https://www.ahewar.org/ - الحوار المتمدن


المبادئ وأصحابها: رؤية نقدية وانتقادية

حسام الدين درويش

2011 / 11 / 12

كنت، ولوقت قريب جداً، أقيِّم بإيجابية كبيرة أصحاب المبادئ لاعتقادي بأنَّ الالتزام بالمبادئ يدل على أخلاقية الشخص الإيجابية وإعطائه الأولوية للقيم وللمصلحة العامة على حساب المصالح الأنانية الضيقة. فأن تكون شخصاً ذي مبادئ يعني أن تؤمن ببعض الأفكار والقيم (التي قد تأخذ شكلاً إيديولوجياً أو عقائدياً أو دينياً ... إلخ) وأن تتصرف انطلاقاً منها، وعلى أساسها، وبشكل منسجم معها عموماً، في كل الأمور المتصلة بها بطريقة مباشرة أو حتى غير مباشرة. وهذا الانسجام بين ممارسات الشخص ومبادئه ليس أمراً معطى فقط وإنما هدف يسعى إليه وإلى تحقيقه صاحب المبادئ، آخذاً بعين الاعتبار ضرورة النقد الذاتي الدائم بسبب الوجود الدائم لإمكانية عدم حصول هذا الاتساق، بوعي أو بدونه، ولأسباب مبرَّرة أو غير مبرَّرة. ومعيار أخلاقية أي شخص كانت ومازالت بالنسبة لي تتمحور حول نقطتين أساسيتين: مدى أخلاقية أو "إنسانية" مبادئه أو أفكاره الأخلاقية، ومدى التزامه بتطبيقها مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية (الخارجة عن الإرادة) لهذا التطبيق، وإمكانيته، ومدى هذه الإمكانية.
وتتعرض المبادئ وأصحابها لامتحانات كثيرة في الحياة، وهذه الامتحانات لا تبيِّن فقط مدى مبدئية الشخص، أي قدرته على مقاومة مختلف الضغوطات التي تدفعه باتجاه تخليه عن العمل بهذه المبادئ، وإنَّما تسمح هذه الامتحانات أيضاً بالفحص النقدي لهذه المبادئ ومدى فعاليتها وجدواها وأولويتها في الواقع المعاش وبالنظر للمثل والغايات والأسس الأخلاقية الأخرى. ويمكن، من خلال هذه الامتحانات أيضاً معرفة ما إذا كانت هذه المبادئ هي مجرد شعارات، أي مجرد ادِّعاءات لا يعتقد بها أصلاً صاحبها. ولعل أكبر مشكلة يمكن أن تواجه الشخص الذي يتناول هذه الأمور هي التمييز بين مبادئ الشخص ومبادئ شخصيته. والمقصود هنا بالشخص هو الجانب المفكر والواعي من كيان الشخص، أمَّا الشخصية فيُقصد بها هنا الجوانب غير الواعية أو غير المفكَّر بها. والاختلاف بين مبادئ الشخص ومبادئ شخصيته قد يأخذ شكل الصراع المحسوم لصالح مبادئ الشخص (كما هو الحال مثلاً في حالة "التجاوز" التي تحصل حين يتغلب المرء على نوازعه ورغباته ومشاعره المناقضة لمبادئه أو المختلفة عنها، بطريقة صحية أو غير صحية)، وقد يأخذ شكل الصراع غير المحسوم والذي يتجلى في اضطراب الإنسان سواء على الصعيد الداخلي (في الأفكار والمشاعر) أو على الصعيد الخارجي في العلاقة مع الآخر (الشخص والمجتمع والأشياء إلخ).
وإذا كان الثبات على المبادئ هو أمر محمود عموماً أو حتى دائماً، فإن جمود المبادئ وإصرار صاحبها عليها رغم عدم مناسبتها، من حيث الراهنية أو الأولوية أو الواقعية إلخ، يمثل مشكلة حقيقية قد تمس ليس الشخص ومحيطه القريب فحسب، بل قد تمس أيضاً، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، شريحة أو مصلحة عامة تتعلق بحياة عدد كبير من الناس.
يمكن النظر إلى ما سبق على أنَّه مقدمة تبتغي التمهيد لما هو آتٍ، وتوضيح لبعض معانيه وأسُّسه النظرية.

