حدودِ الجمرِ؟ قلت له هي ليست مشكلة عندي أصلاً كي أحلّها! فقال طيب تكرّم علينا برأيكَ؟ حالما أبديت إستعدادي لكيفية حلّ مشكلة ارتفاع سعر اللحم، موجة من الضحك تعالى في أركان إدارة المدرسة، ضحك المتسائل ضحكة طازجة، ثم تعالت القهقهات، طبعاً كنت غائصا أنا الآخر في بهجة القهقهات، وكان حلّي يتلخّص بأن وضعت قراراً وردّاً مباشراً على قرارات زيادة اللحومِ بحيث يخلخل قراري كل مشاريع اللحوم بأنواعها وهي فكرة بسيطة تحتاج فقط إلى إرادة وتطبيق وقناعة وصبرٍ قرويّ يصبٌّ في عوالمِ الصدِّ ضدّ هذا المدِّ، حيث انني رفعت ساطوري على هذه التوجهات اللحموية من خلال تحويل نفسي إلى إنسان نباتي، نعم نباتي خالص، محرّماً على محلات اللحوم لحمهم واعتبرته لحماً حراماً حتى ولو كان مذبوحاً على الطريقة الإسلامية والمسيحية واليهودية والأديان التي ربّما تأتي....، حرّمته وألغيته من ذاكرتي! مرّكزاً على البرغل والعدس والبوخينة والرز والنباتيات والبطاطا والخضار والفاكهة والخبزِ المقمَّرِ، ولو طبّق الكثيرون مما طبقته كانت شركات اللحوم في سوريا والدول المصدرة لسوريا ستعلن إفلاسها وتنحني أمام صاحب الفكرة فكرتي، وفعلاً من يومها أعلنت الحرب على اللحوم وحوّلتُ نفسي إلى انسان نباتي كأنني من سلالاتِ الهندوس، كنت أشعر بلذّة رائعة في تناول نباتاتي، وأحياناً كان يصادفني اللحام، قائلاً لي أستاذ من زمن بعيد لم تزُرنا، عندي لحمة هبرة تعجبك! كنتُ أضحك من أعماقي في عبّي، قائلاً له يبدو أنكَ ستنتظرني طويلاً!

قرارات غريبة وعجيبة اتخذتها في حياتي، لا أتذكر أبداُ أن قراراً من قراراتي ضرّت بالآخر بشكل مباشر، ربما قراري النباتي ضرّ بأصحاب اللحوم، فليضرهم، هذا الذنب ليس ذنبي! .. عندما يريد المرء أن يقرر مصير قضية ما ممكن أن يفرضها فرضا عبر ثبات الإرادة والموقف الموحّد، فمثلاً لو طبّق فقراء وذوي الدخل المحدود والحمدلله كل الموظفين هم أصحاب الدخل المحدود ومحدود جدّاً، لو طبق فقراء الوطن وذوي الدخل المسدود، موقفي وأضربوا عن أكل اللحوم لمدة شهر أو شهرين أو سنة وأعلنوا نباتيّتهم، كان موقفهم سيزلزل مملكة شركات اللحوم ومن له علاقة باللحوم، آنذاك بكلِّ بساطة كان من الممكن تخفيض أسعار اللحوم إلى الحدِّ الذي يناسب فقراء هذا العالم!

خرجت عن الموضوع كلياً، لا أريد أن أكتب أيّة فكرة بشكل تقليدي، أسعى إلى كتابة نص حداثوي وفكرة متطايرة من شهقة نيزك أو من وهج حلم منفلش في ليلة قمراء.

زارني قبل أن أكتب ردّي مغترب تعرفت عليه مؤخراً في ستوكهولم، لديه إهتمامات في الأدب والفن والتشكيلي، وبعد دردشات سريعة دعوته أن يلقي نظرة على لوحاتي التي ملأت شقتي على مساحات المكان! دخل ومعه بضعة دقائق، ألقى نظرة على اللوحات ثم قال لي أنتَ تشبه الفنانين الوافدين من آسيا، اندنوسيا والهند، فذكّرني بما قالته زوجة د. ليساندرو، يوليا، التي شاهدت لوحاتي عبر الشبكة العنكبوتية، فقالت للسياندرو هل صديقك الفنان هو هندي؟ فسألني د. ليساندرو هل إنطباع يوليا كان قريباً من معالمكِ؟ ضحكت في عبّي وتذكَّرت رحلة العذاب والقضاء على محلات اللحوم من خلال الاستغناء عنها، هامساً لنفسي هل من المعقول أن أكون ذات روحانية هندوسية ولا أدري، ربما تقمَّصني هندوسياً ما من غابر الأزمان وإلا فما هذه الألوان الهندية والآسيوية التي تفور في رحاب لوحاتي على حدِّ قول متذوقة اللوحة، يبدو أنَّ قراري في الجموح النباتي تخلله جموحاً لونياً، الإنسان رحلة عشق مرفرفة فوق رعشة البحر.

أريد أن أعترف لقارئي العزيز، في مثل هذه الحالات، حالات العبور في بهجة الكتابة والتدفّقات العفوية، أشعر بطاقة غريبة ولذيذة تغمرني، وأشعر بحاجتي الماسّة للكتابة، وهذا يذكِّرني ببعض الأحبة الذين نصحوني أن أكتب أعمالا روائية، لأن عالمي غائص في التدفقات، وعفوي مثل عفوية الأطفال، حقيقة أشعر أنني طفل كبير في الكتابة، في العشق، في اللون، في بهجة الحوار والتواصل مع خصوبةِ الحياة! أصدقائي من كلِّ الأعمار، كتبتُ في بداية الثمانينات من القرن الماضي، نصّاً روائياً، وبعد كتابته بخطي ثلاث مرات، أحرقته لأنني وجدته عملاً ضعيفاً في حيثيات البناء واللغة غير متجلية في معالم القص والسرد، لهذا لم يرَ العمل النور واحرقته مع عشرات القصائد التي كانت بمثابة التدريب على الحرف، أندهش أحياناً من نفسي، لطموحاتي البسيطة، لا أرى طموحاً يروي غليلي سوى طموح الحرف، وأما قضايا الحياة، فلا تغريني، انجذب إليها لكني أقصُّها من جوانحي قبل أن تفترسني! المال هو أصل شرور الكون، لهذا علينا ان نعرف كيف نتعامل مع سمومه وتفاقمات مشاكله، ولا يمكن ان نعيش بعيداً عنه فهو عصب الحياة، لكن حرفي أجمل من هكذا عصبٍ لأنّه يمنحني بهجة الاندهاشِ!

سآخذ دوشاً، ثم أسمع فيروز وأبدأ بكتابة نصّي، حالة عشق مسربلة بالانتعاش، تورّطت معك تورّطاً لذيذاً يا صديقي وعبرت متاهات ما كانت مدرجة في جدول تيهي، الحياة تغدو أجمل مع الأحبّة المشاكسين الرائعين!

غائصٌ هذه الفترة في معمعانات عوالم الرواية!

ستوكهولم: تمّوز 2005
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
[email protected]


https://www.ahewar.org/ - الحوار المتمدن

للاطلاع على الموضوع :

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?t=0&aid=42093