عانى ويعاني الشعب العربي أو الشعوب التي تعيش في البلاد العربية من قهر الحكام واستبدادهم. ونعيش حالياً لحظة تاريخية كانت بالنسبة للكثيرين حلماً يصعب بل وربما يستحيل تحقيقه، نظراً إلى الكابوس الذي كنا مجبرين على أن نعيش فيه، أو بالأحرى أن نعيشه. وتتمثل هذه اللحظة التاريخية في انتفاضة-ثورة الشعب المقموع على الظلم والاستبداد، ومحاولته الحصول على حريته واسترداد كرامته المهدورة منذ عقود على الأقل. وتواجه هذه المحاولة صعوبات جمة تتمثل خصوصاً في مقاومة الأنظمة الاستبدادية وقمعها الذي تتراوح شدته بين الكبيرة والكبيرة جداً جداً. لكن العقبات التي تواجه المنتفضين-الثوار لا تتمثل فقط في لا أخلاقية الأنظمة الاستبدادية وحكامها ومؤيديها، وإنما تتمثل أيضاً، وبشكل غريب، في موقف بعض المفكرين والمثقفين من أصحاب المبادئ. وتمسك بعض هؤلاء بمبادئهم يجعلهم يقفون، بوعيٍ وبقصد أو بدونهما، إلى جانب الأنظمة الاستبدادية وضد مصلحة الثوار وتطلعاتهم. ولا يتعلق الأمر هنا بالشعارات الجوفاء التي يطلقها البعض، عن "سوء نية"، بهدف تبرير قمع النظام الاستبدادي واستمراره، وإنَّما يتعلق الأمر بالتحديد بمن يمكن تسميتهم بأصحاب "النية الحسنة" الذين قد تدفعهم مبادؤهم وقيمهم والفكرية والأخلاقية ومكونات شخصيتهم إلى تبني موقف مفاجئ بتقاطعه مع مصالح النظام الاستبدادي، وبابتعاده عن طموحات الشعب الثائر ومحاولته التخلص من هذا النظام. وسأحاول تصنيف بعض أشكال مبادئ أصحاب "النية الحسنة" المفترضة، مع محاولة توضيح سبب الاعتقاد بجمود هذه المبادئ وعدم مناسبتها للأوضاع الحالية. وهذا التصنيف ليس شاملاً وهو لا ينكر التداخل الكبير بين هذه الأشكال المختلفة. وسيتم التركيز على الحالة السورية لأسباب عديدة، مع الاعتقاد بإمكانية تطبيق ذلك على معظم وربما كل الحالات الثورية في البلاد العربية.

1. مبادئ العقلانية الحسابية والتبريرية بوصفها نقيضاً للإرادة الثورية
للعقل وظائف عديدة، ربما كان أهمها الحساب والتبرير. والعقل الحسابي هو عقل أداتي وتجاري يسعى لتحقيق الحد الأكبر من الأرباح بالحد الأدنى من الخسائر. ويتميَّز هذا العقل بالحذر وبالابتعاد عن المغامرة أو المقامرة أو ردات الفعل الانفعالية ذات النتائج المجهولة أو التي يرجح، أو حتى يحتمل، أن تكون سيئة. أما العقل التبريري فهو العقل الساعي لتبرير رغبات أو مشاعر أو أفعال أو مواقف الشخص في عملية يسميها فرويد "العقلنة". وتقوم العقلنة على إخفاء الأسباب "الحقيقية" لأفعال الشخص أو أقواله أو مواقفه وبلورتها في منطق معقول ومقبول اجتماعياً. ويتآزر البعدان الحسابي والتبريري للعقل في مواقف بعض المنتقدين للثورة والقائمين بها. فالبعد الحسابي يظهر في اعتقادهم بأنَّ الثورة عموماً، والثورة السورية الحالية خصوصاً، أمر سلبي لأنَّها تمثِّل مخاطرة كبيرة ذات أخطار أكبر، سواء من حيث الضحايا أو من حيث النتائج. تدفع هذه الرؤية الحسابية للثورة البعض إلى الخوف ليس من الانخراط في الثورة فحسب، بل ومن وجودها ذاته أيضاً. ويأتي هنا دور البعد التبريري لصياغة هذا الخوف في رؤية مضادة للثورة تتبنى الدعوة إلى الإصلاح التدريجي، غير آبهةٍ باستحالة هذا الإصلاح أو شكليته وعدم إمكانية تحقيقه للحد الأدنى من طموحات الشعب الثائر من أجل حريته وكرامته.
هذان البعدان (الحسابي والتبريري للعقل) مكونان أساسيان لما أسميته في مقالة سابقة بالعقل السياسي والذي يتناقض مع الإرادة الثورية النابعة من الغضب والقائمة على الرفض لما هو قائم. الإرادة الثورية، بوصفها إرادة، لاعقلانية. فهذه الإرادة نفسية وأخلاقية أكثر من كونها ذات صلة بالبعدين الحسابي والتبريري للعقل. أصحاب هذه الإرادة يظهرون شجاعة مذهلة وإقداماً كبيراً، وهم الأكثر فاعلية في صنع التحولات التاريخية الجذرية والمهمة، وعلى كل المستويات.
لم يكن من الممكن حصول التغيرات الإيجابية في بعض البلاد العربية الثائرة بدون وجود هذه الإرادة الثورية. ولم يكن من الممكن للكثير من هؤلاء العقلانيين المنادين بالإصلاح والمناهضين لجذرية الثورة أن يعقدوا مؤتمراتهم ويصدروا بياناتهم ويعلنوا مواقفهم "المعارضة" لولا ثورة الشعب وتوجهه لتحقيق ما يبدو لهؤلاء العقلانيين أنه مستحيلاً.
يتخوف هؤلاء العقلانيون من البديل، ويجهلون أو يتجاهلون أنَّ رفض النظام القائم يحمل ضمناً الملامح القادمة للبديل المنتظر. وهذا البديل ليس معطىٍ أو جاهزاً كما يظن أو يتوهم أو يوحي الكثيرون، بل هو في مرحلة تشكل، الكل مدعو للمساهمة فيها بدلاً من الاكتفاء بالتخوف منها ومناهضتها.
"إذا أردت أن تحصل على أجمل ما في الحياة، فعش في خطر" هكذا قال نيتشه، وهكذا يفعل الثوار؛ فهل هناك أخطر من الثورة على نظام ديكتاتوري عسكري؟ وهل هناك أجمل وأرقى من الحرية والكرامة؟
حاضر سورية فيه كل ما يثير الغضب والرفض، ولا يمكن لهذا الحاضر إلا أن يستنزف كل متابع مهتم به، ومن المستغرب، وربما المستهجن، أن يملك البعض القدرة على تحويل أنظارهم وأنظار غيرهم إلى ممكنات المستقبل لإعلان تخوفهم منها، رغم أن كل هذه المخاوف، وغيرها الكثير، يحصل الآن على الأرض.
إلى بعض المعارضين العقلانيين: لقد سمحت لكم الثورة بالوجود السياسي البارز، فلا داعي لركوب موجها بغية ترويضه وامتطاء ظهرها بغرض كسره. هي مشكلتكم أنكم لم تستطيعوا التغلب على خوفكم أو مخاوفكم، فلا تجعلوها مشكلة الثوار الساعين لتحقيق الخلاص من هذا النظام الاستبدادي. أنتم تعطون الأولوية للوجود على القيمة، وللأمن والأمان على الحرية والكرامة؛ أما الثوار فأولوياتهم معاكسة لأولوياتكم؛ لهذا يبدو من الصعب تقبل انتقاداتكم المباشرة للثوار باسم القيم الإنسانية أو الأخلاقية. لا تحصل الثورة وتستمر وتتحقق أهدافها إلا حين يخضع العقل للإرادة، والفكر أو التفكير للقيمة، والخوف من القائم للغضب منه وللرفض المعلن له، والتخوف من القادم للسعي إلى صنعه.

2. مبادئ النزعة الوطنية وتعارضها مع أولوية خلاص الشعب الثائر ونجاح ثورته
تتمثل مبادئ النزعة الوطنية عموماً في التأكيد على مجموعة من القيم كالسيادة الوطنية ووحدة الأرض والشعب واستقلالية القرار الوطني إلخ. ويتم التأكيد على هذه القيم، بشكلٍ خاص، حين يكون هناك مواجهة عسكرية أو سياسية مع أطرافٍ خارجية. وتلعب هذه القيم دوراً كبيراً في توحيد أبناء الوطن أو البلد الواحد وفي تحصينه من الكثير من الأخطار الخارجية، وحتى الداخلية.
شدَّد مسؤولو النظام السوري ومؤيدوهم والناطقين باسمهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، على وجود مؤامرة خارجية "كونية" تستهدف سورية، أرضاً وشعباً ومواقفاً وطنية. وتتالت التصريحات المنددة بكل محاولات تدخل "الغرب" والمنظمات الدولية، السياسية منها والحقوقية، والمخوِّنة لكلِّ المطالبين بالتدخل الخارجي لحماية المتظاهرين والمواطنين العزل من بطش العسكر والأمن والشبيحة.
بدأت بعض أطراف المعارضة "الوطنية" – ممثلة مثلاً بهيئة التنسيق التي يرأسها حسن عبد العظيم – بالمضي، في نفس الاتجاه وذلك بإعطائها الأولوية للتأكيد على رفض كل أشكال التدخل الأجنبي وكل القرارات الدولية التي يمكن أن تصدر من مجلس الأمن تحت الفصل السابع، ولكل أشكال العقوبات الاقتصادية. وبدا ذلك واضحاً في مؤتمرها الأخير المنعقد في دمشق، والذي رفع ثلاث لاءات، أولها "لا للتدخل الخارجي".
وقع هؤلاء الوطنيون، من وجهة نظري، بسذاجة في الفخ الذي سعى النظام لإيقاع الآخرين به. ويتمثل هذا الفخ في نشر الاعتقاد الواهم بأنَّ المواجهة الأساسية الحاصلة الآن في سورية هي بين النظام السوري "المقاوم والممانع" ومؤامرات ومخططات المشروع الأمريكي- الغربي- الصهيوني. فهل المشكلة الأساسية التي يعانيها السوريون الآن تكمن في إمكانية التدخل الأجنبي وأبعاده وأشكاله المختلفة؟ أم أنَّ المشكلة الأساسية تكمن في المواجهة بين شعب ثائر ونظام استبداد جائر؟ ما هي الأولوية التي يسعى الجميع إلى تحقيقها؟ هل هي مبادئ السيادة الوطنية والقرار المستقل وما شابه؟ أم هي ضرورة العمل على وقف نزيف الدم الناتج عن سعي السلطة لقمع التظاهرات وإسكات المعارضين بأي شكل كان، وعلى مساعدة الثوار في تحقيق أهدافهم في الانتقال بسورية من النظام الاستبدادي إلى النظام الديموقراطي؟ ألا يبدو غريباً أن يتبنى المعارضون "الوطنيون" الإشكالية التي تطرحها السلطة "اللاوطنية"، والمتمثلة في تحديد الموقف من مسألة التدخل الأجنبي، وتحويل الأنظار عن المسألة الأساسية التي يطرحها الثائرون والمتمثلة في ضرورة العمل على إسقاط النظام والتخلص من قمعه واستبداده؟
يريد بعض المعارضين "الوطنيين" تمثيل الثورة دون تبني مطالبها وأفكارها. يريدون أن يستمروا في مواقفهم السياسية "الوطنية" و"المبدئية"، بدون أي تغيير تتطلبه متغيرات المرحلة واشتثنائيتها. لا شك أنَّ المبادئ الوطنية، بالمعنى المشار إليه سابقاً، ذات دور إيجابي ومهم، لكنَّ هذه المبادئ، مثلها مثل كل المبادئ والأفكار السياسية، لا تحظى، أو لا يجب أن تحظى دائماً، بالأولوية المطلقة. ولا شك أن التمجيد بالجيش ودوره أو وظيفته أمر مهم من الناحية السياسية "الوطنية"، لكن لا يمكن التشديد على أهمية هذا التمجيد وممارسته في الحالة السورية الراهنة التي دفعت الكثير من المتظاهرين للقول " خاين خاين خاين، الجيش السوري خاين".
ليس لدي اعتراض، من حيث المبدأ، على المبادئ الوطنية المذكورة سابقاً، لكنني أرى أنَّ المشددين عليها حالياً من أصحاب "النية الحسنة" يعيشون حالة جمود فظيعة لا تتناسب مع مجريات الواقع وصيرورته. هم أسيرو "وطنيتهم" التي تجعلهم يضعون كل معاناة الشعب الثائر وتضحياته من أجل حياة حرة كريمة في المرتبة الثانية. جمودهم يجعلهم يتخلون عن اللاءات الواضحة التي أعلنها الشعب في وجه النظام وأشكال استبداده، لصالح لاءات السلطة وشعاراتها (وليس مبادؤها).
يذكرني هؤلاء المعارضون "الوطنيون" بقول مأثور غريب: "يموت الجميع ويبقى الوطن". ويبدو أن هؤلاء المعارضين "الوطنيين" يقبلون، بوعي أو بدونه، هذه الفكرة، ويصرون على ترديد مبادئهم الوطنية والتمسك ليس بها فحسب، بل وبأولويتها مقارنة مع أولوية حماية دماء الشعب المقموع وضرورة حمايته.
لهؤلاء المعارضين "الوطنيين" أقول: راجعوا مبادءكم وأيديولوجياتكم، وأعيدوا النظر في سلم أولوياتكم، ولا تجعلوا من الشعب ضحية لمبادئكم وأيديولوجياتكم، بالإضافة إلى كونه ضحية لقمع النظام في الداخل ولامبالاة أو عدم فاعلية القوى المؤثرة في الخارج. "الوطن" في خطر لأنَّ الشعب الثائر يُقمع بوحشية قلَّ نظيرها. والخطر الأكبر الذي يتعرض له السوريون حالياً ليس قادماً من الخارج أو نابعاً من مؤامرة "كونية" مزعومة. المشكلة التي على السوريين مواجهتها لا تكمن في العنف المزعوم أو الفعلي للثائرين أو في طائفيتهم المزعومة أو الفعلية، المشكلة تكمن أولا وأساساً في العنف الممارس على هؤلاء الثائرين، والذي قد يخلق أو يزيد من إمكانيات العنف المضاد والاحتقان الاجتماعي بمختلف أشكاله الطبقية والمناطقية والطائفية والفئوية.

3. المبادئ اليسارية واغترابها عن المعاناة الراهنة للشعب الثائر
اختلطت، في العقود الأخيرة، معاني مفهومي اليسار واليمين في العمل السياسي، لدرجة أصبح من الصعب معها التمييز بدقة ووضوح بينها. لذا سأحدد بعمومية وتبسيط نسبي ما أعنيه هنا بمفهوم اليسار. اليسار هو تيار في الفكر أو العمل السياسيين يتسم بأنه تقدمي غير محافظ (بمعنى أنَّه ساع دائم للتغيير والتقدم) القيمة الأعلى لديه هي العدالة الاجتماعية، في حين أن القيمة الأعلى في التيار اليميني الليبرالي المضاد له هي الحرية. واليسار اشتراكي التوجه عموماً في حين أن اليمين هو رأسمالي التوجه؛ لذا فإنَّ "العدو، الأساسي والأول لليسار هو الرأسمالية وعولمتها وامبرياليتها.
شارك العديد من أصحاب التوجهات اليسارية (الحزبيون وغير الحزبيون) في الثورة السورية، في المقابل، تمسك بعض اليساريين بأجندتهم الحزبية أو الأيديولوجية، وانتقدوا الثورة والثوار، لدواعٍ عديدة مثل الافتقاد إلى نظرية ثورية – ولا ثورة بدون نظرية وفقاً للينين – وعدم وجود شعارات ثورية مناهضة للرأسمالية ومتبنيها من الدول والمؤسسات والتجار الأتباع (فمن وجهة نظر اليساريين الثورة واجبة بالدرجة الأولى على الرأسمالية والرأسماليين). وقد تقاطعت مبادئ هؤلاء اليساريين وأيديولوجياتهم مع مصالح النظام وشعاراته، فأجمع الطرفان على التأكيد على وجود مؤامرة غربية-أمريكية-صهيونية وعلى رفض أي تدخل من قبل الغرب الإمبريالي في الشأن الداخلي السوري. وتم اختزال الأسباب الأساسية للثورة بعوامل اقتصادية متمثلة مثلاً في سوء توزيع الثروة والسياسة الاقتصادية الليبرالية المفرطة للحكومة السورية، خلال السنوات الأخيرة خصوصاً.
أجد في مواقف هؤلاء اليساريين اغتراباً عن المشكلات الأساسية التي أثارتها الثورة السورية. لا شك أنَّ العوامل الاقتصادية لعبت دوراً مؤثراً في قيام الثورة وانتشارها، ولا شك أن القيم المرتبطة بالعدالة الاجتماعية هي قيم أساسية يجب السعي إلى تجسيدها وتحقيقها في الواقع بكل الوسائل الممكنة. لكن تناول الثورة السورية من خلال هذه النظارة الأيديولوجية الضيِّقة أمر يسيء ليس لليسار وقيمه فحسب، بل وللثوار وقضيتهم وصورتهم أيضاً.
ببساطة شديدة، المشكلة الأساسية التي يواجهها الشعب ويعمل على إيجاد حل جذري لها، هي هذا النظام المتوحش في قمعه، وليس المؤامرة الغربية أو الاستغلال الرأسمالي في شكله الامبريالي. المشكلة الأساسية الآن هي وقف نزيف دم السوريين وتحقيق رغبتهم في الانتقال بالبلد من الوضع الاستبدادي إلى الوضع الديمقراطي. الحرية هو الشعار الأهم الذي رفعه الثوار، وهي تعني التحرر من ممارسات السلطات السياسية-الأمنية-العسكرية. الحرية والكرامة أولاً، وبعدهما تأتي كل الأمور. خلاص الشعب من هذا النظام ونيله حريته واسترداده لكرامته هو أولوية كل الأولويات، ولا معنى لأي حديث عن العدالة الاجتماعية أو مقاومة الامبريالية في ظل هذا الوضع. ومالم يراجع بعض اليساريين أولوياتهم ويقوموا بترتيبها وفقاً لمصالح الشعب الثائر وأولوياته المعلنة، فإنَّهم سيقفون حجر عثرة في وجه محاولات الشعب الثائر الخلاص من الظلم والاستبداد.
لقد رفع الإسرائيليون مؤخراً شعارات العدالة الاجتماعية في مظاهراتهم المناهضة لنظامهم السياسي وسياساته الاقتصادية خصوصاً. وقد تأثرت حركتهم هذه بثورات الربيع العربي، بدرجة أو بأخرى، لكنَّ أولويتهم مختلفة عن أولوية الشعب الثائر في البلاد العربية. أولويتهم هي العدالة الاجتماعية نظراً لتمتعهم بحد أدنى مقبول نسبياً من الحرية. أما في النظم الديكتاتورية فإنَّ الحصول على الحرية واسترداد الكرامة هو أولى الأولويات. وهذا هو الحال في كل البلاد العربية تقريباً.
الجمود العقائدي سمة مميزة لمبادئ بعض اليساريين الذين يصرون على شيطنة جزء من الخارج (أمريكا وأوربا الغربية خصوصاً) وملأكة جزء آخر (روسيا وريثة الإمبراطورية السوفييتية البائدة). هذه الشيطنة وهذه الملأكة هما نتاج أيديولوجيا لا تتناسب أبداً، من وجهة نظري، مع متطلبات المرحلة الحالية وإلحاحاتها العملية والأخلاقية أو الإنسانية. فالقمع الوحشي الذي يتعرض له الشعب يجب أن يدفع الجميع إلى وضع كل أيديولوجياتهم الضيقة ومبادئهم السابقة موضع مراجعة قد تؤدي إلى تعديلها أو تجميدها، بحيث تكون هذه الأيديولوجيات في خدمة الثورة وأولوياتها وحاجاتها الملحة، بدلاً من السعي لتسخير الحراك الثوري لصالح هذه الأيديولوجية أو تلك، أو هذا المبدأ أو ذاك.
الثورة يسارية لأنَّ معظم الثوار هم من الطبقات الفقيرة أو المهمشة والمسحوقة، ولأنَّها تسعى إلى التغيير. في المقابل بعض اليساريين ليسوا ثوريين أو لديهم أفكار ومبادئ مضادة لهذه الثورة، لأنها لا تسير وفقاً لمخططاتهم الأيديولوجية ولا ترفع شعاراتهم الأبدية. وتجدر الإشارة هنا أن الخزان البشري المفترض لحزب البعث "اليساري" (مدن وأرياف حمص ودرعا والدير وإدلب خصوصاً) هو الخزان البشري الثائر على هذا النظام الذي حكم باسم هذا الحزب، في حين أنَّ التجار الكبار عموماً، وتجار حلب ودمشق خصوصاً، هم أكبر داعم لنظام حزب البعث، الذي يُفترض أنَّه حزب العمال والفلاحين المستغَلين، والمعادي بدرجة كبيرة لاستغلال البرجوازيين.

4. مبادئ العلمانية والابتعاد عن أولويات الثورة
يثير مصطلح العلمانية غالباً إشكاليات كبيرة وحساسيات أكبر. ويختلف معنى العلمانية من دولة إلى أخرى، بل حتى من شخص إلى آخر. وإذا نظرنا إلى تجارب بعض الدول في تطبيق العلمانية نجد أنَّ هذا التطبيق قد يأخذ شكل العداء للدين (وهذا هو مثلاً حال تركيا، قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم على الأقل)، وقد يأخذ شكل الاكتفاء بتحييد الدين سياسياً وفي مؤسسات الدولة بشكل كامل تقريباً، مع التشديد شبه العصابي على هذا الأمر (وهذا هو مثلاً حال فرنسا عموماً)، وقد يأخذ أخيراً شكل فصل الدين عن الدولة مع الاعتراف بالبعد الديني بوصفه مكوناً ثقافياً واجتماعياً يمكن رعايته والتفاعل معه بطريقة إيجابياً نسبياً (وهذا هو الحال تقريباً في ألمانيا مثلاً).
وبغض النظر عن كل ما سبق، يمكن القول بإيجاز أنَّ العلمانية هي اتجاه سياسي ثقافي فلسفي يقوم على ضرورة فصل الدين عن الدولة. ونظراً للحساسيات التي يثيرها مصطلح الدولة العلمانية (لأنَّه قد يعني معاداة الدين والمتدينين والتضييق عليهم)، بدأ بعض النشطاء السياسيين السوريين يستخدمون مصطلح "الدولة المدنية الديمقراطية" بدلاً من مصلح "الدولة العلمانية"، وأجد أنَّ هذا الاستبدال مصيباً، لأنَّ الدولة المدنية ليست نقيضاً للدولة الدينية فحسب (كما هو الحال بالنسبة للدولة العلمانية) وإنما هي النقيض، في الوقت نفسه، للدولة العسكرية والدولة الديكتاتورية، ولأي دولة قائمة على أي انتماء عرقي أو قبلي أو غير ذلك من الانتماءات الضيقة.
عاش معظم العلمانيين والمتدينين حالة من العداء الشديد أو الشك والارتياب المتبادل على الأقل. وفي ظل القمع الشديد للمعارضة السياسية كان الدين والمتدينون هو الهدف الأسهل والدريئة الأكثر شيوعاً لنقد وانتقاد المثقفين "العلمانيين". في المقابل لم يتوان المتدينون، في الكثير من الحالات، عن مهاجمة العلمانيين وتكفيرهم والتضييق عليهم. واختلفت مواقف الأنظمة الديكتاتورية من هذا الصراع المرير. فمن ناحية أولى، قاموا بتشجيع هذا الصراع لأنَّه يبدد قوى الناس في معارك وهمية يجعل من النظام هو الحكم الذي يحمي كل طرف من الآخر بدلاً من توحد الطرفين ضد ظلم النظام الديكتاتوري واستبداده. ومن ناحية ثانية، عملت الأنظمة الديكتاتورية على تسخير طرفي الصراع لصالحها، بحيث تحول الكثير من رجال الدين والمثقفين العلمانيين إلى مفتيي السلطة ومثقفي السلطة.
حاول النظام السوري تصوير الثورة السورية على أنَّها محاولة لإثارة الفتنة الطائفية. ودأب الكثير من أبواق النظام والمبررين لقمعه الوحشي على وصف الثائرين بالعراعرة (نسبة للشيخ الإشكالي، والمتعصب ضد الشيعة خصوصاً، عدنان العرعور) والطائفيين والمتطرفين دينياً. وغرض النظام من ذلك واضح ويتمثل في تخويف الأقليات الدينية وأصحاب التوجه العلماني من الثورة والثوار وتحريضهم عليها وعليهم. وقد وقع الكثير من العلمانيين في هذا الفخ بسهولة مفاجئة لا يمكن تفسيرها إلا من خلال القول بأنهم كانوا موجودين في هذا الفخ أصلاً. وانبرى بعض كبار العلمانيين (كأدونيس وهاشم صالح وفراس السواح مثلاً) إلى انتقاد الثورة والتركيز على التخوف منها وتقصي سلبياتها بما يشبه لا الصيد في الماء العكر فحسب، بل ومحاولة تعكير المياه من أجل الصيد فيها.
فهذا ينتقد خروج معظم التظاهرات من الجوامع، وذاك يتحفظ على الأبعاد الدينية او الطائفية لبعض الشعارات أو الهتافات ويهوَّل من معاني ودلالات ذلك، وآخر يحذر من أنَّ بديل النظام القائم سيكون نظاماً دينياً أو طائفياً متطرفاً. وتم تهميش مسألة القمع الوحشي الذي يمارسه النظام على كل المتظاهرين ومعظم المعارضين. وبدا أنَّ خوف بعض العلمانيين من انتصار الثورة أكبر بكثير من خوفهم من استمرار النظام الاستبدادي.
لم يستطع بعض العلمانيين أن يأخذوا هدنة مؤقتة من حروبهم (المحقة وغير المحقة) مع المتدينين عموماً، ومع المتطرفين منهم خصوصاً. هذه الهدنة ضرورية لتوحيد كل طاقات الشعب وجهوده من أجل التحرر من هذا النظام الاستبدادي، واسترداد الكرامة المفقودة والمفتقدة. يركِّز بعض العلمانيين على الخوف من الامكانية (المرجحة في ظن بعضهم) لنشوء دولة دينية مستقبلية على أنقاض النظام الحالي. ويسهب بعض العلمانيين في التماهي مع إيديولوجيا النظام من خلال التركيز على مخاوفهم مما قد يؤول حل سورية وشعبها في حال نشوء الدولة الدينية المتوقعة وغير المنتظرة، بالنسبة إليهم.
لهؤلاء العلمانيين (من أصحاب النية الحسنة فقط) أقول: ما تخافونه أو تتخوفون منه في المستقبل يحصل الآن ما هو أكثر وأكبر وأفظع منه بكثير. ربما لم يمس ذلك الكثيرين منكم، لكن هل تؤسِّسون مواقفكم من القضايا العامة "الوطنية" انطلاقاً من مصالحكم الخاصة الضيقة. المستقبل حافل بالممكنات، وربما كانت بعض مخاوفكم، المتعلقة بهذا المستقبل، محقة، بل ومبررة، لكن هل تنطلقون في مواقفكم من مستقبل محتمل وتتجاهلون الحاضر، وهو الأكيد الوحيد؟ بكلماتٍ أخرى، هل تؤسسون مواقفكم على ما قد يحصل مستقبلاً، وتغضون الطرف، نسبياً وجزئياً، عما هو حاصل بالفعل؟ إذا لم يجعلكم ما حصل، ويحصل حتى الآن من قمع قل نظيره، مستغرقين في هموم ومآسي الحاضر ومتطلعين للخلاص منه بأي وسيلة كانت، فمتى يمكن أن يحصل ذلك؟ هل مازالت شدة القمع مقبولة لديكم، بحيث لا ترون فيها سبباً للتخلي مؤقتاً عن معارككم الجانبية مع المتدينين، وللانخراط في المعركة الوحيدة التي تستحق جهودكم وتفكيركم حالياً، وأعني هنا معركة الشعب السوري الثائر ضد نظام استبدادي بامتياز، لم ولا ولن يتورع عن فعل أي شيء للبقاء في السلطة.

....................................................................................
في النهاية، أو قبلها بقليل، أقول: إنَّ انتصار الثورة السورية يتطلب، فيما يتطلبه، تجاوزاً شبه كامل: 1- لحذر العقلانيين وجبنهم وعقلناتهم، 2- لجمود مبادئ بعض الوطنيين وتخلفهم عن اللحاق بركب التغييرات الثورية السائدة على الأرض، 3- للسجن الأيديولوجي القابع فيه بعض اليساريين، 4- للمعارك الجانبية التي يصر بعض العلمانيين على الاستمرار فيها وجعلها أولويتهم الأهم.
يمثل هذا التجاوز شرطاً ضرورياً أو مهماً لانتصار الثورة السورية، رغم أنَّه غير كافٍ، بحد ذاته. وهذه الأمور وغيرها هي مجرد عوامل مساعدة تدعم جهود الثوار وتحاول الارتقاء ما أمكن إلى مستوى تضحياتهم. لقد مارس الكثير من المثقفين دور الأستاذ على أفراد هذا الشعب، وربما أصبح من المناسب الآن التعلم من هذا الشعب الذي قدم الدروس الكثيرة عن معاني الشجاعة والتضحية والإباء والشهامة، بطريقة ملحمية قل نظيرها في العصر الحديث.


https://www.ahewar.org/ - الحوار المتمدن

للاطلاع على الموضوع :

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?t=0&aid=283108


تعليقات حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الحوار المتمدن وإنما تعبر عن رأي أصحابها
العدد: 298192 1 - كانت النصيحة بجمل000!
2011 / 11 / 11 - 22:41
التحكم: الكاتب-ة
نيسان

1. مبادئ العقلانية الحسابية والتبريرية بوصفها نقيضاً للإرادة الثورية
يقابلها : كونوا أيها العقلاء ذوات مبادىء عاطفية عشوائية غير مبررة بوصفها المرادف للإرادة الثورية!!0

2. مبادئ النزعة الوطنية وتعارضها مع أولوية خلاص الشعب الثائر ونجاح ثورته
يقابلها: أيها الوطنيين كونوا ذوات مبادىء عميلة للخارج تتوافق مع أولوية خلاص الشعب الثائر ونجاح ثورته

3. المبادئ اليسارية واغترابها عن المعاناة الراهنة للشعب الثائر
يقابلها: أن المبادىء اليمينية وتوحدها مع المعاناة الراهنة للشعب الثائر هي الحل



                                          قيم التعليق: (100%)   128 جيد   0 سيء

رد الكاتب-ة

العدد: 298206 2 - مناقشة تعليق أ. نيسان
2011 / 11 / 11 - 23:14
التحكم: الكاتب-ة
حسام الدين درويش

أ. نيسان: لم أكن أظن أن ما كتبته يمكن أن يعني ما ذكرته في تعليقك، وربما لم أوضح فكرتي بشكل جيد. من حيث المبدأ، أنا لست ضد المبادئ المذكورة (العقلانية والوطنية واليسارية ززز إلخ) لكنني ضد فرضها كأولوية حالياً على الثورة والثوار. الأولوية برأيي تكمن في إيقاف العنف الممارس على الشعب الثائر ومساعدة هذا الشعب على التحرر من النظام الاستبدادي الفاسد المفسد الذي يحكمه. وبعد ذلك يمكن أن تأتي كل المبادئ والأولويات الأخرى بما في ذلك المبادئ . المذكورة آنفاً. وإذا أخذنا كل مبدأ على حدى أقول: العقلانية يجب أن تكون في خدمة الإرادة الثورية، لأنه في حال حصول العكس ستنتهي الثورة. وكذلك الحال عموماً بالنسبة لكل المبادئ الأخرى. تحياتي


                                          قيم التعليق: (100%)   66 جيد   0 سيء

العدد: 298208 3 - تعليق على تعليق أ. نيسان
2011 / 11 / 11 - 23:23
التحكم: الكاتب-ة
....................

لم ينشر التعليق لمخالفته القواعد